مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

نجد من يظهر منه الخلاف في وجوب الفحص في العمل بالبراءة فيترك التعويل على البراءة عند عدم الفحص لعدم المقتضي ، بخلاف المقام فإنّ المقتضي في المقام ممّا لا ينبغي الكلام فيه ، لظهور اعتبار العامّ سندا ودلالة ما لم يمنع منه مانع.

لا يقال : إنّ من جملة الأدلّة على وجوب الفحص عن الدليل عند العمل بالبراءة هو العلم الإجمالي في موارد الأصل ، لوجود العلم الإجمالي فيها بالتكليف ، وهذا الوجه بعينه موجود في المقام ، وقضيّة ذلك وجوب الفحص عن الحكم الواقعي وتحصيل التكاليف الواقعية عند الشكّ في المعارض ، فالمقامان من واد واحد.

لأنّا نقول : إن اريد من ذلك أنّ العامل بالعامّ قبل الفحص بمنزلة العامل بالبراءة قبله ـ كما يظهر ذلك من بعضهم ـ فهو غير سديد ، لظهور الفرق بينهما ، حيث إنّ العامل بالعامّ إنّما عوّل على دليل اجتهاديّ به يخرج الواقعة عن أطراف العلم الإجمالي المقتضي للتكليف المانع عن العمل بالبراءة. وإن اريد أنّ في المقام أيضا علما إجماليا بوجود المعارض فهو متين ، لكنّه لا يكون وجها لاتّحاد المقامين كما لا يخفى. وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّه يظهر من مطاوي كلماتهم وجوه من الدليل على المختار :

[ وجوه القول بعدم جواز الاخذ بالعامّ قبل الفحص : ]

الأوّل : ما قاله بعض الأعلام في الإشارات بعد ما نقله عن الوافية ، ومحصّله : أنّ إطاعة الله وإطاعة خلفائه واجبة وهي لا تتحقّق إلاّ بعد العلم بالمراد أو الظنّ ، وهو لا يحصل إلاّ بالفحص. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فللشكّ في صدق الإطاعة عند عدم العلم أو الظنّ بالمراد ، وأمّا الثالث فهو ظاهر أيضا (١).

__________________

(١) الإشارات : ١٥٨.

١٦١

واعترض عليه في الوافية : بمنع عدم حصول الظنّ في كلّ فرد ، قال : ولا ينافيه ظنّ أصل التخصيص ، لقلّة المخرج غالبا (١).

وظاهره : أنّ الظنّ بتخصيص العامّ لا يوجب عدم الظنّ في جميع الأفراد ؛ لأنّ الغالب في التخصيصات عدم خروج غالب الأفراد ، فإذا شكّ في فرد أنّه هل خصّص أو لا ، فبغلبة عدم تخصيص أغلب الأفراد في العمومات يحصل الظنّ بأنّ هذا العامّ ممّا لم يخصّص أغلب أفراده ، بل لو كان مخصّصا فالخارج هو غير الغالب ، ومنه يحصل الظنّ بعدم تخصيص هذا الفرد ، والظنّ بدخوله في العامّ يستلزم الظنّ بالإطاعة الواجبة.

ومنه يظهر فساد ما أورد عليه في الإشارات : من أنّه إذا قيل : « اقتلوا المشركين » إمّا أن يأتي بأقلّ الأفراد أو أكثرها أو الكلّ ، والأوّل لا يوجب الظنّ بالامتثال وهو ظاهر ، وكذا الأخير ، إذ المفروض العلم بوجود المخصّص في الجملة ، وأمّا الثاني فلبعد المطابقة.

وجه الفساد : أنّا نختار الثاني ، والظنّ بعدم الخروج في الفرد الملحق بالغالب يوجب الظنّ بالامتثال عقلا.

نعم ، يرد على الاستدلال : أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ بعد فرض العلم الإجمالي بوجود المعارض للعمومات ، وإلاّ فمع عدمه لا وجه لطرح أصالة عدم التخصيص ولو مع الظنّ بالتخصيص ، اللهم إلاّ على القول باعتبار الظنّ الشخصي في تشخيص مراد اللافظ ، فإنّه لا وجه للتعويل على الأصل ما لم يفد الظنّ بعدم التخصيص.

والظاهر أنّ المستدلّ ممّن لا يرى ذلك ، فلا بدّ من الأخذ بالأصل في المقام ، وبذلك يحصل الإطاعة الواجبة إذ المدار في تشخيص الإطاعة هو

__________________

(١) الوافية : ١٣٠.

١٦٢

الرجوع إلى العقلاء والعرف ، وبعد ما فرضنا من اعتبار أصالة العموم ولو عند عدم الظنّ عند العقلاء يصدق الإطاعة قطعا ، فلا موجب للفحص.

الثاني : أنّه لا إشكال في أنّ الخاصّ أقوى من العامّ والعمل بأقوى الدليلين واجب إجماعا ونصّا (١) ، فيجب تحصيله ؛ لكونه من الواجبات المطلقة ، وهو المراد بالفحص.

وفيه : أنّه لا يجدي مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، لوجود الأقوى سندا كان أو دلالة ؛ لأنّ أصالة عدم المعارض لا مانع من جريانها في هذا المقام ، كما يظهر بملاحظة حال الموالي والعبيد في أمثال أوامرهم ونواهيهم.

الثالث : أنّه لا سبيل إلى تشخيص تخصيص (٢) المراد من العامّ إلاّ بأصالة عدم التخصيص ، وهي موهونة في المقام لامور :

أحدها : ما أفاده في الزبدة ، من ابتناء تلك الاصول على الظنون الشخصيّة (٣) ، كما هو ديدنه في مطلق الاستصحاب أيضا (٤) ، على ما نبّهنا عليه في محلّه (٥). وذلك على تقدير القول به لا وجه له ؛ لعدم حصول الظنّ الشخصي من الأصل المذكور على تقدير انتفاء العلم الإجمالي بوجود المخصّص ، فإنّ دعوى

__________________

(١) لعله قصد بذلك الروايات العلاجية ، انظر الوسائل ١٨ : ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأول.

(٢) كذا في ( ع ) ، ولم يرد « تشخيص » في ( ط ) ، والظاهر أنّ كلمة « التخصيص » فيهما زائدة.

(٣) الزبدة : ٩٧.

(٤) الزبدة : ٧٣.

(٥) انظر فرائد الاصول ٣ : ٢١ ـ ٢٢.

١٦٣

حصول الظنّ فعلا من الأصل في غير ما نحن فيه دونه بعد تساويهما من حيث وجود المقتضى وعدم المانع فيهما معا مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليه ؛ مضافا إلى أنّ المعنى أيضا فاسد ، لإطباق أهل اللسان على العمل بتلك الاصول ولو لم يحصل منها الظنّ.

إلاّ أنّ فيه إشكالا لو لم يكن تلك الاصول حجّة شرعيّة تعبّديّة ـ كما احتمله بعضهم (١) ـ وإن كان ضعيفا جدّا كما لا يخفى.

وجه الإشكال : أنّه لا يعقل اعتماد العقلاء على الشكّ إذا لم يكونوا متعبّدين ، لكونه ترجيحا بلا مرجّح ، بل لا يعقل الاعتماد على الظنّ من حيث هو ظنّ ما لم يفرض ما ينسدّ معه احتمال الخلاف ، كما لا يخفى على المتدبّر.

وثانيها : ما قد يستفاد من مطاوي كلمات بعضهم ـ كالمحقّق القمّي وغيره (٢) ـ : من أنّه لا دليل على اعتبار تلك الاصول بالنسبة إلى غير المشافه أو من قصد تفهيمه باللفظ.

وتوضيحه : أنّ من أراد استكشاف مراد المتكلّم إمّا أن يكون مشافها ومخاطبا فعلا ، لا إشكال في استقرار السيرة وجريان العادة على التعويل على الاصول المعمولة في الألفاظ في هذا القسم كاستقرارها وجريانها فيما إذا كان مرادا بالاستفادة ومقصودا للمتكلّم وإن لم يكن مخاطبا فعليّا ومشافها ، كما هو الحال في الكتب المؤلّفة وما يرسم في سجّل الأوقاف والوصايا والأقارير ونحوها. والسرّ في ذلك بعد عدم احتمال السهو ونحوه في كلام الحكيم المطلق ، وندوره على وجه لا يعتنى به في كلام غيره ، وأنّ المتكلّم حيث علمنا بكونه في

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) انظر القوانين ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣ ، والمعالم : ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٦٤

مقام الإفادة وعلمنا بكونه عالما بطرق التأدية واختلافها في مفادها ، فمتى حاول إفادة مطلب يجب عليه التعويل على ما هو المعهود في إفادة ذلك المطلب في عرفهم ، وإلاّ لم يكن في صدد الإفادة ، أو كان ولم يكن عالما بطريقها ، أو كان وكان مقصّرا في التأدية ناقضا لغرضه المنزّه عن جميع ذلك العقلاء ، فضلا عن ربّهم جلّ وعلا.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في اعتبار تلك الاصول وأنّها ليست من جهة الاستصحاب ، ولذلك لم ينكره من أنكره على وجه الإطلاق. وأنّه يندفع الإشكال الذي أشرنا إليه آنفا ، فإنّ الشكّ في وجود القرينة يرتفع بعد فرض المقدّمات المفروضة ، فتدبّر في المقام.

وإمّا أن لا يكون مشافها (١) ولا مرادا بالإفادة والاستفادة كما في الكتاب العزيز ـ بناء على ما زعمه بعضهم : من أنّه ليس من قبيل تأليف المؤلّفين ـ وكما في الكلام المسموع من وراء الجدار لمن هو غير مخاطب به وغير مراد بالإفادة ، ففي هذا القسم لا دليل على اعتبار الاصول المعمولة في الألفاظ في تشخيص مراداتها ، إذ لو فرضنا إهمال بعض ما يوجب خفاء المراد من اللفظ بالنسبة إلى ذلك الغير لم يلزم على المتكلّم قبيح.

وإذ قد تقرّر ذلك نقول بأنّ حالنا في زماننا هذا حال من يريد استفادة المطالب من الكلام الذي لا يكون مخاطبا ولا مرادا باستفادته منه ، كما ستعرف. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلعدم ما يقضي بذلك ، وقد عرفت عدم اعتبار الأصل حينئذ ، فلا بدّ من تحصيل القطع بعدم المخصّص أو ما قام الإجماع على قيامه مقامه ، وهو الظنّ الحاصل بعد الفحص.

__________________

(١) عطف على قوله : إمّا أن يكون مشافها.

١٦٥

وفيه أوّلا : أنّ دعوى الإجماع على اعتبار الظنّ بعدم المخصّص على تقدير عدم اعتبار الأصل اللفظي مجازفة صرفة. نعم ، لا كلام في العمل بالأصل بعد الفحص ، لكنّه ليس بناء العامل به على عدم اعتباره كما هو المفروض في الدليل ، بل المقصود ـ على ما يظهر منهم ـ جعل الأصل بعد الفحص مثل الأصل قبل الفحص في كلام قصد إفهامه للغير مخاطبا أو غيره. وبعبارة اخرى ظاهرة : أنّ اعتبار الأصل على ما ذكره مبنيّ على أصالة حجّيّة الظنّ المطلق ، إذ بدونه لا وجه للعمل بالأصل بعد الفحص أيضا ما لم يحصل منه القطع.

وثانيا : أنّ مدار العرف على الأخذ بالاصول المذكورة ولو في مقام لم يقصد إفهام العامل بتلك الاصول. ولعلّ الوجه في ذلك : أنّ الأغلب في المحاورات عدم التفرقة بين القسمين ، وأنّ من المشاهد عدم اختلاف حال المتكلّم في التعبير عن مراده عند إرادة إفهام غير المخاطب أيضا وعدمها ، فإنّه يبالغ في ما يفيد مقصوده من غير ملاحظة الفرق في المقامات. وما ذكره وإن كان ممكنا إلاّ أنّ الواقع على خلافه على وجه لا يعمل بذلك الاحتمال عندهم ، مثل احتمال السهو والنسيان والخطاء ونحوه. ويشهد بذلك ملاحظة حال السلف ، فإنّ أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام كانوا إذا سمعوا خبرا من ثقة أو استند أحد المتخاصمين إلى ظاهر رواية اعتمدوا عليه وسكتوا وأخذوا بظاهر ما يقتضيه ظاهرها مثل المشافهين ، بل وملاحظة العرف أيضا يشهد بذلك ، فإنّه لا يتوقّف أحد في الشهادة فيما لو سمع من وراء الجدار إقرار زيد لعمرو بشيء. وقد أبطلنا التفصيل المذكور في محلّه بما لا مزيد عليه.

وثالثها : أنّ الأخذ بأصالة عدم التخصيص إنّما يجب إذا كان ذكر العامّ وإرادة الخاصّ قبيحا. وهو ممنوع ، لاحتمال وجود مصلحة داعية على إيراد العامّ غير مقترن بما هو قرينة على المراد من العامّ ، فلا قبح في إغراء المخاطب

١٦٦

بالجهل. ومن هنا يظهر : أنّ إخفاء الحكم الواقعي ليس خلافا للطف الواجب على الحكيم ، كيف! وهو واقع جزما ، ضرورة أنّ الأحكام الشرعيّة إنّما بيّنها الشارع الأقدس على وجه التدريج ، وكلّ من لاحظ الأحكام يعلم أنّ في بدء البعثة وابتداء التكليف لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يبيّن جميع الأحكام الواقعيّة في الصلاة وغيرها من العبادات والمعاملات ، فيكون التكليف بالعمومات أحكاما ظاهريّة لمن لم يطّلع على المخصّص وأحكاما واقعيّة لمن اطّلع عليه ؛ ولذلك ترى أنّ العامّ إنّما ورد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والخاصّ من العسكري عليه‌السلام أو الهادي عليه‌السلام.

لا يقال : لعلّ العامّ الصادر كان مقترنا بقرينة يكشف عنها الخاصّ الصادر بعده.

لأنّا نقول : ذلك ممّا يقطع بفساده في جميع العمومات ، كما هو ظاهر على المتأمّل المنصف ، فلا وجه للأخذ بأصالة عدم التخصيص ، فإذا علمنا بالعامّ يجب في مورده الفحص عن المخصّص حتى يظهر التكليف الواقعيّ.

فإن قلت : هب أنّ العامّ يحتمل أن يكون حكما ظاهريّا لهم ، إلاّ أنّ قاعدة الاشتراك في التكليف تفيد لنا وجوب الأخذ بالعامّ ولو كان تكليفا ظاهريّا.

قلت : لم يثبت الاشتراك إلاّ في الأحكام الواقعيّة ، فلا دليل على الاشتراك مطلقا حتّى في الأحكام الظاهريّة.

وبالجملة ، فمن الجائز. بل من الواقع : أن يريد الشارع تعبّدهم بالحكم الظاهريّ لمصلحة تدعو إليه ، وحينئذ لا وجه للأخذ بالأصل ، بل ولو مع العلم بعدم المخصّص هناك أيضا ما لم يثبت كون العام مفيدا للحكم الواقعي ، وهو موقوف بعد التعويل على الأصل اللفظيّ على أصل عمليّ ، وهو أصالة عدم جعل حكم آخر وعدم ورود خطاب غيره حتّى يكون العامّ مفيدا للحكم الواقعيّ. ولا شكّ في أنّ الاتّكال على الاصول العمليّة موقوف على الفحص إجماعا وقولا واحدا ؛ ولذلك لم يذهب وهم إلى الجواز هناك كما أشرنا إليه سابقا.

١٦٧

وفيه أوّلا : أنّ ذلك من قبيل الشبهة في مقابل الضرورة ، ضرورة استقرار السيرة على الأخذ بتلك الاصول. واحتمال كون المصلحة في الإخفاء ممّا لا وجه للاعتناء به ، إذ لا فرق في ذلك بين كلام الشارع وكلام غيره من العقلاء وأهل العرف ، فإنّ الإنصاف أعدل شاهد على أنّ المتداول عند أهل اللسان الأخذ بالعموم والبناء على أنّه الحكم الواقعي ما لم يظهر المخصّص. نعم بعد ظهور المخصّص يعلم أنّه كان حكما ظاهريّا ، لا أنّه قبل ظهوره يحكم بكونه من الأحكام الظاهريّة ، لعدم الاعتبار بذلك الاحتمال.

وثانيا : أنّ الفحص ممّا لا يثمر في المقام أيضا إلاّ بناء على أصالة حجّية الظنّ المطلق ، إلاّ أنّه موهون عند المحقّقين ، سيّما في الظنون اللفظيّة ، على ما نبّهنا عليه في محلّه بما لا مزيد عليه.

ورابعها ـ وهو العمدة ـ : أنّ العلم الإجمالي بورود معارضات كثيرة بين الأمارات الشرعيّة التي بأيدينا اليوم حاصل لمن لاحظ الكتب الفقهيّة واستشعر اختلاف الأخبار ، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان بذلك ، ولا يمكن إجراء الاصول في أطراف العلم الإجمالي ـ كما قرّرنا في محلّه ـ فيسقط العمومات عن الحجّيّة ، للعلم بتخصيصها إجمالا عند عدم الفحص. وأمّا بعد الفحص فيستكشف الواقع ويعلم أطراف الشبهة تفصيلا بواسطة الفحص ، فلا يرد ما أوردناه على السابقين.

وتوضيحه : أنّ احتمال تخصيص العامّ تارة يكون بدئيّا غير مسبوق بالعلم الإجمالي ، واخرى يكون من حيث إنّه أحد أطراف المعلوم بالإجمال ، وقد يجتمع في عامّ واحد كلاهما ، كأن يكون محتمل التخصيص بدءا ومحتمله بواسطة سبق العلم الإجمالي. وارتفاع الاحتمال من جهة لا يلازم ارتفاعه من جهة اخرى ، كما أنّ إبقاءه من جهة لا يلازم إبقاء الاخرى ، كما هو ظاهر.

١٦٨

وإذ قد تمهّد ذلك ، فنقول : إنّ العمومات التي بأيدينا اليوم في الأخبار يحتمل تخصيصها من جهتين :

إحداهما : من حيث علمنا الإجمالي بوجود مخصّصات لها في الأخبار التي يمكن الوصول إليها في زماننا ، وغيرها من الأمارات الظنّية على تقدير القول بها.

وثانيتهما : من حيث احتمال ورود التخصيص عليه في الواقع مع عدم وصوله إلينا أيضا. والاحتمال الثاني بدئيّ يعمل في دفعه أصالة عدم التخصيص من دون معارض ، والاحتمال الأوّل بعد الفحص يستكشف واقعه ويعلم أنّه من العمومات التي خصّصت أو من غيرها ، إذ المفروض دعوى العلم الإجمالي فيما هو بأيدينا وما يمكن لنا الوصول إليها من المخصّصات. فالفحص من حيث تشخيص الواقع ، لا من حيث إجراء أصالة عدم التخصيص ، لأنّ الجهة البدئيّة غير محتاجة إلى الفحص ، والجهة المسبوقة بالعلم الإجمالي تصير معلوم التخصيص تارة ومعلوم العدم اخرى ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ هذا العلم الإجمالي إنّما هو من شعب العلم الإجمالي بمطلق التكاليف الشرعيّة التي تمنع عن الرجوع إلى الاصول في مواردها ، واحتمال ثبوت التكليف في موارد العامّ وأفراده إنّما هو بواسطة ذلك العلم الإجمالي ، وحكم ذلك العلم الإجمالي باق بعد الفحص ما لم يقطع بعدم المخصّص ، وقيام الظنّ مقامه يوجب التعويل على الظنّ المطلق ، كما عرفت فيما تقدّم.

قلت : إنّ العلم الإجمالي بثبوت مطلق التكاليف الذي أوجب الفحص عن مطلق الدليل يكفي في رفع حكمة الأخذ بظاهر العموم المعوّل عليه في الاصول ، وما هو المدّعى في المقام يغاير ذلك العلم الإجمالي ، ولا مدخل لأحدهما بالآخر وجودا وعدما ، كما لا يخفى على المتأمّل.

١٦٩

وخامسها : ما أشار إليه في المعالم بقوله : وقد شاع التخصيص حتى قيل : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » فصار احتمال ثبوته مساويا لاحتمال عدمه وتوقّف ترجيح أحد الأمرين على الفحص والتفتيش (١). ولعلّه يشير إلى ما صرّح به في الزبدة : من توقّف إعمال الأصل على الظنّ الشخصي (٢) ، ولا يقول بكونه من المجاز المشهور حتّى يقال بأنّ الفحص لا يوجب الإجمال حينئذ ؛ مضافا إلى عدم نهوضه في العامّ المعلوم تخصيصه ، إذ لا غلبة.

وكيف كان ، فلا وجه له مع انتفاء العلم الإجمالي ، إذ لو قلنا بحجّيّة الأصل ولو مع عدم الظنّ فالأمر ظاهر. وأمّا لو قلنا بدورانها مدار الظنّ فلا مانع من حصوله بعد عدم العلم الإجمالي ، فدعوى الحصول في مثله دونه مكابرة.

الرابع من الأدلّة : دعوى الإجماع على الفحص والالتزام به. ويكشف عن تحقّقه أمران : أحدهما ما عرفت من نقله في لسان جماعة منهم العلاّمة (٣).

وثانيهما ملاحظة حال الفقهاء خلفا عن سلف ، فإنّه قد استقرّ رأي أرباب الفتوى والاجتهاد على البحث والتفتيش في طلب الأدلّة عموما وخصوصا ، ومعارضاتها موافقا ومخالفا ، مجتهدا وأخباريّا ، والمنكر إنّما يناقض عمله قوله ، ولا يجوز عنده البدار بالفتوى بمجرّد عموم رواية أو آية دلّ على مطلوب ، كيف! ولو لم يكن كذلك لكان الواجب عليه الاقتصار في كلّ باب على عموم وارد فيه ، فيأخذ بإطلاق قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً )(٤)

__________________

(١) المعالم : ١١٩.

(٢) الزبدة : ٩٧.

(٣) تقدّم عنهم في الصفحة : ١٥٧.

(٤) الفرقان : ٤٨.

١٧٠

ويفتي (١) بما يقتضيه ، فهل المجوّز [ إنّما ](٢) يتفصّى في تحصيل الأحكام الشرعيّة بتحصيل المخصّصات والفحص عنها وترك التعويل على العموم (٣) ، كلاّ! بل الإنصاف أنّ عدم اجترائه في الأخذ بالعمومات ابتداء وإتعاب نفسه في تحصيل المدارك بعد الأخذ بالعموم إنّما هو من أقوى الشواهد على أنّه لا يجوّز ذلك بحسب ما فطره الله عليه ، وإن كانت تلك الفطرة الإلهيّة قد اكتساها غواشي الأوهام في الظاهر ويعمل على غير شاكلتها في مقام الجدل ، وإن كان المجوّز مجترئا بالفتوى بمجرّد اطّلاعه على رواية من دون فحص ، وهل هذا إلاّ هرج ومرج وتغيّر في دين الله وتبديل لشريعة الرسول مع أنّه بالغ في حفظه ، فيا سبحان الله! كيف يمكن أن يقال : إنّ الفقيه إذا اطّلع على الفقيه يكتفي به عن الكافي ، وكيف يستغني في تهذيب المطلوب عن التهذيب؟ اللهم إلاّ أن يكون من دون استبصار ، فالمرجوّ من كرمه تعالى أن يحفظنا عن الخطاء.

الخامس : الأخبار الدالّة على أنّ في الكتاب والسنّة عامّا وخاصّا ومطلقا ومقيّدا ، كما ورد في نهج البلاغة (٤) وغيره (٥).

والإنصاف عدم ظهور دلالة تلك الأخبار على المدّعى وهو الفحص. نعم يدلّ على وجوب الأخذ بعد الاطّلاع ، وهو من الامور الضروريّة التي لا تحتاج إلى تجشّم استدلال في المقام.

__________________

(١) في ( ع ) : « يقل ».

(٢) لم يرد في ( ع ).

(٣) كذا في النسختين ، والعبارة لا تخلو من تشويش.

(٤) نهج البلاغة : ٣٢٥ ، الخطبة ٢١٠.

(٥) انظر الوسائل ١٨ : ١٢٩ و ١٥٢ ، الباب ١٣ و ١٤ من أبواب صفات القاضي.

١٧١

احتج المجوّز بامور :

الأول ما حكي عن الصيرفي من التعويل على الظنّ الحاصل من أصالة عدم التخصيص (١). واعترضه في محكيّ النهاية : بمعارضتها لأصالة عدم حجّيّة الظنّ (٢). ولا وجه له على تقدير جريان الأصل اللفظي ، ضرورة ثبوت التعويل على الظنون اللفظيّة الكاشفة عن المراد. والوجه هو ما قدّمناه : من أنّها موهونة بواسطة العلم الإجمالي بالتخصيص.

واعترض عليه بعض من قارب عصرنا (٣) تارة بأنّ العلم الإجمالي لا يمنع عن العمل بالأصل إلاّ إذا كانت الشبهة محصورة ، وجعل ذلك من باب الشبهة المحصورة من غرائب الجعليّات! فإنّه إذا كان ذلك من باب المحصور ، فأين غير المحصور؟

قلت : ولعلّه سهو من مثله ، إذ لا إشكال في كون المقام من المحصور نظرا إلى كثرة المعلوم بالإجمال وإن كانت الأطراف أيضا كثيرة.

واخرى بأنّ كونها من باب المحصور مسلّم ، لكن لا تجب الموافقة القطعيّة فيه ، كما قرّر في محلّه.

وفيه : ما قرّر في محلّه من لزومها.

ثمّ اعلم أنّ دعوى العلم الإجمالي تارة تكون في جميع العمومات ، واخرى تكون في عامّ واحد ، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة ـ على تقدير

__________________

(١) حكاه الآمدي في الإحكام ٣ : ٥٦.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ١٤٦.

(٣) وهو المحقّق النراقي في المناهج : ١١١.

١٧٢

صحته ـ إنّما يتمّ في الأوّل دون الثاني ، لأوله إلى كون العامّ مخصّصا بمجمل ، وقد عرفت الحال فيه فيما تقدّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع المعترض أيضا ، حيث إنّه ذهب إلى حجّيّة هذا العامّ المخصّص بالمجمل.

الثاني أنّه لو وجب الفحص عن المخصّص لوجب الفحص عن قرينة المجاز أيضا ، والتالي باطل ، والملازمة ظاهرة ، حيث إنّه لا فارق.

واجيب ـ بعد تسليم بطلان التالي ـ : بشيوع التخصيص وغلبته ، فالفارق موجود. وعورض بأنّ المجاز أيضا شائع حتى قيل بأنّ أكثر ألفاظ العرب مجازات.

واورد عليه بأنّه إغراق ، سلّمنا لكنّه لا يجديهم فيما أرادوا من كون المجاز اللغويّ أكثر من الحقيقة ، لاحتمال المجاز العقليّ ، والاستعارة التمثيليّة ، والمجاز في الإعراب بالحذف والزيادة.

أقول : بعد الإحاطة بما قدّمنا لا حاجة إلى إطالة الكلام في إبطال هذه الكلمات ، إذ بدون العلم الإجمالي لا يعقل وجه لطرح الأصل في المقامين ، ومعه لا وجه للأخذ به فيهما ، من غير فرق في ذلك بين الأدلّة الشرعيّة وغيرها من الكلمات المستعملة عندهم في المحاورات ، من غير فرق بين القرائن المعمولة في المجازات اللغويّة أو غيرها. وبذلك يظهر فساد الإيراد الأخير. نعم ، احتمال هذه الوجوه من المجاز يؤيّد ما ذهب إليه ابن جنّي : من أنّ أكثر كلام العرب مجازات (١) ؛ إذ لم يصرّح ولم يظهر منه المجاز في الكلمة ، فتدبّر.

__________________

(١) انظر حاشيته المطبوعة ضمن جمع الجوامع ١ : ٣١٠ ، ونقله السيّد المجاهد في المفاتيح : ٣١ عنه وعن جماعة.

١٧٣

الثالث إطلاق ما دلّ من الآيات وغيرها على اعتبار أخبار الآحاد كآية النبأ (١) والنفر (٢) والسؤال (٣) فإنّ قضيّة إطلاقها وجوب الأخذ بالخبر من دون انتظار أمر آخر من الفحص وغيره.

والجواب : أنّ الاعتماد على أخبار الآحاد موقوف على سدّ خلل السند والدلالة وجهة الصدور مع خلوّها عن المعارض ، وقد وضعوا لكلّ واحد من هذه المقامات مقاما وعقدوا بابا على حدة ، والمنعقد للمقام الأوّل هو مسألة حجّيّة الأخبار ، والآيات ـ على تقدير دلالتها ـ إنّما يصحّ التمسّك بها فيما إذا كان الشكّ من هذه الجهة. وأمّا إذا شكّ من جهة اخرى فالتعويل على هذه الإطلاقات في دفع الشكّ المذكور ممّا لا وجه له ، فهل ترى أنّه إذا شكّ في جواز الاعتماد على الظنّ الحاصل من أصالة الحقيقة ولو بعد الفحص يصحّ التمسّك بالإطلاق المذكور؟ فالإنصاف : أنّ الاستدلال المذكور أجنبيّ عن طريقة أهل الاستدلال وإن كان المستدلّ (٤) بمنزلة ربّهم!

والعجب أنّه يحتمل تفطّنه بذلك حيث أورد على نفسه بقوله :

فإن قلت : هذا إنّما يتمّ في نفي اشتراط القطع ، وأمّا اشتراط الظنّ فللخصم أن يدّعي أنّ المعنى أنّ الخبر الذي يفهم المراد منه ظنّا أو قطعا لا يجب التثبّت عند مجيء العادل به ، وأمّا الخبر الذي لا يظنّ بالمراد منه فخارج عن مدلول الآية ومفهومها.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) التوبة : ١٢٢.

(٣) الانبياء : ٧.

(٤) وهو المحقّق الشيرواني في حاشيته على المعالم ، وسيجيء كلامه.

١٧٤

فأجاب عنه : بأنّ ذلك يوجب تقييد الإطلاق ، ولو صحّ ذلك لصحّ القول باعتبار الظنّ في السند أيضا. ثمّ أخذ في إبداء الفارق بين المجمل وبين العامّ بما حاصله : استقباح العقل التعبّد بالمجمل ، بخلاف العامّ ، وحكم بخروج الأوّل عن الآية بالإجماع ، بخلاف الثاني ، إذ لا إجماع (١).

أقول : بعد ما عرفت من اختلاف الجهات المذكورة يظهر وجوه الفساد فيما أفاده ، إذ الشكّ في المقام ليس من جهة السند حتّى يؤخذ بالإطلاق وإن صحّ ذلك فيما لو قيل باعتبار الظنّ في السند على تقدير دلالة الآية على حجّيّة السند تعبّدا ، وإلاّ لم يكن ذلك أيضا تقييدا ، كما لا يخفى. والمجمل ليس بخارج من الإطلاق قطعا وإن لم يمكن الانتفاع به من جهة عدم إحراز جميع شرائط الانتفاع بالدليل اللفظيّ ، كما هو ظاهر.

الرابع ما أشار إليه المستدلّ المتقدّم (٢) واعتمد عليه في الوافية (٣) وقرّره بوجه أتمّ وأتقن بعض الأفاضل (٤) ، فقال : الضرورة الدينيّة واقعة على اشتراكنا مع الموجودين المشافهين في التكليف ، ولازمه لزوم تحصيل تكليفاتهم ، ولا يمكن ذلك إلاّ بالرجوع إلى ما خوطبوا به ، وتحصيل تكليفهم منها لا يمكن إلاّ بتحصيل طرق فهمهم ، وهو الغرض من تأسيس الاصول اللفظيّة ، ولازم ذلك استخراج

__________________

(١) انظر حاشية الشيرواني المطبوعة في هامش المعالم : ١٢٥ ، ونقل عنه السيّد المجاهد في المفاتيح : ١٩٠.

(٢) وهو المحقّق الشيرواني ، انظر حاشيته المطبوعة في المعالم ، الصفحة : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، ونقل عنه في المفاتيح : ١٨٩.

(٣) الوافية : ١٣٠.

(٤) وهو المحقّق النراقي في المناهج : ١١٠.

١٧٥

الأحكام من الأخبار بطريق استخراجهم ، وإذا علمنا أنّهم لا يتربّصون للفحص عن المخصّص كما هو معلوم لمن استعلم حال السلف ، فإنّ الصحابة والتابعين كانوا يعملون بالعمومات ويحتجّون بها على المتنازعين ولم يطلب أحد من المتنازعين في المسألة التوقف من صاحبه حتّى يبحث عن المعارض ، فكيف نتربّص في العمل بهذه العمومات ، فهل هذا إلاّ التناقض (١)؟ ومن هنا يظهر وجه آخر ، وهو تقرير الإمام عليه‌السلام العامل بها من دون فحص ، فيكون حجّة اخرى على الخصم.

والجواب : أنّ الضرورة الدينيّة واقعة على الاشتراك فيما إذا اتّحد موضوعنا وموضوع المشافهين ، وأمّا إذا اختلفا موضوعا فالضرورة واقعة على عدم الاشتراك ، وما نحن فيه من الثاني ، لوجود العلم الإجمالي بكثرة المعارضات على وجه لا يجوز معه الرجوع إلى الاصول ، كما عرفت في دليل المختار.

لا يقال : إنّ وجه الاختلاف في المقام ممّا يجب أن يكون موجودا فيهم أيضا ، فلا سبيل إلى دعوى اختلاف الموضوع.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ إبلاغ الرسول للأحكام الدينيّة لم يكن دفعة واحدة بل إنّما كان على وجه التدريج ، ولازم ذلك اختلاف موضوع المشافه بالخطاب الصادر في أوّل الشريعة والمشافه عند كمالها مثلا ، فيحتمل أن يكون الموجودون في زمن الأئمّة من الصحابة والتابعين لم يطّلعوا إلاّ على العمومات لا تفصيلا ولا إجمالا على وجه يوجب الفحص ، لاحتمال أن يكون كلّ عامّ في نظرهم من أطراف الشبهة الغير المحصورة التي لا توجب الموافقة القطعيّة.

فإن قلت : إنّا لو لم نقل بوجود العلم الإجمالي لهم بأجمعهم فلا بدّ من القول به في زمان الصادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما من الأئمّة عليهم‌السلام ومع ذلك فلم نجد في زبرهم ما يبيّن فيه وجوب الفحص في العمل بالأدلّة المعمولة عندهم.

__________________

(١) إلى هنا انتهى كلام النراقي مع إضافات لم ترد في المناهج الموجودة عندنا.

١٧٦

قلت : لا نسلّم أنّهم كانوا يعملون بالعمومات بعد العلم الإجمالي بكثرة المعارضات والمخصّصات بالأدلّة والعمومات من دون فحص في زمان اجتماع الأخبار وانتظام الآثار ، فإنّ ذلك لعلّه من مقتضيات الجبلّة ولوازم الفطرة كما أشعرنا به ، فكيف يسوغ لك فرض العلم الإجمالي الموجب للفحص لرؤساء الشريعة وأمنائها من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام مع عدم فحصهم عن المخصّص؟ كلاّ! ثمّ كلاّ! نعم ، حيث إنّهم كانوا مشافهين للأئمّة عليهم‌السلام وكان تأخير البيان عن وقت الحاجة غير محتمل عندهم ، فلذلك كانوا يقنعون بالعموم الملقى إليهم من دون الفحص ، ولا أقلّ من أن يكون أكثر العمومات الملقاة إليهم كذلك ، ومن أين علمنا أنّ القبيل الذي لم يكن وروده في محلّ الحاجة لم يتفحّص فيه الراوي؟ ولا ملازمة بين وقوعه ونقله مع هذه الندرة ، لعدم عموم البلوى به ، ولذلك ترى أنّ أرباب التصنيف وأصحاب التأليف أخذوا فيهما ما قصروا في الفحص على وجه يعلم منه أنّ إتعاب أنفسهم في تحصيل الكتب العلميّة وتحمّلهم لمشاقّ الفحص ولوازمه إنّما هو لملزم شرعي أو عقلي لذلك ، إذ لم يعهد إلى الآن استمرار طريقتهم على الوجه المذكور على أمر غير لازم عندهم كما هو معلوم لمن أنصف وتأمّل. وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن التقرير المذكور في آخر الاحتجاج.

الخامس ما استدلّ به بعض الأفاضل (١) : من أخبار التسامح المستفيضة الواردة في من بلغه ثواب (٢) ، فإنّ إطلاق تلك الأخبار يدلّ على كون العامل بالعموم مثابا في جميع أفراده.

ولعمري! إنّه استدلال عجيب بعد ما عرفت من جهة الشكّ في المقام.

__________________

(١) وهو المحقّق النراقي في المناهج : ١١١.

(٢) راجع الوسائل ١ : ٥٩ ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات.

١٧٧

وأعجب منه استدلاله (١) بقوله عليه‌السلام : « علينا إلقاء الاصول وعليكم التفريع » (٢) فإنّ المراد بالاصول العمومات وقد امرنا بالتفريع وتطبيقها على الجزئيّات من دون تقييد بالفحص.

وأغرب من ذلك! الاستدلال (٣) بالأخبار الواردة في تعيين ما فيه الزكاة بعد ما سئل عنه ، فأجاب الإمام عليه‌السلام بأنّها في تسعة وقال : وعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا سوى ذلك ، فقال الراوي عندنا شيء كثير مثل الأرز هل فيه الزكاة؟ فردّ الإمام عليه‌السلام بأنّي أقول : « عفا عما سوى ذلك » وتقول : عندنا أرزّ (٤)!

فإنّ قياس حال المشافه الواقع في محلّ الحاجة بغيره قياس قد عرفت فساده. وأمّا رواية التفريع فقد عرفت أنّ إطلاقها لا يجدي في مثل المقام.

واستدلّ أيضا (٥) بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها )(٦) و ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(٧).

وتقريب الاستدلال بأمثال هذه الأدلّة فيما نحن بصدده مما لا سبيل إليه للمنصف ، فكيف بإتمامها والتحويل عليها؟ ولعمري أنّه نظير الاستدلالات الموروثة عن بعض الأخباريّين في المسائل الخلافيّة بينهم وبين المجتهدين ،

__________________

(١) أي الفاضل المذكور.

(٢) الوسائل ١٨ : ٤١ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٢.

(٣) هذا الاستدلال أيضا من الفاضل المذكور.

(٤) الوسائل ٦ : ٣٤ ، الباب ٨ من أبواب ما تجب فيه الزكاة ، الحديث ٦.

(٥) أي الفاضل المذكور.

(٦) البقرة : ٢٨٦.

(٧) الطلاق : ٧.

١٧٨

مثل استدلالهم بالأخبار الواردة في فضيلة العلماء (١) ، مثل ما دلّ على ترجيح مدادهم على دماء الشهداء (٢) على جواز تقليد الميّت. وهذه الأدلّة من أقوى الأدلّة على أنّ المستدلّ إنّما لم يبلغ إلى ما هو المبحوث عنه في المقام ، وإلاّ فهو أجلّ من ذلك.

تذنيب :

اختلف القائلون بوجوب الفحص في مقداره ، فنسب إلى القاضي لزوم تحصيل القطع (٣) والأكثرون على كفاية الظنّ واحتجّ القاضي : بأنّ القطع ممّا يتيسّر حصوله للمجتهد بالفحص ، فلا بد من تحصيله.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحكم المستفاد من العامّ إن كان ممّا كثر البحث عنه ولم يطّلع على ما يوجب تخصيصه ، فالعادة قاضية بالقطع بانتفائه ولو قبل الفحص ، وإلاّ فبحث المجتهد يوجب القطع بانتفائه ، إذ لو اريد بالعامّ الخاصّ لأطلع عليه ، فإذا حصل الفحص ولم يطّلع عليه وجب البناء على العموم.

وأمّا الثاني : فلقضاء صريح العقل بعدم الاقتناع بالظنّ عند إمكان تحصيل العلم ، إلاّ أن يدلّ على ذلك دليل من الشرع.

واجيب عنه بوجوه مرجعها إلى منع حصول القطع من الفحص ، فلا بدّ من الاكتفاء بالظنّ (٤).

__________________

(١) انظر الكافي ١ : ٣٢ ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.

(٢) الفقيه ٤ : ٣٩٨ ، الحديث ٥٨٥٣ ، والوافي ١ : ١٤٥.

(٣) نسبه إليه الآمدي في الإحكام ٣ : ٥٦ ، وصاحب الفصول في الفصول : ٢٠٠ وغيرهما.

(٤) انظر الإحكام للآمدي ٣ : ٥٧.

١٧٩

واعترض عليه المدقّق الشيرواني بأنّ عدم إمكان حصول القطع في الغالب لا يوجب جواز الاكتفاء بالظنّ عند إمكانه فلا بدّ من الالتزام باشتراطه إلاّ إذا تعذّر (١).

والتحقيق في المقام : أنّه يجب الفحص إلى أن يرتفع ما يقتضي الفحص ، وقد عرفت أنّ ما يقتضي الفحص عندهم أمور :

فعلى القول باعتبار الظنّ الشخصي ومنع حصوله قبل الفحص لا بدّ من القول بكفاية الظنّ بعدم المخصّص عند حصول الظنّ بالمراد بعد الفحص ، وإن كان ذلك غير مرضيّ عندنا ، كما نبّهنا عليه.

وعلى ما اخترنا : من أنّ المانع عن العمل بالعامّ هو العلم الإجمالي وارتفاعه بالفحص ، يظهر أنّ الفحص يفيد القطع بعدم المخصّص الذي كان احتماله مانعا من الأخذ بالعموم.

وأمّا احتمال التخصيص البدئيّ فلا يمنع من العموم ، ويكفي في دفعه أصالة عدم المخصّص ، كما عرفت ذلك في دليل المختار مفصّلا ، فراجعه.

ثمّ إنّ ممّا ذكرنا في مناط وجوب الفحص يظهر : أنّه لا يجب استقصاء البحث في جميع أبواب الكتب الجوامع الفقهيّة والأخباريّة ، بل يكفي في العمل بعمومات باب الطهارة استقصاء ذلك الباب ، إذ لا نعلم المعارض لذلك العام في غير الأخبار المذكورة في ذلك الباب ، فأصالة عدم المعارض والمخصّص سليمة لا بدّ من الأخذ بها ، ولا سيّما فيما إذا تفحّصنا عن المعارض (٢)

__________________

(١) حكاه السيّد المجاهد في المفاتيح : ١٩٢ ، وانظر حاشية المعالم المطبوعة في هامشه : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) لم يرد « عن المعارض » في ( ع ).

١٨٠