مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

ولعمري! إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بهذا المعنى ممّا لا يقبل الإنكار ، فكأنّها نار في منار.

فإن قلت : ما ذكر ممّا لا يجدي شيئا في المقام ـ كما اعترف السيّد (١) بذلك أيضا ـ لأنّ الكلام في ترتّب الثواب على الواجب العقلي والعقاب على تركه ، ولا نسلّم ترتّبهما إلاّ على الأمر والنهي اللفظيين.

قلت : بعد أنّ ذلك منقوض بموارد الإجماع والضرورة والسيرة على وجه في الجميع ، فإن أراد عدم ترتّبهما على الواجب العقلي في الحقيقة وفي المعنى فهو مردود بملاحظة حال العقلاء في كيفيّة الإطاعة والعصيان كما مرّ.

وإن أراد أنّ ما يترتّب على العقليّين من الواجب والحرام لا يسمّى في الاصطلاح عقابا وثوابا فبعد الغضّ عنه ـ كما ينفيه تحديد المتكلّمين (٢) للثواب : بأنّه إيصال النفع بقصد التعظيم ، والعقاب بما يقابله من غير ملاحظة الأمر فكيف باللفظيّ منه ـ فيرد عليه : أنّ النزاع ليس في مجرّد التسمية والاصطلاح ، إذ لا يترتّب على تسمية ذلك ثوابا أو غيره شيء من الأحكام الشرعيّة ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ بعض الآثار لا يترتّب إلاّ بعد إثبات الخطاب والثواب والعقاب مثل قتل فاعل الكبيرة في الرابعة ، حيث إنّها على ما عرّفها جماعة (٣) بأنّها « ما أوعد الله عليها النار في كتابه » لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّق الخطاب ، والقائل بالملازمة لا بدّ له من إثبات الخطاب في صدق الثواب والعقاب.

__________________

(١) انظر شرح الوافية : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) انظر كشف المراد : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، وشرح القوشجي : ٣٨٤.

(٣) نسبه في الذخيرة : ٣٠٤ ، ومفتاح الكرامة ٣ : ٨٩ إلى المشهور ، وفي الكفاية ١ : ١٣٩ إلى المعروف بين الأصحاب.

٣٤١

قلنا : لا نسلّم انحصار الكبيرة فيما ذكر ، فإنّها أعمّ عندنا من ذلك وممّا حكم العقل بحرمته على الوجه المعهود.

الثاني (١) : أنّ ما أفاده في دفع ما أورد على نفسه ـ من عدم مجال للإنكار بعد ما قطع العقل بالحكم بالنظر والتأمّل في جواز التعبّد بأمثال هذه الإدراكات العقليّة القطعيّة أو الظنّيّة ـ ممّا لا يبتني على أساس ولا له بما أورده مساس ، حيث قد فرغنا عن حجّيّة العلم المرآتي في محلّه على وجه ظهر عدم معقوليّة التخصيص بطريق دون آخر ، فليراجع ثمّة.

الثالث : أنّ ما أفاده من أنّ (٢) الجهات المدركة في المستقلاّت العقليّة ليست علّة تامّة فممّا لا يصغى إليه بعد موافقة الوجدان ، فإنّ الجهة المدركة (٣) في الإحسان والظلم الآمرة في الأوّل والناهية في الثاني بحسب وجداننا في حال العلم هي العلّة التامّة ، وأمّا جواز تبدّل العلم جهلا فهو أمر خارج عمّا نحن فيه ، إذ ليس الاحتمال ـ هذا ـ للعالم ، والمحتمل لغيرها لا علم له ، فيخرج عمّا نحن بصدده. ويشعر بذلك ما أفاده الشيخ في العدّة في مباحث النسخ : من أنّ حكم الشارع إنّما هو كاشف عن الصفات ، لا أنّه به يحصل الوجوب (٤) ؛ ومن هنا تمسّك الأشعري بعدم كونه حينئذ في جعل الأحكام مختارا ، بل لا بدّ وأن يكون موجبا.

وبذلك يشعر ما أجاب عنهم أصحابنا : بأنّ انتفاء القبيح لصارف لا ينافي

__________________

(١) من وجوه النظر فيما أفاده السيّد ، راجع الصفحة : ٣٣٨.

(٢) لم يرد « أنّ » في ( ش ).

(٣) لم ترد عبارة « في المستقلاّت ـ إلى ـ المدركة » في ( ش ).

(٤) لم نعثر عليه بعينه ، انظر العدّة : ٤٠٩ ـ ٥٠٥ ، الفصل ٢ من فصول النسخ.

٣٤٢

الاختيار ، فإنكار كون تلك الجهات المدركة لنا في الأفعال التي تستقلّ عقولنا بأحكامها يشبه أن يكون سفسطة في سفسطة! فإنّ المفروض استقلال العقل بإدراك الحكم في البعض.

ثمّ اعلم ، أنّ معنى قولهم : « إنّ حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته ممّا يمكن أن يتوصّل به إلى الحكم الشرعي » أنّه يمكن أن يجعل دليلا للحكم الشرعي ، فإنّ حكم العقل باستحقاق فاعل الإحسان جزاء الخير بمنزلة كبرى كلّيّة لخصوص حكم الشارع ، بمعنى إرادته ورضاه وطلبه للإحسان ، وإن كان إطلاق الحكم على هذا المعنى مجازا عندهم كما لا يخفى.

ومن هنا يلوح ضعف ما أفاده المحقّق القمّي رحمه‌الله في تحرير العنوان من قوله : « كما تبيّن عندنا معاشر الإماميّة تبعا لأكثر العقلاء : أنّ العقل يدرك الحسن والقبح ـ إلى قوله ـ كذلك من الواضح : أنّه يدرك أنّ بعض هذه الأفعال ممّا لا يرضى بتركه ـ إلى أن قال ـ وما توهّمه بعض المتأخّرين : من أنّ حكم العقل محض استحقاق المدح والذمّ ، فهو مبني على الغفلة عن مراد القوم وحسبان أنّ حكم العقل إنّما هو الذي ذكروه في مبحث إدراك العقل » (١).

ووجه الضعف أمران :

أحدهما : حسبانه تعدد النزاع وقد علمت أن كلام الأكثرين يشعر بخلافه.

الثاني : أنّه على ما أفاده فلا معنى لدليليّة حكم العقل لحكم الشرع ، بل العقل تارة يدرك الحسن والقبح بمعنى المدح والذمّ ، وأخرى يدرك الثواب والعقاب بمعنى أنّه يدرك أنّه ممّا يرضى الله تعالى بفعله أو لا يرضى به ،

__________________

(١) القوانين ٢ : ٢ ، الباب السادس ، المقصد الرابع ، القانون الأوّل.

٣٤٣

فلا يتصوّر النزاع في ذلك إلاّ ممّن ينكر حجّيّة الإدراكات القطعيّة العقليّة ، والمفروض : أنّ العقل مذكور في عداد الأدلّة والمسألة أصوليّة ، إذ المقصود فيها إثبات دليليّة العقل للحكم الشرعي.

وبالجملة ، فما أفاده لا يكون دليلا للحكم الشرعي. ولعلّه إنّما أخذ ذلك من كلام المحقّق اللاهيجي ، حيث قال : « إنّ العقل رسول في الباطن ، كما أنّ الرسول عقل في الظاهر » (١) فإنّ المستفاد من كلماته في موارد عديدة : أنّ العقل لسان الشرع وطالب من قبله ، كما أنّ الرسول في الظاهر مبيّن أحكامه.

وكيف كان ، فلا وجه لما ذكره أيضا ، إلاّ أن يكون ذلك منه لبيان مقام (٢) آخر غير دلالة العقل على حكم الشرع كما هو (٣) الكلام في المسألة الأصوليّة المعبّر عنها بقولنا : « كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع »

واعلم أنّ هذه القضيّة تحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد منها : أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم بمثله الشرع ، وهذا يلائم قولهم : « إنّ العقل والشرع متطابقان » فإنّه ظاهر في تعدّد الحكمين (٤) وتغايرهما ، من جهة أنّ أحد الحكمين شرعي والآخر عقلي إرشادي ، وعلى هذا المعنى ففي الموارد التي استقلّ بها العقل حكمان وحاكمان.

وثانيها : أن يراد منها : كلّ ما حكم به العقل حكم بعينه الشرع ، وبعبارة

__________________

(١) گوهر مراد : ٢٤٧.

(٢) في ( ش ) بدل « مقام » : « حكم ».

(٣) في ( ش ) بدل « هو » : « مرّ ».

(٤) في ( ط ) زيادة : « وتطابقهما ».

٣٤٤

اخرى : أنّ الشرع يصدّق العقل فيما يحكم به ، لا أنّه يحكم بحكم آخر لكنّه يماثل حكم العقل ، وعلى هذا فالحاكم اثنان والحكم واحد فإنّ أحدهما حاكم وهو العقل ، والثاني مصدّق وهو الشرع (١).

وثالثها : أن يراد منها : أنّ كلّ ما حكم به العقل فهو عين ما حكم به الشرع ، بمعنى أنّ العقل رسول الشرع ، فكما أنّ الرسول لا يختلف حكمه حكم (٢) الشرع بل هو عين ما حكم به الشرع ، فكذلك العقل ، فإنّه رسول في الباطن ، كما أنّ الشرع عقل في الظاهر ، فحكم الشرع قائم بالعقل حيث إنّه لسان الشرع ، وعلى هذا : الحكم واحد والحاكم واحد ، كما في أحكام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ إنّ هذه القضيّة قد تطلق في قبال من يرى صحّة حكم العقل وعدم حكم الشرع ، لجواز خلوّ الواقعة عن الأحكام ، وقد تطلق في قبال من يرى أنّ حكم الشارع قد يكون على خلاف حكم العقل بعد تسليمه عدم جواز خلوّ الواقعة (٣) عن الحكم ، فعلى الأوّل يكون المقصود إثبات الحكم الشرعي قبالا لمن ينفيه ، والتطابق غير ملحوظ في المقام (٤) حينئذ. وعلى الثاني يكون المقصود إثبات التطابق ، ونفس الحكم الشرعي سواء كان مخالفا أو موافقا غير ملحوظ في النزاع ، وذلك كما تقول : « الذي ضربته أمس ضربته اليوم » فإنّه قد يكون قولك مسوقا لإثبات المسند قبالا لمن نفاه ، وقد يكون مسوقا لإثبات المضروب وبيانه ، وقد تقدّم ما يدلّ على ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى الإرادة

__________________

(١) لم ترد عبارة « فإن أحدهما ـ إلى ـ الشرع » في ( ش ).

(٢) كذا ، ولعلّ المناسب : حكمه عن حكم.

(٣) لم ترد عبارة « عن الأحكام ـ الى ـ الواقعة » في ( ش ).

(٤) لم يرد « في المقام » في ( ش ).

٣٤٥

والكراهة والسخط والرضا ، وسيأتي ما يدلّ من الأدلّة الشرعيّة كتابا وسنّة وإجماعا بأقسامه محقّقا ومنقولا بسيطا ومركّبا على الملازمة بين حدّي (١) الحكمين بمعنى الحكم اللفظي الخطابي كما أفاده (٢) محقّق الجمال (٣).

قال الاستاذ ـ دام علاه ـ : وزعم بعض المعاصرين جواز الانفكاك بين حكم العقل والشرع ، أراد به صاحب الفصول حيث قال ـ بعد ما عنون البحث في مقامين : أحدهما : يرجع (٤) إلى الكليّة القائلة بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، وثانيهما : إلى حجّيّة القطع وجواز عمل القاطع بقطعه : فالحقّ عندي في المقام الأوّل أن لا ملازمة عقلا بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، وإنّما الملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه. نعم ، جهات الفعل من جملة جهات التكليف ، فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن التكليف به ، وقد لا يقتضي لمعارضته لجهة أخرى في نفس التكليف (٥). واستند في ذلك إلى وجوه :

الأوّل : حسن التكليف الابتلائي ، فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله من حيث هو فاعله المدح في نظره ؛ استخبارا لحال العبد أو إظهارا لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل لما حسن ذلك.

__________________

(١) لم يرد « حدّي » في ( ط ).

(٢) في ( ط ) : « ادّعاه ».

(٣) في الحاشية على شرح مختصر الاصول ( المخطوط ) ، في مباحث مبادئ الأحكام : ٩٦.

(٤) في ( ط ) زيادة : « في محصّل المعنى ».

(٥) الفصول : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٤٦

والجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبأنّه خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ الكلام إنّما هو في الملازمة بين حكم العقل بعد إدراكه الجهة المحسّنة والمقبّحة وحكم الشرع ، ولا وجه للابتلاء بعد العلم بحال الفعل وجوبا وحرمة ، لعدم وجود الفائدة فيه ، كما لا يخفى. نعم ، إنّما يرد ذلك نقضا على الملازمة بين حكم الشرع والعقل التي مرجعها إلى الحكم بتبعيّة الأحكام الشرعيّة للصفات الكامنة في الأشياء باعتبار حدود ذواتها أو بعد انضمام أمور أخر إليها زمانا ومكانا ونحوهما. ومن هنا يظهر عدم استقامة ما أجاب به عن الاعتراضات التي أوردها المحقّق القمّي على الوجه المذكور ، حيث إنّه إنّما حاول دفعها على (١) ذلك المقام ، وقد عرفت أنّه لا ربط بين المقامين (٢).

وأمّا ثانيا : فبأنّ التكاليف الابتلائيّة خارجة عن محلّ تشاجرهم وحريم نزاعهم ، إذ ليست بتكاليف حقيقة ، فإنّ التكاليف الحقيقية ـ على ما هو المصرّح به في كلام المتكلّمين ـ لا بدّ وأن تكون مشتملة على حسن زائد على حسن التكليف (٣).

قال المحقّق الطوسي قدس‌سره القدّوسي في مقام بيان شرائط حسن التكليف : وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدّمه وإمكان متعلّقه وثبوت صفة زائدة على حسنه (٤).

__________________

(١) في ( ط ) : « دفعه في ».

(٢) في ( ط ) زيادة : « كما لا يخفى على المتدبّر فيهما ».

(٣) في ( ش ) : « التكاليف ».

(٤) تجريد الاعتقاد : ٢٠٣.

٣٤٧

وتحقيق المقام إنّما هو بعد بسط في الكلام ، فنقول : إنّ التكليف بشيء يقع على وجوه :

الأوّل : أن يكون الفعل المأمور به مشتملا على مصلحة توجب الأمر به أو يشتمل على مفسدة مقتضية للنهي عنه بحيث لو نهى عن الأوّل أو لم يأمر به أو أمر بالثاني (١) أو لم ينه عنه لكان قبيحا على ما عرفت مرارا ، وهذا هو القسم الشائع عندنا معاشر العدليّة.

الثاني : أن يكون المصلحة في نفس صدور الأمر من غير أن يكون الفعل ذا مصلحة بوجه ، بل قد يكون الفعل مبغوضا للآمر ، لكن المصلحة المقتضية لصدور الأمر دعته إلى الأمر به كالأوامر الواردة في مقام التقيّة من غير أن يكون في نفس العمل تقيّة ، ولا شكّ أنّ هذا القسم من الأمر لا يورث إيجابا بالنسبة إلى الفعل ولا شيئا آخر ، وإنّما هو فعل قد ألجأت إليه الضرورة فوقع من غير أن يكون منوطا بحسن في متعلّقه ، وإنّما الحسن في نفسه على النهج السائر في الأفعال الاختياريّة التي يكفي في صدورها عن الفاعل وجود الداعي إليه بخصوصه ولو كان هو حفظ النفس عن مكائد الأعادي ، بل هو من أعظم الدواعي.

الثالث : أن يكون المصلحة في الفعل ، لكنه بعد ما تعلّق الأمر به فتارة من حيث إنّ الفعل محصّل للامتثال بالنسبة إلى أمر المولى ، واخرى من حيث إنّ الفعل بعد ما تعلّق الأمر به (٢) ظاهرا [ إنّما ](٣) اشتمل على عنوان حسن كان الأمر به طريقا إلى تحصيل ذلك العنوان الحسن الذي هو المقصود بالأمر واقعا وإن تعلّق

__________________

(١) لم ترد « أو لم يأمر به أو أمر بالثاني » في ( ش ).

(٢) لم ترد عبارة « فتارة ـ إلى ـ الأمر به » في ( ش ).

(٣) لم يرد « إنّما » في ( ش ).

٣٤٨

بغيره ظاهرا ، فالمأمور به بالأمر اللفظي شيء والمقصود من الأمر الذي حسنه اقتضى صدور الأمر من الآمر شيء آخر ، إلاّ أنّ تعلّق الأمر به حيث لم يكن ممكنا لأدائه إلى مفسدة ابتداء تعلّق الأمر بغيره على وجه يحصل بواسطة تعلّق الأمر به ذلك العنوان الحسن ، فيصير مأمورا به بأمر آخر ؛ مثلا إذا كان في إظهار الإطاعة للمولى حسن أو مصلحة دعت إلى طلبه من العبد ، فلا يصحّ الأمر بإظهار الإطاعة ابتداء من غير سبق تكليف ؛ لأنّ الإطاعة ترجع في محصّل المعنى إلى الامتثال بأوامر المولى والإتيان بما تعلّق به الأمر ، والمفروض انتفاء موضوعه في المقام ، فلا بدّ في ذلك من الأمر بشيء آخر مثل الأمر بقطع يده مثلا أو قتل ولده لتحصيل موضوع ما هو مطلوب واقعا : من إظهار الإطاعة وإن لم يكن قطع اليد محبوبا له ، بل إنّما يكون مبغوضا ، فكان الأمر اللفظي في المقام جزء لموضوع ما هو المقصود حقيقة ، وبعد تحصيل ذلك الموضوع يحكم العقل بالأمر العقلي بالإطاعة المطلوبة للمولى حقيقة ، فالأمر اللفظي لا يورث وجوبا في متعلّقه واقعا وإن تخيّله المأمور من حيث جهله بالواقع وكشف اللفظ عن الوجوب ظاهرا ، ولا يتبع هذا حسنا ، بل هو مستتبع لموضوع حسن تعلّق الأمر الحقيقي به.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ القسم الأوّل ممّا لا كلام فيه ، والقسم الثاني ممّا لا دخل له في المقام ، فإنّه أمر صوري لفظي صرف وتخيّل بحت. وأمّا القسم الثالث فبالنسبة إلى الأمر المتعلّق لفظا بقطع اليد أو ذبح الولد فلا شكّ في كونه صوريّا بحتا لا يورث وجوبا في الواقع وإن تخيّله المكلّف ـ بواسطة عدم اطّلاعه وجهله بالواقع وبالنسبة إلى المطلوب ـ واقعا ، فهو كالقسم الأوّل من حيث إنّ حسن الفعل دعا إلى الأمر به. والأوامر الابتلائية يحتمل أن تكون من هذا القبيل ، ولا ينافيه ما اشتهر في الألسنة : من أنّ التكاليف الابتلائية

٣٤٩

لا بدّ وأن يكون الفعل فيها غير مطلوب ، إذ بعد تسليمه فإنّما هو فيما تعلّق الأمر اللفظيّ به وتخيّله المكلّف مأمورا به.

ولا دليل على أنّ ذلك الأمر لا يصحّ أن يجعل طريقا إلى الوصول إلى ما هو المطلوب حقيقة ، كما أنّه لا ينافيه مبغوضيّة ما تعلّق الأمر به ظاهرا ، نظرا إلى أنّ المطلوب الحقيقي هو إظهار الإطاعة والانقياد ، ومن جملة ما يحصل به هذا المفهوم هو قطع اليد أو قتل الولد ، والمفروض كونه مبغوضا للمولى ، والوجه في ذلك : هو أنّه كما يحصل بالقتل ذلك المفهوم فكذلك يحصل بإيقاعه في معرض القتل أو القطع ، كما هو ظاهر.

ومن ذلك كلّه ظهر أنّ ما زعمه المحقّق القمّي تبعا لبعضهم : من أنّ الأمر في أمثال المقام مجاز عن المقدّمات (١) ممّا لا وجه له.

والحاصل : أنّ الأوامر الابتلائيّة لا ترد نقضا على الملازمة بعد احتمال ما ذكرناه ، فكيف بأنّ الظاهر من مساق كلماتهم هو ذلك الاحتمال! (٢) فتأمّل جيّدا تهدى إلى الحقّ.

الثاني (٣) : التكاليف التي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن أئمّتنا الأطهار عليهم‌السلام لا يكاد يعتريه شوب الإنكار وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا ، فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان ، لما فيها من صون المكلّف والمكلّف عن شرور المخالفين وإن تجرّد المكلّف به عن الحسن الابتدائي. وطريان الحسن

__________________

(١) القوانين ٢ : ٤.

(٢) في ( ط ) زيادة : « ما قلنا ».

(٣) من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

٣٥٠

بعد التكليف من جهة الامتثال ممّا لا يجدي ، إذ الكلام في الجهات المتفرّع عليها التكاليف ، لا في الجهات المتفرّعة عليها هذا (١).

والجواب عنه :

أمّا أوّلا : فبالنقض بما لو حكم العقل بوجوب شيء أو حرمته ، فإنّه يحسن التكليف اتّقاء من شرور الأعادي وصونا عن مكائدهم على خلاف حكم العقل من تحريم الواجب وإيجاب الحرام ، مع أنّه لا يلتزم بجوازه ولا يحكم بالانفكاك بين الحكمين فيه. قال في ذيل المبحث : « وإذا ثبت عندك ممّا حقّقناه انتفاء الملازمة الكليّة ، فاعلم أنّ ذلك يتصوّر إمّا بالأمر بالحرام العقلي (٢) ولو ندبا والنهي عن الواجب العقلي (٣) ولو تنزيها » (٤) وعدّ الأقسام المتصوّرة في المقام من الأمر بالمباح أو تحريمه أو إباحة الواجب ونحوه ـ إلى أن قال ـ : « أمّا القسمان الأوّلان : فلا ريب في امتناعهما بالقياس إلى الحكم الواقعي » (٥) مع أنّ مقتضى ما ذكره من الدليل هو جواز مثل ذلك أيضا ، فما هو الجواب عنه هو الجواب عن غيره أيضا. والحقّ أن النقض المذكور ممّا لا يختصّ وروده بهذا الدليل خاصّة ، بل يجري في أكثر الوجوه التي استند إليها ، كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، بأن نقول : إنّ تلك التكاليف لا بدّ وأن تحمل على أحد الوجهين : إمّا على التورية باعتبار إرادة معنى غير ظاهر منها على إطلاقها ، كأن يقال فيما لو أمر بالمسح على الخفّين : إنّه يجب عند الخوف على النفس ، والفعل

__________________

(١) الفصول : ٣٣٨.

(٢ و ٣) في المصدر : الفعلي.

(٤) الفصول : ٣٤٠.

(٥) الفصول : ٣٤٠.

٣٥١

فيه يشتمل على الحسن قطعا ؛ لأنّ الفعل الواقع في مقام الخوف على النفس له وجه يغاير سائر وجوهه ويختلف الحسن والقبح باختلاف الوجوه المتّحدة مع الفعل المنتزع عنه ، كما لا يخفى. وقد ورد نظير ذلك في الأخبار بحيث لا يكاد يشوبه الإنكار ، فمن ذلك : ما قد قاله الإمام عليه‌السلام فيما سأله السائل عن الوتر من وجوبه ، ثم فسّره بوجوبه على الرسول (١). وقوله : « أصبت » ثم فسّره بـ « أصبت الباطل » (٢). وقوله في الشيخين : « إنّهما إمامان عادلان قاسطان كانا على الحقّ وماتا على الحق » (٣) ثم فسّره بما ينافيه ظاهرا. ولا قبح في ذلك الوجه بوجه.

وأمّا حمل الأمر فيها على مجرّد اللفظ وإيجاد صيغة الأمر صورة من غير إرادة معنى منه ـ نظير الكذب في الإخبارات من حيث عدم مطابقة نسبة الكلام للواقع ـ فلا بعد فيه أصلا كما زعمه. والعجب أنّه لا يستبعد وقوع التكليف بالقبح ويستبعد حمل الأمر في أمثال المقام على الأمر الصوريّ! مع أنّه في مقام التقيّة لا غائلة فيه بوجه.

الثالث (٤) : أنّ جملة من الأوامر الشرعيّة متعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد التقرّب والامتثال حتّى أنّها لو تجرّدت عنها تجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، فإنّ وقوعها موصوفة بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة ، حتى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال لا تخلو واقعا إمّا أن تكون واجبات عقليّة مطلقا أو بشرط الأمر بها

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٠ ، الباب ١٦ من أبواب أعداد الفرائض ، الحديث ٦.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) الصوارم المحرقة : ١٥٥ ، والصراط المستقيم ٣ : ٧٣.

(٤) من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

٣٥٢

ووقوعها بقصد الامتثال ، وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل : فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشارع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني : فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل (١).

أقول : ويمكن تحريره بوجه آخر يغايره في الجملة ، وهو : أنّه لا شكّ في اشتراط جملة من الأفعال بالإتيان على وجه الامتثال ، فمع قطع النظر عن هذا الاشتراط ، فإمّا أن يكون تلك الأفعال مشتملة على حسن يقتضي الأمر بها أو لا ، وعلى التقديرين لا يتمّ الملازمة ، أمّا على الأوّل : فلأنّها لا تجزي عن التكليف الواقعي ، وأمّا على الثاني : فلأنّها مأمور بها مع أنّه لا حسن فيها ولا تناقض (٢) في البين ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الأمر يتعلّق بها من حيث اشتراط وجه القربة قلنا : الكلام في الجهات التي يتفرّع عليها التكليف ، ووجه القربة (٣) إنّما يتفرّع على التكليف ، فلا يحصل إلاّ بعد الأمر ، فأخذه في المأمور به يوجب الدور المحال.

والجواب عنه بكلا تحريريه.

أمّا أوّلا : فبخروجه عمّا نحن فيه ، إذ الكلام فيما إذا أدركت عقولنا حسن الفعل أو قبحه فهل يكشف عن حكمه الشرعي أم لا على ما عنون به المبحث؟ وذلك إنّما يرد نقضا على الملازمة بين حكمي العقل والشرع ، ولا يرتبط بما نحن فيه (٤) أصلا.

__________________

(١) الفصول : ٣٣٩.

(٢) في ( ش ) شطب على كلمة « تناقض » وكتب عليه : ملازمة.

(٣) لم ترد عبارة « قلنا ـ إلى ـ القربة » في ( ش ).

(٤) في ( ط ) بدل « فيه » : « بصدده ».

٣٥٣

وأمّا ثانيا : فنختار أنّها واجبات عقليّة مطلقا مع قطع النظر عن الاشتراط بقصد القربة ، ولا غائلة فيه أصلا ، وبيانه موقوف على مقدّمة ، وهي : أنّ الفعل الواقع عن المكلّف ، له عناوين كثيرة ووجوه عديدة تصلح للحمل عليه ويصحّ انتزاعها منه ، فقد يكون الضرب الصادر من المكلّف معنونا بعنوان حسن (١) حسنا كما إذا كان على وجه التأديب ، وقد يكون ملحوظا بلحاظ آخر موجّها بوجه غيره قبيحا كما إذا كان على وجه التعذيب مثلا (٢) ، فإذا علمنا العنوان الحسن المنتزع من الفعل بخصوصه تفصيلا فلا كلام ، وإن علمناه إجمالا كأن علمنا أنّ الفعل الفلاني وجها يكون ملحوظا بذلك الوجه حسنا ، ولو كان علمنا أنّ للفعل الفلاني وجها يكون ذلك الفعل (٣) ملحوظا بذلك الوجه حسنا (٤). ولو كان علمنا بذلك بواسطة أمر الشارع وكشفه عن وجود عنوان الحسن إجمالا فلا ريب أنّ الإتيان بالفعل في الخارج تحصيلا لذلك العنوان المعلوم حسنه إجمالا يجزي عن الأمر به لو كان مأمورا به ، ويحصل الحسن المنتزع من الفعل كما لا يخفى.

وبالجملة ، فبعض الأفعال لوقوعها مشتركة بين وجوه كثيرة لا بدّ في تعيين واحد منها إلى قصد ذلك الوجه بالخصوص تفصيلا أو إجمالا ، وإليه تنظر العبارة المنقولة عن المتكلمين من أنّه : « لا بدّ أن يقع الفعل في الخارج إمّا لوجوبه أو لوجه وجوبه » (٥) فإنّ هذا أحد الوجوه في وجه الوجوب.

__________________

(١) لم يرد « حسن » في ( ش ).

(٢) لم يرد « مثلا » في ( ش ).

(٣) لم يرد « ذلك الفعل » في ( ش ).

(٤) العبارة مشوّشة جدّا.

(٥) المنقذ من التقليد ١ : ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، وكشف المراد : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

٣٥٤

وإذ قد عرفت هذه ، فنقول : نلتزم بأنّ الأفعال المخصوصة التي يعبّر عنها بالصلاة مثلا حسن ، لكن لا على أي وجه حصلت وعلى جميع العناوين المنتزعة عنها ، بل على وجه خاصّ علمنا به إجمالا من أمر الشارع وإن لم نعلم ذلك الوجه بخصوصه ، فهي معنونة بعنوان معلوم بالإجمال حسنه ، ولهذا قد أمر بها الشارع ، والإتيان بها على الوجه المأمور بها يجزي عن الواجب وإن لم يكن الامتثال ظاهرا ، وأمّا واقعا فمرجعه إلى حقيقة الامتثال كما لا يخفى فهي حسنة ومأمور بها فلا مخالفة بين الحكمين.

وأمّا ثالثا : فنختار أنّها واجبات عقليّة بعد الاشتراط بنيّة القربة وقصد الامتثال ، ولا غائلة أيضا ، وبيانه أيضا يحتاج إلى تقديم مقدّمة.

وهي : أنّ الحكمة الداعية إلى وضع الألفاظ ـ على ما تقرّر في محلّه ـ هو الكشف عن المقاصد في مقام الإفادة والاستفادة ، وذلك يحصل بوجهين.

أحدهما : أن يكون المقصود بالإفادة والاستفادة ما هو المفهوم من اللفظ بحسب ما يستفاد منه لغة ، كما هو المتعارف عند العقلاء في أغلب إفاداتهم واستفاداتهم خبرا أو إنشاء.

وثانيهما : أن يكون المقصود واقعا من إيراد اللفظ وإطلاقه بحسب ما يستفاد منه من الأمور اللازمة للمعنى أو الملزومة له ولو بملاحظة مدلوله ابتداء.

فكما أنّ اللفظ في القسم الأوّل طريق للوصول إلى المعنى ، فكذلك المعنى المستفاد من اللفظ في المقام طريق للوصول إليه ، وذلك في الأخبار ظاهر شائع كالمداليل الكنائية.

وأمّا في الإنشاء : فقد يتحقّق مثل ذلك أيضا ، كما إذا جعل الأمر بشيء عنوانا لمطلوبيّة شيء آخر ، فالمطلوب بحسب ما يعتقده المكلّف هو ما تعلّق

٣٥٥

الأمر به لفظا ، إلاّ أنّ المحبوب واقعا ربما يكون شيئا آخر ولو بعمومه ، فيختلف المقصود المسوق للكلام والمستفاد من الأمر بحسب ما تعلّق به ظاهرا في مقام اللفظ ، كما إذا أمر المولى بضرب زيد مثلا أو إكرام عمرو ، فإنّه ربما يقال باختلاف المقصود والمطلوب ظاهرا من حيث إنّ الطلب لا يتعلّق إلاّ بالامور الاختياريّة للمكلّف ، ومع ذلك فيمكن الحكم بالإجزاء فيما لو أكرم عمرا من غير اختيار ومن دون قصد إليه ؛ لأنّ عدم تناول الطلب للامور الاضطراريّة التي لا تقع باختيار المكلّف إنّما هو من جهة قصور في الطلب ، وإلاّ فاللفظ المفيد لما تعلّق به الأمر ـ على ما صرّح به السكّاكي (١) ـ مطلق يعمّ القسمين.

وبالجملة ، فاختلاف أحكام المقصود والمطلوب أمر ظاهر لا يكاد يخفى على أوائل العقول ، وإذ قد تقرّر هذه ، فنقول :

لمّا كان الفعل مجرّدا عن الاشتراط بنيّة القربة غير واجد لحسن ملزم للأمر به وكان بعد الأخذ بها حسنا مقتضيا للأمر ولا يمكن الأمر به على وجه يكون الاشتراط بها مأخوذا في الفعل نظرا إلى محذور الدور ، انحصر الطريق في الأمر به أوّلا على وجه يكون نفس الفعل متعلّقا للأمر اللفظي مجرّدا عن اعتبار الاشتراط والقيد ، ليصحّ التقييد بالاشتراط بعد ذلك الأمر ، فالحيلة في الوصول إلى ما هو المقصود واقعا إنّما هو تعلّق الأمر لفظا بما هو مجرّد عن قيد المطلوب ثم التقييد بعد ذلك ، فالمقصود من الأمر بالصلاة هو التقرّب بها ، فإنّ (٢) المطلوب الظاهري هو مجرّد فعل الصلاة ، فما هو متعلّق للأمر الواقعي والطلب الحقيقي

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) في ( ط ) بدل « فإنّ » : « وإن كان ».

٣٥٦

حسن قطعا ، وما هو مأمور به في مقام اللفظ لا دليل على لزوم كونه حسنا ولا يدّعيه القائل بالملازمة أيضا على ما لا يخفى.

الرابع (١) : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة (٢) رفعا للكلفة والمشقّة عنهم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك عقيب كلّ صلاة » (٣) فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن أصل الفعل ، وذلك حيث لا يكون هناك ما يحسن الابتلاء ولا يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فالفعل الشاقّ قد يكون حسنا بل واجبا عقليّا لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّفين مع قضاء الحكمة بعدمه (٤).

أقول : ويمكن تحريره بوجهين :

الأوّل : أنّ الأدلّة الدالة (٥) على رفع الحرج عن هذه الامّة ـ على ما يعطي النظر في مساقها ـ أنّها إنّما هي واردة في مقام الامتنان عليهم ، فتلك التكاليف التي تفرّدت تلك الأمّة المرحومة بالعفو عنها لا تخلو : إمّا أن تكون حسنة في الواقع على وجه يقتضي الأمر بها إلزاما ، أو لا ، فعلى الأوّل يلازم القول بانتفاء الملازمة ، وعلى الثاني ينافي الامتنان ، فإنّ ترك الإلزام بما لا ملزم فيه لا يعدّ امتنانا بل التكليف الإلزامي حينئذ يعدّ قبيحا ، ولا امتنان في ترك القبيح ؛ مع أنّه قد

__________________

(١) من الوجوه التي استند إليها صاحب الفصول.

(٢) في ( ش ) زيادة : « قطعا ».

(٣) الوسائل ١ : ٣٥٥ ، الباب ٥ من أبواب السواك ، الحديث ٣.

(٤) الفصول : ٣٣٩.

(٥) لم يرد « الدالّة » في ( ش ).

٣٥٧

منّ الله تعالى ببركات نبيّنا نبيّ الرحمة ـ عليه وآله من الصلاة أزكاها ومن السلام أفضلها ـ على هذه الأمّة بترك الإلزام بها ، على ما يستفاد من جملة من الأخبار الواردة في هذا المضمار (١) ، كما لا يخفى على من راجعها.

الثاني : أنّ الظاهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي ... » (٢) أو « لأخّرت العتمة إلى ثلث الليل » (٣) ونحوه أنّ ترك التكليف بهذه الأفعال إنّما هو بواسطة عدم إلقائهم في المشقّة بعد ما هو يقتضي التكليف ، نظرا إلى ما هو المعهود من طريقة العقلاء حيث يستندون في عدم المعلول إلى عدم المقتضي فيما لو اجتمع مع وجود المانع ، وإنّما يحسن الاستناد إليه بعد إحراز المقتضي ، وإلاّ فينسب كلام القائل به إلى كلمات أصحاب الهزل والظرافة ، أو يلحق بكلمات أرباب السوداء والجنون ، فاللازم لذلك وجود الحسن في تلك الأفعال مع عدم الأمر بها.

والجواب أمّا عن التحرير الأوّل :

أمّا أوّلا : فبأنّه خارج عن العنوان ، إذ لا كلام فيما لا (٤) يستقلّ العقل بإدراكه.

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ١٥٣ ، الباب ٩ من أبواب الماء المضاف ، الحديث الأوّل ، و ١٢٠ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث الأوّل و ٣٢٧ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ و ١١٣ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥ ، والوسائل ٢ : ٩٨٠ ، الباب ١٣ من أبواب التيمم ، الحديث الأول و ١٠٧١ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٣ وغيره.

(٢) المتقدّمة في الصفحة السابقة.

(٣) الوسائل ٣ : ١٣٥ ، الباب ١٧ من أبواب المواقيت ، الحديث ٧.

(٤) لم يرد « لا » في ( ش ).

٣٥٨

وأمّا ثانيا فبالمعارضة ، إذ لو كان التكليف في تلك الأفعال قبيحا فلا امتنان في ترك القبيح ولو كان حسنا ، فلا ملازمة بين حسن التكليف ووقوعه على ما زعمه ، فهذا الإيراد على صحته مشترك الورود ، ولا بدّ لكلّ من الفريقين من التفصّي عنه ، فلا يصلح نقضا للملازمة.

وأمّا ثالثا : فبأنّ العسر واليسر من وجوه الفعل واعتباراته ، فيجوز أن يكون الفعل باعتبار العسر قبيحا فلا يكون مكلّفا به. وأمّا إشكال الامتنان فستعرف الحلّ منه على المذهبين.

ثم لا يخفى عدم ورود هذه الإيرادات على التحرير الثاني :

أمّا الأوّل : فلأنّ المخبر الصادق قد كشف عن حسنه ـ على ما عرفت ـ فالقطع حاصل بحسنه ، مع أنّه لا تكليف به.

وأمّا الثاني : فواضح.

وأمّا الثالث : فلأنّ الظاهر من الرواية عدم كون الفعل شاقّا ، بل المشقّة إنّما تحصل من الإلزام به ، كما يظهر من قوله : « أشقّ » حيث استند (١) مشقّتهم إلى نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما لا يخفى.

ولكنّه يرد عليه :

أوّلا : أنّ غاية ما يمكن أن يستفاد من هذه الأخبار هو الظنّ والظاهر يدفع بالقاطع ، فإنّ الدليل الدالّ على الملازمة قطعيّ ولا يعارضه خبر الواحد بل ولا المتواتر لفظا ، فلا بدّ إمّا من حمله على خلاف ظاهره ، كأن يقال : إنّ المشقّة في تلك التكاليف إنّما هي من وجوه المكلّف به ، فبعد العسر والمشقّة لا يكون حسنا ، فلا مخالفة أو من طرحه.

__________________

(١) كذا ، والأنسب : أسند.

٣٥٩

وبالجملة ، لا يصحّ ترك الدليل العقليّ والأخذ برواية في سندها ـ بل وفي دلالتها أيضا ـ ألف كلام ، فهذه الكلمات في دفع الملازمة لو خيطت من ألف جانب لتهتّك من ألف جانب آخر.

وثانيا : أنّ جملة من الأخبار الدالّة على تفويض الأحكام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام (١) محمولة على وجوب اتّباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما لو أمر لداع غير التبليغ : من إيصال العباد إلى جميع المصالح المكنونة قليلها وكثيرها من غير أن يفوّت منهم مثلا شيئا منها ، ومن هنا قيل : فرض الله وفرض رسوله ، فيجوز أن يكون الأمر المفروض في الرواية ـ كما يظهر من استناده إلى نفسه ـ من فرائضه من غير أن يكون تبليغا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالفعل بعد الأمر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصير حسنا فيجب ، فأمره في الحقيقة محقّق لموضوع الواجب العقلي والشرعي كالنذر وأمر الوالد لولده. ولا ينافيه علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحكمته بعد ما عرفت من أنّه ربما يكون الداعي استيفاء جميع المصالح لهم ، فليتأمّل.

ثمّ إنّ الإشكال الوارد في المقام ـ أعني مقام الامتنان ـ يمكن التفصّي عنه على المذهبين ، أمّا على مذهب الناقض : فبأن يقال : إنّ التكليف وإن كان حسنا ، إلاّ أنّ ترك التكليف أحسن ، للامتنان (٢) على نهج العفو فيمن يستحقّ العقوبة ، فإنّها عدل لكن العفو أولى.

وأمّا القول بأنّ فعل الأحسن بعد ما كان كذلك لا امتنان فيه ـ نظرا إلى وجوب (٣) صدور الأحسن منه تعالى ، فهو في مقام الربوبيّة وعدم جواز صدور

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٦٥ ، باب التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمة صلوات الله عليهم.

(٢) في ( ط ) زيادة : « و ».

(٣) لم يرد « وجوب » في ( ش ).

٣٦٠