مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

واحد منهم بالآخر ـ وبين ما لم يكن كذلك ، بل كان الاشتباه لأجل حصول عنوان المخصّص في المشكوك. فعلى الأوّل : نقول بعدم تحكيم العامّ ، لما مرّ من أنّ الحكم بدخوله في أحد العنوانين خاصّة ترجيح بلا مرجّح. وعلى الثاني : نقول بتحكيم العامّ في مورد الاشتباه ، نظرا إلى وجوب الأخذ بالعامّ مهما أمكن ، فما لم يعلم خروج فرد من العامّ يجب الأخذ به ، لعدم وصول المعارض إلينا من جانب المولى كما جرى عليه ديدن العقلاء في مقام امتثال الأوامر المتعلّقة بهم ، كما هو ظاهر.

أقول : لا إشكال على الأوّل كما هو المفروض. وأمّا على الثاني ، فما ذكر في وجه التحكيم فإنّما يناسب فيما لو كان المراد من المخصّص مجملا. وأمّا إذا كان عنوان المخصّص معلوم المراد فلا وجه للفرق بين الموردين بوجه ، لاتّحاد ما هو المناط بينهما. ودعوى جريان ديدن العقلاء على تحكيم العامّ في مثل ما نحن فيه ممنوعة جدّا ، ألا ترى أنّهم يتوقّفون في مائع لم يعلم كونه خلاّ أو خمرا ولا يستندون فيه إلى عموم التحليل والتحريم؟ والوجه في ذلك هو ما نبّهنا عليه : من أنّ الشكّ في المقام ممّا لا يزول بالأخذ بالعموم ، فإنّ الاصول اللفظيّة تارة يقصد بها إثبات الوضع والمفروض في المقام عدم الشكّ فيه في أحد من العنوانين ، وتارة يقصد بها إثبات المراد من اللفظ وهو أيضا معلوم فيهما.

وتوضيح المقام : أنّ ملخّص ما يمكن أن يقال في الفرق بين الصورتين : هو أنّ الشك في دخول زيد في عنوان الخاصّ على الأوّل لا يستلزم الشكّ في تخصيص العامّ زيادة على ما علم تخصيصه ، لأنّ دخول زيد تحته يوجب خروج فرد آخر منه ، لانحصار أفراده في عشرة مثلا. بخلاف الشكّ فيه على الثاني ، فإنّه يشكّ في أنّ زيدا هل خصّص من العامّ أو لا؟ بعد العلم بتخصيصه بالنسبة إلى عمرو وأصالة عدم التخصيص في الأقلّ معارضة بمثلها كما في الشبهة المحصورة. وعلى الثاني فلا معارض لها ، لكونه من قبيل الشبهة البدويّة.

١٤١

وملخّص الجواب : أنّ الفرق لا يجدي في الرجوع إلى العامّ ، لأنّ منشأ الشكّ في التخصيص وإن كان الشكّ بدويّا هو الاشتباه في الأمر الخارجي ولا يمكن زواله بالرجوع إلى العامّ كما قلنا. وذلك بمكان من الظهور والوضوح [ بهداية الله ](١) وهو الهادي.

__________________

(١) لم يرد في ( ع ).

١٤٢

هداية

إذا علم تخصيص العامّ بما لم يؤخذ عنوانا في موضوع الحكم ، فالحقّ صحّة التعويل عليه عند الشكّ في فرد أنّه من أيّهما. ويمكن استيناسه من مذاق العلماء في جملة من الموارد أيضا. ومثال ذلك : ما إذا قال المولى : « أكرم العلماء » وعلمنا من نفسه ومن تعبيره وتخصيصه للعامّ أنّه لا يريد إكرام الفاسق ، فإنّه إذا شكّ في زيد هل هو فاسق أو لا يجب تحكيم العامّ فيه والقول بوجوب إكرامه.

وتحقيق القول : أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين وتنويعهما ، كالعالم الفاسق والعالم الغير الفاسق مثلا. واخرى لا يوجب ذلك ، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنوانا في العامّ وإن علمنا بأنّه لو فرض في أفراد العامّ من هو فاسق لا يريد إكرامه. فعلى الأوّل : لا وجه لتحكيم العام ، لما عرفت في الهداية السابقة ، وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظيّة. وعلى الثاني : يجب تحكيم العامّ وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللبيّة. والذي يقضي بذلك أمران :

الأوّل : أنّه لا إشكال في أنّه يجب ترتيب الحكم فيما لو علمنا بعدم ما هو المخصّص واقعا ، وكذا فيما لو شكّ فيه لملازمته لأصل موضوعيّ به يرتفع الشكّ ، وهو أصالة عدم كونه فاسقا. ولا يرد فيه ما أوردناه في القسم الأوّل : من أنّه بدون الحالة السابقة لا دليل على اعتبار الأصل ومعها يخرج عن عنوان البحث.

١٤٣

وتوضيحه : أنّ أصالة عدم وجود الفاسق الأزلي يكفي في المقام بعد إحراز عنوان العامّ في الفرد المشكوك ، ولا يكفي في القسم الأوّل ، لأنّ مجرّد عدم إحراز وجود الفاسق بالأصل لا يجوب إحراز ما هو الموضوع في الحكم من عنوان العامّ مع ما هو ضدّ لعنوان المخصّص.

وفيه أوّلا : إن اريد من استصحاب عدم الفاسق إثبات أنّ المشكوك ليس فاسقا ، فهو ممّا لا تعويل عليه. وإن اريد استصحابه بدون ذلك فالشكّ في محلّه ، فلا وجه في تحكيم العامّ فيه. وإن اريد استصحاب عدم الفسق في هذا المشكوك الخاصّ ، ففيه أنّ هذا الفرد متى يكون لا فاسقا حتى يستصحب؟

وثانيا : أنّ الحكم في القسم الأوّل ربما يترتّب على نفس عدم الفاسق ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء العدول » مضافا إلى أنّ هذا الوجه لو تمّ لم يكن تحكيما للعامّ كما هو المراد ، بل لو قيل : إنّ العامّ أيضا مجمل في المقام لم يكن كذبا.

الثاني : أنّ الرجوع إلى العامّ في المقام يوجب رفع الشكّ الموضوعي المفروض في المشكوك. بيان ذلك : أنّ التعبير بالعموم من دون أخذ عنوان آخر يكشف من أنّ المتكلّم لا يرى في أفراد ذلك العامّ ما يصلح لمعارضة العامّ ، وإلاّ كان عليه التخصيص بغيره ، فالخطاب المنفصل لبيان الحكم إنّما يستفاد منه بيان الموضوع أيضا ولو بملاحظة أصالة عدم التخصيص ، وكلّ من يجب إكرامه ليس بفاسق ، لما قد فرضنا أنّ المولى لا يريد إكرام الفاسق ، فينتج أنّ زيدا ليس بفاسق ، فالتمسّك بالعامّ لا يحتاج إلى رفع الشكّ ، بل بالعموم يستكشف واقع المشكوك فيه ، ومن هذا القبيل التمسّك بعموم ( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )(١) لعصمة

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

١٤٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتمسّك بقوله : « اللهم العن بني اميّة قاطبة » (١) على عدم وجاهة واحد منهم ـ لعنهم الله ـ وأمثال هذه التمسّكات في كلمات العلماء كثيرة ، بل العرف أيضا شاهد على ذلك ، كما يلاحظ في كثير من محاوراتهم ، كما إذا أمر المولى عبده بإتيان كلّ بطيخ في بيته مع العلم بأنّه لا يريد الفاسد منه ، أو أمر المولى بإكرام جيرانه عموما مع العلم بأنّه لا يريد إكرام عدوّه ، فإنّه يستكشف من الأوّل أنّ المولى لا يعتقد فسادا فيما هو في بيته من البطّيخ ، ومن الثاني أنّه لا يرى من هو عدوّ في جيرانه. ولعلّه ظاهر ، وإنّما الإشكال في تشخيص مورد القسمين ، وبيان ما هو المعيار في تمييز أحدهما عن الآخر. ولعلّ ما أخذناه في عنوان الهداية يوجب التمييز في الأغلب.

فإن قيل : إذا علمنا بأنّ العداوة مانعة عن اقتضاء عنوان العامّ للحكم ، فلا فرق بين التصريح بالتخصيص كما في القسم الأوّل وبين غيره كما فيما نحن فيه ، لظهور أنّ الحكم إنّما يلحق موضوعه وبعد العلم بالممانعة نشكّ في ثبوت الموضوع كما قرّر مفصّلا.

قلنا : لا نسلّم مداخلة العداوة في الموضوع ما لم يصرّح بالتخصيص ، غاية الأمر أنّا نعلم بملازمة بين العداوة وبين عدم الإكرام ، وذلك لا يضرّ التمسّك بالعامّ بل يؤكّده ، حيث إنّا نستكشف من ثبوت الإكرام الملازم لعدم العداوة عدم كونه عدوّا كما هو الشأن في جميع ضروب الاستدلال.

فإن قلت : إنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لم يعلم بوجود المخصّص في الخارج أصلا ، وأمّا إذا علم بوجوده ولو واحدا ، فيكفي في أخذه عنوانا والحكم بالتنويع.

__________________

(١) الوارد في زيارة عاشوراء ، انظر البحار ١٠١ : ٢٩٣.

١٤٥

قلت : لا فرق في ذلك بين العلم بوجوده وبين عدمه ، إذ المدار على الاستكشاف المذكور لجريان أصالة عدم التخصيص ، فكما أنّه لو شكّ ابتداء في تخصيص العامّ بفرد بعد العلم بتخصيصه بفرد آخر يجب التمسّك بالعموم ولا ينافيه العلم بتخصيصه بالنسبة إلى فرد غيره ، فكذا في المقام.

وبالجملة ، فملاك الأمر في المقام على تشخيص الموضوع ، ولا تفاوت فيه بين أقسامه وأحواله.

هذا كلّه فيما إذا كان أخذ عنوان المخصّص قيدا في موضوع الحكم ممكنا وأمرا معقولا ، كما عرفت من الأمثلة المتقدّمة. وأمّا ما لا يمكن أخذه في الموضوع ولا يعقل ذلك فيه ، فلا ينبغي الإشكال في أنّه يؤخذ بالعموم.

فتوضيح المطلب بأن يقال : إنّ العلم بعدم إرادة المولى بعض ما يلاحظ كونه فردا عند إيراده عنوان العامّ على وجهين :

أحدهما : ما يمكن اعتباره في الموضوع كالجار الصديق والعالم العادل ونحو ذلك.

وثانيهما : ما لا يمكن ذلك فيه ولا يعقل اعتباره فيه ، كما إذا كان ذلك الوصف منتزعا من مجرّد إرادة المولى المتعلّقة بما هو المراد وعدم إرادته لما ليس مرادا كالصحّة والفساد سواء كانت في العبادات أو في المعاملات ، فإنّهما وصفان اعتباريّان منتزعان من تعلّق إرادة المولى بما هو المقصود وعدمه في غيره ، فهما إنّما يعتبران في محلّهما بعد ملاحظة الأمر والجعل ، فلا يعقل اعتبارهما في متعلّق الأمر والجعل. وعلى الأوّل : فقد عرفت الكلام فيه بما لا مزيد عليه. وعلى الثاني : فالتمسّك بالعموم فيه كاد أن يكون ملحقا بالضروريّات ، فإذا شككنا في أنّ عتق الرقبة الكافرة هل هو صحيح أو لا؟ يجب الأخذ بالعموم أو الإطلاق ، ولا سبيل للقول بأنّا نعلم بأنّ غير الصحيح من العتق غير مراد للمولى والشكّ إنّما

١٤٦

هو في ذلك ، فمن حاول التمسّك بالعموم لا بدّ له أوّلا من إثبات الصحّة ثمّ بعد ذلك يتمسّك بالعموم ، فإنّ ذلك باطل جدّا ، لأنّ الصحّة ليست إلاّ ما ينتزع من المأمور به ، والعموم يفيد كونه مأمورا به فيكون صحيحا. ولا يعقل اعتبار الصحّة في المأمور به ، لما قد نبّهنا عليه في محلّه ، فلا يجب إحرازه قبل التمسّك على تقدير لزوم إحراز كلّ ما هو لازم للموضوع أيضا.

وعلى هذا جرى ديدن العلماء في التمسّك بالعمومات والإطلاقات في جميع أبواب العبادات والمعاملات من الأنكحة والبيوع وغيرها على وجه لا يحسن إنكاره من المكابر أيضا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما أفاده في الحدائق ـ على ما حكي ـ : من أنّ إمضاء الشارع إنّما يتعلّق بالعقد الصحيح الجامع للشرائط والأجزاء الواقعيّة المعتبرة عنده ، دون الفاسد والفاقد لبعضها ، فإذا شكّ في صحة العقد وفساده ، فلا بدّ أوّلا من إثبات صحّته بمعنى كونه تام الأجزاء والشرائط ثمّ الاستناد إلى العموم المزبور في الصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، بحيث إذا لم يحرز ذلك سقط اعتبار ذلك العموم هنا.

ومن هذا القبيل اعتراض بعض القائلين بوضع أسماء العبادات للصحيحة على من زعم أنّها موضوعة للأعمّ : بأنّه لا وجه للتمسّك بالإطلاق على تقديره أيضا ، للعلم بأنّ الشارع لا يريد منها إلاّ الصحيحة ، فلا بدّ من إحراز صحّتها (١).

أقول : ولعمري إنّ ذلك في غاية السقوط جدّا ، ومع ذلك أولى ممّا ذكره في الحدائق ، لاعترافه بسقوط الإطلاق على هذا الاعتبار الفاسد عن الاعتبار ، بخلافه حيث إنّه يظهر من قوله : « ثم الاستناد إلى العموم في الصحّة بمعنى ترتّب الأثر » أنّه بعد متمسّك ومستدلّ بالإطلاق.

__________________

(١) انظر الفصول : ٤٩ ، وضوابط الأصول : ٢٨.

١٤٧

وكيف كان لا وجه للتردّد في أمثال هذه المطالب الواضحة وإن صعب مأخذه بواسطة عدم التدرّب في كيفيّة المأخذ ، ولقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الصحيح والأعمّ فراجعه.

تنبيهات :

الأوّل :

أنّه يظهر من بعضهم التمسّك بالعمومات في ما إذا شكّ في فرد من غير جهة العموم ، كما إذا شكّ في صحّة الغسل أو الوضوء ، بمائع مضاف فيستكشف صحّته بعموم قوله : « أوفوا بالنذر » إذا وقع متعلّقا للنذر ، فيقال : إنّ هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء به ، لعموم قوله : « أوفوا بالنذر » وكلّ ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحا ، فيجب أن يكون الوضوء صحيحا ، أمّا الصغرى فبالعموم وأمّا الكبرى فللقطع بأنّ ما ليس صحيحا لا يجب الوفاء به.

وقد شاع التمسّك بمثل ذلك في كلمات بعضهم (١) ، كما لا يخفى على المتتبّع. وهو فاسد جدّا.

أمّا إجمالا : فلأنّ النذر وأمثاله من العناوين الثانوية التي لا ترد إلاّ على محل يعلم قبوله له ، ولا يمكن استكشاف ذلك.

وأمّا تفصيلا : فلأنّ الأحكام الواردة في الشريعة على ضربين :

أحدهما : ما لا تؤخذ ضدّه في موضوع ذلك الحكم كإباحة السكّر وحرمة الخمر ووجوب الصلاة ونحوها ، فإنّه لا يعقل القول بأنّه يباح السكّر

__________________

(١) لم نعثر عليه بعد الفحص التام.

١٤٨

الذي ليس بحرام ، فإنّه في مقام إنشاء الإباحة التي في عرض الحرمة. نعم ، يمكن تقييد موضوعه بأمر ذلك ليوجب (١) الحرمة كأكل المسكر المضرّ مثلا.

وثانيهما : ما يؤخذ في موضوعه أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّلية ، كوجوب إطاعة الوالدين في الامور المباحة أو الغير المحرّمة ، وكإمضاء وصايا الميّت في الامور الغير المحرّمة ، وكإجابة الأخ المؤمن في الامور المباحة.

وقد اصطلحنا على تسمية الأوّل بالعناوين الأوّليّة والثاني بالعناوين الثانوية ، فموضوع هذه الأحكام إنّما اخذ فيه الجواز وليس الجواز ما يتفرّع على وجوب النذر حتّى يمكن استكشافه بالعموم ، بل يجب أوّلا إحراز الجواز مع قطع النظر عن لحوق هذه الأحكام للموضوع ، ثمّ بعد ذلك التمسّك بالعموم في وجوب ترتيب الآثار. ولو صحّ التمسّك بالعموم في مثل المقام لم يبق لنا مشكوك من الامور إلاّ ويمكن استكشافه من العموم ، كما إذا شكّ في جواز شرب مائع فيتمسّك بأدلّة استحباب قضاء الحاجة ويشرب فيما لو أراده مؤمن. وهو باطل جدّا ، فتأمّل كيلا يختلط عليك الأمر في الموارد المتقدّمة ، فإنّها بعد تباعدها متقاربة جدّا.

الثاني :

إذا علمنا أنّ زيدا مثلا ممّن لا يجب إكرامه وشككنا في أنّه عالم وخصّص في هذا المورد أو ليس عالما فلا تخصيص ، وأصالة عدم التخصيص تقول : إنّه

__________________

(١) في ظاهر ( ع ) : « لموجب » والعبارة على كلا التقديرين مشكلة.

١٤٩

ليس بعالم. بل ولو تردّد زيد بين شخصين : أحدهما عالم ، والآخر جاهل ، وسمعنا قول القائل : « لا تكرم زيدا » نحكم بأنّه زيد الجاهل ، لأصالة عدم التخصيص ، فنقول : إنّ كلّ عالم يجب إكرامه بالعموم ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّ من لم يجب إكرامه ليس بعالم ، وهو المطلوب.

وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهيّة ، كاستدلالهم على طهارة ماء الغسالة على أنّها لا ينجّس المحلّ ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا : كلّ نجس ينجّس.

الثالث :

الحكم المتعلّق بالعامّ إذا علّل بعلّة فإن علمنا بعدم المطابقة عموما وخصوصا فالحكم يدور مدار العلّة في التعميم والتخصيص ، كما إذا قيل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » فيخصّ بالحامض منه ويعمّ غير الرمّان أيضا ولا مجال لتوهّم كشف الحموضة من العموم في المقام. وأمّا إذا لم يعلم بالمطابقة فبأصالة عدم التخصيص يحكم بالمطابقة ، فكلّ رمّان يحكم بحموضته ، وذلك ظاهر في الجملة.

ولا بدّ من التأمّل في الموارد كيلا يشتبه الأمر فيها ، فإنّ تشخيصها موكول إلى نظر آخر. والله الهادي.

١٥٠

هداية

إجمال المخصّص يسري إلى العامّ فيوجب إجماله عند أكثر المحقّقين ، بل نفى الخلاف فيه جماعة (١) وادّعى بعضهم الإجماع صريحا (٢).

وينبغي أن يكون مرادهم من سراية الإجمال أنّه لا يؤخذ بعمومه كما يؤخذ به فيما إذا لم يكن مجملا ، وليس مرادهم سقوطه عن الاعتبار بالمرّة فلا يستفاد منه شيء بوجه من الوجوه ، ولعلّه يشعر بذلك تصريح جماعة بسقوطه من جهة إجماله (٣) ، فلو كان مبيّنا من جهة اخرى يلزم الأخذ ، لوجود المقتضي وانتفاء المانع.

ولا فرق في جهة البيان بين أن يكون المبيّن أمرا معلوما من جميع الجهات كما إذا قيل : « اقتلوا الكفّار إلاّ بعض اليهود » فإنّ غير اليهود ممّا يجب الأخذ فيه بعموم العامّ فيهم من دون حاجة إلى أمر آخر ـ كما في جميع العمومات والمطلقات ـ وبين أن يكون المبيّن أمرا مجملا كأن يعلم بالتكليف مجملا في مورد العامّ ، كما إذا قيل : « يجب الاجتناب من هذه الآنية إلاّ بعضها » فإنّه صريح في ثبوت التكليف إجمالا فيها وإن لم يعلم المكلّف به شخصا ،

__________________

(١) مثل المحقّق القمّي في القوانين ١ : ٢٦٥ ، وصاحب الفصول في الفصول : ١٩٩ ، والكلباسي في الإشارات ، الورقة : ٥٤ ، والقزويني في ضوابط الاصول : ٢١١.

(٢) ادّعاه الكلباسي في الإشارات.

(٣) صرّح به المحقّق القمّي في القوانين ، ومثله صاحب الفصول والضوابط.

١٥١

فلا بدّ من الأخذ بالمعلوم ، فإن اقتضى العلم الإجمالي ثبوت التكليف في الجميع ـ كما هو التحقيق في مورد الشبهة المحصورة ـ فهو وإلاّ فلا بدّ من العمل بما يقتضيه الاصول في ذلك المورد.

وبالجملة ، فالمراد من نفي الحجّيّة في العامّ المخصّص بالمجمل عدم الأخذ به في القدر الذي لا يمكن الاستكشاف. وأمّا ما يمكن استكشافه تفصيلا كما في قولك : « أكرم العلماء إلاّ بعض النحويّين » إذا كان البعض معيّنا عنده كوجوب (١) إكرام غير النحويّين ، فلا إشكال عندهم في اعتباره. أو إجمالا كوجوب إكرام بعض النحويّين في المثال المذكور ، ثم الأخذ بما يقتضيه القواعد المقرّرة في أمثال المقام : من لزوم الاحتياط في بعض الموارد والتخيير في آخر ، أو الرجوع إلى البراءة كما هو غير خفيّ على أحد.

ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي أو مجاز ، فإنّ التكليف التفصيلي ممّا لا يمكن استفادته منه ، والإجمالي ما (٢) لا مانع من استفادته ، لما قرّرنا : من أنّ المجاز في العامّ المخصّص ليس على حدّ سائر المجازات التي على تقدير تعذّر الحقيقة وتعدّدها يصير اللفظ مجملا.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما قد يفصّل في المقام ـ كما في المناهج ـ من أنّ اختيار الجملة (٣) فيما إذا كان العامّ المخصّص حقيقة ، وعدمها إذا كان مجازا (٤) وبيّن الحجيّة على الأوّل بما حاصله يرجع إلى الأخذ بما يستفاد من العامّ على وجه الإجمال ، وعدمها على الثاني بعدم ظهوره في شيء من المراتب المجازية.

__________________

(١) في ( ط ) : « وهو وجوب ».

(٢) كذا ، والظاهر : ممّا.

(٣) كذا ، والصحيح : من اختيار الحجّية.

(٤) المناهج : ١٠٧.

١٥٢

وجه الفساد أوّلا : أنّه لم يظهر من القائل بالإجمال نفي الحكم الإجمالي المستفاد من الخطاب المجمل ، كيف وقد وضعوا لذلك بابا على حدة.

وثانيا : أنّه على تقدير المجازيّة أيضا يجب الأخذ بما هو المعلوم إجمالا ، لما عرفت من الفرق بين المجاز اللازم في المقام على تقدير (١) المجازية وبين غيره ، كما أشرنا إليه.

ثمّ إنّ في كلامه مواقع للنظر يطّلع عليها الخبير بموارد الكلام ، ومن أراد الاطّلاع فعليه الرجوع إليه ، ونحن لا نطيل الكلام بذكره ، فراجعه.

ثم اعلم أنّ الإجمال على قسمين :

أحدهما : أن يكون المراد مردّدا بين المتباينين ، كقولك : « أكرم العلماء إلاّ زيدا » مع اشتراكه بين آحاد من العامّ.

الثاني : أن يكون مردّدا بين الأقل والأكثر وهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون الأقلّ داخلا في الأكثر ويكون دخوله في الباقي معلوما كقولك : « أكرم العلماء العدول » وشكّ في العدالة هل هي الملكة أو حسن الظاهر؟

فصاحب الملكة دخوله في المقام معلوم. أو يكون دخوله في المخصّص معلوما كقولك : « أكرم العلماء ولا تكرّم الفسّاق منهم » وشكّ في معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبائر فقط أو يعمّه ومرتكب الصغائر فمرتكب الكبائر دخوله في المخصّص قطعي والشكّ إنّما هو في الزائد.

الثاني : أن لا يكون الأقلّ داخلا تحت الأكثر ، كقولك : « أكرم العلماء إلاّ الزيدين » وتردّد الأمر بين أن يراد من المخصّص فردان من العلماء لتسمية كلّ منهما زيدا أو فردا واحدا مسمّى بزيدين.

__________________

(١) في ( ع ) : « تقرير ».

١٥٣

وعلى التقادير : المخصّص إمّا أن يكون متّصلا كالشرط والغاية وبدل البعض والصفة والاستثناء ـ على تأمّل فيه كما ستعرف الوجه فيه ـ أو منفصلا ، والثاني ظاهر ، فهذه صور ستّة.

والحكم بالإجمال في صورة دوران الأمر بين المتباينين في محلّه سواء كان التخصيص بالمتّصل أو بالمنفصل. والوجه فيه ظاهر ، حيث إنّ اللفظ لا يكون حاملا للمكلّف إلاّ بعد العلم أو الظنّ المعتبر بما اريد منه ، والمفروض انتفاؤه ؛ وكذا في صورة دوران الأمر بين الأقلّ الذي لا يشمله الأكثر سواء كان المخصّص متّصلا أو منفصلا ، لعدم ما يوجب البيان ، لا من اللفظ ولا من غيره. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فغاية ما يمكن أن يقال هو : أنّ الأصل عدم خروج الأكثر ، وهو معارض بأنّ الأصل عدم خروج الأقلّ ، فإنّ الأقلّ حينئذ بمنزلة المتباينين.

لا يقال : إنّ خروج الواحد يقينيّ فلا يجري فيه الأصل ، فأصالة عدم خروج الأكثر سليمة عن المعارض.

لأنّا نقول : إنّ المعلوم خروجه هو الواحد مفهوما ، والعلم بخروجه غير مجد بعد ابتلاء الأصل الجاري في المصداق بالمعارض ، كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ الحكم بخروج فردين ولو كانا متغايرين يشتمل على زيادة تخصيص في العامّ ، بخلاف الحكم بخروج فرد واحد ، فهو مخالف لأصل واحد ، والأوّل مخالف لأصلين.

قلت : لو سلّم ذلك يجدي فيما لو قلنا بأنّ توحيد الاصول يوجب الترجيح ، ونحن قد بيّنا في محلّه : أنّ ذلك ممّا لا يوجب له (١) في غير الأدلّة الاجتهادية. اللهمّ إلاّ بالقول بأنّ الاصول اللفظيّة أيضا منها ، لابتنائها على الظنون النوعيّة.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : يوجبه.

١٥٤

وأمّا إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر مع شمول الأكثر للأقل ، ففيما إذا كان التخصيص بالمتّصل ـ كالشرط والغاية والصفة وبدل البعض ـ فالظاهر أنّ الإجمال أيضا في محلّه لسريان الإجمال في العامّ ، فيسقط عن الاعتبار بالنسبة إلى تلك الأفراد المشكوكة فيها ، فيرجع فيها إلى الاصول. وأمّا غيرها فالعامّ فيها مبيّن لا إجمال فيها ، لأنّ العدالة في قولك : « أكرم العلماء العدول » من القيود المعتبرة في الموضوع ، وإجمال المقيّد بعد إجمال القيد من الامور الواضحة ، فكان الموضوع في المقام هو نفس العدالة ، كما إذا قيل : « أكرم عدول العلماء » مع اشتباهها بين الوجهين.

وأمّا إذا كان التخصيص بالمنفصل كقولك : « أكرم العلماء » ثمّ قولك : « لا تكرم فسّاق العلماء » فمن القريب جدّا عدم سراية إجمال المخصّص إلى العامّ فيؤخذ في المعلوم المتيقّن المخصّص وهو مرتكب الكبائر ، ويدفع الزائد بأصالة عدم التخصيص ، فيؤخذ فيه بالعموم ، فلا وجه للرجوع إلى الاصول العمليّة. وإن شئت تقول : إنّ خروج أهل الكبائر بواسطة القرينة معلوم وأمّا خروج غيرهم فغير معلوم ، والأصل عدم الخروج.

والفرق بينه وبين المتّصل : هو أنّ العامّ في المتّصل لم يتمّ دلالته وظهوره على الأفراد المندرجة فيه قبل الإتيان بالقيد ، فإنّ المتكلّم ما لم ينته كلامه فكلّ قيد يأتي به فهو مأخوذ في موضوعه أو محموله. بخلافه في المنفصل ، فإنّ التخصيص فيه لأجل التعارض كسائر المعارضات بعد تماميّة الدلالة في العام ، فكما إذا قامت قرينة على صرف الظاهر يجب التعويل عليه ، وإن لم نعلم بما هو القرينة فالأصل عدمه (١).

__________________

(١) العبارة من قوله : « فكما إذا قامت ... الخ » مختلّة غير واضحة.

١٥٥

لا يقال : إنّ الشكّ في المقام إنّما هو في كون الشيء قرينة ، وهذا ممّا لا يجري فيه الأصل ، إذ لم يعلم أنّه لا يكون قرينة في زمان حتّى يستصحب.

لأنّا نقول : أصالة عدم وجود القرينة مطلقا تجدي في المقام بعد ما عرفت من أنّ العامّ ظاهر في جميع المراتب ، وعدم ظهوره في البعض محتاج إلى القرينة ، فأصالة عدم القرينة مجدية. وبالجملة ، لا يبعد الفرق المذكور ، كما لعلّه يساعد عليه العرف.

هذا كلّه في غير الاستثناء ، وأمّا في الاستثناء ففيه إشكال ، من حيث إنّه لم يظهر كونه من المخصّصات المتّصلة أو غيرها ، ولا يبعد دعوى الاتّصال فيه أيضا ، فيلحقه حكمه.

تذنيب :

إذا ورد مخصّصان متعارضان ، كما إذا علمنا بتخصيص العامّ بأحدهما يقينا وعدم تخصيصه بالآخر أيضا ، فإن أمكن الترجيح فهو ، وإلاّ فالحكم فيه ما عرفت في المخصّص المجمل ، فيجب الرجوع في محلّ الاشتباه إلى الاصول إن قلنا به ، وإلاّ فيتخيّر بينهما ، فتدبّر. والله الهادي.

١٥٦

هداية

الحقّ كما عليه المحقّقون عدم جواز الأخذ بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص. وربّما نفي الخلاف فيه كما عن الغزالي (١) والآمدي (٢) ، بل ادّعي عليه الإجماع كما عن النهاية (٣). وحكي عن ظاهر التهذيب اختيار الجواز (٤) ، وتبعه العميدي (٥) والمدقّق الشيرواني (٦) وجماعة من الأخباريّة ، منهم صاحب الوافية (٧) وشارحها (٨) ، ومال إليه بعض الأفاضل في المناهج (٩). وحكى من بعضهم : أنّ مراد القائل بالجواز وجوب الاعتقاد بالعموم واقعا حتّى يظهر المخصّص فيحكم بكونه ناسخا (١٠).

__________________

(١) المستصفى ٢ : ١٥٧.

(٢) الإحكام ٣ : ٥٦.

(٣) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ١٩٥.

(٤) حكاه في المعالم : ١١٨ ، والمناهج : ١١٠ ، وانظر التهذيب : ١٣٨ ، وفيه : ولا يجب في الاستدلال بالعام استقصاء البحث في طلب المخصص.

(٥) انظر منية اللبيب : ١٦٨ و ٢٠٩.

(٦) حكاه النراقي والسيّد المجاهد في المناهج : ١١٠ ، والمفاتيح : ١٨٧ عن حاشيته على المعالم. وانظر حاشيته المطبوعة في هامش المعالم : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٧) انظر الوافية : ١٣٠.

(٨) انظر شرح الوافية ( مخطوط ) : ١٢٢.

(٩) المناهج : ١١٠.

(١٠) حكاه في المناهج (١١٠) عن مذهب أبي حنيفة والكرخي.

١٥٧

اللهم إلاّ أن يكون مرادا لبعض من (١) لم نقف على كلامه. ونقل التفصيل بين ضيق الوقت فالجواز وبين عدمه (٢)(٣) فالمنع عن بعض (٤). وقيل : إنّه مبنيّ على (٥) جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب (٦) ، وهو على تقدير صحّته ممّا ينادي كلام المجوّز بخلافه.

وكيف كان ، فمن اللازم تقديم مقدّمة يعلم فيها أمران :

الأوّل : أنّه صرّح شيخنا البهائي وغيره على أنّ النزاع في هذه المسألة من جزئيّات النزاع في جواز العمل بالأدلّة الشرعيّة قبل الفحص عن المعارض ولو كان الدليلان متباينين ، وأمّا الوجه في إفرادهم هذا نظرا إلى أنّ وجود المعارض هنا أقوى (٧).

وقد يتوهّم أنّ مرجع النزاع إلى جواز العمل بأصالة الحقيقة قبل الفحص عن القرينة (٨). وليس كذلك لأنّ الاصول المعمولة في الألفاظ من تشخيص أوضاعها ومراداتها لم يعهد من أحد الخلاف فيه ، ولم يظهر من العرف توقّف في العمل بها قبل الفحص ، بل وذلك ديدنهم على وجه لا يقبل الإنكار.

__________________

(١) في ( ع ) : « ممّن ».

(٢) في ( ع ) : « غيره ».

(٣) لم نعثر عليه بعينه ، نعم قال الكلباسي في الإشارات : إن الفحص في المضيّق قبل الحكم ، ونقل مثله السيّد المجاهد في المفاتيح عن جدّه.

(٤) انظر المناهج : ١١٠.

(٥) في ( ع ) زيادة : « عدم ».

(٦) انظر المناهج : ١١٠.

(٧) الزبدة : ٩٧ ـ ٩٨.

(٨) انظر الفصول : ٢٠٠.

١٥٨

وقد يظهر من بعضهم (١) : أنّ الخلاف إنّما في حجّيّة العامّ قبل الفحص ، فقال في مقام استنهاض الحجّة على ما اختاره من العدم بعد دعوى العلم الإجمالي أنّه : لا دليل على حجّيّة تلك العمومات مطلقا حتى عند عدم البحث.

وكلامه ظاهر في نفي الدليل على اعتبار أصالة الحقيقة عند العلم الإجمالي. ثم ساق الكلام ـ إلى أن قال ـ وهذا الدليل بعينه يجري في سائر الأدلّة الظنّيّة ، سواء كانت ظنّيّتها من حيث السند كخبر الواحد ، أو من حيث المتن كالأمر والنهي والمطلق وغيرها من الظواهر اللفظيّة.

أقول : ولعلّه إلى مثل ذلك ينظر المتمسّك بإطلاق أدلّة الحجّية كما عن بعض المجوّزين (٢) وإلاّ فلا وجه لكلّ منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ هذا النزاع بعد الفراغ عن الحجّية ، فإنّ ترك الأخذ بالدليل بواسطة احتمال ما زاحمه من سنخه لا ينافي الحجّيّة بل تؤكّدها.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا كلام في حجّية تلك الأدلّة على وجه الإطلاق حتّى يحتاج إثباته إلى التمسّك بالإطلاق ، وإنّما الكلام في وجود المانع عن العمل بهذه الأدلّة الثابتة حجّيّتها سندا كما في المتباينين ، ودلالة كما في العموم والخصوص ، فالمجوّز إنّما يحكم بالجواز لعدم ما يصلح للمنع عنده بعد إحراز المقتضي ، بخلاف المانع فإنّه يعتقد وجود مانع من ذلك.

فإن قلت : إنّ تجويز النزاع في العامّ والخاصّ هدم لما قرّرت : من أنّ الاصول المعمولة في الألفاظ لم يعهد منهم الخلاف فيه.

قلت : أوّلا : إنّ ذلك مع قطع النظر عمّا يوجب المنع كما هو مقصود المانع. وثانيا : سلّمنا الاتّفاق على وجه الإطلاق ، لكن نقول : إنّ المخصّصات المنفصلة

__________________

(١) وهو صاحب الفصول في الفصول : ٢٠٠.

(٢) لم نعثر عليه.

١٥٩

عن العامّ بمنزلة المعارضات ، فليست من قبيل قرائن المجاز ؛ وذلك لأنّ القرائن المتعارفة إذا اطّلع عليها المخاطب فلا يتأمّل في الحكم بإرادة المتكلّم خلاف ظاهر اللفظ ، بخلاف المقام فإنّ الحكم بقرينيّة الخاصّ للعامّ في المنفصل بهذه المثابة ، سيّما في الأخبار التي بأيدينا اليوم ، فإنّه قد يكون العامّ واردا عن معصوم والخاصّ عن معصوم آخر ، والحكم بكونه قرينة يتوقّف على كون المتكلّم بهما بمنزلة متكلّم واحد.

وبالجملة ، فالفرق ظاهر بين المخصّص المتّصل وبين المنفصل ، فدعوى الاتّفاق على العمل بالاصول المعمولة في الألفاظ إنّما تتمّ ـ على تقدير صحّتها على وجه الإطلاق ـ فيما إذا كان الشكّ في المخصّص المتّصل دون المنفصل ، لكونه ـ مع كونه من القرائن ـ معدودا في المعارضات عند العرف ، فتدبّر في المقام.

الثاني : قد يتوهّم أنّ الوجه في وجوب الفحص في المقام هو الوجه فيه عند إعمال الاصول العمليّة كالبراءة في الأحكام الشرعيّة.

ولعلّ المقامين متغايران ، حيث إنّ العمدة في وجوب الفحص عند العمل بالبراءة في الحكم الشرعي عدم جريان دليل البراءة عند عدم الفحص. أمّا العقل : فلانحصار المعذوريّة فيما إذا كان الجاهل متفحّصا عن الحكم ، ضرورة عدم معذوريّة غير المتفحّص مطلقا عند العقل ، ولذلك يحكم العقل بوجوب النظر في المعجزة. وأمّا النقل : فبعد مخالفته لما هو المستفاد من العقل وتسليم الإطلاق ـ كما في بعض الروايات (١) ـ فالإجماع واقع على وجوب تقييده بالفحص ، إذ لم

__________________

(١) مثل كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ... والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا ، انظر الوسائل ٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

١٦٠