مطارح الأنظار - ج ٢

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-51-6
الصفحات: ٦٩٢

هداية

الحقّ ـ كما عليه أهل الحقّ وجماعة من مخالفينا (١) ـ أنّه لا مفهوم في اللقب. والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام ، كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر وغير ذلك ، سواء كان صالحا لأن يؤخذ منه مفهوم آخر ـ كما إذا كان المبتدأ أو الفاعل أو غير ذلك وصفا أو زمانا أو عددا ـ أو يعمّ فيما إذا كان وصفا ، فيستفاد منه المفهوم على القول بثبوته فيه وفي المقام من جهتين.

وذهب جماعة منهم الدقّاق والصيرفي وأصحاب أحمد (٢) إلى ثبوت المفهوم فيه.

لنا : انتفاء الدلالات الثلاث ، يكشف عنه أنّه لا دلالة في قولك : « زيد موجود » على أنّه تعالى ليس بموجود ، وقولك : « موسى رسول الله » على أنّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس برسول الله. ومن ادّعى ذلك فقد لبس عليه وجدانه ولا يحسن مناظراته. وقد اشتهر على الألسن : « أنّ إثبات الشيء لا ينفي الحكم عن الغير » ولا محلّ له إلاّ في أمثال المقام.

واحتجّوا : بلزوم العراء عن الفائدة لولاه ، وبأنّ قول القائل : « لا أنا بزان ولا اختي زانية » رمي للمخاطب ولاخته بالزنا ، ولذلك أوجبوا عليه الحد.

__________________

(١) انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي ٣ : ١٠٤ ، ومفاتيح الاصول : ٢١٧.

(٢) انظر الإحكام في اصول الأحكام للآمدي ٣ : ١٠٤ ، وشرح مختصر الاصول : ٣٢١ ، ومفاتيح الاصول : ٢١٧.

١٢١

والجواب عن الأوّل بمنع الملازمة كما تقدّم نظيره. وعن الثاني بأنّ ذلك بواسطة قرينة المقام. وللعامّة في مباحث العلوم العقليّة والنقليّة خرافات وهذيانات لا تحصى!

١٢٢

هداية

الأقوى ـ وفاقا لجمع كثير من أصحابنا ومخالفينا ـ أنّه لا مفهوم في العدد ، بل وادّعى بعضهم وفاق أصحابنا فيه (١). وحكي القول بالإثبات مطلقا (٢) ، ولم نعرف قائله. وفصّل جماعة منهم الآمدي في ذلك ، فقال ـ على ما حكي عنه ـ : إنّ الحكم إذا قيّد بعدد مخصوص ، فمنه ما يدلّ على ثبوت ذلك الحكم فيما زاد على ذلك العدد بطريق أولى كما لو حرم الله جلد الزاني بمائة ، وقال : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا » ومنه ما لا يدلّ على ثبوت الحكم فيما زاد عليه بطريق أولى ، وذلك كما إذا أوجب جلد الزاني بمائة أو أباحه ، فإنّه مسكوت عنه ، مختلف في دلالته على نفي الوجوب والإباحة فيما زاد ، متّفق على أنّ حكم ما نقص كحكم المائة لدخوله تحتها لكن يمنع الاقتصار (٣). فاختار في الأوّل الدلالة وفي الثاني العدم.

وفصّل بعضهم (٤) بين ما وقع جوابا عن المقيّد كأن يقول : « نعم » في جواب هل اجلد الزاني ثمانين؟ فلا يفيد ؛ لظهور كون الفائدة فيه غير المفهوم ، وبين ما إذا وقع جوابا عن المطلق فمع عدم ظهور فائدة غير المفهوم فانّه لا بدّ من حمله على المفهوم ، لئلاّ يلزم العراء عنها.

__________________

(١) ادّعاه المحقّق الكلباسي في الإشارات ، الورقة : ٣٥٤.

(٢) حكاه المحقّق النراقي في المناهج : ١٣١ ، بلفظ : وقيل حجة مطلقا.

(٣) الإحكام في اصول الأحكام ٣ : ١٠٣.

(٤) نسبه المحقّق الكلباسي في الإشارات إلى بعض الأواخر.

١٢٣

والظاهر أنّ شيئا من القولين ليس بتفصيل في المقام.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ البحث في المقام إنّما هو في أنّ التقييد بالعدد الخاصّ هل يستلزم نفي الحكم عمّا فوقه وعمّا دونه أو لا؟ وما حكم فيه بالدلالة لا ربط له بهذه المسألة ، بل اختار مشاركة الفوق لما تحته بمفهوم الموافقة في تلك الموارد.

وما اختار فيه العدم إن حملناه على عدم الدلالة على المشاركة بقرينة الإثبات فعدم كونه مرتبطا بالمقام ظاهر ، وإلاّ كان من النافين مطلقا ، حيث إنّ اختياره الدلالة على المشاركة لا ينافي عدم الدلالة على النفي بل يؤكّده.

وأمّا الثاني ؛ فعدم كونه تفصيلا ظاهر.

لنا على ما صرنا إليه : ما تقدّم من انتفاء الدلالات الثلاث.

احتجّوا بالعراء عن الفائدة لولاه ، و (١) بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لأزيدنّ على السبعين » (٢) بعد نزول قوله تعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ )(٣) وبلزوم تحصيل الحاصل لو كان الحكم ثابتا لما دون وما زاد ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « طهور إنائكم إذا ولغ الكلب فيه أن تغسله سبعا » (٤) يدلّ على حصوله بها خاصّة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبما مرّ مرارا.

وعن الثاني : فبعدم صحّة الرواية ، كما يؤيّده سياق الآية ، فإنّ الظاهر أنّها واردة في مقام الكناية عن الكثرة ، إذ الظاهر أنّ كلمة « إن » لا تفيد السببية ، إذ لا يعقل أن يكون عدم المغفرة مسبّبا عن الاستغفار ولو مرّة ، بل الظاهر أنّها

__________________

(١) كلمة « و » من ( ع ).

(٢) مجمع البيان ٣ : ٥٥.

(٣) التوبة : ٨٠.

(٤) المستدرك ٢ : ٦٠٢ ، الباب ٤٥ من أبواب النجاسات.

١٢٤

هي الوصليّة. ومع ذلك يبعد صدور هذا الكلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو سلّم صحّتها فلا تفيد في المقام ، كما لا يخفى.

واجيب (١) أيضا : بأنّ ذلك بواسطة مفهوم الشرط ، وهو ممّا لا محصّل له ؛ لأنّ قضيّة ذلك حصول المغفرة عند عدم الاستغفار مطلقا لو لم نقل بمفهوم العدد ، كما لا يخفى.

وأمّا عن الثالث : فبأنّ ذلك إنّما يتمّ إذ وقع العدد في مقام التحديد كما في الرواية ، وهو خارج عن المتنازع فيه. ثمّ على تقدير وروده في مقام التحديد فالملازمة إنّما تتم على تقدير امتناع التخيير بين الأقلّ والأكثر.

وممّا ذكر يظهر فساد القول الرابع أيضا على تقدير كونه من أقوال المسألة ، ولا حاجة إلى الإطالة.

تذنيب :

العدد المأخوذ في متعلّق الحكم إمّا يعلم بكونه مأخوذا لا بشرط الزيادة أو النقيصة ، أو يعلم بكونه مأخوذا بشرط عدم النقيصة والزيادة معا ، أو بشرط عدم الزيادة فقط ، أو النقيصة فقط ، أو لا يعلم شيء منها.

وعلى الأخير فلا بدّ من إجراء أحكام ما علم كونه مأخوذا لا بشرط ، إذ اللفظ إنّما هو كاشف عن العدد المعيّن ولا يدلّ على شيء آخر سواه ، فلا داعي على اعتباره.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون الحكم وجوديّا كما إذا قيل : يجب صوم ثلاثين يوما ، وإمّا أن يكون عدميّا كما إذا قيل : يحرم جلد الزاني مائة. فعلى الأوّل

__________________

(١) أجاب بذلك السيّد المجاهد في المفاتيح : ٢١٦ ـ ٢١٧.

١٢٥

يدلّ على وجوب صوم كلّ يوم من الثلاثين تبعا ، وهل يدلّ على وجوبه أصالة أيضا؟ الظاهر العدم إذا لم يعلم تعدّد التكاليف ، ولا يدلّ على وجوب الزائد وهو ظاهر ، ولا ينافيه أيضا نظرا إلى عدم المفهوم كما عرفت. وعلى الثاني فيدلّ على حرمة الزائد بالأولويّة.

وإذا اخذ بشرط عدم الزيادة والنقيصة : ففي الوجودي يجب الجميع تبعا ، فإن زاد عليه أو نقص لم يمتثل ؛ لعدم الإتيان بالمأمور به. وفي العدمي لا يحرم في الناقص قطعا ، وفي الزائد فإن لم يكن تدريجا فلا يحرم أيضا ، وإن كان تدريجا ففي تحريم ما وصل إلى مرتبة ذلك العدد المعيّن وعدمه وجهان مبنيّان على تشخيص ذلك بالقصد وعدمه.

وإذا اخذ بشرط عدم الزيادة فقط فلا حرمة ولا وجوب فيما زاد عليه إذا كان دفعيّا ، وفي التدريجي فالوجهان فيهما. وفيما دونه أيضا لا حرمة ولا وجوب ، أمّا أصالة فظاهر بناء على عدم تعدّد التكليف ، وأما تبعا ففي العدمي ظاهر ، وأما في الوجودي فلأنّ اتّصافه بالوجوب التبعي إنّما هو بعد قصد الكلّ ، فلو قصده كان واجبا كما في سائر المقدّمات على ما حقّقناه في مقامه ، وإلاّ فلا.

وإذا اخذ بشرط عدم النقيصة فقط ففي العدمي لا حرمة إلاّ بعد التمام ، ويدلّ على حرمة الزائد بالإطلاق ، ويحتمل الأولويّة أيضا. وفي الوجودي لا وجوب إلاّ في التمام أصالة ، وتبعا قد عرفت الوجه فيه. وأمّا وجوب الزائد فلا دلالة في اللفظ عليه نفيا وإثباتا ، إلاّ أنّه لو زاد على العدد يحكم بالامتثال نظرا إلى الإطلاق. وما ذكرنا ظاهر جدّا ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

١٢٦

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في العموم والخصوص

١٢٧
١٢٨

واعلم أنّ صرف الوقت في تزييف ما ذكروه في الحدود الواردة للعامّ وبعض المسائل المتعلّقة بالعموم ـ مثل إفادة المعرّف بـ « اللام » العموم وأمثال ذلك ـ ممّا لا وجه ؛ لوجود ما هو الأهمّ منها ، فالأولى أن نتعرّض لما هو المفيد في المباحث الفقهيّة أو ما هو كاللازم في المباحث في طيّ هدايات :

١٢٩
١٣٠

هداية

إذا خصّص العامّ بأمر معلوم مفهوما ومصداقا ، فلا ينبغي الإشكال في حجيّة العامّ في الباقي ، وليس ممّا يتطرّق عليه الاشتباه كما عليه المشهور ، بل ولم يظهر من أصحابنا فيه خلاف ، وإنّما نسب الخلاف إلى بعض العامّة كأبي ثور (١).

وذهب جماعة ـ منهم البلخي على ما حكي (٢) ـ إلى التفصيل بين المخصّص المتّصل ـ كالوصف والغاية وبدل البعض والاستثناء ، على تأمّل فيه ـ فقال بالحجّيّة ، وبين المنفصل فقال بعدمها.

لنا : ظهور العامّ في الباقي بعد التخصيص على وجه لا يشوبه شائبة الإنكار في العرف. ويشهد له انقطاع عذر العبد المأمور بإكرام العلماء إلاّ زيدا عند عدم الامتثال به كما هو ظاهر ، ولا نعني بالحجيّة في المقام إلاّ ذلك ، ويظهر بالرجوع إلى الوجدان الخالي عن الاعتساف. ويزيد ظهورا بملاحظة الاحتجاجات الواردة في كلمات الأئمّة وأرباب العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل اللسان والعلماء في موارد جمّة ، على وجه لا يمكن إنكاره ، بل ولولاه لا نسدّ باب الاجتهاد ؛ فإنّ رحى الاجتهاد تدور على العمل بالعمومات ، مع أنّ من السائر في الأفواه « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » ومن هنا قيل : إنّ العام المخصّص أقوى ظهورا من غيره ؛ لكونه مظنّة له (٣).

__________________

(١) انظر الإحكام في أصول الأحكام ٢ : ٢٥٢ ، والمختصر وشرحه : ٢٢٤.

(٢) حكاه الآمدي في الإحكام ٢ : ٢٥٢ ، وانظر المختصر وشرحه للعضدي : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٣) لم نعثر عليه.

١٣١

واحتجّ النافي : بأنّ الباقي بعد التخصيص مرتبة من مراتب المجاز ، وهي متساوية ، فتعيّن الباقي دون غيره ترجيح من غير مرجّح.

فاجيب عنه : بأنّ المرجّح هو أقربية الباقي لمدلول العامّ.

فإن اريد من الأقربيّة ما هي معتبرة في الترجيح فلا نسلّم تحقّقها ، إذ الأقربيّة المعتبرة ما تكون منوطة بغلبة استعمال اللفظ بعد صرفه عن الحقيقة ، مثل استعمال الأسد في الشجاع لا في الأبخر مثلا ، ولا سبيل إلى إثبات غلبة استعمال العامّ المخصّص في الباقي ، إذ المراد مصداق الباقي وهو مختلف جدّا ، فلا يتحقّق غلبة كما لا يخفى. وإن اريد غيرها فلا يكفي في الترجيح.

والأولى أن يجاب ـ بعد تسليم مجازيّة الباقي ـ بأنّ دلالة العامّ على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ولو كانت دلالة مجازيّة ، إذ هي إنّما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ؛ لأنّ المانع في مثل المقام إنّما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقي ، لاختصاص المخصّص بغيره ، فلو شكّ فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حدّ سائر المجازات حتى يحتاج إلى معيّن آخر بعد الصرف مع تعدّدها ، فإنّ الباقي متعيّن على حسب تعيّن الجميع عند عدم المخصّص مطلقا.

وممّا ذكرنا يظهر سرّ الظهور العرفي ، فلا يرد ما قد يتوهّم : من أنّه لا وجه له ؛ إذ على تقدير المجازيّة لا وضع حتى يستند إليه والمفروض أيضا عدم القرينة ، وعلى تقدير عدمها فالحقائق متعدّدة أيضا ، فالوجه هو الإجمال. وتوضيح الدفع هو ما ذكرنا من عدم إناطة دلالة العامّ على فرد على دلالته على فرد آخر بالوضع ، وعدم إرادة فرد ـ سواء كان بعد ذلك حقيقة أو مجازا ـ لا يوجب عدم دلالة العامّ

١٣٢

على الأفراد الباقية بالوضع ، وحيث لا صارف فيحمل عليه اللفظ ، على ما هو المعتاد في حمل اللفظ بعد ثبوت الدلالة وعدم الصارف.

ويمكن أن يحتجّ للمفصّل : بأنّ للعامّ عند اتّصال المخصّص به ظهورا ثانويا في الباقي ، بخلافه عند انفصاله.

لا يقال : لا وجه لذلك ، إذ لا نجد فرقا في المقامين ، فدعوى الظهور في المتّصل دون غيره ممّا لا شاهد لها ؛ لأنّا نقول : الفرق بينهما في غاية الظهور ، ويرشدك ملاحظة ما قيل في المجاز المشهور : من أنّ إرادة المعنى العاري عن القرينة اعتمادا على القرائن المنفصلة ربّما يوجب إجمال اللفظ الموجب للتوقّف ، بخلاف ما إذا اقترنت القرينة باللفظ ، فإنّه لا يكاد يصل إلى حدّ الإجمال وإن بلغ الاستعمال ما بلغ ، فانفصال المخصّص ربما يوجب وهنا في الظهور بخلاف المتّصل ، ومن هنا قال بعضهم بجواز تخصيص الأكثر في المتّصل دون غيره (١) وستعرف وجها آخر في الفرق في ما سيأتي إن شاء الله.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه ليس الفرق بمثابة لا يمكن القول بالبيان والاعتبار عند الانفصال ، نظرا إلى ما قلنا : من أنّ مقتضى الحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، وإمكان الإجمال في صورة الانفصال لا يقضي به ، كما هو ظاهر في القرائن المنفصلة في سائر المجازات. وبالجملة ، فلا إشكال في ذلك ، فلا بدّ من صرف الكلام إلى ما هو أهمّ. والله الهادي.

__________________

(١) قاله ابن الحاجب ، انظر المختصر وشرحه : ٢٤٩.

١٣٣
١٣٤

هداية

الحقّ عدم صحّة التعويل على العامّ عند عروض الاشتباه في أفراد المخصّص إذا فرض له عنوان مع انتفاء أصل يوجب تعيين ذلك المشتبه في مقام الظاهر.

خلافا لما يظهر من جماعة من الأخباريّة (١) ، حيث إنّهم يتمسّكون في موارد الاستصحابات الموضوعيّة بعموم الدليل مع إنكارهم الاستصحاب فيها أيضا ، وقد أشرنا إليه في محلّه (٢).

وهذا منهم ليس بعجيب وإنّما العجب من الشهيد الثاني ؛ حيث إنّه قال على ما حكي : والمرأة لا تقتل بالارتداد ، وكذا الخنثى ؛ للشكّ في ذكوريّته المسلّطة على قتله ، ويحتمل أن يلحقه حكم الرجل ؛ لعموم قوله : « من بدّل دينه فاقتلوه » (٣) خرج منه المرأة ويبقى الباقي داخلا في العموم ؛ إذ لا نصّ على الخنثى بخصوصه (٤) ، انتهى.

وستعرف وجها يمكن تصحيحه ، مضافا إلى احتمال كون الشبهة حكميّة على تقدير إمكان الواسطة بين النوعين ، فيكون من جزئيّات الهداية السابقة.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) انظر الفرائد ٣ : ٤٥.

(٣) المستدرك ١٨ : ١٦٣ ، الباب الأوّل من حدّ المرتدّ ، الحديث ٢.

(٤) الروضة البهيّة ٤ : ١٦١.

١٣٥

وكيف كان ، فلنا في المقام دعويان :

إحداهما : التعويل عند وجود أصل رافع للاشتباه ، كما إذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » وشكّ في زيد العالم أنّه هل هو فاسق بعد العلم بعدالته سابقا أو لا؟ فاستصحاب العدالة يوجب تحكيم العامّ في المورد المشكوك ، كما أنّ استصحاب الفسق في مورده يوجب تحكيم عنوان التخصيص. وكذا إذا قيل : « أكرم عدول العلماء » وشكّ في زيد العالم في عدالته ، فبأصالة عدم حصول الملكة له يحكم بعدم وجوب إكرامه ، ولا إشكال في ذلك على ما قرّرنا في محلّه.

الثانية : عدم صحّة التمسّك بالعامّ في مورد الاشتباه عند انتفاء أصل موضوعي.

والذي يدلّ عليه : أنّ المقصود من الاستدلال بدليل والداعي إليه إنّما هو رفع الشكّ الذي أوجب النظر والفحص ، إذ مع عدمه بعد الالتفات لا حاجة إلى الاستدلال قطعا والشكّ في المقام ممّا لا نعقل رفعه بالتمسّك بالعامّ.

وتوضيحه : أنّ منشأ الشكّ في الشبهة الموضوعيّة هو التردّد في الأمور الخارجيّة التي لا مدخل لإرادة المتكلّم فيها بوجه ، بل ذلك التردّد والاشتباه كثيرا ما يقع للمتكلّم أيضا ، بل قد يقطع المتكلّم بخلاف ما هو الواقع في المصاديق أيضا ، فمن حاول رفع هذه الشبهة فلا بدّ من رجوعه إلى ما هو المعدّ في الواقع لإزالة هذه الشكوك والشبهات من اختبار وتجربة وإحساس ونحوها ، وما يمكن رفعه بالرجوع إلى العام هو الشكّ في مراد المتكلّم على وجه لو صرّح بمراده بعد الرجوع إليه لم يقع الشكّ فيه ، ففيما إذا شكّ في أنّ زيدا عادل لو راجعنا المتكلّم أيضا لا يرتفع الشكّ المذكور من حيث هو متكلّم ، فلا وجه لتحكيم العامّ في مورد

١٣٦

الشكّ كيف! ونسبة المشكوك إلى العنوانين نسبة واحدة ، فالتزام دخوله في أحدهما من غير أن يكون ذلك مستفادا من أصل أو دليل ترجيح بلا مرجّح.

وبالجملة ، فالمتكلّم والمخاطب سيّان في هذه الشبهة ، لثبوتها مع قطع النظر عن المتكلّم وإن كان قد يوجب التفاتا إليها أيضا ، ولا يلزم على المتكلّم قبح عند التكلّم بالعامّ مع شكّ المخاطب في مصاديق العنوانين من حيث هو متكلّم من جهة إقامته بما هو الوظيفة في المتعارف من التعبير بما هو الكاشف عن مراده من دون قصور فيه ولا تقصير. ولعلّ ذلك أمر ظاهر لا سترة فيه.

ويمكن أن يحتجّ للخصم تارة بالاستصحاب فيما لو عمل بالعامّ في المشكوك بواسطة القطع باندراجه ثم طرأ الشكّ فيه.

وفيه : أنّ ذلك ـ بعد الإغماض عن كونه رجوعا عن التمسّك بالعامّ إلى التعويل على الاستصحاب وعدم نهوضه للشكوك البدوية ـ ممّا لا يجدي ؛ لارتفاع الحكم بعد ارتفاع القطع ؛ لكونه دائرا مداره ، كما نبّهنا على عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام في محلّه.

واخرى بأنّ الظاهر من عنوان العامّ والمخصّص أن يكون الأوّل مقتضيا والثاني مانعا عن الحكم ، ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشكّ في وجود المانع بعد إحراز المقتضي ، والأصل عدمه ، فلا بدّ من الحكم بوجود المقتضي.

وفيه أوّلا : أنّا لا نسلّم أنّ الظاهر من العنوانين أن يكون العامّ مقتضيا والخاصّ مانعا ، فإنّ قضيّة التخصيص لا تزيد على صرف الحكم عن الأفراد المخصّصة وتخصيصه بالأفراد الباقية من غير إشعار بأنّ العلم هو المقتضي والفسق هو المانع ، لكونه أعمّ من أن يكون العامّ مقتضيا والآخر مانعا كما هو مطلوب المستدلّ ، أو أن يكون عنوان العامّ هو الجزء الآخر للعلّة التامّة بالنسبة إلى الحكم ويكون عنوان المخصّص كاشفا عن عدم شرط في بعض أفراده.

١٣٧

وبالجملة ، فلا دليل على التزام كون العامّ مقتضيا والمخصّص مانعا.

فإن قلت : الظاهر من القضايا الغير المعلّلة بعلّة عند عدم استنادها إلى عللها الواقعيّة (١) أن يكون الموضوع هو العلّة في ثبوت المحمول أو ما هو ثابت في مورده قطعا ، وإلاّ لزم أن يكون كلّ شيء صالحا لأن يحكم عليه بكلّ شيء ، وهو ضروريّ الفساد ، ولذلك لا حاجة إلى إحراز أمر آخر في ترتيب الحكم بعد إحراز ما جعل موضوعا في القضيّة ، فإذا قيل : « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » نعلم أنّ علّة وجوب الإكرام إنّما هو العلم الغير الجامع للفسق ، ولا شكّ أنّ العلم حينئذ يكون مقتضيا كما هو مأخوذ في عنوان العامّ والفسق مانعا كما هو مقرّر في المخصّص.

لا يقال : فيلزم القول باعتبار مفهوم الوصف واللقب وأضرابهما كما هو قضيّة العلّيّة المدّعاة في المقام.

لأنّا نقول : إنّما يلزم لو قلنا بأنّ الظاهر انحصار العلّة ليلزم من ارتفاعه ارتفاع سنخ الحكم ولا نقول به ، بل المقصود إثبات الاطّراد في الوجود فقط ، فإنّ ذلك يكفي فيما نحن فيه وإن أمكن ثبوت الحكم في مورد آخر أيضا ، فلا يلزم محذور.

قلت : لا إشكال في أنّه بعد إحراز ما هو الموضوع في القضية يلزم ترتيب الحكم عليه ولا حاجة معه إلى أمر آخر ، بل يكفي فيه ذلك ولو فرض ارتفاع جميع الموجودات أو وجود جميع المعدومات كما هو قضيّة الإطلاق ، لكن ذلك لازمه القول بأنّ العلّة في الحكم أو في العلم به (٢) عنوان العامّ مع انتفاء عنوان

__________________

(١) في ( ع ) : « عند عدم العلم باستنادها إلى العلل الواقعيّة ».

(٢) في ( ع ) زيادة كلمة غير واضحة لعلّها : هو.

١٣٨

المخصّص ولا حاجة إلى إحراز أمر آخر في الحكم المذكور ، ولا دلالة فيه بوجه على تعيين المقتضي والمانع كما هو المقصود. لا يقال : لا نعني بالمقتضي إلاّ الأمر الوجودي المؤثّر في وجود المعلول ، وبالمانع إلاّ ما يكون عدمه معتبرا في الوجود ، ولا شكّ في صدق ذلك على العنوانين كما عرفت بأنّ العلّة هو العلم مع انتفاء الفسق.

لأنّا نقول : ما ذكر ليس مستفادا من ظاهر الدليل وإنّما هو أمر يمكن اعتباره كذلك ، كما يمكن اعتباره بوجه آخر أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة ، فمن الجائز أن يكون الأفراد الباقية مشتملة على علّة الحكم بعناوينها الخاصّة ، بخلاف الفرد المخرج ، لارتفاع بعض أجزاء العلّة فيها ، ويكون الداعي إلى التعبير على الوجه المذكور هو تعذّر إحصاء الأفراد الباقية بعناوينها أو غيرها ، وحينئذ لا دلالة على المطلوب بوجه كما في قولك : « أكرم أهل هذه البلدة إلاّ اليهود » مثلا ، بل قد يقال : إنّ العام بعد تخصيصه بالمنفصل يصير كالدليل اللبّي وينهدم أساس عنوان الموضوع ، فإنّه حينئذ ذوات الأشخاص الباقية كما إذا قيل مشيرا إليها : « أكرم هؤلاء » ومشيرا إلى الأفراد الخارجة : « لا تكرم هؤلاء ».

إلاّ أنّ ذلك خلاف الإنصاف ، لظهور الفرق بين الإشارة وعنواني العامّ والمخصّص ، فإنّ للعالميّة مدخلا في الحكم جزما ، لارتفاع الحكم فيما لو انقلب جاهلا ، بخلافه في صورة الإشارة.

ثمّ إنّ الدعوى المذكورة ممّا لا سبيل إليها في مثل قولك : « لا يجب إكرام الناس إلاّ العالم » من الأحكام السلبيّة ، إلاّ أنّه لا بد من التأويل فيها بعد ذلك أيضا.

١٣٩

وثانيا (١) : سلّمنا كون العامّ مقتضيا والمخصّص مانعا ، إلاّ أنّه لا بدّ من إحراز عدم المانع بدليل ، ومجرّد الشكّ في وجود المانع مع قطع النظر عن الحالة السابقة لا يقتضي الحكم بالعدم ، وأمّا الحالة السابقة فليست معلومة في المقام حتّى يؤخذ بها.

وتوضيح ذلك : أنّ عدم الفسق المفروض وجوده مانعا قد يكون معلوما قبل زمان الشكّ كما إذا كان زيد المشكوك دخوله في العنوانين معلوم العدالة في السابق ، وقد لا يكون كما إذا كان الشكّ في فسقه ابتداء.

فعلى الأوّل : لا حاجة إلى تجشّم إثبات كون العام مقتضيا والمخصّص مانعا ، لكفاية الأصل الموضوعي عن ذلك. وعلى الثاني : لا يجدي إثبات كونه مانعا أيضا ، لعدم ما يقضي بعدمه في الواقع من الدليل أو في الظاهر من الأصل.

لا يقال : إنّ المانع إذا كان مشكوكا فالأصل فيه العدم ، سواء كان مسبوقا بالحالة السابقة أو لم يكن. ويكفي في ذلك احتجاج المحقّق في الاستصحاب بعد إحراز المقتضي : بأنّ احتمال وجود المانع معارض باحتمال عدمه (٢) ، فإنّ ذلك لا وجه له إلاّ على تقدير عدم الاعتناء بوجود المانع بمجرّد الشكّ فيه.

لأنّا نقول : لا دليل على كفاية الشكّ في وجود المانع في الحكم بعدمه ، لا عقلا لعدم استقلاله به ، ولا نقلا لعدم اندراجه تحت قاعدة من القواعد الشرعيّة. وأمّا احتجاج المحقّق فقد نبّهنا على ما فيه في محلّه.

وربّما يتوهّم الفرق في المقام بين ما كان الأفراد الباقية والخارجة معلومة الأعداد والأشخاص ـ كأن يكون العدول مثلا عشرة والفسّاق أيضا عشرة فاشتبه

__________________

(١) عطف على قوله : وفيه أوّلا في صفحة : ١٣٧.

(٢) معارج الاصول : ٢٠٧.

١٤٠