أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

وهذا بخلاف ما نحن فيه فإنّه عند الاتيان بالوضوء لم يأت به بعنوان التجديد ، بل إنّما أتى به بعنوان الاحتياط وبداعي احتمال الأمر التجديدي ، فهذا الوضوء الاحتياطي لا يكون رافعاً لأنّه على تقدير أنّه في الواقع محدث لا يكون وضوءه إلاّ هدراً.

وفيه تأمّل ، فإنّه لا عيب فيه سوى أنّه لم يصادف الواقع من الأمر التجديدي ، وهذا بعينه متحقّق فيما لو قصد التجديد معتقداً أنّه متوضّئ وصادف في الواقع أنّه لم يكن متوضّئاً ، ولا فرق بينهما إلاّ أنّ ذلك حينما أتى بالوضوء كان قد أتى به بعنوان التجديد ، وهذا عندما أتى به إنّما أتى به بعنوان احتمال التجديد ، وهذا المقدار من الفرق لا يغيّر الواقع من أنّه وضوء بداعي الأمر التجديدي مع مصادفة أنّه لم يكن مأموراً بالتجديد بل كان مأموراً بالوضوء الرافع.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الجزم بنيّة التجديد له دخل في كونه رافعاً. ولكن لا دليل على اعتبار قصد الجزم في رافعية الوضوء التجديدي.

ولا يخفى أنّا لو قلنا في هذا الفرع بتعارض الاستصحابين من جهة الاحرازية وتساقطهما ، يكون المرجع في الأعضاء قاعدة الطهارة وفي الوضوء أصالة البراءة من حرمة مسّ المصحف ، ولا مانع من الجمع بينهما ، إذ لا يلزم منه المخالفة القطعية لجواز كون ذلك المائع ماءً فيكون وضوءه صحيحاً وأعضاؤه طاهرة ، فلا يحرم عليه مسّ المصحف ولا يجب عليه تطهير أعضائه. نعم بالنسبة إلى ما يكون الوضوء شرطاً فيه كالصلاة يلزمه إحراز الشرط وهو الوضوء.

لا يقال : إنّ ما ذكرتموه من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في الأعضاء ممنوع لسقوطها بسقوط استصحاب طهارة الأعضاء بناءً على مسلك الأُستاذ قدس‌سره من سقوطها بسقوطه.

٥٤١

لأنّا نقول : إنّ ما أفاده قدس‌سره في ذلك لا يتأتّى في هذا الفرع ، لأنّ سقوط استصحاب الطهارة بمعارضته لاستصحاب الحدث إنّما كان من جهة الاحرازية ، وهذه الجهة لا تجري في قاعدة الطهارة كي تكون ساقطة بسقوط استصحاب الطهارة. ولو أُغضي النظر عن ذلك أمكننا أن نقول إنّ المرجع هو قاعدة الطهارة في ذلك المائع ، فإنّها وإن لم تنفع في صحّة الوضوء لتوقّف صحّته على إحراز الاطلاق ، إلاّ أنّها نافعة في الحكم بطهارة الأعضاء ، بل إنّ قاعدة الطهارة في ذلك المائع حاكمة على استصحاب طهارة الأعضاء وعلى قاعدة الطهارة فيها ، بل في الحقيقة تقع المقابلة بين استصحاب الحدث وقاعدة الطهارة في ذلك المائع ولو باعتبار عدم تنجيس ملاقيه الذي هو الأعضاء ، وهذان الأصلان وإن علم بمخالفة أحدهما للواقع إلاّ أنّه لا مانع من الجمع بينهما ، لعدم كونهما معاً إحرازيين ، وعدم لزوم المخالفة القطعية منهما ، ولكن مع هذا كلّه يعود الإشكال في أنّه يلزمه الوضوء وهو يعلم بأنّ هذا الوضوء غير مأمور به ، لأنّه إمّا على وضوء أو على أعضاء نجسة ، لكن شيخنا قدس‌سره لا يعتني بهذا العلم بعد فرض أنّ الأُصول قاضية بالوظيفة المذكورة ، كما جرى عليه في كثير من مباحث الخلل خصوصاً فروع الخاتمة من العروة فراجع ، ولكن الإشكال وارد ولا مدفع له.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لمّا لزمه الوضوء فقد لزمه إيجاده على النحو المطلوب ، وهو لا يكون في هذا المقام إلاّبتطهير أعضائه وإن كانت هي في المقام مجرى لقاعدة الطهارة ، أو هي مجرى لاستصحاب الطهارة بناءً على جريان كلّ من استصحاب الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء ، أو نقول إنّه يلزمه الحدث الأصغر وحينئذ يتسنّى له أن يتوضّأ ، فتأمّل.

وأمّا ما ذكرناه من الوضوء التجديدي ، ففيه أنّه يعلم بأنّه غير مسوّغ

٥٤٢

للدخول في الصلاة لعدم كونه سبباً في تحصيل الطهارة من الحدث ، لأنّ ذلك المائع إن كان ماءً كان المحصّل للطهارة من الحدث والمسوّغ للدخول في الصلاة هو الوضوء الأوّل ، وإن كان ذلك المائع بولاً لم يكن شيء من الوضوءين محصّلاً للطهارة ومسوّغاً للدخول في الصلاة ، فلاحظ وتأمّل. وقد تعرّضنا لهذا الفرع ونحوه في أصالة الاشتغال عند الكلام على ما أفاده شيخنا قدس‌سره في سقوط قاعدة الطهارة بسقوط استصحابها في الحاشية الأُولى على ص ١٦ فراجع قبل قوله بقي التنبيه على أُمور (١) ، وراجع ما ذكرناه في الاستصحاب الكلّي على ص ١٥٦ (٢).

قوله : والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال : إنّه تارةً يلزم من التعبّد بمؤدّى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤدّيان إليه ، لأنّهما يتّفقان على نفي ما يعلم تفصيلاً ثبوته أو على ثبوت ما يعلم تفصيلاً نفيه ، كما في استصحاب نجاسة الاناءين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته فإنّ الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلاً من طهارة أحدهما أو نجاسته ... الخ (٣).

أفاد قدس‌سره فيما حرّرته عنه : أنّ العلم الاجمالي بخلاف الحالة السابقة وانتقاضها في أحد الطرفين إن رجع إلى العلم التفصيلي بخلاف ما يتعبّد به في الأصلين ، كما في العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين فيما كانا مسبوقين

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة ٥١٨ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد التاسع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٨٧ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٦٩٤.

٥٤٣

بالطهارة ، وكما في العلم الاجمالي بطهارة أحد الاناءين المسبوقين بالنجاسة ، لم يكن لإجراء الأصلين مجال ، لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري حينئذ ، فإنّ العلم التفصيلي بطهارة أحد الاناءين يمنع من التعبّد ببقاء نجاسة كلّ منهما ، وكذلك العلم التفصيلي بنجاسة أحدهما يمنع من التعبّد بطهارة كلّ منهما ، وهكذا الحال في مورد العلم الاجمالي بحرمة أحد الأمرين أو العلم الاجمالي بوجوب أحدهما ، فإنّه ينحلّ إلى العلم التفصيلي بأنّ الحكم الواقعي هو الحرمة في الأوّل والوجوب في الثاني ، ومع هذا العلم التفصيلي لا يمكن التعبّد با باحة كلّ منهما كما هو مؤدّى الأصلين ، بل لو علم إجمالاً حرمة أحد الأمرين أو وجوب الآخر ، فإنّه ينحلّ إلى العلم التفصيلي بأنّ الحكم الواقعي هو الالزام ، ومعه لا يمكن الحكم التعبّدي با باحة كلّ منهما.

أمّا إذا لم يرجع العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي ، فلا مانع من جريان الأصلين معاً ، إلاّ أن يكون هناك إجماع على عدم جريانهما كما في المتمِّم والمتمَّم ، وإلاّ فلا مانع من إجراء الأصلين كما في مثل استصحاب الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء ، وكما في مثل استصحاب عدم نبات اللحية واستصحاب الحياة ، إذ لا يرجع هذا العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بخلاف ما يتعبّد به في كلا الأصلين كي لا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، ولا إجماع على عدم جريان الأصلين المزبورين ، فأيّ مانع يمنع من جريانهما.

فإن قلت : إنّا نعلم تفصيلاً أنّ التعبّد ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء معاً مخالف للواقع ، وهكذا التعبّد ببقاء الحياة وعدم نبات اللحية ، فإنّا نعلم تفصيلاً بمخالفته للواقع ، فلا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة.

قلنا : إنّ مرتبة الحكم الظاهري إنّما لا تكون محفوظة إذا حصل العلم

٥٤٤

التفصيلي بخلاف ما يتعبّد به الذي هو مؤدّى للأصلين ، أمّا إذا حصل العلم بخلاف نفس التعبّد بالأصلين ، ولم يكن خلاف ما يتعبّد به فيهما معلوماً تفصيلاً ، فلا مانع من جريانهما ، غايته أنّه يعلم تفصيلاً بعدم مطابقة التعبّدين للواقع ، للملازمة بين بقاء الحياة ونبات اللحية ، فيكون التعبّد بعدم نبات اللحية وبقاء الحياة موجباً للتفكيك بين المتلازمين ، وهذا إنّما يمنع من جريان الأصلين إذا قلنا بحجّية الأصل المثبت ، لأنّ مقتضى التعبّد ببقاء الحياة حينئذ هو الحكم بنبات اللحية ، ومقتضى التعبّد بعدم نباتها هو الحكم بعدم بقاء الحياة ، فيكون كلّ واحد من الأصلين منافياً لما يقتضيه الآخر ، فلا يمكن إجراؤهما معاً.

أمّا إذا قلنا ـ كما هو المختار ـ بأنّ الأصل لا يكون مثبتاً ، فلا يكون مقتضى أحد الأصلين منافياً لمقتضى الأصل الآخر ، فإنّ التعبّد ببقاء الحياة لا يترتّب عليه الحكم بنبات اللحية ، والتعبّد ببقاء عدم نباتها لا يترتّب عليه الحكم بعدم بقاء الحياة. وهكذا الحال في المثال المتقدّم ، فإنّ التعبّد ببقاء الحدث لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة الأعضاء ، والتعبّد ببقاء طهارة الأعضاء لا يترتّب عليه الحكم بارتفاع الحدث ، فلا يكون في البين مانع من جريان كلا الأصلين.

قلت : والأولى أن يقال : إنّ المانع هو العلم التفصيلي بخلاف الأصلين ، وفي هذه الأمثلة لم يكن علم تفصيلي على خلاف التعبّد بالأصلين ، كما أنّه لم يكن فيها علم تفصيلي على خلاف ما يتعبّد به. وهذا أولى ممّا يظهر منه قدس‌سره من حصر المانع بكون العلم التفصيلي على خلاف ما يتعبّد به ، وتسليم حصول العلم التفصيلي في هذه الأمثلة على خلاف نفس التعبّد ودعوى كونه غير مانع ، فتأمّل.

والذي يتلخّص من الفرق هو أنّ طرفي العلم الاجمالي إن كان بينهما قدر جامع يكون هو المعلوم التفصيلي ، لم يمكن جريان الأصل في كلّ واحد من

٥٤٥

الطرفين ، وإلاّ كان الأصل جارياً في كلّ منهما.

ويمكن تطرّق المناقشة في ذلك بما تقدّم في مباحث الاشتغال وفي بعض مباحث القطع (١) ، ممّا يتعلّق بانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري ، بما حاصله أنّ الأصل إنّما يجري في كلّ واحد منهما على حياله وفي حدّ نفسه مع قطع النظر عن الطرف الآخر ، وحينئذ فلا يكون العلم التفصيلي بالقدر الجامع بين الطرفين مانعاً من جريان الأصل في كلّ واحد منهما بنفسه مع قطع النظر عن الآخر. نعم هذا العلم التفصيلي مانع من إجراء أصل واحد في مجموع الطرفين ، ولا دخل لذلك بجريانه في كلّ واحد منهما على انفراده ، فإنّ العلم التفصيلي بوجود الطاهر المردّد بين الاناءين لا يمنع إلاّمن الحكم بنجاستهما معاً بحكم واحد ، أمّا الحكم ببقاء نجاسة هذا الاناء والحكم الآخر ببقاء نجاسة الاناء الآخر فلا يكون ذلك العلم التفصيلي مانعاً منه ، نعم الجمع بين الأصلين لا يجتمع مع العلم التفصيلي المذكور ، لكنّه لو كان مانعاً لمنع من الأُصول غير الاحرازية أيضاً ، إذ لا يمكن أن يجتمع الحكم الظاهري مع العلم بالخلاف.

مضافاً إلى أنّ كلّ علم إجمالي لابدّ أن يرجع إلى علم تفصيلي بالقدر الجامع ، فلو كان العلم بذلك القدر الجامع مانعاً لمنع في جميع الموارد حتّى في مثل استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية ، فإنّ مرجع استصحاب الحياة إلى استصحاب عدم الموت ، فيكون الجمع بين إحراز عدم الموت وإحراز عدم نبات اللحية منافياً للعلم التفصيلي بحدوث أحدهما ، فيكون ذلك مانعاً من جريان الأصلين المذكورين ، ولا خصوصية لما إذا كان ذلك القدر الجامع أحد الأحكام الشرعية كنجاسة أحد الاناءين أو حرمة أحد الطرفين ، والسرّ في ذلك هو أنّ

__________________

(١) [ لم نجده في المبحثين المذكورين ].

٥٤٦

الجمع بين الأصلين ليس من الأحكام الشرعية ، وإنّما هو لازم جريان الأصل في هذا الطرف وجريانه في الطرف الآخر ، والأصل لا دخل له بإثبات اللوازم ، فلا يكون هذا العلم التفصيلي منافياً لنفس الأصل وإن كان منافياً للازمه وهو الجمع المذكور ، فتأمّل.

ثمّ إنّ من جملة القسم الأوّل الذي لا يجري فيه الاستصحابان على رأي شيخنا قدس‌سره مسألة الدوران بين كون المتروك ركناً أو غيره ممّا يقضى بعد الصلاة ، فإنّه قدس‌سره بعد إسقاطه لقاعدة الفراغ في الطرفين لأجل التعارض بينهما ، يوقع التعارض بين أصالة العدم في الركن وأصالة العدم في غير الركن ، ويكون المرجع بعد ذلك هو أصالة الاشتغال بالصلاة وأصالة البراءة من قضاء غير الركن ، وذلك من جهة أنّ الدوران بين كون المتروك ركناً أو غير ركن يرجع إلى العلم التفصيلي بتوجّه الخطاب إليه بأحد الأمرين من قضاء غير الركن وإعادة الصلاة. ومن ذلك ما لو دار الأمر بين حصول ما يرفع نجاسة الثوب أو موت زيد مثلاً ، فإنّه يرجع إلى القدر الجامع بين لزوم تطهير الثوب أو لزوم عدم قسمة ميراث زيد.

ومن القسم الثاني الذي يجري فيه الاستصحابان ، ما لو كان أحد الاناءين كرّاً والآخر قليلاً ثمّ حدث حادث مردّد بين نقصان الأوّل وبلوغ الثاني حدّ الكرّية فإنّه يجري فيه استصحاب الكرّية في الأوّل وعدمها في الثاني ، لعدم الرجوع إلى قدر جامع يكون هو المعلوم بالتفصيل.

ومن ذلك ما لو كان أحد الاناءين نجساً والآخر طاهراً وحدث حادث مردّد بين تطهير الأوّل وتنجّس الثاني ، فإنّ ذلك من قبيل المتمِّم والمتمَّم ، غير أنّه ليس في البين ذلك الإجماع القائم على عدم اختلاف الماء الواحد في الطهارة والنجاسة ، لأنّ المفروض تعدّد الاناءين ، وحينئذ يجري فيه الاستصحابان بلا

٥٤٧

مانع.

ومن ذلك ما لو تردّد الحادث الصادر من المكلّف بين الوضوء أو تنجيس ثوبه الطاهر ، فإنّهما لا يرجعان إلى قدر جامع ، وحينئذ يكون المرجع هو استصحاب الحدث واستصحاب طهارة الثوب ، وهو عين ما ذكره في مسألة من توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء. نعم لو دار الأمر بين الوضوء أو تطهير ثوبه النجس ، كانا راجعين إلى القدر الجامع وهو الالزام بأحد الأمرين من الوضوء أو تطهير الثوب ، فلا يمكن الرجوع إلى استصحاب الحدث واستصحاب نجاسة الثوب ، بل يتعارضان وبعد التساقط يكون المرجع في الوضوء هو لزوم إحراز الشرط ، وفي الثاني هو قاعدة الطهارة.

ومن ذلك ما لو صلّى وبعد الفراغ علم بأنّه كان مجنباً وشكّ في الغسل قبل الصلاة ، فإنّهم يقولون بأنّه تجري في حقّه قاعدة الفراغ بالنسبة إلى الصلاة السابقة واستصحاب بقاء الجنابة بالنسبة إلى الصلاة اللاحقة مع كونهما إحرازيين ، لكنّهما لا يرجعان إلى قدر جامع ، ولو كان أحدث بالأصغر بعد الصلاة السابقة وقع في محذور آخر ، وقد حرّرنا فيه رسالتين.

ولو دار الأمر بين الحدث وتنجيس الثوب ، لم يجر فيه استصحاب الطهارة من الحدث واستصحاب طهارة الثوب للمخالفة القطعية ، وبعد التساقط يكون المرجع هو لزوم إحراز الشرط وهو الوضوء ، ويرجع في الثوب إلى قاعدة الطهارة إذا لم نقل بسقوطها في مرتبة سقوط استصحاب الطهارة فيه كما هو رأي شيخنا قدس‌سره في مثل ذلك ، ومجرّد كونها غير إحرازية لا ينفع في توجيه عدم سقوطها ، لما عرفت من المخالفة القطعية الموجبة لسقوطها بسقوط استصحاب الطهارة.

٥٤٨

نعم ، لولا المخالفة القطعية لأمكن القول بأنّ التعارض بين استصحاب [ الطهارة من ] الحدث واستصحاب طهارة الثوب لا يوجب سقوط قاعدة الطهارة فيه ، لأنّ الموجب لسقوط الاستصحابين هو كونهما إحرازيين ، وذلك غير متحقّق في قاعدة الطهارة ، فراجع ما حرّرناه في التنبيه التاسع من تنبيهات الاستصحاب (١).

ولا يخفى أنّا لو قلنا بسقوط قاعدة الطهارة في ذلك ، لم يكن استعمال الثوب فيما يشترط فيه الطهارة جائزاً ، لعدم المسوّغ حينئذ لذلك.

ولو دار الأمر بين الحدث وتطهير الثوب ، جرى فيه استصحاب الطهارة من الحدث واستصحاب نجاسة الثوب ، ولا مانع منهما ، لعدم رجوع ذلك التردّد إلى العلم التفصيلي بالقدر الجامع ، إذ لا جامع بين الحدث وتطهير الثوب.

ثمّ لا يخفى أنّه لا يرد النقض على القائلين بجريان الأُصول الاحرازية إذا لم يكن جريانها مستلزماً للمخالفة القطعية ، بمسألة تعاقب الحالتين الطهارة والنجاسة على الثوب أو الغسل والجنابة مثلاً مع الشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، بتقريب أنّه ليس في البين تكليف معلوم بالإجمال كي [ يكون ] جريان الأصلين المذكورين معاً موجباً للمخالفة القطعية لذلك التكليف المعلوم بالاجمال ، وحينئذ يكون الاستصحابان في هذه المسألة مثل استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين المسبوقين بالنجاسة مع العلم الاجمالي بتطهير أحدهما في جريان كلّ من الأصلين.

وبيان عدم ورود النقض المذكور عليهم ، هو أنّ ما ذكروه من حصر المانع من جريان الأُصول ولو كانت إحرازية باستلزام المخالفة القطعية مقيّد بما إذا كان

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٣٧ وما بعدها.

٥٤٩

الأصلان في موردين ، أمّا إذا كانا في مورد واحد ففيه مانع آخر من جريانهما وهو لزوم التناقض ، إذ لا يصحّ الحكم على الشيء الواحد بكلّ من الطهارة والنجاسة أو الحدث والطهارة منه وإن لم يكن في البين مخالفة قطعية ، ويكون ذلك من قبيل ما ذكروه من قيام الإجماع على وحدة حكم الماء الواحد في مسألة المتمِّم والمتمَّم الذي يكون مانعاً من جريان الأصلين المزبورين (١) بل إنّ المسألتين من

__________________

(١) والحاصل : أنّ المانع من جريان استصحاب النجاسة في الاناءين المسبوقين بالنجاسة مع العلم بحصول الطهارة لأحدهما ، إن كان هو كون مؤدّاهما على خلاف ما هو معلوم تفصيلاً من ارتفاع النجاسة في أحدهما كما ربما يظهر من بعض عبائر الكتاب ، ففيه أوّلاً : أنّ العلم التفصيلي بالخلاف كما يمنع من الأُصول الاحرازية فكذلك هو مانع من الأُصول غير الاحرازية ، فما وجه التخصيص بالأُصول الاحرازية. وثانياً : أنّه ليس في البين علم تفصيلي ، وإنّما هو العلم الاجمالي بطهارة أحدهما دون العلم التفصيلي. وثالثاً : أنّ ذلك منقوض بالأُصول الاحرازية الموجبة للتفكيك بين اللوازم ، كما في من توضّأ بمائع مردّد بين البول والماء ، وفي مثل استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية.

ودعوى الفرق بين ما نحن فيه وما هو من هذا القبيل ممّا يرجع إلى التفكيك بين المتلازمين ، بوجود القدر الجامع بين المستصحبين فيما نحن فيه وهو نجاسة كلّ من الاناءين ، بخلافه في تلك الأمثلة فإنّ المستصحبين فيها لا جامع بينهما.

ممنوعة أوّلاً : أنّ وجود القدر الجامع بين المستصحبين لا أثر له في المنع ، إذ ليس المستصحب فيما نحن فيه هو ذلك القدر الجامع ـ أعني نجاسة الاناءين ـ كي يكون العلم الاجمالي أو التفصيلي بخلافه مانعاً ، لأنّ ذلك إنّما يتمّ لو لم يكن في البين إلاّ استصحاب واحد لنجاسة كلّ من الاناءين وهو خلاف المفروض ، فإنّ المفروض إنّما هو استصحاب نجاسة هذا الاناء في قبال استصحاب نجاسة ذلك الاناء ، على نحو يكون كلّ استصحاب جارياً في مورده على حدة.

٥٥٠

__________________

وثانياً : أنّ ذلك ـ أعني وجود القدر الجامع بين المستصحبين ـ جار حتّى في مثل استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، بأن يكون المستصحب في كلّ منهما هو العدم أعني عدم نجاسة الأعضاء وعدم ارتفاع الحدث ، فيكون محصّل الاستصحابين هو البناء على العدم في كلّ من هذين الحادثين ليناقضه العلم الاجمالي بحدوث أحد الأمرين من نجاسة الأعضاء وارتفاع الحدث ، وهكذا الحال في استصحاب الحياة وعدم نبات اللحية بجعل المستصحب في الأوّل هو عدم الموت.

وإن كان المانع هو امتناع التعبّد بكلا الاحرازين في قبال العلم الاجمالي بالخلاف ، بمعنى أنّه لا يصحّ الجمع بين الاحرازين في قبال العلم الاجمالي بالخلاف ، ليكون ذلك من قبيل الأمارتين اللتين يعلم إجمالاً بكذب إحداهما ، فإنّ حال الأُصول الاحرازية من هذه الجهة ـ أعني جهة التكفّل باحراز الواقع ـ حال الأمارات في كون العلم الاجمالي بخلاف أحدها موجباً لإسقاط أحدها عن الحجّية.

ففيه : أنّ هذا التقريب وإن لم يرد عليه الإشكال الأوّل أعني النقض بالأُصول غير الاحرازية ، إلاّ أنّه يرد عليه الإشكال الثالث أعني النقض بالأُصول الاحرازية الموجبة للتفكيك بين اللوازم ، فإنّ إحراز طهارة الأعضاء وإحراز بقاء الحدث ينافيه العلم الاجمالي بالخلاف ، فلو كان ذلك مانعاً لمنع من جريان الأصلين المذكورين.

وهكذا الحال في مثل استصحاب الحياة بمعنى عدم الموت واستصحاب عدم نبات اللحية ، وإنّما امتنع ذلك في الأمارات كالأمارة القائمة على نجاسة هذا الاناء والأمارة الأُخرى القائمة على نجاسة الاناء الآخر ، وهكذا الحال في الأمارتين القائمة إحداهما على طهارة الأعضاء والأُخرى القائمة على بقاء الحدث ، من جهة أنّ الأمارة القائمة على بقاء نجاسة هذا الاناء يترتّب عليها لازمها وهو ارتفاع النجاسة في الاناء الآخر ، وهكذا الحال في الأمارة القائمة على بقاء طهارة الأعضاء والأُخرى القائمة على بقاء الحدث ، فإنّ كلاً منهما يترتّب عليها لازمها وهو ارتفاع مورد الأُخرى ، فيقع التعارض

٥٥١

__________________

بينهما من هذه الجهة ، لا من جهة مجرّد الجمع بين الاحرازين ، وهذا بخلاف الأُصول ولو كانت إحرازية ، فإنّها لمّا لم يترتّب عليها لازمها وهو رفع مؤدّى الآخر ، لم يكن مانع من جريانهما معاً ، هذا.

ولكن النفس غير قانعة بذلك ، فإنّها تجد العلم الاجمالي بخلاف الاحرازين موجباً للوقفة في إمكان التعبّد بهما ، وحينئذ يبقى سؤال الفرق بين استصحابي النجاسة في كلّ من الاناءين واستصحابي مثل طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، وعلى الاجمال نحن نرى بحسب الارتكاز فرقاً بين هذين الموردين بحسب أنّا نجد من أنفسنا الفرق الارتكازي بينهما ، ولكن ما هو السرّ في هذا الفرق الارتكازي.

ولعلّ السرّ في ذلك الفرق الارتكازي هو أنّ العلم في الأوّل يتعلّق ابتداءً بما هو مورد الاحراز ، حيث إنّ المكلّف في الصورة المفروضة قد تعلّق علمه ابتداءً بطهارة أحد الاناءين ، وهذا المتعلّق بنفسه مضادّ ابتداءً لما هو مورد الاحراز في كلّ من الاناءين ، فلذلك نجد من أنفسنا أنّ التعبّد باحراز بقاء النجاسة في هذا الاناء وإحراز بقائها في الاناء الآخر مضادّ لما نعلمه إجمالاً من طهارة أحدهما ، بمعنى أنّا نجد من أنفسنا أنّه لا يمكن الجمع بين هذين الاحرازين ، لأنّ العلم الاجمالي المتعلّق ابتداءً بضدّ أحد المحرزين يأبى من الجمع بين هذين الاحرازين ، وهذا بخلاف بقية الصور ممّا يرجع إلى التفكيك بين المتلازمين ، فإنّ العلم الاجمالي في صورة الوضوء بالماء المردّد لم يتعلّق ابتداءً بما هو ضدّ لأحد المحرزين ، بل إنّما تعلّق ابتداءً بالوضوء بالمائع المردّد ، ولكن بواسطة ذلك الترديد ينشأ له علم إجمالي بأنّه إن كان ذلك المائع بولاً فقد تنجّست أعضاؤه وبقي حدثه بحاله ، وإن كان ماءً مطلقاً فقد ارتفع حدثه وبقيت طهارة أعضائه ، وبواسطة هذا الترديد يحصل له العلم الاجمالي إمّا بارتفاع حدثه أو بارتفاع طهارة أعضائه ، وهذه الدرجة الأخيرة من العلم تعاند الجمع بالتعبّد باحراز بقاء طهارة أعضائه والتعبّد باحراز بقاء حدثه ، فلمّا لم يكن متعلّق العلم ابتداءً مصادماً للجمع بين ذينك التعبّدين ،

٥٥٢

وادٍ واحد ، فإنّه بعد الإجماع على اتّحاد الحكم في الماء الواحد ، تكون المسألتان من وادٍ واحد ، وهو الحكم على الشيء الواحد بحكمين متناقضين ، والسرّ في ذلك هو أنّ الحكم بطهارة ذلك الثوب هو عين الحكم بعدم نجاسته ، والحكم بنجاسته هو عين الحكم بعدم طهارته ، فيكون مؤدّى كلّ من الأصلين مناقضاً لمؤدّى الأصل الآخر ، وهكذا الحال في الغسل والجنابة المتعاقبين ، هذا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الطهارة ليست عبارة عن عدم النجاسة وكذلك العكس ، وإلاّ لكانت هذه الأحكام أحكاماً عدمية ، وحينئذ فلابدّ أن يكون المانع من جريان الأصلين في مثل ذلك أمراً آخر غير لزوم التناقض.

__________________

وإنّما كان يصادمه باعتبار تلك اللوازم ، وكان التعبّد بذينك الاحرازين لا يترتّب عليه تلك اللوازم ، لم يكن مانعاً بالنظر العرفي من الجمع بين ذينك الاحرازين ، وإن كان بحسب الدقّة وبعد ترتّب تلك اللوازم مصادماً للتعبّد بذينك الاحرازين ، وحيث كان النظر العرفي متّبعاً في فهم الأدلّة الواردة في الباب كانت تلك المصادمة العرفية في الأوّل مانعة ، بخلاف المصادمة المبنية على الدقّة والتأمّل كما في الثاني ، هذا.

وينبغي النظر فيما أفاده شيخنا قدس‌سره في أوائل التعادل والتراجيح ، فإنّه قدس‌سره قد أخرج الأمارتين المعلوم كذب إحداهما عن باب التعارض وجعله من باب اشتباه الحجّة باللاّ حجّة ، وفرّق بينهما وبين الأمارتين القائمة إحداهما على وجوب صلاة الجمعة يومها والأُخرى على وجوب صلاة الظهر بعد الإجماع على أنّه ليس في البين إلاّفريضة واحدة ، فجعلهما من باب التعارض [ راجع فوائد الأُصول ٤ : ٧٠٢ ـ ٧٠٣ ].

والظاهر أنّ الاستصحابين في مثل ما نحن فيه ـ أعني استصحاب النجاسة في كلّ من الاناءين ـ من قبيل القسم الأوّل أعني ما علم بكذب أحدهما ، لأنّ الكلام فيه أعمّ ممّا علم ببقاء النجاسة في أحد الاناءين ، ويشمل ما احتمل ارتفاع النجاسة في كلّ منهما مع العلم بارتفاعها في أحدهما [ منه قدس‌سره ].

٥٥٣

ويمكن أن يكون ذلك المانع هو لزوم عدم إمكان ترتّب الأثر لكلّ من الأصلين فيلزم لغويتهما.

وفي العروة في مسألة ٤٢ فيما لو توضّأ وضوءين وصلّى بعد أحدهما فريضة وبعد الآخر نافلة ثمّ علم بالحدث بعد أحدهما ، ذكر أوّلاً أنّه يمكن جريان قاعدة الفراغ في الصلاة الواجبة وعدم معارضتها بجريانها في النافلة ، لأنّه لا يلزم من إجرائهما فيهما طرح تكليف منجّز ، إلاّ أنّ الأقوى عدم جريانها للعلم الاجمالي ، فيجب إعادة الواجبة ويستحبّ إعادة النافلة (١).

ولا يخفى أنّه بعد حصر المانع من جريان الأصلين بلزوم المخالفة القطعية غير اللازمة في هذه الصورة ، ينبغي أن يكون الحكم في هذا المسألة هو إجراء القاعدة في كلّ من الصلاتين ، ولا يكون هذا العلم الاجمالي مانعاً من جريانه فيهما إلاّعلى مسلك شيخنا قدس‌سره (٢) من عدم جريان الأُصول الاحرازية في أطراف العلم الاجمالي بالخلاف ، وهو ـ أعني السيّد قدس‌سره ـ لا يقول بذلك كما يظهر ممّا أفاده في مسألة ٢ (٣) فراجع.

استطراد : ذكر شيخنا قدس‌سره في الوسيلة أنّه إذا علم بصدور حدث منه بعد أحد الوضوءين ، فهو بالنسبة إلى حاله الحاضر ممّن علم الحدث والطهارة وشكّ في المتأخّر منهما ، ويلزمه التطهّر ـ إلى قوله ـ ولو تعقّب كلّ منهما به ( يعني بما يشرع إعادته في الوقت وخارجه ) كانت القاعدة ( يعني قاعدة الفراغ ) متعارضة

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٤ وما بعدها.

(٣) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٢٩٩.

٥٥٤

متساقطة الخ (١).

قد يقال : إنّه بعد سقوط قاعدة الفراغ في كلّ من الصلاتين يمكن الحكم بصحّة الصلاة الأُولى ، نظراً إلى أنّ استصحاب الطهارة بالوضوء الثاني إلى ما بعد الصلاة الثانية معارض باستصحاب الحدث المردّد بين كونه بعد الثاني وكونه قبله وبعد الأوّل ، وبعد سقوطهما يكون استصحاب الطهارة بالوضوء الأوّل إلى ما بعد الصلاة الأُولى بلا معارض ، ومقتضاه صحّة الصلاة الأُولى ، فلا يلزمه إلاّ إعادة الصلاة الثانية.

وفيه : ما لا يخفى ، إذ لا وجه لتقدّم بعض هذه الأُصول على بعض في مقام المعارضة ، فإنّ استصحاب الطهارة من حين الوضوء الثاني إلى ما بعد الصلاة الثانية يعارض كلاً من استصحاب الحدث المجهول التاريخ إلى حين الصلاة الثانية ، ومن استصحاب الطهارة من حين الوضوء الأوّل إلى ما بعد الصلاة الأُولى ، وبهذا التعارض تسقط الأُصول الثلاثة بسقوط واحد ، ولا وجه لجعل المعارضة أوّلاً بين استصحاب الطهارة إلى الصلاة الثانية واستصحاب الحدث إليها ، ثمّ بقاء استصحاب الطهارة من حين الوضوء الأوّل إلى ما بعد الصلاة الأُولى وحده بلا معارض ، إذ ليس ذلك أولى من العكس ، أعني جعل المعارضة بين استصحابي الطهارة إلى حين الصلاة في كلّ من الصلاتين ثمّ بقاء استصحاب الحدث إلى حين الصلاة الثانية بلا معارض ، والسرّ في ذلك هو ما ذكرناه من كون هذه الأُصول الثلاثة متعارضة متساقطة بدرجة واحدة ، من دون تقدّم لأحدها على الآخر في مقام المعارضة.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا حاجة في الحكم بلزوم إعادة الصلاتين إلى

__________________

(١) وسيلة النجاة : ١٦.

٥٥٥

ارتكاب جعل المعارض لقاعدة الفراغ في الصلاة الثانية هو الحكم بصحّة الصلاة الأُولى المستند إلى كلّ من قاعدة الفراغ منها واستصحاب الطهارة إلى حينها ، نظير ما أفاده قدس‌سره في الاناءين اللذين يكون أحدهما مستصحب الطهارة والآخر مجرى لقاعدة الطهارة.

تنبيه : ينبغي التأمّل فيما حرّره الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) في حكم الغرقى وأنّهم يتوارثون ، وأنّ الحكم فيهم بالتوارث ثبت على خلاف القاعدة ، فيقتصر على مورد النصّ ، وأمّا غيرهم فيحكمون فيهم بعدم التوارث ، وربما علّل ذلك بأنّه مقتضى تعارض الأُصول ، حيث إنّ استصحاب حياة الوارث كالابن إلى ما بعد موت المورّث كالأب معارض باستصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن ، فلا يحكم بإرث أحدهما من الآخر ، ويرجع ميراث كلّ منهما إلى وارثه الحي.

ونظراً إلى ما ذكروه من أنّ تعارض الأُصول وتساقطها منحصر بما إذا لزم من إجرائها في أطراف العلم الاجمالي المخالفة القطعية ، ينبغي أن يقال : إنّ مقتضى القاعدة هو التوارث ، حيث لا يلزم من استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب واستصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن مخالفة قطعية لتكليف معلوم بالاجمال.

نعم ، ربما يتّجه ذلك على مسلك شيخنا قدس‌سره من تعارض الأُصول الاحرازية وإن لم يلزم منها المخالفة العملية إن لم يخصّصه بما عرفت من العلم التفصيلي بالقدر الجامع لينحصر في مثل نجاسة الاناءين اللذين علم بطهارة أحدهما ، وإلاّ توجّه عليه الإشكال أيضاً.

٥٥٦

لكن الذي يظهر من الجواهر (١) أنّ المانع من جريان الأُصول هنا هو أنّ الارث لا يكفي فيه مجرّد استصحاب حياة الوارث إلى ما بعد موت المورّث ، بل لابدّ من ثبوت البعدية أعني كون الحياة بعد الموت ، وذلك لا يثبته استصحاب الحياة.

ولكن يمكن المناقشة في ذلك أوّلاً : بانكار اعتبار هذا العنوان الزائد. وثانياً : بأنّه ليس بزائد على استصحاب الحياة إلى ما بعد موت المورّث ، بل هو عين بقاء المستصحب المذكور ، أعني الحياة إلى ما بعد موت المورّث ، فيكون الموضوع مركّباً من الاجتماع الزماني بين هذين العارضين لموضوعين ، أعني موت المورّث وبقاء حياة وارثه إلى ما بعد موته ، والعنوان الزائد الذي نقول إنّ الأصل مثبت بالقياس إليه إنّما هو اتّصاف حياة الوارث بكونها بعد موت المورّث ، أو اتّصاف موت المورّث بكونه قبل موت الوارث ، والظاهر عدم اعتبار أحدهما في تحقّق الارث ، ولتحرير هذه المسألة وتوضيحها ينبغي (٢) أن نفرض لها مثالاً ثمّ نتكلّم فيها على ذلك المثال.

فنقول : إنّه لو مات الأب وابنه ، وكان للأب عشرة دنانير وكان للابن عشرة دراهم ، وكان وارث الأب لولا الابن منحصراً بإخوته ، وكان وارث الابن لولا الأب

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٩ : ٣٠٦.

(٢) ينبغي التأمّل فيما لو ولدت الحامل وكانت الولادة بعد موت الزوج ، وحصل الشكّ في تحقّق الحياة والاستهلال بعد الولادة بعد فرض كون الحمل حيّاً في بطن أُمّه قبل الولادة ، فهل يجري استصحاب الحياة إلى ما بعد الولادة ، أو لابدّ من إثبات الحياة والاستهلال بعد الولادة ولو بشهادة النساء والقوابل كما ذكروه في باب إرث الحمل. وهل المسألة من قبيل استصحاب حياة السمك إلى حين أخذه من الماء؟ [ منه قدس‌سره ].

٥٥٧

منحصراً في إخوته من أُمّه ، فلو أجرينا استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب ، فهل يكون مقتضى هذا الاستصحاب منحصراً في الجزء الايجابي أعني كون الابن وارثاً لأبيه وانتقال الدنانير إليه ، أو أنّه كما يقتضي ذلك الجزء الايجابي يكون مقتضياً أيضاً للجزء السلبي أعني عدم كون الأب وارثاً للابن ، ويحكم على تلك الدراهم بعدم انتقالها من الابن إلى الأب ، ليكون مقتضى استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب هو أنّ كلاً من الدراهم والدنانير راجعة فعلاً إلى إخوة الابن من أُمّه ، كما أنّ ذلك هو مقتضى استصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن ، فيكون مجموع المالين مردّداً فعلاً بين الرجوع إلى إخوة الأب والرجوع إلى إخوة الابن من أُمّه ، ويكون مجموع المالين مورداً لتعارض الأصلين ، لأنّ استصحاب حياة الأب حاكم برجوع مجموع المال إلى إخوته ، واستصحاب حياة الابن حاكم برجوع مجموع ذلك المال إلى إخوته من أُمّه ، وفي الحقيقة يكون الجزء الايجابي من كلّ منهما معارضاً للجزء السلبي من الآخر ، وبذلك يتحقّق التعارض بينهما وإن لم يكن الجزء الايجابي من كلّ منهما معارضاً بالجزء الايجابي من الآخر ، وكذلك الجزء السلبي من كلّ منهما.

والظاهر من هذين الاحتمالين هو الأوّل ، لأنّ استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب لا يترتّب عليه إلاّكونه وارثاً من أبيه تلك الدنانير ، ولا تعرّض له لعدم كون الأب وارثاً منه تلك الدراهم إلاّبالأصل المثبت ، ولأجل ذلك لو كانت المسألة من أخوين أحدهما أكبر من الآخر وكان للأكبر ولد ، ولم يكن للأصغر ولد وكان وارثه منحصراً بأخيه الأكبر المفروض موته معه ، مع عدم العلم بالمتقدّم منهما ، فإنّ استصحاب حياة الأخ الأصغر إلى ما بعد موت أخيه الأكبر لا يجري ، لأنّه لا يترتّب عليه وارثيته من أخيه الأكبر ، وعدم وارثية الأكبر من الأصغر ليست

٥٥٨

من آثار بقاء حياة الأصغر إلى ما بعد موت الأكبر.

وبالجملة : في هذه المسألة لا يجري إلاّ استصحاب حياة الأكبر إلى ما بعد موت الأصغر ، فيحكم بأنّ الأكبر وارث للأصغر ، ولا يمكن أن يعارض ذلك في هذه الصورة باستصحاب حياة الأصغر إلى ما بعد موت الأكبر ، لأنّ هذا الأصل لا يترتّب عليه الحكم بعدم وارثية الأكبر للأصغر.

إذا عرفت ذلك تعرف أنّ مورد التنافي بين الأُصول فيما نحن فيه ليس هو مجموع الدراهم والدنانير ، بحيث يكون مقتضى استصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن هو انتقال المجموع إلى إخوته ، ومقتضى استصحاب حياة الابن هو انتقاله إلى إخوته من أُمّه ، بل لا يترتّب على استصحاب حياة الأب إلى ما بعد موت الابن إلاّوارثيته الدراهم من ابنه ، كما لا يترتّب على استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب إلاّوارثيته الدنانير من أبيه ، ويترتّب على الأوّل الحكم بانتقال الدراهم إلى إخوة الأب مع السكوت عن حكم الدنانير ، ويترتّب على الثاني الحكم بانتقال الدنانير إلى إخوة الابن مع السكوت عن حال الدراهم.

وبالجملة : أنّ مورد أحد الأصلين هو الدراهم ومورد الأصل الآخر هو الدنانير ، فلم يجتمع الأصلان والحكمان المتنافيان في موضوع واحد وهو مجموع المالين ، وإنّما كان مورد أحدهما هو الدراهم وكان مورد الآخر هو الدنانير ، فلا يكون التنافي بينهما إلاّمن جهة العلم الاجمالي بأنّ أحدهما خطأ مخالف للواقع ، من جهة أنّ لازم أحد الأصلين والحكمين المذكورين هو عدم صحّة الحكم الآخر الذي محصّله التفكيك بين اللوازم ، وليس ذلك بعزيز في الأُصول ولو كانت إحرازية حتّى على مسلك شيخنا قدس‌سره ، فإنّ مجرّد العلم الاجمالي بمخالفة أحد الأصلين الاحرازيين للواقع لا يوجب عنده تعارضهما وسقوطهما

٥٥٩

إذا كان ذلك ناشئاً عن التفكيك بين اللوازم ، كما هو الشأن في جميع موارد الأُصول المثبتة ، وما نحن فيه منها ، لما عرفت من أنّ استصحاب حياة الابن إلى ما بعد موت الأب لا يترتّب عليه إلاّ أثره الشرعي وهو كون الابن وارثاً للأب ، دون لازمه وهو عدم كون الأب وارثاً للابن ، وهكذا الحال من طرف الأب.

وبالجملة : لا يكون عنده هذان الأصلان إلاّكحال استصحاب الحياة واستصحاب عدم نبات اللحية في جريانهما معاً ، وعدم كون العلم الاجمالي بكون أحدهما مخالفاً للواقع مانعاً من جريانهما ، هذا على مسلك شيخنا قدس‌سره.

وأمّا على مسلك الجماعة من حصر المانع من جريان الأُصول بالمخالفة القطعية لتكليف إلزامي معلوم في البين ، فالأمر في جريان هذين الأصلين أوضح ، إذ لا يلزم ذلك من جريان هذين الأصلين.

ودعوى أنّ الحكم بكون الدراهم لورثة الأب والدنانير لورثة الابن يشتمل على المخالفة العملية ، فإنّ السابق موته إن كان هو الأب كان المجموع لإخوة الابن ، وإن كان هو الابن كان المجموع لإخوة الأب ، وإن كانا متقارنين كانت الدنانير لإخوة الأب والدراهم لإخوة الابن ، فجعل الدراهم لاخوة الأب والدنانير لاخوة الابن مخالفة عملية للواقع المردّد بين الأُمور الثلاثة.

لا يخفى ما فيها ، فإنّها وإن كانت مخالفة عملية إلاّ أنّها مخالفة للواقع لا مخالفة عملية لتكليف إلزامي في البين.

ودعوى أنّا مكلّفون بإيصال كلّ من هذه الدراهم وهذه الدنانير إلى مالكها الواقعي ، وإذا عملنا بكلّ من هذين الأصلين نكون قد أوصلنا أحدهما إلى غير مالكه الواقعي.

ممنوعة عهدتها على مدّعيها ، وإنّما الذي يجب علينا هو إيصال المال إلى

٥٦٠