أصول الفقه - ج ١١

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١١

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-84-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٨٣

عن الكبرى الكلّية التي هي ـ على ما أفاده قدس‌سره ـ القدر الجامع بين صغريات التجاوز وصغريات الفراغ ، لكان محطّ التنزيل هو خصوص الأمثلة المذكورة في الروايتين ، بمعنى أنّ الشارع لاحظ هذه الأجزاء المذكورة في الروايتين بلحاظ حال قبل التركيب ، وبعد ذلك طبّق عليها الحكم الكبروي الذي هو القدر الجامع ، فلابدّ حينئذ من أن يكون مقصوراً على الأجزاء المذكورة ، دون غيرها من باقي أجزاء الصلاة كالنيّة والتشهّد وجميع الأجزاء المستحبّة لعدم ثبوت هذا التنزيل فيها ، ولابدّ في إجراء قاعدة التجاوز في مثل التشهّد والأجزاء المستحبّة من دعوى أنّه يستفاد من الأمثلة المذكورة المنصوص عليها في الروايات أنّ جميع ما كان من هذا القبيل ممّا يكون مستقلاً بالتسمية المعبّر عنه بالاستقلال بالتبويب ، يكون مورداً لذلك التنزيل الشرعي واجباً كان أو مستحبّاً ، وهذه الدعوى تحتاج إلى دليل قوي.

والحاصل : أنّ هذه الكلّية إن كانت هي كبرى الفراغ وقد طبّقها الشارع على الأجزاء المذكورة بعد تحقّق العناية والتعبّد بلحاظ حال الأجزاء فيما قبل التركيب إلى آخر ما أفاده قدس‌سره ، كان اللازم هو حصر ذلك في خصوص ما نصّ عليه من الأجزاء دون غيره ممّا لم ينصّ عليه ، إلاّبدعوى أنّ اللحاظ والتعبّد إنّما أجري في جميع ما كان من هذا القبيل من الأجزاء لا في خصوص ما هو مذكور في الروايتين ولكن ذلك محتاج إلى الدليل القوي ، هذا لو كانت الكلّية المذكورة في الروايتين هي كبرى قاعدة الفراغ.

وأمّا إذا لم تكن كذلك ، بل كانت كلّية في خصوص قاعدة التجاوز ، بمعنى أنّ الشيء في قوله عليه‌السلام : « وكلّ شيء شكّ فيه » الخ ، عبارة عن الجزء وقد لوحظ مستقلاً في الحكم بعدم الاعتناء بالشكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، ويكون المفيد

٣٤١

للتنزيل ولحاظ الأجزاء مستقلاً هو هذا العموم ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في عموم « الشيء » لكلّ جزء ، وعموم « الغير » لكلّ فعل وإن لم يكن جزءاً ، ولا يكون في قبال هذا العموم إلاّ أنّه بقرينة ذكر الأمثلة المذكورة يكون مورد ذلك العموم منحصراً بما كان من هذا القبيل ، وقد حقّق في محلّه أنّ المورد لا يخصّص الوارد.

ولا يخفى [ أنّ ] الركون في دعوى التخصيص إلى هذه الجهة أضعف من الركون في ذلك إلى دعوى دلالة مفهوم التحديد على خروج النهوض إلى القيام ، والظاهر من التحرير هو هذا الوجه الثاني ، إذ لو كان محطّ ذلك التعبّد والتنزيل هو نفس الأمثلة المذكورة في الروايتين ، لكانت الكلّية المذكورة في الذيل ممحضة لقاعدة الفراغ ، وحينئذ تكون هذه الكلّية المذكورة فيهما من جملة ما يدلّ على أنّه يعتبر في قاعدة الفراغ الدخول في الغير ، ولا يختصّ الدليل المذكور بخصوص موثّقة ابن أبي يعفور كما يظهر منه في البحث السابق ، هذا.

مضافاً إلى ما يشعر به قوله في هذا البحث : فإنّ الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل الخ (١) ، فإنّ هذه الجملة مشعرة بأنّ العموم في الذيل إنّما هو لخصوص قاعدة التجاوز ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ توقّف جريان القاعدة على ذلك التعبّد والعناية واللحاظ الاستقلالي إنّما يؤثّر على جريانها في أجزاء الأجزاء ، بدعوى عدم ثبوت ذلك التنزيل في أجزاء الأجزاء ، أمّا في الدخول في مقدّمات الأجزاء اللاحقة مع الشكّ في الجزء السابق كالسجود بالنسبة إلى النهوض إلى القيام ، فعلى الظاهر أنّ ذلك ليس بمانع ، لأنّ المفروض هو أنّ المشكوك ـ وهو السجود ـ قد ثبتت فيه تلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٥.

٣٤٢

العناية واللحاظ الاستقلالي ، وذلك كافٍ في جريان القاعدة فيه ، ولا يتوقّف على كون ما دخل فيه جزءاً ومستقلاً بالتبويب ، إلاّ أن يركن إلى أنّ الأمثلة في الرواية لمّا كان الغير فيها جزءاً مستقلاً ، فلابدّ في جريان القاعدة من كون الغير الذي دخل فيه جزءاً مستقلاً ، وقد عرفت أنّ خصوصية المثال لا توجب تخصيص القاعدة الكلّية الواردة في مورده.

على أنّ هذه الطريقة ـ أعني طريقة تخصيص الغير بالأجزاء وإخراج المقدّمات ـ لا تتمّ على رأي شيخنا قدس‌سره من وحدة الكبرى الكلّية الجامعة بين قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ، لأنّه قدس‌سره يعتبر في قاعدة الفراغ الدخول في الغير ، ولا ريب أنّ ذلك الغير المعتبر في قاعدة الفراغ ليس بمسانخ للمشكوك ، فإنّ الغير الذي يدخل فيه بعد الفراغ من الصلاة لا يكون من أجزائها ولا مسانخاً لها.

ولا يخفى أنّ المقدّمات منحصرة في ثلاث : النهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، والهوي إلى السجود مع الشكّ في الركوع ، والهوي إلى الركوع مع الشكّ في القراءة ، والدليل على خروج الصورتين الأُوليين هو مفهوم التحديد في رواية إسماعيل بن جابر (١) الذي جعل مخصّصاً لعموم الغير فيه ، وقد عرفت الحال في ذلك المفهوم ، وأمّا الصورة الثالثة فسيأتي تعرّضه قدس‌سره لها عند التنبيه الخامس. ثمّ إنّ الصورة الأُولى خارجة عن قاعدة التجاوز بالنصّ الوارد عن أبان ابن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٢).

وهناك صورة رابعة وهي ما لو شكّ في التشهّد عند النهوض إلى القيام ، وهي غير داخلة في مفهوم التحديد المذكور كالصورة الثالثة.

__________________

(١) التي تقدّم متنها ومصدرها في الصفحة : ٣٣٨.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٩ / أبواب السجود ب ١٥ ح ٦.

٣٤٣

ولا يخفى أنّه قدس‌سره بعد أن منع من كون مفهوم التحديد مخصّصاً لعموم الغير ، إمّا لما ذكره هنا من كونه من قبيل إخراج مورد العام عنه ، وإمّا لما نقلناه عنه (١) في آية النبأ من أنّ العام المتّصل يسقط الظهور في المفهوم ، فلم يبق حينئذ ما يدلّ على إخراج المقدّمات عن عموم الغير إلاّهذا الذي أفاده في وجه خروج أجزاء الأجزاء من توقّف الدخول على العناية والتنزيل ، وقد عرفت أنّه لا يمنع من الأخذ بعموم الغير للمقدّمات ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لا يمكن الاستناد إليه في خروج أجزاء الأجزاء فضلاً عن المقدّمات.

لا يقال : بناءً على ما قدّمتموه من كون مجرى القاعدة مختصّاً بالمركّبات ينبغي أن لا تجري في الدخول في المقدّمات لعدم كونها جزءاً من ذلك المركّب.

لأنّا نقول : إنّا لم نشترط في الذي دخل فيه أن يكون جزءاً من المركّب وإنّما اشترطنا في مجرى القاعدة أن يكون له وحدة اعتبارية تكون موجبة لدخوله تحت الارادة السابقة ، وكون الغير من المقدّمات ممّا تتحقّق فيه تلك الوحدة الاعتبارية ، فالظاهر هو جريان القاعدة في أجزاء الأجزاء وفي مقدّمات الأجزاء.

نعم ، لا يبعد أن يشترط في ذلك كون جزء الجزء والمقدّمة ممّا يعدّ عرفاً شيئاً في قبال الشيء الذي شكّ فيه ، فيخرج عنه الشكّ في الحرف الأوّل عند الشروع في الحرف الثاني ، بل يخرج عنه الشكّ في الكلمة السابقة عند الشروع في اللاحقة ، وهناك أجزاء أجزاء هي مورد التشكيك في صدق هذا الضابط العرفي عليها ، مثل الشكّ في أوّل الجملة الارتباطية عند الشروع في آخرها أو وسطها. وهكذا الحال في المقدّمات فإنّه لا يكفي فيه مجرّد الحركة الجزئية التي هي ميل إلى النهوض ، بل لابدّ من تلبّسه بالنهوض على وجه يصدق عليه عرفاً أنّه

__________________

(١) في الصفحة : ٣٣٩.

٣٤٤

دخل في فعل آخر أي خرج من شيء ودخل في آخر.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي يظهر ممّا حرّرته عنه قدس‌سره في توجيه خروج المقدّمات وأجزاء الأجزاء عن قاعدة التجاوز ، أنّ الكبرى الكلّية التي تتضمّنها رواية زرارة (١) ورواية إسماعيل بن جابر (٢) هي كبرى قاعدة الفراغ التي هي القدر المشترك بينها وبين صغريات قاعدة التجاوز ، وأنّ محطّ التنزيل ولحاظ الاستقلالية إنّما هو في نفس الأمثلة المذكورة في الروايتين ، ولا بأس بنقل ذلك برمّته تعميماً للفائدة وهذا نصّه : إنّك قد عرفت أنّه ليس لنا إلاّكبرى واحدة وهي القاعدة الملحوظ فيها جملة العمل شيئاً واحداً ، وأنّ الأجزاء قبل لحاظ التركيب خارجة عن هذه القاعدة ، إلاّ أنّه في خصوص الصلاة دلّ الدليل على دخول أجزائها في هذه الكبرى بتنزيل الشارع وعناية منه ، وهي لحاظه كلّ واحد من تلك الأجزاء شيئاً واحداً ، وهو المعبّر عنه فيما تقدّم منّا بلحاظها قبل التركيب ، وبهذه العناية تدخل أجزاء الصلاة في الكبرى القائلة : « كلّ شيء شككت فيه وقد خرجت عنه إلى غيره » فيكون دخول الأجزاء الصلاتية في هذه الكبرى بواسطة النصّ المتضمّن لما ذكرناه من التنزيل المذكور ، ويكون دخولها هو المحتاج إلى الدليل ، لا أنّ إخراج أجزاء الطهارات من هذه الكبرى هو المحتاج إلى الدليل.

وحينئذ نقول : لو لم يكن لنا تلك الأدلّة المتضمّنة للعناية المذكورة ، أعني مثل صحيحة زرارة ورواية إسماعيل بن جابر المتضمّنة لذلك ، وبقينا نحن وعموم « كلّ شيء خرجت منه وشككت فيه بعد الدخول في غيره » لكان العموم المذكور غير شامل للأجزاء الصلاتية ، إلاّ أنّه بعد أن وردت تلك الأدلّة الدالّة على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٢) المتقدّمة في الصفحة : ٣٣٨.

٣٤٥

العناية المذكورة كانت الأجزاء الصلاتية داخلة في العموم المذكور ، فلابدّ حينئذ في دخولها من اتّباع مقدار دلالة تلك الأدلّة ، فنقول : إنّ لجريان العناية المذكورة في الأجزاء الصلاتية مراتب : جريانها في الأجزاء المستقلّة بالتبويب ، وجريانها في أجزاء الأجزاء مثل الآيات بالنسبة إلى السورة ، وجريانها في أجزاء أجزاء الأجزاء مثل الكلمات بالنسبة إلى الآيات ، وهكذا إلى أن تنتهي النوبة إلى الحروف بالنسبة إلى الكلمات ، وبعد تعيين المرتبة التي هي محط تلك العناية تكون تلك المرتبة هي المعتبرة في الغير الذي دخل فيه ، فإنّ ذلك هو الظاهر من مقابلة الغير للشيء الذي شكّ فيه.

فنقول : إنّ صحيحة زرارة لم تدلّ على أزيد من كون العناية باعتبار المرتبة الأُولى كما هو الظاهر من الأمثلة المذكورة فيها ، فلا يكون الداخل في هذا العموم من تلك الأجزاء إلاّما يكون مستقلاً بالتبويب ، فلا يكون جزء الجزء داخلاً حتّى الآيات بالنسبة إلى السورة (١).

ثمّ إنّ رواية إسماعيل بن جابر لمّا لم يذكر فيها النهوض ، بل إنّما كان الشكّ في السجود داخلاً في هذه القاعدة بمقتضى هذه الرواية إذا كان بعد القيام ، دلّت على أنّه لا يكفي في ذلك الغير كونه من المقدّمات ، انتهى.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام يدلّ على أنّ نظره قدس‌سره هو أنّ الكلّية المذكورة في

__________________

(١) تنبيه : قد يشكل على ما أُفيد من انحصار الشيء في الأجزاء المستقلّة بالتبويب بمثل ما لو شكّ في آخر القراءة وهو في القنوت مثلاً ، فإنّ الآية الأخيرة من السورة ليست من تلك الأجزاء المستقلّة. ويمكن الجواب عنه بأنّ الشكّ حينئذ يكون متعلّقاً بنفس القراءة ولو باعتبار جزئها ، نظير ما أُفيد من توجيه قاعدة الفراغ بأنّ الشكّ قد تعلّق بوجود الكلّ ولو بواسطة الشكّ في وجود جزئه أو شرطه [ منه قدس‌سره ].

٣٤٦

الروايتين هي القدر الجامع بين صغرياتها وصغريات قاعدة التجاوز ، كما أنّ إخراج المقدّمات لم يكن من جهة عدم ثبوت العناية والتنزيل ، بل من جهة مفهوم التحديد ، وهذا الأخير ـ أعني كون خروج المقدّمات عن عموم الغير بمفهوم التحديد ـ هو الذي حرّره عنه أيضاً في التقريرات المطبوعة في صيدا (١) فراجع. وهو الظاهر بل الصريح فيما حرّرته عنه في الفقه في أحكام الخلل. وعلى كلّ حال ، أنّك قد عرفت الإشكال على الأوّل بأنّ لازمه الاقتصار على الأمثلة المذكورة ، ولا يتعدّاها إلى مثل التشهّد والأجزاء المستحبّة ، وعلى الثاني بأنّ عموم الغير يسقط المفهوم لكونه متّصلاً به ، مع أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في خصوص الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام ، والشكّ في الركوع عند الهوي إلى السجود ، فإنّ هاتين الصورتين هما مورد مفهوم التحديد المستفاد من رواية إسماعيل بن جابر ، دون صورة الشكّ في القراءة عند الهوي إلى الركوع والشكّ في التشهّد عند النهوض إلى القيام ، وقد عرفت البحث في ذلك مفصّلاً ، فراجع وتأمّل.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في أحكام الخلل في الفقه ـ بعد أن برهن على عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الأجزاء بنحو ما تقدّم تحريره ـ : أمّا خروج المقدّمات عن هذه القاعدة ، فإنّ صحيحة زرارة وإن كانت ساكتة عنه بناءً على أنّ التعداد الذي هو من الراوي وضرب القاعدة من الإمام عليه‌السلام في ذلك المقام لا يدلّ على انحصار موردها فيما يكون من قبيل ما فرضه الراوي ، إلاّ أنّ رواية إسماعيل ابن جابر المتضمّنة لحكمه عليه‌السلام على من شكّ في السجود بعد ما قام ومن شكّ في الركوع بعد ما سجد بأنّه لا يعتني بشكّه ، دالّة على خروج المقدّمات عن مورد

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٦ وما بعدها.

٣٤٧

القاعدة ، لما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) من أنّها ظاهرة في أنّه ليس حالة أقرب إلى السجود من القيام ، وأنّه ليس حالة أقرب إلى الركوع من السجود ، ففيها دلالة على خروج النهوض إلى القيام والهوي إلى السجود عن كونهما مورداً للقاعدة التي ضربها الإمام عليه‌السلام بعد فراغه عليه‌السلام من ذكر المثالين والحكم عليهما بأنّه لا يعتني ، وما أدري أنّ الشيخ قدس‌سره مع هذا التحقيق الذي أفاده كيف وافق صاحب الجواهر في النجاة في بعض فروع هذه المسألة (٢).

وكيف كان ، فقد تلخّص لك أنّ رواية إسماعيل بن جابر دالّة على خروج المقدّمات عن القاعدة المذكورة ، إمّا للجهة التي ذكرها الشيخ قدس‌سره ، وإمّا لأنّها في مقام التحديد ، فتكون ظاهرة في المفهوم ، وأنّ من شكّ في السجود بعد النهوض إلى القيام قبل أن يتمّ قيامه لا يكون داخلاً فيما حكم به عليه‌السلام من عدم الاعتناء بالشكّ ( قلت : أو نقول إنّ القضية الشرطية القائلة إنّه إن شكّ في السجود بعد القيام لا يعتني ، ظاهرة في المفهوم ، وأنّه لو لم يدخل في القيام لم يجر فيه الحكم المذكور ، سواء دخل في النهوض أو لم يدخل فيه ، وذلك إمّا لأنّ الاشتراط يتوجّه إلى القيد المذكور في القضية الشرطية فيكون من قبيل مفهوم الشرط ، أو أنّه من قبيل مفهوم الوصف ، كلّ ذلك بعد ضمّ كون الشرط أو التقييد وارداً في مقام التحديد ) (٣).

ثمّ إنّه بعد الفراغ عن ثبوت هذا المفهوم بأحد الوجوه المذكورة لا يمكننا القول بابقاء القاعدة المضروبة في هذه الرواية على عمومها لكلّ غيرٍ حتّى

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٢) نجاة العباد : ١٥٣.

(٣) الظاهر أنّ ما بين القوسين من تعليق المصنّف على كلام أُستاذه ٠.

٣٤٨

المقدّمات ، والالتزام بخروج خصوص النهوض إلى القيام والهوي عنه عن ذلك العموم بالتخصيص بجعل ذلك المفهوم مخصّصاً لهذا العموم ، فإنّ ذلك إنّما يتمّ فيما لو كان التخصيص المذكور بدليل منفصل ، أمّا لو كان المخصّص المذكور متّصلاً كما هو المفروض فيما نحن فيه ، فلا يمكن فيه ذلك ، لأنّه من قبيل إخراج المورد وهو قبيح ، لما تقدّم من أنّ مورد هذه القاعدة في الرواية المزبورة هو المثالان المذكوران ، مضافاً إلى أنّ ذكر المثالين في الرواية كان من قبيل التمهيد لذكر تلك القاعدة الكلّية ، فلا يمكن القول بخروج ما دلّ عليه مفهومها بالتخصيص ، لأنّ ذلك أقبح من تخصيص المورد ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره في ذلك البحث.

والذي يظهر منه أنّه قدس‌سره لا يريد أن يجعل ما استفاده من المفهوم مخصّصاً للعموم المذكور ، بل إنّه قدس‌سره يريد أن يجعل هذا المفهوم قرينة على أنّ المراد من الغير في ذلك الحكم الكلّي هو خصوص الأجزاء ، وأنّ المقدّمات خارجة عنه بالتخصّص ، إذ لو كان الغير باقياً على عمومه للمقدّمات لكان المفهوم المذكور مخصّصاً له ، ولا يمكن الالتزام بالتخصيص ، لأنّ ضرب تلك القاعدة الكلّية الشاملة لمورد المفهوم في جنب ذلك المفهوم المخالف له في الحكم قبيح ، نعم يحسن ذلك فيما لو كان العام منفصلاً عن القضية التي هي دالّة على ذلك المفهوم بخلاف ما لو كان العام متّصلاً بما يكون مشتملاً على الحكم بخلافه في بعض موارده ، فإنّه لا يخلو عن قبح ، بل هو لا يزيد على قبح إخراج المورد ، بل هو أقبح منه ، لأنّ إخراج المورد إنّما يكون بالدليل المنفصل ، وهذا كان بالدليل المتّصل وإن لم يكن إخراجاً للمورد.

والحاصل : أنّ ضرب القاعدة الكلّية العامّة في عرض الحكم على بعض

٣٤٩

أفرادها بخلاف حكم تلك القاعدة لا يحسن إلاّبنحو الاستثناء أو التقييد ، أمّا إذا كانا من قبيل الحكمين المستقلّين اللذين يكون أحدهما مخالفاً للآخر فإنّه قبيح وإن كان أحدهما أخصّ من الآخر ، وحيث قد امتنعت طريقة التخصيص فلا محيص حينئذ من القول بأنّ المراد من الغير هو ما عدا المقدّمات ليكون من قبيل التخصّص ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ اجتماع العام مع الخاصّ على خلافه في كلام واحد متّصل ليس بتلك الدرجة من القبح ، كما تراه في مثل قولك لا تكرم النحويين وأكرم العلماء ، أو قولك أكرم العلماء ولا تكرم فسّاقهم ، ونحو ذلك ممّا لا يكون من قبيل الاستثناء والتقييد ، وحينئذ فلا يكون ما نحن فيه من قبيل التخصص كي يكون موجباً لخروج المقدّمات عن عموم الغير خروجاً موضوعياً ، بل يكون من قبيل التخصيص ، فيلزم الاقتصار فيه على مورده الذي هو الهوي للسجود مع الشكّ في الركوع ، والنهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، دون ما عدا ذلك من صور المسألة ، اللهمّ إلاّ أن يقال : يستفاد من هذا الحكم أنّه جار في كلّ صورة من صور المسألة ، ولكن دون ذلك خرط القتاد.

ثمّ إنّه لو سلّمنا أنّ المقام من قبيل التخصّص لكان لنا أن نقول : إنّ ذلك كلّه فرع ثبوت المفهوم مع فرض العموم المذكور إلى جنبه ، فلِمَ لا نقول إنّ العموم يوجب انسلاخ القضية عن المفهوم ، وكونها واردة في مقام التحديد ممنوع ، إذ ليست هي إلاّفي مقام أنّ الشكّ في السجود بعد الدخول في غيره مثل القيام لا يعتنى به ، لا في مقام أنّ الشكّ في السجود الذي لا يعتنى [ به ] هو الشكّ الحاصل بعد القيام ، وبعد أن أخرجناها عن مقام التحديد لا تكون إلاّكسائر القضايا الشرطية أو القضايا التقييدية في الظهور في المفهوم لا الصراحة فيه ، وحينئذ

٣٥٠

نقول : كما يمكن رفع اليد عن العموم ولو بطريقة التخصّص لأجل المفهوم ، فكذلك يمكن رفع اليد عن الظهور في المفهوم لأجل العموم ، ولو سلّم فلا أقل من إجمال الرواية المزبورة من هذه الناحية ، فيبقى العموم في صحيحة زرارة بحاله ، فيكون هو المرجع من هذه الجهة.

ثمّ لا يخفى أنّ محلّ الكلام إنّما هو في مثل خصوص الهوي إلى السجود مع الشكّ في الركوع ، ومثل النهوض إلى القيام مع الشكّ في السجود ، ومثل الشكّ في التشهّد بعد النهوض ، والشكّ في القراءة بعد الهوي إلى الركوع ، وهاتان الصورتان أهمّ من الصورتين السابقتين ، لكون الأُولى من السابقتين منصوصة بما يدلّ على عدم الاعتناء بالشكّ ، وهو رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لا ، قال عليه‌السلام : قد ركع » (١) وسيأتي إن شاء الله (٢) التعليق على ما أفاده قدس‌سره في التنبيه الأوّل من الجمع بين هذا النصّ وغيره ممّا استفاد منه عدم جريان القاعدة في المقدّمات.

وأمّا الصورة الثانية فهي أيضاً منصوصة ، لكن بما يدلّ على الاعتناء بالشكّ ويكون موجباً لتخصيص عمومات قاعدة التجاوز ، وذلك النصّ هو ما عن أبان ابن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل رفع رأسه من السجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد ، قال عليه‌السلام : يسجد. قلت : فرجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد ، قال عليه‌السلام : يسجد » (٣)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٨ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٦.

(٢) في الصفحة : ٣٦٠.

(٣) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٩ / أبواب السجود ب ١٥ ح ٦.

٣٥١

أمّا الصورة الرابعة فليس لها أهميّة أيضاً ، لإمكان القول بأنّ الهوي جزء للركوع صلاتي كما هو مختاره قدس‌سره ، وحينئذ تكون خارجة عن محلّ النزاع.

نعم ، المهّم في المسألة هي الصورة الثالثة ولم يتعرّض قدس‌سره لها في التنبيهات الآتية ، وقد احتمل السيّد في العروة (١) إلحاقها بالثانية بناءً على أنّه يستفاد من النصّ فيها هو عدم العبرة بالنهوض إلى القيام ، سواء كان في مقام الشكّ في السجود أو كان في مقام الشكّ في التشهّد. ولا يخفى أنّه احتمال صرف لا شاهد عليه أصلاً.

وهناك صورتان أُخريان وهما ما لو شكّ في الاستقرار والاستقامة من الركوع وهو في حال الهوي إلى السجود ، وما لو شكّ في الاستقرار والاستقامة بعد السجدة الأُولى وهو في حال الهوي إلى السجدة الثانية.

وكيف كان ، فالأظهر هو عدم الالتفات إلى الشكّ فيما عدا الصورة الثانية من هذه الصور ، وأنّها إنّما خرجت عن مقتضى قاعدة التجاوز بالنصّ.

وتفصيل هذا المبحث : هو أنّ الفروع المتعلّقة به منحصرة على الظاهر في ستّة :

الأوّل : أن يشكّ في الركوع وهو في حال الهوي إلى السجود.

الثاني : أن يشكّ في السجود وهو في حال النهوض إلى القيام.

الثالث : أن يشكّ في التشهّد وهو في حال النهوض إلى القيام.

الرابع : أن يشكّ في القراءة أو في القنوت وهو في حال الهوي إلى الركوع.

الخامس : أن يشكّ في الطمأنينة أو الاستقرار أو الانتصاب من الركوع وهو في حال الهوي إلى السجود.

السادس : أن يشكّ في شيء من ذلك بالنسبة إلى رفع الرأس من السجدة

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٣٥٢

الأُولى وهو في حال الهوي إلى السجدة الثانية.

والفرع الأوّل وإن كان هو مورد رواية عبد الرحمن المتضمّنة لجريان القاعدة وعدم الاعتناء بالشكّ المذكور ، وكذلك الفرع الثاني هو مورد لرواية أبان المتضمّنة لقوله عليه‌السلام « يسجد » الظاهرة في عدم جريان القاعدة فيه ، حتّى أنّ المرحوم السيّد قدس‌سره في العروة ألحق به الفرع الثالث وجعل كلاً منهما خارجاً عن مقتضى القاعدة من كون المقام من قبيل الشكّ بعد التجاوز ، وكذلك الفرع الرابع فإنّ شيخنا قدس‌سره يريد أن يجعله خارجاً من محلّ البحث بدعوى كون الهوي إلى الركوع جزءاً صلاتياً لا من المقدّمات.

إلاّ أنّا مع ذلك كلّه لابدّ لنا من بيان أساس هذا المبحث ، وأنّ الغير في مفاد قاعدة التجاوز هل يكون مختصّاً بالأجزاء المستقلّة ولا يكون شاملاً لمقدّمات الأجزاء أو لا ، والذي بنى عليه شيخنا قدس‌سره هو الأوّل ، أعني اختصاص الغير بالأجزاء وعدم شموله للمقدّمات.

ولا يخفى أنّ إتمام هذه الدعوى لا يمكن إلاّبأحد دعويين : الدعوى الأُولى : هي دعوى استفادة السنخية من قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء شككت فيه وقد دخلت في غيره » بين المدخول فيه والمشكوك ، فبعد البناء على أنّ المراد من « كلّ شيء » هو الأجزاء لابدّ أن يكون المراد من الغير هو الأجزاء أيضاً ، فلا يشمل المقدّمات.

وهذه الدعوى لا تتمّ على مسلكه قدس‌سره من كون هذه القاعدة عامّة شاملة لقاعدة الفراغ والتجاوز ، بل على مسلكه قدس‌سره لا يكون مفادها إلاّقاعدة الفراغ ، غايته أنّ الشكّ في الجزء بعد الدخول في غيره يكون محقّقاً للفراغ من ذلك الجزء بعد اعتبار الجزء شيئاً مستقلاً في عرض الكل ، وقد عرفت أنّه قدس‌سره يعتبر في

٣٥٣

قاعدة الفراغ الدخول في الغير استناداً إلى ما عرفت من الروايات ، وقد تقدّم أنّه لو استند إلى هاتين الروايتين ـ أعني رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر ـ إلى ما أفاده من اعتبار الدخول في الغير في القاعدة المذكورة ، لكان ذلك أولى من الاستدلال على ذلك بالروايات الواردة في باب الوضوء.

وعلى كلّ حال ، نقول : إنّه قدس‌سره لمّا بنى أنّه لابدّ في قاعدة الفراغ من الدخول في الغير ، وأنّ هذه الكلّية ـ أعني كلّ شيء شككت فيه الخ ـ شاملة لقاعدة الفراغ أو أنّها هي بنفسها قاعدة الفراغ ، لم يمكنه أن يدّعي السنخية بين « الغير » المدخول فيه و « الشيء » المشكوك فيه ، إذ لا ريب في أنّه لا يعتبر في « الغير » المدخول فيه في قاعدة الفراغ في الصلاة أن يكون من سنخ المشكوك فيه ، ضرورة الاكتفاء في ذلك بمثل الحدث والضحك ونحوهما من منافيات الصلاة ، هذا على مسلكه قدس‌سره من إرجاع القاعدتين إلى كبرى واحدة.

وأمّا بناءً على ما سلكناه من كون كلّ منهما قاعدة مستقلّة وأنّ ما تضمّنته رواية زرارة ورواية إسماعيل بن جابر مختصّ بقاعدة التجاوز ، فأيضاً لا تتمّ دعوى السنخية المذكورة ، لما عرفت من أنّ أساس هذه القاعدة هو بناء العقلاء على أنّ المكلّف الذي تعلّقت إرادته بالكلّ ينبعث إلى الاتيان بكلّ جزء في محلّه ومورده ، على وجه لا يجوز محلّ ذلك الجزء إلاّبعد أن يأتي بذلك الجزء ، وسواء قلنا إنّ هذا التصرّف الشرعي هو إمضاء لما عليه العقلاء أو أنّه تأسيس لا يكون إلاّ عبارة عن الأخذ بهذا الأساس الذي شرحناه ، وهو أنّ المكلّف المقدم على عمل مركّب لا ينتقل من محلّ الجزء إلاّبعد فراغه منه والاتيان به في محلّه ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى يتحقّق فيما لو كان خروجه من محلّ ذلك الجزء إلى جزء آخر ، أو كان إلى مقدّمة جزء آخر ، لاشتراكهما في أنّه قد جاز محلّ ذلك الجزء

٣٥٤

المشكوك الذي هو ـ أعني خروجه عن محلّ ذلك الجزء المشكوك وتجاوزه عنه ـ الأساس في الحكم بأنّه قد فعله في محلّه.

وبعبارة أُخرى : أنّ أساس هذا البناء العقلائي أو ذلك التعبّد الشرعي وهو التجاوز عن المحلّ وإن كان ملازماً للدخول في الغير ، إلاّ أنّ الدخول في الغير لا مدخلية له في ذلك الحكم ، وإنّما تمام ما له المدخلية فيه هو مجرّد المجاوزة عن محلّ الجزء المشكوك والخروج منه ، سواء كان خروجه منه إلى جزء آخر أو كان خروجه منه إلى مقدّمة من مقدّمات الجزء الآخر.

ولعلّ من لم يعتبر الدخول في المقدّمة نظر إلى أنّ مجرى هذه القاعدة هو المركّب من أجزاء متّصل بعضها ببعض ، ولا يكون الخروج عن السابق إلاّ بالدخول في نفس اللاحق ، فكان ذلك موجباً لحكمه بأنّه لابدّ في جريان قاعدة التجاوز من الدخول في الجزء اللاحق ، غفلة عن أنّه ربما كان للجزء اللاحق مقدّمة سابقة عليه فاصلة بينه وبين الجزء السابق.

وكيف كان ، فقد ظهر لك أنّ دعوى السنخية المذكورة لا يمكن الركون إليها في إتمام القول بأنّه لابدّ في المدخول فيه من كونه جزءاً لا مقدّمة جزء ، سواء قلنا بما أفاده شيخنا من وحدة القاعدتين ، أو قلنا بما تقدّم ذكره من تعدّدهما.

وحينئذ لابدّ في ذلك من الركون إلى الدعوى الثانية ، وهي دعوى استفادة ذلك من رواية إسماعيل بن جابر (١) ، بدعوى دلالتها على المفهوم الذي عرفت شرحه ، وأنّه مستفاد من كونها واردة في مقام تحديد أوّل حدّ لإجراء قاعدة التجاوز في الركوع مثلاً والسجود ، أو أنّه مستفاد من مفهوم الشرط باعتبار إرجاعه إلى القيد ، أو من مفهوم نفس القيد أعني قوله عليه‌السلام « بعد ما قام » مثلاً ، وعلى أيّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٧ / أبواب الركوع ب ١٣ ح ٤.

٣٥٥

حال يكون مفهومه أنّه إذا شكّ قبل تمام القيام بأن شكّ في حال النهوض كان عليه الاعتناء بشكّه ، لكن شيخنا قدس‌سره يقول إنّ هذا المفهوم لا يمكن أن يكون مخصّصاً لعموم « الغير » في قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء شككت فيه ودخلت في غيره » (١) للزوم اجتماع الخاصّ والعام في كلام متّصل ، وهو أقبح من تخصيص المورد ، فلابدّ أن نقول : إنّ هذا المفهوم كاشف عن أنّ الغير لا يشمل المقدّمات ، ويكون المقام من قبيل التخصّص لا التخصيص.

وكأنّه قدس‌سره إنّما فرّ من طريقة التخصيص لأنّها توجب قصر الدعوى على هاتين المقدّمتين دون باقي المقدّمات ، إلاّبدعوى استفادة التعميم فيها لكلّ مقدّمة ودونه خرط القتاد.

وعلى كلّ حال ، فإنّ أساس انحصار الغير بالأجزاء إنّما هو دعوى [ دلالة ] الرواية الشريفة على المفهوم المذكور الموجب لتخصيص عموم الغير أو تخصّصه بالأجزاء ، وإلاّ فإنّ عموم الغير لو خلّينا نحن وقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء شككت وقد دخلت في غيره » (٢) يكون شاملاً للمقدّمات كنفس الأجزاء ، لكن الموجب لنا لرفع اليد عن ذلك العموم تخصيصاً أو تخصّصاً هو ما تضمّنه صدر الرواية الشريفة من الدلالة على المفهوم المذكور.

ويمكن المنع من هذه الدلالة ، أمّا مفهوم التحديد فواضح لتوقّفه على إحراز كونه عليه‌السلام بصدد بيان أقلّ حدّ تجري فيه قاعدة التجاوز ، ولم يثبت ذلك. وأمّا دعوى مفهوم الشرط فإنّه يرجع إلى مفهوم القيد ، ليكون الشرط هو الشكّ المقيّد بكونه واقعاً بعد القيام ، وإلاّ فإنّ مفهوم الشرط ليس إلاّنقيضه وهو في

__________________

(١ و ٢) ورد في رواية إسماعيل بن جابر ما نصّه : « ... كلّ شيء شكّ فيه ممّا قدجاوزه ودخل في غيره ... ».

٣٥٦

المقام عدم الشكّ ، وإذا رجع بالأخرة إلى مفهوم القيد الذي هو الظرف كان ذلك من قبيل مفهوم اللقب ، وهو قدس‌سره لا يقول به.

ثمّ لو سلّمنا دلالة الجملة في حدّ نفسها على المفهوم ، فهو إنّما يكون حجّة إذا لم يكن قد اتّصل بها ذلك العموم ، أمّا بعد فرض اتّصاله بها فلا يبقى موضع للمفهوم وإن كان المفهوم أخصّ كما حرّرناه عنه قدس‌سره في آية النبأ (١) ، وحينئذ يكون الساقط هو المفهوم لا العموم.

ولو سلّمنا أنّ العام لا يكون مسقطاً للمفهوم الخاصّ فلا أقل من الإجمال والتوقّف في الدلالة على المفهوم ، وحينئذ يكون المرجع هو العموم في رواية زرارة (٢) لسلامته من المزاحمة بذلك المفهوم.

ثمّ لو سلّمنا تمامية المفهوم حتّى مع اتّصال العام به فلا مانع من كونه من قبيل التخصيص ، وما أُفيد فيما نقلناه عنه قدس‌سره (٣) من كونه قبيحاً أو أنّه أقبح من تخصيص المورد لم يتّضح وجهه ، لإمكان اجتماع الخاصّ مع الحكم العام في كلام واحد كأن يقول : لا تكرم النحويين وأكرم العلماء ، ولا ينحصر حسنه بطريقة الاستثناء وما أُلحق به من التقييد ، وحينئذ لا تكون رواية إسماعيل دالّة إلاّعلى أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في صورة الشكّ في الركوع عند الهوي إلى السجود ، وفي صورة الشكّ في السجود عند النهوض إلى القيام ، والصورة الثانية لا كلام لنا فيها ،

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يشير بذلك إلى التحريرات المخطوطة عن شيخه قدس‌سره ، وعلى أيّ حال فراجع فوائد الأُصول ٣ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) الواردة في وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٢٣ ح ١.

(٣) في الصفحة : ٣٤٩.

٣٥٧

لأنّها مورد النصّ في رواية أبان (١) ، والأُولى معارضة بما دلّت عليه رواية عبد الرحمن من جريان قاعدة التجاوز فيها ، ولا أقل من التساقط والرجوع إلى عموم رواية زرارة.

أمّا ما أُفيد في التنبيه الأوّل من التصرّف في رواية عبد الرحمن وإخراجها عمّا هو محلّ الكلام من الدخول في مقدّمة السجود بحمل الهوي إلى السجود على الدخول في الجزء الصلاتي الذي هو ذلك الجزء الأخير من الهوي الذي يكون قبيل وضع الجبهة على الأرض ، فذلك أشبه شيء بالجمع التبرّعي كما شرحناه في التعليق على التنبيه المذكور ، فراجع.

ولا يخفى أنّه قد قال في العروة : والظاهر عدم الفرق بين أن يكون ذلك الغير من الأجزاء أو مقدّماتها ، فلو شكّ في الركوع أو الانتصاب منه بعد الهوي للسجود لم يلتفت الخ (٢) ، ولم يعلّق عليه قدس‌سره بما محصّله أنّ ذلك منحصر بما لو كان قبيل وضع جبهته على الأرض ، أمّا لو كان قبل ذلك كان عليه الرجوع ، ومقتضى ما أفاده في هذا التنبيه هو لزوم الرجوع لو كان قد شكّ قبل وصوله في الهوي إلى ذلك الحدّ ، فتأمّل.

قال السيّد سلّمه الله في تحريره عن شيخنا قدس‌سره : وأمّا إذا قلنا بأنّهما من الأفعال كما هو المختار عندنا ، فلابدّ من اعتبار آخر مرتبة الهوي المتّصل بالهيئة الساجدية في حقيقة السجود ، كما أنّه لابدّ من اعتبار آخر المرتبة المتّصلة بالهيئة الراكعية أو تمام الهوي المتّصل بالقيام بعد الركوع في حقيقة الركوع أيضاً الخ (٣)

__________________

(١) تقدّمت في الصفحة : ٣٥١.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٣٥.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

٣٥٨

يحتمل أن لا يكون قوله : ( بعد الركوع ) متعلّقاً بقوله : ( بالقيام ) بل يكون متعلّقاً بما دلّ عليه الكلام السابق ، وحاصله : أنّ هذا الهوي الذي هو قبيل الوصول إلى حدّ الراكع أو هو من حين ابتدائه من القيام إنّما هو يكون جزءاً من الركوع إذا تحقّق الركوع بعده ، أمّا لو هوى ولم يركع بل استمرّ في هويّه إلى السجود لم يكن ذلك الهوي من أوّله إلى آخره جزءاً من الركوع.

ولا يخفى بُعده ، فإنّه بناءً على أنّ الركوع من مقولة الفعل إذا قصد الهوي إلى الركوع ولكنّه لم يتوقّف حين وصوله إلى حدّ الراكع بل استمرّ هاوياً إلى أن تجاوز حدّ الركوع إلى السجود ، قد يقال إنّه قد تحقّق منه الركوع لكنّه لم يستقرّ فيه.

ويمكن أن يكون قوله ( بعد الركوع ) غلطاً من الناسخ ، وأنّ الصواب : قبل الركوع. ويمكن أن يكون المراد هو أنّ الركوع عبارة عن الهوي من القيام الأوّل إلى أن يعود إلى القيام الثاني الذي هو بعد الركوع ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : ولا تجري قاعدة التجاوز عند الشكّ في أوّل السورة مع كون المكلّف في آخرها ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام : إنّه إذا كانت السورة من السور الطوال مثل البقرة بل يس والجمعة والمنافقون ، ففيه تأمّل ، فإنّ مقتضى ما تقدّم وإن كان هو عدم الدخول في القاعدة ، إلاّ أنّ الانصاف أنّ الذهن العرفي لا يساعد عليه بل الذوق الفقهي لا يساعد عليه أيضاً ، فالأحوط الاعادة بقصد القربة المطلقة.

وقد حرّرت عنه قدس‌سره في الدروس الفقهية : أنّه إن كان المنشأ في ذلك الشكّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٦.

٣٥٩

هو طول السورة وغيبوبة الاتيان بها عن الذهن بواسطة طول السورة لم يعتن بذلك الشكّ ، لا لأجل القاعدة المذكورة ، بل لأجل أنّ هذا الشكّ غير عقلائي ، والشكّ الذي يكون منشأ للآثار هو الشكّ العقلائي. وإن كان منشأ الشكّ المذكور هو بعض الطوارئ والعوارض غير طول السورة وغيبوبة الاتيان بأوّلها عن ذهنه بواسطة طولها ، لم يكن مشمولاً لهذه القاعدة ووجب الاعتناء به والعود إلى أوّل السورة ، ولأجل استبعاد ذلك في الذوق الفقهي ، فالأحوط هو العود بقصد القربة المطلقة ، انتهى.

ولا يخفى أنّه تكلّف ، منشؤه عدم دخول أجزاء الأجزاء في قاعدة التجاوز.

قوله : وحكي عن بعض أنّه حمل قوله عليه‌السلام في رواية زرارة وإسماعيل ابن جابر : ( شكّ في الركوع وقد سجد أو بعد ما سجد ) على الهوي إلى السجود ، ولا يخفى بُعده ، فالأولى أن يقال : إنّ للهوي إلى السجود مراتب ... الخ (١).

الإنصاف : أنّ حمل قوله « وقد سجد » على الهوي إلى السجود بعيد جدّاً ، وهذا بخلاف حمل قوله « وقد هوى إلى السجود » على الوصول إلى السجود أو على المرتبة الأخيرة من الهوي التي هي قبيل وضع الجبهة على الأرض ، بناءً على أنّ السجود من قبيل الفعل لا من قبيل الهيئة ، فإنّ الحمل على أحد هذين الوجهين ليس بهذه المثابة من البعد ، ولكن مع ذلك لا يخلوان من بُعد ، خصوصاً لو قلنا إنّ الظاهر من قوله « أهوى » دخل في الهوي ، بخلاف قوله « هوى » فإنّه يدلّ على أنّه تحقّق منه الهوي.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ العموم كافٍ في دخول الهوي إلى السجود في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٦٣٦.

٣٦٠