مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

الثاني (١) : أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم الفرق بين الواجب والمستحبّ في الحمل ، فإنّ اللفظ لا دليل فيه على التعدّد والأصل قاض بالاتّحاد ، ومعه يتحقّق التنافي فيحمل المطلق على المقيّد.

إلاّ أنّ المشهور بينهم عدم الحمل. والوجه فيه على المشهور واضح ؛ لأنّ اللفظ ظاهر في التعدّد ، وإثبات الاتّحاد من الخارج موقوف على مقدمة عزيزة ، وهي القطع بعدم تفاوت مراتب تلك الماهيّة في المطلوبيّة ، وأنّى لك بإثباته!

وتحقيقه : أنّ تعدّد الاستحباب كما يكون بتعدّد الفعل كذلك يكون بتعدّد مراتب محبوبيّة فعل واحد وقد علمنا بذلك في موارد جمّة (٢) ، فإذا ورد أمر مطلق بزيارة الحسين عليه‌السلام ثمّ ورد أمر آخر بزيارته عليه‌السلام يوم عرفة لا داعي على الحمل ، بل يحمل على زيادة استحبابها في عرفة.

وأمّا على المختار : فلعلّ الوجه العلم بورود المستحبّات غالبا في مقام البيان والظنّ يلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، أو للعلم باختلاف مراتب المطلوبية في المستحبّات غالبا فيحمل المشكوك على الأغلب. وأمّا إذا وردا في خبر « الإمام » عليه‌السلام (٣) فيحكم أيضا بإبقائهما على ظاهرهما ؛ ويظهر الوجه عن قريب في الحكم الوضعي إن شاء الله (٤).

__________________

(١) أي : التذنيب الثاني.

(٢) في غير ( ق ) : « خمسة جمّة ».

(٣) العبارة في ( ق ) : « إذا ورد في حيّز الإباحة » وفي ( ش ) : « في خبر الإباحة ». والظاهر صحّة ما أثبتناه من المطبوع ، وإن كان هو أيضا قاصرا عن إفادة المراد. والمقصود منه ـ على فرض صحّة النسخة ـ وأما إذا ورد أمر في خبر بزيارة الإمام عليه‌السلام وفي آخر بزيارته يوم عرفة. أو المراد : إذا ورد في خبر أمر بزيارة الحسين عليه‌السلام وفي آخر بزيارة الإمام عليه‌السلام.

(٤) يأتي في الصفحة : ٢٨٧.

٢٨١

وأمّا على المشهور : فالأمر واضح. وهكذا الحال في الواردين في مقام الكراهة وستعرفه بتفصيله (١).

المقام الرابع : فيما إذا كانا منفيّين سواء كان متعلّق النفي نفس الحكم المتعلّق بهما كقولك : « لا يجب عتق الرقبة » و « لا يجب عتق الرقبة المؤمنة » أو كان متعلّقا بالمحكوم به ، كقولك : « لا تعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة مؤمنة (٢) » وعلى الوجهين لا حمل بلا خلاف كما عن العلاّمة (٣) ، بل ادّعى عليه الإجماع في الزبدة (٤) والاتّفاق في المعالم (٥) على ما حكي عنه. والوجه في ذلك عدم الداعي عليه ؛ لأنّ انتفاء الحكم عن الطبيعة الواقعة في سياق النفي لا ينافي انتفاءه عن الفرد أيضا ، فإنّ التأكيد بابه واسع ، وقد عرفت أنّه ليس مجازا ولا بخلاف الظاهر ، بل وهو قضيّة الأخذ بالظواهر.

نعم ، على القول بالمفهوم يتأتّى التنافي بين مفهوم القيد ومنطوق العامّ ، فلا بدّ إمّا من تخصيص العامّ بالمفهوم أو إلغاء المفهوم في قبال العموم.

ودعوى اتّحاد التكليف ممّا لا شاهد عليها ، أمّا اللفظ فلأنّ العامّ بعمومه يغاير الخاصّ ، فظاهر اللفظين هو التعدّد ، والعرف أيضا لا يساعد الاتّحاد ، بل مدار حكم العرف على الظواهر ، ولا حكم للعرف مع قطع النظر عنها ، وقد عرفت أنّها قاضية بالتعدّد. نعم ، لو قام على الاتّحاد إجماع خاصّ

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٨٤.

(٢) في ( ق ) : « كافرة ».

(٣) حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : ٢٠٣ ، وراجع نهاية الوصول : ١٧٥.

(٤) زبدة الاصول : ١٠٤.

(٥) معالم الاصول : ١٥٢.

٢٨٢

فلا بدّ من الحمل ، لأنّ ارتكاب التخصيص في العموم أهون من طرح اختصاص الحكم الخاصّ المستفاد من التقييد.

أقول : إنّما يتمّ ما ذكرنا فيما لو قلنا بأنّ المطلق الواقع في سياق النفي يجب أن يكون مفيدا للعموم ؛ لأنّ انتفاء الطبيعة يلازم انتفاء جميع أفرادها كما صرّح بذلك جماعة (١) ، وقد عرفت فيما تقدّم (٢) : أنّ نفس الماهيّة مع قطع النظر عمّا يلحقها من الطوارئ واللواحق ممّا يتساوى فيه الوجود والعدم والنفي والإثبات. نعم ، الماهيّة الملحوظة على وجه السراية التي تقع في مقام البيان ممّا يختلف فيه الوجود والعدم ، فإن وقعت في حيّز الوجود في الإثبات يقتضي العموم البدلي وإن وقعت في حيّز النفي يقتضي العموم الشمولي.

فالتحقيق أن يقال : إنّ المنفيّين إذا كان المطلق منهما باقيا على إطلاقه غير خارج عمّا وضع له من نفس المعنى ـ كأن (٣) لا يكون في مقام البيان حتّى يستكشف منه كونها ملحوظة على وجه السراية ـ فاللازم الحمل ، لما (٤) تقدّم بعينه في المثبتين من غير فرق بين المقامين بوجه من الوجوه. وإن لم يكن كذلك ـ كأن يكون الماهيّة ملحوظة على وجه السراية لوقوعها في مقام البيان ـ فلا حمل ، كما عرفت أنّه لا حمل في المثبتين أيضا.

__________________

(١) راجع نهاية الاصول ( مخطوط ) : ١١٥ ، والمعالم : ٩٢ ، والقوانين ١ : ١٣٨ ، وإشارات الاصول الورقة : ١٠٢.

(٢) راجع الصفحة : ٢٥٠ وما بعدها.

(٣) في ( ق ) : « بأن ».

(٤) في ( ق ) : « كما ».

٢٨٣

وبالجملة ، لا نجد فرقا بين المقامين في مورد الحمل ، وهو ما إذا كان المطلوب من المطلق نفس المعنى من دون مدخليّة شيء في الماهيّة وعدمه ، وهو ما إذا كان المطلق واقعا موقع البيان.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ المنفيّين لا يجب رجوعهما إلى العموم والخصوص دائما (١) كما زعمه جماعة (٢).

فإن قلت : إنّ الواقع في حيّز النفي يلزم أن يكون واردا في مقام البيان كما يساعده العرف ، فيتّجه قول المشهور.

قلنا : إن أريد أنّ أغلب موارد النفي هو ذلك ، فعلى تقدير تسليمه لا يضرّ فيما نحن بصدده من الحمل ، كما أنّ أغلب موارد الإثبات أيضا كذلك. وإن اريد الملازمة الدائمة فلا نسلّم ذلك ، كيف! ولا يقضي به شيء والعرف بخلافه ، كما يظهر من قول الطبيب إذا أراد علاج شخص خاصّ ، فإنّه كما يصحّ له الأمر بشرب الدواء على وجه الإهمال يصحّ النهي عن شرب الدواء على وجه الإهمال من غير تناقض وعدول عن الظاهر ، كما هو ظاهر لمن تدبّر فيما ذكرنا من أحوال الماهيّة.

فإن قلت : إنّ وقوع الماهيّة في حيّز النفي وإن كان لا يقضي بذلك ، إلاّ أنّ دليل الحكمة يقضي به فيقع في مورد البيان بواسطة الدليل.

قلت : ذلك إنّما يتمّ فيما إذا تجرّد المطلق عن ورود المقيّد ، وأمّا مع ورود المقيّد فلا يجري فيه دليل الحكمة ، كما هو كذلك في الإثبات أيضا ، فتدبّر.

__________________

(١) لم يرد « دائما » في ( ق ).

(٢) راجع شرح مختصر الاصول : ٢٨٦ ، والإحكام ٣ : ٧ ـ ٨ ، والنهاية : ١٧٥.

٢٨٤

المقام الخامس : فيما إذا كانا مختلفين ، بأن كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا ، فإمّا أن يكون النفي في المنفيّ واردا على الحكم كقولك : « يجب عتق الرقبة » و « لا يجب عتق الرقبة المؤمنة » (١) وإمّا أن يكون واردا على المحكوم به كقولك : [ يجب عتق الرقبة ويجب عدم عتق الرقبة المؤمنة إذا كان النفي والإثبات مستفادين من نفس الحكم ، كقولك : ](٢) « أعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة مؤمنة » مثلا.

فعلى الأوّل : إن استظهرنا أنّ وجوب المنفيّ هو مطلق الوجوب الشامل للوجوب العيني والتخييري الشرعي والعقلي ، فلا بدّ من التقييد كما هو ظاهر.

وإن لم نستظهر ذلك فلا داعي على التقييد ؛ لانّ الواجب حقيقة هو المطلق وإن كان هو عين المقيّد في وجه ، لكن يمكن أن يقال : إنّه ممّا لم يتعلّق به الأمر بخصوصه فلا منافاة فلا يجب التقييد.

وعلى الأخيرين : سواء كان العموم والخصوص بين نفس الفعلين مع قطع النظر عن متعلّقهما أو كان بين المتعلّقين ـ كما فيما نحن فيه ـ فإن قلنا بأنّ النهي (٣) يقتضي الفساد فلا بدّ من التقييد ، لدلالته على عدم حصول الإجزاء بالإتيان بالمقيّد ، فيقدّم على ما أفاده الأمر بالمطلق من حيث عدم البيان ؛ لأنّه بيان. وإن قلنا بعدم الاقتضاء فعلى القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي يجب التقييد (٤) ، وعلى القول بالجواز لا داعي على التقييد ويجزي الإتيان بالمقيّد عن الأمر الوارد

__________________

(١) في ( ق ) بدل « المؤمنة » : « الكافرة ». وهكذا فيما يأتي من المثالين.

(٢) ما بين المعقوفتين لم يرد في ( ش ).

(٣) في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « النفي ».

(٤) في ( ق ) زيادة : « أيضا ».

٢٨٥

بالمطلق وإن كان عاصيا بواسطة النهي أيضا ؛ لأنّ المفروض أنّ النهي لا يقتضي الفساد ، ولكن لم يذهب إليه من قال بجوازه. ولعلّه مبنيّ على ما تخيّله بعض المجوّزين من أنّ الجواز العقلي لا ينافي التقييد العرفي ، وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه في محلّه (١).

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في اختلافهم في مسألة النهي [ في العبادات ](٢) واتّفاقهم في المقام ، حيث إنّ الكلام في المقام بعد الفراغ عن اقتضاء النهي الفساد ، فالكلام هناك في إثبات الصغرى للمقام ، فتدبّره متأمّلا. هذا إذا كان المطلق مثبتا والمقيّد منفيّا.

وأمّا إذا كان المطلق منفيّا والمقيّد مثبتا ، كأن تقول : « لا تعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا يجب عتق رقبة » فإن حملنا المنفيّ على الإهمال فلا حمل ولا تقييد ، لعدم ما يقضي به. وإن حملناه على الشياع والسراية فاللازم التقييد ؛ لأنّه حينئذ بمنزلة العموم والخصوص ، لكنّه خارج عن المقام كما عرفت تفصيله في المنفيّين (٣).

ثمّ إنّه لا فرق في هذه المقامات بين ذكر السبب وعدمه ، وبين تعدّده ووحدته ، كما أشرنا إليه إجمالا في بعضها والله الهادي.

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ١ : ٦٩٥ ، هداية في ذكر احتجاج المفصل بين العرف والعقل.

(٢) أثبتناه من ( ش ).

(٣) راجع الصفحة : ٢٨٣ وما بعدها.

٢٨٦

هداية

قد عرفت حكم المطلق والمقيّد الواردين في مقام بيان الحكم التكليفي.

وأمّا حكمه في مقام بيان الأحكام الوضعيّة : فالظاهر منهم عدم الحمل ، فلو قيل : « البيع سبب » و « البيع العربي (١) سبب » يحمل على مشروعيّة المطلق والمقيّد معا ، بل لا يكتفى بذلك ويقال : بأنّ السبب كلّ واحد من أفراد البيع على وجه العموم الاستغراقي ، فيطالب بالفرق بين الأحكام التكليفيّة وغيرها من حيث الحمل فيها وعدمه في الوضعيّة. ثمّ الحمل على العموم على المذهبين (٢).

أمّا على المختار : فالإشكال ظاهر الورود ، حيث إنّ اللفظ لا دلالة فيه على شيء سوى المعنى القابل لأنحاء التبدّلات ، ولا دلالة فيه على شيء من تلك الأنحاء ، فإثبات العموم موقوف على دليل آخر من عقل أو نقل.

وأمّا على المشهور : فلأنّ غاية ما يلزم من اللفظ والوضع هو العموم البدلي ، فيستفاد منه سببيّة فرد واحد على سبيل التخيير دون العموم الاستغراقي.

والجواب : إن استظهرنا عدم ورود المطلق في مقام البيان فعلى المختار لا وجه لعدم الحمل ولا نقول به ولا ضير فيه. وإن استظهرنا وروده في مقامه فالفرق إنّما جاء من خصوص الحكم والمحمول (٣) فإنّ المحمولات مختلفة جدّا. فتارة

__________________

(١) في المخطوطات : « بيع العربي ».

(٢) كذا في النسخ ، والعبارة غير تامّة.

(٣) في ( ق ) : « المحمولات ».

٢٨٧

يكون ثبوت المحمول للموضوع على وجه التخيير مفيدا في مقام البيان كالوجوب ، فإنّ ثبوته لما هو محمول له ـ كالصلاة ـ على وجه التخيير ممّا لا غائلة فيه ولا إشكال في كونه مفيدا ، كما يظهر بالرجوع إلى العرف. وتارة يكون ثبوته له على وجه العموم مفيدا وعلى وجه التخيير لا يعدّ مفيدا ، وهو ينافي كونه في مقام البيان والإفادة فيصرف (١) بحكم العقل والعادة إلى العموم مثل السببيّة والمانعيّة ونحوهما من الأمور التي لا وجه للإخبار بثبوتها على وجه التخيير والإجمال في مقام البيان من غير فرق في ذلك بين المذهبين ؛ لأنّ العموم الاستغراقي غير معنى اللفظ على المشهور أيضا ؛ هذا هو الوجه في فهم العرف من الخطابات المذكورة العموم أيضا.

ومنه يظهر الوجه في إفادة المنفيّين العموم ، فإنّ المطلق الوارد في مقام البيان إذا تعلّق به النفي يفيد العموم ، كما إذا قيل : « لا تضرب » إذ التخيير فيه ممّا لا فائدة فيه كما لا يخفى.

فعند التحقيق لا يختلف الحكم في المقامات المذكورة نظرا إلى اللفظ وإن اختلف بحسب حكم العقل من حيث الإفادة وعدمها في بعض دون آخر.

تذنيب يشتمل على فوائد :

الأولى : إذا جعل المطلق [ شرطا لشيء ](٢) ـ كالستر في الصلاة ـ وجعل المقيّد شرطا آخر كالستر (٣) بغير الحرير فيها ، فيبنى على اشتراط كلّ منهما.

__________________

(١) في « ش » : « فينصرف ».

(٢) في النسخ : « بشرط شيء » ، والصواب ما أثبتناه.

(٣) العبارة في ( ق ) : « كالتستر للصلاة وجعل للمقيّد شرط آخر كالتستّر ... ».

٢٨٨

فلو لم يتمكّن من تحصيل المقيّد يجب الأخذ بالشرط المطلق ، وليس ذلك من الحمل كما لا يخفى.

الثانية : إذا ورد مطلق ومقيّد بالفرد النادر ، كقولك : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة ذا رأسين » فهل يحمل المطلق على الفرد النادر مطلقا ، أو لا يحمل مطلقا ، أو يفصّل بين المنفيّين والمثبتين؟ وجوه :

من أنّ بيان الفرد النادر وذكره هل (١) يصلح لأن يستكشف منه ملاحظة المتكلّم المطلق على وجه الإهمال مطلقا (٢) ، فيحمل. أو لا يصلح لذلك نظرا إلى ظهور المطلق في الشائع (٣) ، فالنادر خارج عن مدلوله ، فلا ينافي ثبوت الحكم له ثبوته لما هو مغاير له (٤). أو يصلح في المثبتين دون المنفيّين ، لرجوع المطلق فيهما إلى العموم ، فلا ينافي نفي الحكم عن فرد من أفراده.

والأوجه أن يقال : إن استظهرنا ورود المطلق في مقام البيان ، فلا وجه للحمل في المثبتين ؛ لأنّ ذلك يقضي بالانصراف ، وبعد الانصراف لا ينافي ثبوت الحكم للفرد النادر ، فلا تعارض بينهما. بخلاف ما إذا لم يكن المقيّد من النادر ، فإنّه على تقدير وروده في مقام البيان يتعارضان ؛ مع احتمال أن يكون بيان الفرد النادر علامة لملاحظة المتكلّم المطلق على وجه العموم أيضا ، نظير : استثناء الفرد النادر دليل على العموم. نعم ، ورود المقيّد في المقام ليس دليلا على عدم وروده في مقام البيان ، كما أنّه دليل عليه في غيره لئلاّ يلزم البداء.

__________________

(١) في ( ق ) بدل « هل » : « لا ».

(٢) لم يرد « مطلقا » في ( ق ).

(٣) في ( ق ) : « الشياع ».

(٤) في ( ق ) : « لما خارج عنه ».

٢٨٩

وإن لم نستظهر فلا مانع من الحمل ، بل هو في محلّه ؛ لأنّ الفرد النادر ليس خارجا عن حقيقة المطلق ، فيحتمل أن يكون هو المراد من المطلق في الواقع.

وكذلك الكلام في المنفيين.

وأمّا في المختلفين : فإن كان النفي مطلقا فلا بدّ من التخصيص وإن كان المطلق مثبتا فلا بدّ من التقييد ، غاية الأمر يؤكد الانصراف ، ولا ضير فيه.

الثالثة : إذا ورد للمطلق مقيّدان مستوعبان ، كأن يقال : « أعتق رقبة مؤمنة » و « أعتق رقبة كافرة » فهل يحكم بالإطلاق نظرا إلى تساقطهما أو نظرا إلى بيانهما (١) للمطلق على وجه الإطلاق ، أو يتخيّر بين المقيّدين نظرا إلى العلم بالتقييد مع التردّد فيهما من دون ترجيح بينهما فلا بدّ من التخيير ، أو يتوقّف نظرا إلى إجمال الدليل بواسطة تعارض البيانين؟ وجوه :

الأوجه هو التخيير ، إذ لا وجه للتساقط كما قرّر في محلّه : من أنّ التعارض لا يوجب التساقط. ولا يكون كلّ منهما بيانا لقضاء العرف بالحمل. ولا وجه للإجمال أيضا بعد إطلاق أدلّة التخيير في المتعارضين الشامل للمقام أيضا كما هو ظاهر.

الرابعة : كلّ ما تقدّم من أحكام العامّ والخاصّ : من جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد وتخصيص المنطوق بالمفهوم مخالفا وموافقا وأحكام العامّ المخصّص بالمجمل مفهوما ومصداقا وبالمتّصل والمنفصل ، يجري في المطلق والمقيّد ، لاتّحاد الوجه في المقامين من دون تفاوت.

__________________

(١) في ( ق ) : تباينهما ، وفي ( ع ) : إثباتهما.

٢٩٠

نعم ، ينبغي استثناء مقدار التخصيص من بين الأحكام المذكورة في باب العامّ والخاصّ ، فإنّ ذلك لا يجري في المطلق والمقيّد ، فإنّ التقييد ممّا لا حدّ له عندهم ، لجوازه في أيّ مرتبة من المراتب قليلا وكثيرا ، ولعلّه ممّا لا كلام فيه أيضا عندهم ، ولا إشكال فيه أيضا لمساعدة العرف على جوازه حتّى إلى الواحد ، كما يظهر من مطاوي المحاورات العرفيّة.

هذا تمام الكلام فيما أردناه من مباحث المطلق والمقيّد ، ولله الحمد (١) [ وصلّى الله على رسوله وأهل بيته ](٢).

__________________

(١) في ( ش ) : « فلله الحمد تمّه بالخير والسعادة » ، وفي ( ع ) : « والحمد لله باطنا وظاهرا ».

(٢) من ( ق ).

٢٩١
٢٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في المجمل والمبيّن

٢٩٣
٢٩٤

وتحقيق البحث في طيّ هدايات :

هداية

المجمل لغة كما عن أهلها : المجموع ، مأخوذ من « أجملت الحساب » إذا جمعته ، أو من الخلط كما قيل (١).

وعرّفه جماعة (٢) اصطلاحا بأنّه : ما لم يتّضح دلالته ، فكأنّه مجمع الاحتمالات ، أو لاختلاطها.

والمراد بالموصولة : اللفظ الموضوع ، فلا يرد النقض بالمهمل. وتقسيم المجمل إلى الفعل والقول لا يدلّ على جريان الاصطلاح عليه كما لا يخفى ؛ مضافا إلى ظهور السالبة في وجود الموضوع وإن صدقت عند انتفائه أيضا والمراد بالدلالة : اللفظيّة الوضعيّة ، فإنّها المعهود (٣) في باب الألفاظ ، فلا يرد النقض بالمسموع من وراء الجدار فإنّه لا يتّضح دلالته على قائله ، إذ تلك دلالة عقليّة ؛ ومع ذلك يرد عليه : أنّ عدم وضوح الدلالة ممّا لا يعقل ، فإنّ الدلالة تابعة للعلم

__________________

(١) المعتمد ١ : ٢٩٣ ، والإحكام للآمدي ٣ : ١١ ، والمختصر وشرحه للعضدي : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) منهم صاحب المعالم في المعالم : ١٥٢ ، والعضدي في شرحه على المختصر : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، والكلباسي من الإشارات ، الورقة : ٢٠٢ ، وراجع القوانين ١ : ٣٣٢ ، والفصول : ٢٢٣ ، أيضا.

(٣) في ( ق ) : « المعهودة ».

٢٩٥

بالوضع فمتى علم الوضع يتحقّق الدلالة ، فإنّه علّة تامّة لها ويمتنع تخلّفها عنه ، حتّى في المشترك بعد العلم بأوضاعه ، وحتّى في المجاز ولو مع القرينة ، فإنّها صارفة عن الإرادة لا عن الدلالة ، بل ومحاسن الكلام (١) وأسرار البلاغة إنّما هي فرع للدلالة على الحقيقة ، فما هو غير متّضح (٢) في الاشتراك والمجاز عند فقد القرينة المعيّنة هو المراد ، لا الدلالة.

نعم ، يتصوّر عدم وضوح الدلالة ولو بوجه فيما إذا علم إجمالا وضع اللفظ لمعنى من المعاني ، فإنّه يمكن أن يقال : إنّ الدلالة غير متّضحة ، بمعنى أنّه لا يدلّ على معنى خاصّ ، لعدم العلم به على وجه الاختصاص.

وكيف كان ، فالمبيّن خلافه.

وقد قسّموا المجمل إلى القول والفعل والترك (٣) ، وإلى المفرد والمركّب.

أمّا القول : فستعرف تفصيله (٤).

وأما الفعل : فوجه الإجمال فيه : هو اشتراكه في وقوعه على وجوه عديدة ، وإذا جهل وجه وقوعه تردّد بين جميع ما يحتمله من الوجوه ، فيكون غير ظاهر الدلالة ومجملا.

وفيه نظر ، إذ تلك الوجوه ليست مدلولة للفعل مثل دلالة اللفظ على معناه ، لعدم الوضع. ودلالته على عدم الحرمة إنّما هو بواسطة دليل العصمة لا بنفس

__________________

(١) في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « محاسن المجاز ».

(٢) في ( ق ) زيادة : « كما ».

(٣) كما في ضوابط الأصول : ٢٢٦ ، وراجع المناهج : ١٢١ ، وشرح المختصر : ٢٨٧ ، وفيهما تقسيمه إلى قول وفعل.

(٤) في الصفحة الآتية وما بعدها.

٢٩٦

الفعل (١). نعم ، لو وضع فعل لمعنيين وصدر ذلك الفعل عن الفاعل من غير اقترانه بما يرشد إلى أحد الوجهين كان ذلك مجملا فعليّا ، كالإشارة المردّدة بين الأمر بالذهاب والأمر بالقعود مثلا ، وكالقيام المردّد بين كونه تواضعا لمن قدم عليه وكونه استراحة لما حصل فيه من الكسالة.

وأمّا المفرد (٢) : فإجماله تارة : باعتبار نفس اللفظ ذاتا كـ « تضرب » المشترك بين المخاطب والغائبة ، أو عرضا كـ « المختار » (٣). واخرى : باعتبار المعنى ذاتا كالمشترك ، أو عرضا كالمجاز المتعدّد عند فقد القرينة المعيّنة مع وجود الصارفة.

وأمّا المركّب : فإجماله تارة باعتبار وقوع لفظ في تركيب خاصّ على وجه لو كان في غيره لم يكن مجملا ، كقول عقيل : « أمرني معاوية بلعن علي عليه‌السلام ألا فالعنوه » (٤) وقول بعض [ أصحابنا ](٥) حين سئل عن الخليفة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « من بنته في بيته » (٦). واخرى باعتبار نفس التركيب كقوله تعالى : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ... )(٧) فقالوا : إنّ المعطوف محتمل

__________________

(١) في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع زيادة : « لها ».

(٢) أي المجمل المفرد.

(٣) يعني لفظ « المختار » المشترك بين اسمي الفاعل والمفعول بعد الإعلال.

(٤) العقد الفريد ٤ : ٢٩.

(٥) لم يرد في ( ش ).

(٦) المعروف في الكتب أنّه قول سبط ابن الجوزي ، راجع رياض الجنة ١ : ١٥٨ ، وسير أعلام النبلاء ٢١ : ٣٧١.

(٧) البقرة : ٢٣٧.

٢٩٧

لأن يكون الزوج فيكون العفو عمّا في ذمّة الزوجة إذا كان المهر مقبوضا لها ، ولأن يكون وليّ الزوجة فيكون المعفوّ عنه الزوج بإبراء ذمّته عن المهر ، والإجمال إنّما هو في جملة الكلام لا في جزء خاصّ.

وفيه نظر ؛ لأنّ الإجمال على تقدير تسليمه إنّما هو ناش من جزء خاصّ (١) في الكلام وهو صلاحيّة الصلة المذكورة للموصول لكلّ واحد من الوليّين ، فليس الإجمال في الجملة ؛ مضافا إلى أنّه لا إجمال في الآية بوجه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الصلاحيّة لا تنافي البيان ، لاحتمال العموم ، بل وهو (٢) الظاهر حيث لا عهد ، إلاّ أن يكون المعهود كما ستعرف وجهه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قضيّة العطف أن يكون المراد هو وليّ الزوجة ، إذ لو كان المراد هو الزوج لزم أن يكون مستثنى من المفهوم الثابت بواسطة قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) وهو خلاف الظاهر للمتعاطفين ، فإنّ الظاهر خروجهما من مخرج واحد كما لا يخفى على من له أنس بمواقع الكلام. ولا يعارض ذلك لظهور (٣) عقدة النكاح في الزوج ، إذ هذه الصفة موجودة فعلا في الزوج دون الوليّ ؛ لأنّ ذلك أظهر ، بل لم نجد في العربيّة نظيرا له.

ومنه يظهر عدم إمكان إرادة العموم من الموصول ، إذ يلزم الاستثناء تارة من المفهوم واخرى من المنطوق ، وهو لا يصحّ في استعمال واحد. ولا يجوز أن يكون المراد هو الوليّ ويكون الاستثناء من المفهوم منقطعا ، لكونه خلاف الظاهر

__________________

(١) في ( ق ) : « جزئه الخاصّ ».

(٢) في ( ش ) : « هي ».

(٣) في ( ش ) : « بظهور ».

٢٩٨

مع شناعته. ولو حمل قوله تعالى : ( فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) على بيان ما يستحقّه الزوج فهو أشنع ؛ لأنّ المراد بالمعطوف إن كان الوليّ لزم استثناؤه كالمعطوف عليه من المفهوم ، وهو وإن كان صحيحا ، لكنّه بعيد جدّا. وإن كان المراد الزوج فالمعطوف عليه خارج من المفهوم والمعطوف من المنطوق وهو أيضا فاسد.

ولو (١) حمل على بيان النصف (٢) بينهما حتّى يكون بمنزلة قولنا : « لكلّ منهما نصف المهر » صحّ استثناء كلّ منهما من المنطوق ، إلاّ أنّه أبعد المحامل المتصوّرة في الآية ولا يصار إليه.

ثمّ إنّ المجمل على قسمين : أحدهما ما عرفت ، والآخر ما له ظاهر لم يرده المتكلّم كما في العامّ المخصّص (٣) واقعا مع عدم العلم به على القول بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الحقّ ، والمطلق عند عدم ذكر المقيّد.

فإن أرادوا بذلك أنّه من المجمل فيما لو علم بوقوعه على هذا الوجه من المتكلّم كان ذلك حقّا لا مناص عنه ، فإنّا إذا علمنا أنّ المتكلّم إنّما لاحظ المطلق لا على وجه السراية فمراده مجمل لإجماله ، كما إذا علم التخصيص ولم يعلم بخصوصه ، وهذا هو الذي قلنا في بعض المباحث المتقدمة بسراية إجمال المخصّص إلى العامّ.

وإن أرادوا أنّه مع عدم العلم من المجمل ، فممّا لا يرى له وجه ، بل هو محكوم بالبيان إلى ظهور القيد ، وبعد الظهور ينكشف كونه واقعا على وجه

__________________

(١) كذا في مصحّحة ( ش ) ، وفي النسخ بدل « ولو » : « لو لا ».

(٢) كذا في ( ش ) ، وفي ( ق ) : « التنصيف » ، وفي المطبوع و ( ع ) : « المتّصف ».

(٣) في ( ش ) و ( ع ) والمطبوع : « المخصوص ».

٢٩٩

الإجمال. نعم ، يشكل ذلك فيما إذا قلنا باعتبار الأصول لا من جهة الظنّ بل تعبّدا ، إذ عند عدم الحاجة لا يترتّب على الكلام أثر شرعيّ حتّى يؤخذ بالأصل ويحكم بكونه مبيّنا (١) ، بخلاف الظنّ فإنّ وجوده لا يناط بترتيب الأثر كما لا يخفى على المتأمّل. [ والله الهادي ](٢).

__________________

(١) في ( ق ) : « مثبتا ».

(٢) من ( ش ).

٣٠٠