مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

هداية

لا إجمال في آية السرقة ، وهي قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... )(١).

أمّا القطع : فلأنّ المتبادر منه مطلق الإبانة الصادقة على جميع مراتبها وخصوص مرتبة خاصّة وإرادتها بالدليل ، وقد مرّ أنّه لا يوجب الإجمال ، إذ بعده لا إجمال وقبله محمول على المسمّى.

نعم ، لا يبعد القول بالإجمال من حيث إنّ الظاهر ـ وهو إبانة الكلّ ـ غير مراد قطعا ولا ظاهر بعده فيتردّد بين المراتب العديدة من إبانة اليد. ولكن الإجمال إنّما جاء به من قبل أمر آخر لا بواسطة نفس الآية.

وأمّا في اليد : فإنّ الظاهر منها تمام العضو المخصوص ، وثبوت اسم خاصّ لبعض أجزائه ممّا لا دليل فيه على خلاف ما ذكرنا.

وأمّا الموارد التي يستعمل لفظ « اليد » فيها على بعضها كما في قولك : « غوّصت يدي » و « قطعت يدي » ونحو ذلك ، فليس « اليد » مستعملة فيها في أبعاضها بل في تمام العضو ، إلاّ أنّ نسبة تلك الأفعال إنّما تقتضي اتّصاف المورد بالفعل المذكور على الوجه المذكور من دون مجاز في الفعل أو في المورد ، كما أفاده بعض المحقّقين في عوائده ، حيث قال بعد ما قرّر من أنّ العرف ربما يتسامحون في صدق بعض المعاني على مصاديقها : إنّ هذه القاعدة

__________________

(١) المائدة : ٣٨.

٣٠١

ـ يعني المسامحة ـ جارية في وضع الجزء الصوري للنسبة بين الشيئين أيضا ، فكلّ ما يعدّ في العرف هذه النسبة فهو المراد بالإضافة من غير تغيير في حقيقة المضاف والمضاف إليه ، فإنّ الموضوع له للماهيّة الإضافيّة النسبة العرفيّة الحاصلة بين الحقيقتين ، فالتقبيل الحقيقي لزيد الحقيقي يحصل بجزء منه عرفا ، لا بمعنى أنّ زيدا الواقع في هذا التركيب يراد منه جزؤه عرفا ، بل بمعنى أنّ النسبة العرفيّة التي هي الجزء الصوري تحصل بذلك ، ولم يعلم للجزء الصوري معنى غير هذا لغة ولم يعلم للهيئة معنى آخر سوى المصداق العرفي ، ولا يختصّ ذلك بالتركيب الإضافي بل كذلك الإسنادي والتوصيفي ، نحو زيد مضروب ، وهذا الثور أسود إذا كان فيه نقطة بيضاء والقصيدة العجميّة إذا كانت فيها ألفاظ عربيّة (١). انتهى ما أردنا نقله بأدنى تفاوت.

فما أفاده [ غير ](٢) بعيد ، إلاّ أنّه لا حاجة إلى اعتبار المسامحة في النسبة ، كما يظهر من قياسها على ما يقع من التسامح في طرفيها ؛ مضافا إلى ما يظهر منه : أنّ المعنى العرفي يغاير المعنى الحقيقي ، وليس كذلك ، بل المعنى محفوظ على الوجهين ، إلاّ أنّ التسامح في دعوى العرف صدق المعنى الحقيقي على ما ينزّلونه (٣) منزلة الواقع. وعليك بإمعان النظر في كلامه لعلّك تطّلع على ما لم نطّلع عليه ، وهو الموفّق المسدّد الهادي.

__________________

(١) عوائد الأيّام : ٥٠٥.

(٢) لم يرد في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع.

(٣) العبارة في ( ش ) : « على ما يراد أنّه منزلة الواقع ».

٣٠٢

هداية

الأقرب أنّ التحليل والتحريم المضافين إلى الأعيان كقوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ )(١) و ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ )(٢) لا يلازم الإجمال. وقيل بالملازمة (٣) ، وآخر بالبيان مطلقا (٤).

واحتجّ الأوّل بأنّ (٥) إضافة الحلّ والحرمة إلى نفس العين ليست إضافة حقيقيّة ، لامتناع تعلّقهما بها ، بل إنّما هي إضافة لملابسة (٦) ، بين الحلّ والعين باعتبار الفعل المتعلّق بها ابتداء ، وحيث إنّ ذلك ممّا لا دليل على تعيينه بعد تعدّده (٧) في نفسه يصير مجملا.

واحتجّ الثاني بأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم بعد أنّ الأصل في كلّ كلام حمله على البيان والإفادة ، نظير المطلق الوارد بدون القيد.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) النساء : ٢٣.

(٣) نسبه الشيخ في العدّة ٢ : ٤٣٦ ، والآمدي في الإحكام ٣ : ١٥ ، والعضدي في الشرح :

٢٨٨ ، إلى الكرخي والبصري.

(٤) نسبه في المعالم : ١٥٦ إلى الأكثر ، ومثله في القوانين ١ : ٣٣٩ ، واختاره صاحب المعالم ، وهو مختار الشيخ في العدّة ٢ : ٣٦.

(٥) في ( ش ) والمطبوع : « إلى أنّ ».

(٦) في ( ق ) : « الملابسة ».

(٧) في ( ع ) : « فعند تعذّره ».

٣٠٣

والجواب عن الأوّل : فبأنّه ربما يكون الفعل الرابط بينهما ظاهرا عند أهل الاستعمال كما هو كذلك في أغلب الموارد التي يتعاطونه أهل العرف في محاوراتهم كالأكل في المأكول واللبس في الملبوس والشرب في المشروب ونحوها ، فإن أريد الملازمة بمعنى أنّ نفس التركيب مع قطع النظر عن ظهور خارجي يقتضي الإجمال فهو حقّ ، وإن أريد أنّ الواقع على الإجمال في جميع موارد التركيب فهو فاسد جدّا. لكنّ الإنصاف أنّه لم يظهر من القائل بالإجمال غير الشقّ الأوّل من الترديد.

وعن الثاني : فبأنّ حذف المتعلّق إنّما يفيد العموم بعد البيان في الجملة بواسطة إحراز أركان الكلام من الموضوع والمحمول. وأمّا عند عدم إحرازها كذكر الفعل بدون الفاعل أو العكس فلا شكّ في إجماله كما فيما نحن فيه ، فإنّ المضاف إليه هو الفاعل والموضوع في هذه التراكيب ، وأصالة البيان لا تجري بعد العلم بالإجمال عرفا ، فلا يقاس ذلك بالمطلق.

ثمّ اعلم أنّ الحلّية والحرمة في هذه التراكيب كسائر الأحكام المتعلّقة بموضوعاتها تدور مدار صدق ذلك العنوان الذي تعلّق به الحكم على وجه لو زال العنوان زال الحكم ، إلاّ أن يعلم من دليل خارج عن نفس القضيّة الحمليّة ثبوت الحكم بعد زوال العنوان أيضا ، فيكشف ذلك الدليل عن كون العلّة التامّة للحكم هو حدوث العنوان في أحد الأوقات.

ثمّ إنّه بما ذكرنا ظهر (١) أنّ وجه الإفادة في أمثال هذه التراكيب في مورد إفادتها ليس وضعا جديدا للهيئة التركيبيّة ، لعدم الحاجة إليه والأصل عدمه ،

__________________

(١) في ( ق ) : « ممّا ذكرنا يظهر ».

٣٠٤

بل يكفي في ذلك ملاحظة صحّة الإضافة بواسطة ارتباط حاصل من (١) الحكم والعين من جهة ما هو منسوب إلى الطرفين ، كالأكل في ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) فإنّ له تعلّقا بالحلّ (٢) من حيث اتّصافه به وبالعين (٣) من حيث تعلّقه بها ، فيضاف الحلّ بما هو متعلّق لمتعلّقه مجازا في الإضافة والإسناد ، كما يشهد بما ذكرنا أنّ الذهن إنّما يلتفت إلى هذا المذهب بعد الالتفات إلى عدم تعقّل سلوك سبيل يقتضيه الوضع من ارتباط الحكم إلى العين بلا واسطة. وهذا ظاهر وإن زعم بعض الأجلّة (٤) ـ تبعا للمحكيّ عن الشيخ (٥) والعلاّمة (٦) ـ خلافه. والله الهادي.

__________________

(١) في ( ع ) بدل « من » : « بين ».

(٢) في ( ش ) : « باحلّ ».

(٣) في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « بين العين ».

(٤) الفصول : ٢٢٤.

(٥) العدة ٢ : ٤٣٧.

(٦) نهاية الوصول : ١٧٨ ـ ١٧٩.

٣٠٥
٣٠٦

هداية

قد تداول في تضاعيف المحاورات إطلاق مثل قوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) وموارد مثل هذا التركيب لا يخلو من وجوه.

فتارة : يستعمل في نفي الحقيقة والذات ، فيكون مفاد كلمة « لا » مفاد لفظ « العدم » إذا وقع محمولا بنفسه ، كقولك : « زيد معدوم » ومن هنا ذهب جماعة إلى عدم احتياجه إلى الخبر ، كما تقدّم في كلمة التوحيد (٢).

ثمّ إنّ المنفيّ قد يكون مجرّد الذات من دون عنوان ، وقد يكون الذات باعتبار عنوانه الملحوظ في الكلام كقولك (٣) : « لا صغيرة مع الإصرار » فإنّ المنفيّ هو عنوان « الصغر » (٤) فالمنفيّ يمكن اعتباره على وجه المحموليّة إن لوحظ المنفيّ هو الذات المعنون من حيث إنّه معنون. ويمكن اعتباره على وجه الربط من حيث إنّ ذلك راجع إلى انتفاء الوصف العنواني عن الذات ، فإنّ التوصيف مسبوق بالحمل قطعا ، كما هو ظاهر لا سترة عليه.

وتارة يستعمل في نفي الصفة عن الذات ، فيكون مفاده مفاد العدم إذا كان رابطا ، وتلك الصفة مختلفة جدّا ، فتارة تكون صحّة ما تعلّق به النفي كقوله :

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث الأوّل.

(٢) راجع الصفحة : ١٠٦.

(٣) في ( ق ) : « كقوله عليه‌السلام ».

(٤) في ( ش ) : « الصغيرة ».

٣٠٧

« لا صلاة إلاّ بطهور » بناء على عدم حمل النفي فيه على نفي الذات وحمله على نفي الصحّة (١) كما يراه جماعة (٢) ، فيكون المراد هو عدم مطابقة الصلاة بدون الطهارة لما هو المأمور به حقيقة.

وتارة يراد به نفي المشروعيّة كقوله : « لا جماعة في نافلة » (٣) فيكون المراد هو عدم تعلّق طلب الشارع بالجماعة في النافلة ، ويغاير الأوّل بالاعتبار.

وقد يراد به نفي الفضيلة كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة لجار المسجد » (٤) أو نفي الكمال كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة لحاقن » (٥) ويفارق الأوّل بأنّ نفي الفضيلة لا ينافي الإباحة في العبادات ، وبخلاف نفي الكمال فإنّه يفيد (٦) الكراهة المعتبرة (٧) في العبادات.

وقد يراد به نفي الوجوب كقوله عليه‌السلام : « لا إعادة إلاّ في خمس » (٨) أو نفي جميع الآثار الشرعيّة أو بعضها على اختلاف المقامات كقوله عليه‌السلام

__________________

(١) في ( ق ) والمطبوع : « الصفة ».

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ١٥٥ ، والمحقّق القمي في القوانين ١ : ٣٣٨ ، والغروي في الفصول : ٢٢٤ ، والعضدي في الشرح : ٢٨٩.

(٣) الوسائل ٥ : ١٨٢ ، الباب ٧ من أبواب نافلة شهر رمضان ، الحديث ٦.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٧٨ ، الباب ٢ من أبواب أحكام المساجد ، الحديث الأوّل.

(٥) الوسائل ٤ : ١٢٥٤ ، الباب ٨ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٥.

(٦) في المطبوع : يضادّ.

(٧) في المخطوطات : « المعتبر ». والكلمة مصحّفة قطعا ، ولعلّها في الأصل : المضرّة.

(٨) « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة » الوسائل ٤ : ٦٨٣ ، الباب الأول من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث ١٤.

٣٠٨

« لا رضاع بعد فطام » (١) و « لا يتم بعد احتلام » (٢) و « لا عمل إلاّ بنيّة » (٣) إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.

وحيث إنّ ذلك التركيب صالح لأن يراد به الوجوه المذكورة اختلف القوم في بيانه وإجماله على أقوال (٤) : ثالثها التفصيل بين الأسماء الشرعيّة واللغويّة التي لها حكم واحد وبين غيرها من الأحكام اللغويّة التي لها أحكام متعدّدة فالإجمال في الثاني والبيان في الأوّل ؛ ومثّل بعضهم (٥) للأوّل بقوله عليه‌السلام : « لا إقرار لمن أقرّ بنفسه على الزنا » (٦) وقوله عليه‌السلام : « لا غيبة لفاسق » (٧).

وقد يتخبّل : أنّ وجه الإجمال في المقام على تقديره هو دوران الأمر بين مجازات عديدة بعد تعذّر الحمل على المعنى الحقيقي.

وقد يورد عليه بأنّه ليس في محلّه ، بل المعنى الحقيقي أيضا ـ وهو إرادة نفي الذات ـ أحد المحتملات من حيث حدوث الوهن في الحمل عليه ، للزوم تقييدات كثيرة في بعض الموارد كما هو معلوم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (٨)

__________________

(١) الوسائل ١٤ : ٢٩١ ، الباب ٥ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٣٢ ، الباب ٤ من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث ٩.

(٣) الوسائل ١ : ٣٣ ، الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث الأوّل.

(٤) راجع شرح المختصر : ٢٩٠ ، والإحكام للآمدي ٣ : ٢٠ ، ونهاية الوصول : ١٧٩.

(٥) نهاية الوصول : ١٨٠. وفيه : لا إقرار لمن أقرّ بالزنا مرة واحدة.

(٦) لم نقف عليه بعينه في الجوامع الحديثية.

(٧) كشف الريبة : ٨٠ ، وراجع الأمالي للشيخ الصدوق : ٤٢ ، المجلس العاشر ، الحديث ٧ مع تفاوت يسير. وكنز العمال ٣ : ٥٩٥ ، الحديث ٨٠٧١ ، وفيه : ليس للفاسق غيبة.

(٨) المستدرك ٤ : ١٥٨ ، الباب الأوّل من أبواب القراءة ، الحديث ٥.

٣٠٩

فإنّ الحمل على نفي الذات يوجب تقييد الصلاة بغير الموارد التي تقع الصلاة بدون الفاتحة كالناسي والجاهل والأخرس والمضطرّ ونحوهم.

وممّا ذكرنا أوّلا يظهر فساد ذلك كلّه ، فإنّ استعمال أداة النفي (١) في نفي الذات على وجه يراد بها العدم المحمولي الذي لا يحتاج إلى الخبر (٢) لو لم نقل بكونه مجازا ـ لأنّه من المعاني الاسميّة التي لا يستفاد من الأداة ـ فلا أقلّ من أن لا (٣) يكون استعمالها في نفي المحمول مجازا ، من غير فرق بين المحمولات ، سواء كان وجودا أو أمرا غيره ، فلا يتصوّر هناك مجاز في تلك المواد حتّى يقال بدوران الأمر بين المجازات بعد تعذّر الحقيقة أو بين الحقيقة وأحد المجازات ، بل الوجه في الإجمال هو ما قرّر من صلاحيّة إرادة جميع ما يمكن (٤) نفيه من الموضوع المفروض دخول الأداة عليه.

نعم ، على تقدير حمل الأداة على نفي المحمول والصفة لا بدّ من تقدير الخبر ، من غير فرق بين أن يكون الخبر وجودا أو أمرا آخر. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ظاهر الأداة لو قلنا باحتياجها إلى الخبر هو نفي خصوص المحمول الوجودي ؛ ولعلّ هذا هو الوجه في امتيازها عن المشبّهة بليس بحسب المعنى ، إذ على تقدير كونها غير ظاهرة في نفيه خاصّة لا تمايز بينهما معنى ، وهو أيضا في غاية الإشكال ، فلا بدّ من التأمّل.

__________________

(١) في ( ش ) ، ( ع ) والمطبوع : « فإنّ أداة النهي استعمالها ».

(٢) في ( ع ) : « خبر ».

(٣) لم يرد « لا » في ( ع ).

(٤) في ( ق ) : « ما يحتمل ».

٣١٠

احتجّ القائل بالبيان مطلقا بأنّ الفعل المنفيّ إمّا من العبادات أو من غيرها. فعلى الأوّل فإمّا أن تكون موضوعة للصحيحة أو الأعم ، فعلى الأوّل لا إجمال لإمكان الحمل على نفي الذات ، وعلى الثاني فيحمل على أقرب المجازات ، وهو نفي الصحّة ، لتعذّر الحمل على المعنى الحقيقي. وعلى الثاني فيحمل على نفي الفائدة ؛ لأنّه الأقرب. هذا إذا لم نقل بثبوت وضع ثانوي لهذه التراكيب لنفي الفائدة ، وعلى تقديره فالأمر أظهر.

وأجيب عنه بأنّه على القول بالصحيح لا وجه لحمله على نفي الذات ، لما (١) تقدّم من أنّه في عرض أحد المجازات ؛ مضافا إلى استلزامه حمل الكلام على الإخبار ، وهو ليس من شأن المعصوم وهو الإخبار عن نفي الذات بدون الشرط أو الجزء. وعلى القول بالأعمّ لا وجه لإطلاق القول بأنّه لا يحمل على نفي الذات ، لاحتمال أن يكون الجزء الثابت جزئيّته بالكلام المذكور من الأجزاء المقوّمة التي ينتفي الكلّ بانتفائه ولو عند القائل بالأعمّ ، بل لا بدّ من القول بأنّه من تلك الأجزاء نظرا إلى ظاهر اللفظ.

وفيه نظر ، أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّه لا يتصوّر مجاز في التركيب المذكور.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا مناص من حمل الكلام على الإخبار كما هو ظاهر التركيب أيضا ، غاية الأمر أنّ المخبر به على تقدير حمله على نفي الصفة هو الحكم الشرعي الذي شأن الإمام عليه‌السلام بيانه ، وهو حاصل على تقدير نفي الذات أيضا ، فلا داعي إلى صرف كلامه عن ظاهره إلى غيره ؛ مع أنّ ما أورده على القول

__________________

(١) في ( ق ) و ( ع ) والمطبوع : « كما ».

٣١١

بالأعمّ لا ينافي مقصود المستدلّ من البيان ، فإنّ حمل الجزء على ما لا يتقوّم الكلّ بدونه ـ كما هو ظاهر اللفظ ـ ممّا يؤكّد البيان ولا ينافيه.

ثمّ إنّه قد يمكن على القول بالأعمّ حمله على نفي الذات بوجه آخر ، وهو تنزيل الفعل الفاقد لذلك الجزء منزلة العدم مبالغة في الاعتناء بشأن ذلك الجزء أو الشرط. وبذلك يظهر وجه آخر لعدم لزوم مجاز في تلك التراكيب على تقدير حملها على نفي الصفات ، فإنّ التصرّف في أمر عقليّ.

ونظير في غير المقام قوله عليه‌السلام : « المؤمن إذا وعد وفى » (١) و « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » (٢) فإنّه مشعر بعدم إيمان من لا يفي بالوعد وعدم إسلام من لم يسلم منه المسلمون. لكنّه محمول على ادّعاء نفي الإيمان والإسلام عند التخلّف والإيذاء.

ومن هنا يظهر أنّه على القول بالأعمّ لا ينحصر وجه المبالغة في الاعتناء بما لا يعدّ الفعل صحيحا لولاه ، بل يحتمل أن يكون وجه التنزيل هو فقد الكمال كما في قوله عليه‌السلام : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (٣).

واحتجّ القائل بالإجمال بما مرّ إليه الإشارة من صلاحيّة التركيب للوجوه المحتملة.

وأمّا المفصّل ففي جهة الإجمال يشارك من قال به مطلقا ، وفي جهة البيان بأنّ الفعل الشرعي يمكن انتفاؤه بفوات شرطه أو جزئه فيحمل النفي على ظاهره.

__________________

(١) البحار ٦٧ : ٣١ ، الحديث ٤٥.

(٢) الوسائل ٨ : ٥٩٧ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٧٨ ، الباب ٢ من أبواب أحكام المساجد ، الحديث الأوّل ، ولفظ الحديث : في مسجده.

٣١٢

كما لا إجمال مع اتّحاد الحكم اللغوي لصرف (١) النفي إليه على تقدير وجود الفعل ، وعلى تقدير عدمه فلا إجمال.

والتحقيق : أنّ هذه التراكيب لا يقتضي الإجمال ، إذ لو قلنا باستفادة العدم المحمولي من الأداة ، أو قلنا بأنّ المستفاد منها خصوص نفي الوجود دون سائر المحمولات ـ كما لعلّه الظاهر من الأداة ـ فلا إشكال في عدم الإجمال. وإن قلنا بأنّ المستفاد منها هو نفي المحمول ولو كان غير الوجود ولا وجه لدعوى (٢) ظهورها في نفي المحمول الوجودي ، فإن علمنا بانتفاء الذات فلا إجمال قطعا ، وإن علمنا بقاء الذات فالعرف يساعد على نفي جميع آثارها. ولعلّ ذلك ناش من ظهور الأداة في نفي المحمول الوجودي دون ساير المحمولات ، وبعد تعذّره ـ للقطع ببقائه ـ فالأقرب هو نفي جميع الآثار ، ودونه في القرب نفي معظم الآثار ، وهو الصحّة في العبادات ، والفائدة في غيرها ، ثم نفي التماميّة فإنّ الناقص كالمعدوم ، ثم نفي الكمال فإنّه أبعد. وعند الشكّ يحمل على نفي الوجود وعلى تقدير ظهورها في نفيه خاصّة.

تذنيبان :

الأوّل : لا إشكال في بيان خصوص قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٣) وإن احتمل إجمال غيره ، لظهوره في أنّ العمل الغير المتلبّس بالطهور فاسد

__________________

(١) في ( ش ) و ( ط ) : « مع اتّحاد حكم اللغوي بصرف ».

(٢) في ( ق ) بدل « لدعوى » : « لعدم ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٥٦ ، الباب الأوّل من أبواب الوضوء ، الحديث ١ و ٦.

٣١٣

لا يحصل منه البراءة ، من غير فرق في ذلك بين القول بالأعمّ والصحيح. نعم ، حمل النفي على نفي الذات موقوف على القول بالصحيح ، وإمكان ذلك على القول بالأعمّ إنّما هو في غير الشرائط ، اللهمّ إلاّ بالقول بدخول الشرط في بعض الاعتبارات في المشروط ، فيحتمل أن يكون ذلك من الأجزاء المقوّمة التي يرتفع الماهيّة بارتفاعها ولو عند القائل بالأعمّ أيضا ، وسيأتي تفصيله عن قريب إن شاء الله تعالى.

ثم إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون النفي متوجّها إلى الذات أو إلى الصفة ، كالصحّة والفائدة بدعوى ظهوره في نفي الصحّة والفائدة بحسب متفاهم العرف ؛ وقد يحتجّ على ذلك بأنّ نفي الذات يدلّ على نفي الصفات وإذا ترك العمل به في نفي الذات لوجودها وجب العمل في نفي الصفات. ولعلّه قياس بما تقدّم في العامّ المخصّص : من أنّ خروج بعض الأفراد لا يوجب زوال الحكم عن الباقي. والفرق ظاهر ؛ لأنّ نفي الصفات إنّما هو تابع لنفي الذات في كونه مدلولا للّفظ ، ولا يعقل زوال المتبوع وبقاء التابع من حيث إنّه تابع ، بخلاف العامّ فإنّ أفراده في حدّ سواء.

الثاني : على تقدير ظهور تلك التراكيب في خصوص نفي الذات إمّا من دون احتياج الأداة إلى الخبر وإمّا معه ، فلو تعذّر الحمل عليه فيحتمل في التركيب المذكور وجوه من التصرّف :

إمّا بالقول بأنّ التصرّف في أمر عقليّ تنزيلا لما لا صحّة له منزلة المعدوم ، أو لما لا كمال فيه منزلته. ولو دار الأمر بينهما فالظاهر الأوّل ؛ لأنّه الأقرب ولو في مقام التنزيل.

وإمّا بالقول بأنّه مجاز في الحذف بتقدير الاسم للأداة ، كأن يقال : لا فائدة في الصلاة أو لا صحّة فيها.

٣١٤

وإمّا بالقول بأنّه مجاز في الإسناد فإنّ المحلّ المقرّر لإسناد النفي بعد وجود الذات هي الصفة عند العقل ، فإسناده إليها يكون مجازا فيه ، فهو من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى اللازم إلى ملزومه ، كقولك : « بنى الأمير المدرسة » (١).

وإمّا بالقول بأنّه مجاز لغويّ ، إمّا من جهة استعمال المطلق في خصوص المقيّد فيكون المراد من الصلاة خصوص الصحيحة ، أو من استعمال الملزوم وإرادة اللازم ؛ لأنّ نفي الذات يلازم نفي الصفة. كذا قيل (٢). وفي الأخير نظر.

[ تمّ ما أفاده قدس‌سره في مسألة المجمل والمبيّن ، ولعمري نعم ما أفاد ممّا لم يسبقه. ويتلوه الكلام في الأدلّة العقلية ](٣).

__________________

(١) في ( ق ) : « المدينة ».

(٢) راجع نهاية الوصول : ١٨٠ ، والقوانين ١ : ٣٣٨.

(٣) أثبتناه من ( ط ).

٣١٥
٣١٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

القول في الأدلّة العقليّة

٣١٧
٣١٨

ويتمّ الكلام فيه في طيّ اصول :

أصل (١)

عرّف الدليل العقلي : بأنّه « حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ».

وقسّموه إلى ما لا يتوقّف على خطاب شرعيّ كالحسن والقبح العقليّين وإلى ما يتوقّف عليه كالحكم بوجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، ونحوه. وعدّ غير واحد ـ منهم الفاضل التوني (٢) ـ منه ما لو ثبتت الملازمة شرعا كالملازمة بين القصر والإفطار ، مصرّحين بعدم الفرق بينه وبين ما كان الملازمة عقلية.

ثمّ يرد على التعريف : بأنّ الدليل العقلي إنّما هو فرد من أفراد مطلق الدليل ، وقد عرّف : بأنّه « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبريّ » (٣) فلا وجه لإهمال قيدي « الإمكان » و « صحيح النظر فيه » ، إلاّ أن يراد من « التوصّل » إمكانه ، وهو كما ترى مجاز لا يصار إليه في أمثال المقام كما لا يخفى.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ من الظاهر أنّ المقصود بالتحديد في المقام ليس إلاّ تميز هذا القسم من الدليل عمّا يشاركه في الجنس من الدليل الشرعي ، وبعد اعتبار القيدين فيما يتمّ القسمين لا غائلة في إهمالهما في مقام يراد فيه تميز

__________________

(١) في ( ش ) : « تحديد ».

(٢) الوافية : ٢١٩.

(٣) انظر الإحكام للآمدي ١ : ٢٧.

٣١٩

أحدهما عن الآخر إجمالا ، دون أن يكون المقصود كشف تمام حقيقتهما ؛ على أنّه يمكن القول بعدم الحاجة إلى قيد « الإمكان » في المقام ، فإنّه ـ على ما هو المصرّح به في كلامهم ـ لإدراج المغفول عنه وهو في الأدلّة العقليّة غير معقول ، إذ المراد بالحكم هنا هو التصديق ، ومع حصوله لا معنى للغفلة ، وبدونه لا حكم هناك حتى يكون مغفولا.

ثم إنّه إن اريد من « الموصل » ما هو العلّة التامّة للعلم بالحكم الشرعي فلا يكاد يتمّ أصلا ، إذ الحكم العقلي لا يزيد على مقدّمة واحدة فيما هو الموصل واقعا ، فإنّ المجهول التصديقي ممّا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بعد [ اعتبار ](١) قضيّتين يستفاد من إحداهما ثبوت اللازم ومن الاخرى اللزوم ـ على ما هو المقرّر في محلّه ـ وتسمية الاصولي غيرهما دليلا إنّما يرجع إلى مجرّد الاصطلاح ، نظرا إلى إطلاق الدليل عندهم على المفرد وعلى القضيّة الواحدة وعلى القضيّتين من غير اعتبار ترتيب بينهما كما يظهر للمتدرّب في كلماتهم.

وإن اريد منه مطلق ما له دخل في الإيصال ولو لم يكن علّة تامّة فيلزم دخول الكلّ فيه ، إذ ما من دليل شرعي إلاّ وللعقل فيه مدخليّة ، ولا أقلّ من انتهائه إليه في مقام الحجّية. والالتزام به ـ كما وقع عن بعضهم ـ ممّا لا يرضى به المنصف المتأمّل.

ويمكن دفعه : باختيار الشقّ الثاني والقول بأنّ الحكم المجهول : تارة يستدلّ عليه بدليل عقلي بكلتا مقدّمتيه ، ولا ريب في كونه دليلا عقليّا.

__________________

(١) من ( ش ).

٣٢٠