أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

إلاّ أنّه لمّا كان المنفي هنا هو صرف الطبيعة ، بحيث كان المنهي عنه والمحرّم هو صرف الطبيعة ، لم يكن استصحاب الحكم في مورد الشكّ وعدم إمكان التمسّك بذلك العموم من قبيل جرّ الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، بل لا يكون المستصحب إلاّحكم الطبيعة ، وهي واحدة لا تعدّد في مصاديقها ، وإن كان تعلّق هذا الحكم بها موجباً للشمول لجميع أفرادها الطولية والعرضية ، كما يظهر ذلك بمقايسة باب النهي بباب الأمر ، حيث إنّ تعلّق الأمر بالشرب يكون شاملاً للأفراد الطولية ، غايته أنّ الشمولي بدلي ، ومقتضاه الاكتفاء بواحد من تلك الأفراد الطولية ، ويكون ذلك الفرد محقّقاً للامتثال.

وحينئذ نقول في باب النواهي إنّ كلّ واحد من تلك الأفراد الطولية يكفي في صدق الطبيعة ، ويكون محقّقاً للعصيان كما كان محقّقاً للاطاعة في باب الأوامر ، ولا يكون منشأ ذلك إلاّصدق الطبيعة المنهي عنها ، وإذا صدقت عليه الطبيعة المنهي عنها ، كان ذلك هو عين ما ذكرناه من شمول الشرب في مثل لا تشرب للأفراد الطولية كالأفراد العرضية ، ومع هذا كلّه لا يكون استصحاب الحكم الوارد على الطبيعة من قبيل جرّ الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ثمّ إنّه عند الشكّ في بعض الحالات مثل حالة المرض ونحوه ، يكون المرجع هو الاطلاق الأحوالي في ناحية المكلّف إن جعلناه من حالات المكلّف ، وإن جعلناه من حالات المكلّف به ، أعني بذلك أنّ حالة المرض من حالات الشرب المنهي عنه ، يكون المرجع هو الاطلاق الأحوالي لنفس الشرب المذكور.

وإن شئت فقل : إنّ المرجع في هذه الصورة هو شمول الطبيعة المنهي عنها للأفراد العرضية ، ولو لم يكن في البين إطلاق أحوالي بحيث يشمل حالة المرض كان المرجع هو استصحاب حرمة الشرب ، وليس الرجوع إلى هذا الاستصحاب مبنياً على أخذ العموم الأزماني في ناحية الحكم لا في ناحية المتعلّق ، كي

٤٠١

يستكشف من رجوعهم إليه أن نظرهم إلى أخذه في ناحية الحكم ، لما عرفت من أنّه بناءً على هذه الطريقة لا يكون في البين عموم أزماني أصلاً كي يكون أخذه في ناحية المتعلّق مانعاً من الاستصحاب ، وأخذه في ناحية الحكم غير مانع منه.

ثمّ لا يخفى أنّا لو قلنا بأنّ العموم الأزماني في باب الأوامر في مثل وجوب الوفاء بالعقد مأخوذ في ناحية المتعلّق ، لم يكن ذلك راجعاً إلى الوجوب المعلّق بمعنى أنّه يجب الآن الوفاء الذي هو في الآن الثاني ، بل إمّا أن نقول بأنّ الوجوب مستمرّ مع استمرار الوفاء حسب الآنات التي يكون الوفاء مظروفاً لها ، فيكون أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ملازماً لأخذه في ناحية الحكم ، أو نقول بأنّ الوجوب الوارد على تلك الوفاءات المتدرّجة حسب تعدّد الآنات ، يكون بالنسبة إلى كلّ واحد من تلك الوفاءات مشروطاً بحضور زمانه ، وهذا الأخير هو الأصوب ، فإنّ الوفاء الذي تعلّق به الوجوب لمّا كان قد أُخذ مظروفاً للأزمنة المتتالية ، كان لازم ذلك هو كون الوجوب المتعلّق به مشروطاً بذلك الزمان ، كما هو الشأن في كلّ واجب مقيّد بالزمان.

وأنت إذا عرفت الحال في باب الأوامر تعرف منه الحال في باب النواهي فإنّ شرب الخمر عند تعلّق النهي به لمّا كان قد أُخذ بمعنى صرف الطبيعة المنطبقة على الأفراد الطولية كانطباقها على الأفراد العرضية ، كان كلّ واحد من الأفراد الطولية متعلّقاً للنهي بما أنّه مصداق لتلك الطبيعة ، ولا ريب أنّ تعلّق النهي بتلك الأفراد المتصوّرة الحصول في الآنات المتأخّرة لا يكون إلاّمشروطاً بحصول ذلك الزمان المتأخّر ، وعند حصوله يكون ذلك الفرد المتصوّر وقوعه فيه مورداً لذلك النهي المشروط بحصول ذلك الزمان.

أمّا الالتزام باستمرار النهي حسب استمرار الشرب ، بحيث إنّه يكون لنا نواهٍ متعدّدة أو نهي واحد مستمر ، فلا يخلو من مقدار من الغموض والإشكال ، لأنّ

٤٠٢

تلك القطعة من النهي الموجودة في الزمان الآتي أيضاً يكون متعلّقها صرف الطبيعة الصادقة على الأفراد الطولية ، فيقع الإشكال في شموله للأفراد الطولية ، وأنّه لا يكون ذلك إلاّمن قبيل الواجب المعلّق.

وحينئذ فلا محيص من الالتزام بما ذكرناه من أنّ تعلّق النهي بصرف الطبيعة يوجب الشمول للأفراد الطولية ، ومقتضى ذلك الشمول هو تعلّق ذلك النهي بتمام تلك الأفراد ، وحيث إنّ زمان تلك الأفراد لم يحصل بعد ، فلا محيص من الالتزام بأنّ ذلك النهي المتعلّق بها يكون مشروطاً بحصول زمانها ، فهذا الاشتراط ناشئ عن الشمول للأفراد الطولية ، فلا يعقل أن يكون ذلك النهي المشروط أيضاً شاملاً للأفراد الطولية ، فتأمّل فإنّ هذا تطويل بلا طائل ، لما حقّقناه وأفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ تعلّق العموم الأزماني بالمتعلّق يوجب قهراً تعلّقه بالتكليف ، سواء كان وجوبياً أو كان تحريمياً ، بل في خصوص التحريمي لا نحتاج إلى العموم الأزماني ، بل يكفينا كون المتعلّق وهو طبيعة الشرب الذي هو مورد النهي شاملاً للأفراد الطولية.

وعلى أي حال ، يكون كلّ واحد من تلك الأفراد الطولية متعلّقاً للتكليف ويكون كلّ واحد من تلك التكاليف مشروطاً بزمان متعلّقه ، فلاحظ.

قوله : فقد يقال : إنّ مصبّ العموم الأزماني في باب النواهي إنّما يكون متعلّق النهي ، بتقريب أنّ تعلّق النهي أو النفي بالطبيعة المرسلة بنفسه يقتضي ترك جميع الأفراد الطولية والعرضية ـ إلى قوله ـ وقد تقدّم أنّ دليل الحكم إنّما يمكن أن يتكفّل ... الخ (١).

كأنّه يريد أن يجعل تعلّق النهي بالطبيعة المرسلة قرينة على العموم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٠.

٤٠٣

الأزماني في الجملة ، من دون تعرّض لكونه في الحكم أو في المتعلّق ، ولكن بواسطة أنّ دليل الحكم لا يمكن أن يتكفّل بالعموم الأزماني في ناحية الحكم نلتزم بأنّ ذلك العموم الأزماني الذي أفاده ذلك الدليل بواسطة تلك القرينة إنّما يكون راجعاً إلى المتعلّق لا إلى الحكم ، على وجه لولا هذه الجهة بأن قلنا بأنّه يمكن أن يكون دليل الحكم متكفّلاً للعموم الأزماني في ناحية الحكم ، لكان من الممكن إرجاع ذلك العموم الأزماني الذي أفادته تلك القرينة ـ التي هي تعلّق النهي بالطبيعة المرسلة ـ إلى الحكم نفسه.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ هذه القرينة تعيّن كون العموم الأزماني إنّما هو في المتعلّق ، ولا دخل لهذا العموم المستفاد من هذه القرينة بالحكم نفسه ، على أنّك قد عرفت أنّ مقتضى هذه القرينة هو العموم والشمول لجميع أفراد الشرب ، وأنّ هذا المعنى لا يرجع إلى العموم الأزماني وإن أفاد فائدته وهي إخراج الحكم عن اللغوية ، فراجع وتأمّل.

قوله : وأمّا ترك الأفراد الطولية فهو إنّما يستفاد من دليل الحكمة وإطلاق النهي ... الخ (١).

المراد من دليل الحكمة هو حكم العقل بلزوم إخراج حكم الشارع عن اللغوية ، ولا ريب أنّ ذلك لا دخل له باطلاق النهي ، فلا وجه لإقحام هذه الكلمة هنا إلاّسهو القلم.

قوله : غايته أنّه في الأوّل يدوم النهي بدوام وجود الموضوع خارجاً وفي الثاني يكون دوامه ببقاء المكلّف على شرائط التكليف (٢).

لا يخفى أنّ الأوّل ـ أعني النهي عن شرب الخمر ـ يكون دوام النهي منوطاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥١.

٤٠٤

أيضاً ببقاء المكلّف على شرائط [ التكليف ] ، فيكون دوامه منوطاً بدوام الموضوع وبقاء المكلّف على شرائط التكليف ، بخلاف الثاني ، فإنّه لمّا لم يكن في البين موضوع خارجي ، يكون دوامه منحصراً ببقاء المكلّف على شرائط التكليف ، والغرض من الدوام هنا هو دوام فعلية النهي ، وإلاّ فإنّ الحكم الكلّي المعلّق على وجود الموضوع وعلى بقاء شرائط التكليف باقٍ مستمر وإن لم يتحقّق موضوعه في الخارج.

قوله : فليس النهي بمدلوله اللفظي يدلّ على العموم الزماني (١).

لم أعرف الوجه في تفريع هذه الجملة على ما نقله عن الأُستاذ قدس‌سره من ميله أخيراً إلى أنّ النهي إنّما يتعلّق بالقدر المشترك بين الأفراد الطولية والعرضية ، فإنّ مقتضى ميله قدس‌سره إلى ذلك ممّا يوجب دلالة النهي على العموم الأزماني ، غايته أنّه في ناحية المتعلّق لا في ناحية الحكم ، اللهمّ إلاّ أن يكون المراد هو ما شرحناه فيما تقدّم (٢) من أنّه بناءً على شمول الطبيعة في مورد النهي للأفراد الطولية لا يكون ذلك من قبيل أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، بل هو من قبيل الشمول لجميع الأفراد من دون فرق بين الطولية والعرضية.

قوله : وقد حكي عن الأصحاب أنّ بناءهم على التمسّك بالاستصحاب في موارد الشكّ في التخصيص الزماني أو في مقداره ، وكأنّهم جعلوا مصبّ العموم الزماني نفس الحكم لا متعلّقه ... الخ (٣).

قد عرفت الوجه في حكم الأصحاب ، كما قد عرفت مراده قدس‌سره من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥١.

(٢) في الصفحة : ٣٩٨.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥١.

٤٠٥

الاستدلال بما حكم به الأصحاب رضوان الله عليهم ، فراجع (١).

قوله : ثمّ لا يخفى عليك أنّه لو بنينا على أنّ النهي بمدلوله اللفظي يدلّ على العموم الزماني ، وأنّ مصبّ العموم هو المتعلّق ، فالتمسّك به في موارد الشكّ في التخصيص أو في مقداره إنّما يصحّ إذا كان لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الحالات ... الخ (٢).

إن كان الشكّ في التخصيص راجعاً إلى الشكّ في التخصيص الأحوالي ، كان التمسّك بالدليل متوقّفاً على إطلاقه بالنسبة إلى الحالات ، ولم ينفع فيه مجرّد العموم الأزماني. وإن كان الشكّ في التخصيص ممحضاً لاحتمال الخروج في بعض الزمان ، كان العموم الزماني نافعاً في إزالته من دون توقّف على الاطلاق الأحوالي كما سيصرّح به.

قوله : فإنّ العموم الزماني إنّما يكون في طول العموم الأفرادي والأحوالي ... الخ (٣).

قد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّه لا وجه لهذه الطولية ، مضافاً إلى أنّ ما هو المراد هنا لا يتوقّف عليها ، فإنّ كون العموم الأزماني لا ينفع في إزالة الشكّ في خروج بعض الأحوال لا يتوقّف على كون العموم الأزماني في طول الاطلاق الأحوالي ، كما أنّ كون الاطلاق الأحوالي لا ينفع في إزالة الشكّ في خروج بعض الأزمان لا يتوقّف على هذه الطولية ولا على عكسها ، بأن نقول إنّ الاطلاق الأحوالي في طول العموم الأزماني.

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٩٣ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥١.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٢.

٤٠٦

وبالجملة : أنّ العموم الأفرادي والاطلاق الأحوالي والعموم الأزماني جهات لاحقة للحكم لا ربط لكلّ واحدة منها بالأُخرى ، وكلّ واحدة من هذه الجهات إنّما هي في عرض الجهة الأُخرى ، والشكّ في أيّ ناحية من هذه الجهات لا يزيله إلاّ العموم والاطلاق من ناحيتها ، ولا يزيله العموم والاطلاق من الناحية الأُخرى ، وهذا المطلب لا يتوقّف على طولية بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر كما شرحناه وأفاده قدس‌سره فيما تقدّم نقله في المباحث السابقة ، فراجع (١).

قوله : ولا يتوهّم أنّ العموم الزماني يغني عن الاطلاق الأحوالي ، بل نحتاج في رفع الشكّ إلى كلّ منهما ... الخ (٢).

قد اتّضح أنّ العموم الزماني ينفع في إزالة الشكّ من حيث الزمان من دون حاجة إلى الاطلاق الأحوالي ، كما أنّ الاطلاق الأحوالي ينفع في إزالة الشكّ في خروج بعض الأحوال من دون حاجة إلى العموم الأزماني ، ولا وجه للاحتياج إلى كلّ منهما في إزالة الشكّ الواحد.

قوله : فإن كان في البين قرينة على كونه قيداً للمتعلّق فهو ، وإلاّ فلابدّ وأن يكون قيداً للحكم ... الخ (٣).

القيد هنا لفظي متّصل وهو قوله تعالى : ( إِلَى اللَّيْلِ ) في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٤) ، وعنده قدس‌سره أنّ القيد إذا كان متّصلاً يتعيّن رجوعه إلى المتعلّق ، كما أنّ الظاهر أنّ هذا القيد ليس على حدّ سائر العمومات الأزمانية ، فإنّه

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٩٣ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٢.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٣.

(٤) البقرة ٢ : ١٨٧.

٤٠٧

ليس إلاّعبارة عن تعيين الزمان الذي يصحّ فيه الصوم ، وأنّه إنّما هو النهار ، فلا مانع من أخذه في الحكم ، إذ ليس ذلك من قبيل الحكم على الحكم كي يكون متأخّراً عنه رتبة ، كما لا مانع من أخذه في المتعلّق ، غايته أنّ ذلك الزمان الخاصّ منحلّ إلى آنات متعدّدة نعبّر عنها بالعموم الأزماني ، هذا.

مضافاً إلى أنّه لو فرضنا كون دليل التقييد بالنهار منفصلاً لكان مقتضى القاعدة هو كونه قيداً للمتعلّق ، لكونه سابقاً في الرتبة ، فلا وجه لتعلّق الوجوب بالامساك المطلق الذي لا يوافق المصلحة ، ثمّ بعد ذلك يحتاج الشارع إلى جعلٍ ثان يعمّم به الحكم ويقيّده بكونه في النهار ، ليكون موافقاً لمصلحته ، على حذو ما مرّ في مسألة اللغوية ، ولا وجه حينئذ للتمسّك باطلاق الامساك على كون النهار قيداً في الوجوب لا في الامساك ، لكون المسألة حينئذ من الشكّ في كيفية الارادة بعد العلم بالمراد ، لا من قبيل الشكّ في المراد ، مضافاً إلى أنّ تقييد الوجوب مع بقاء إطلاق الامساك يكون كالمتهافت ، مضافاً إلى أنّ الموجب للتقييد بالنهار لمّا كان هو المصلحة ، كان ذلك موجباً لكون المقيّد هو الامساك ، إذ لا مصلحة في الامساك غير النهاري ، فيكون انحصار المصلحة بالامساك النهاري هو الدليل على كونه هو المقيّد ، فإنّ الأحكام تابعة للمصالح في المتعلّقات لا في نفس الأحكام.

وكيف كان ، نقول إنّه لو كان هذا القيد راجعاً إلى الحكم فليس محصّله هو الوجوبات المتعدّدة حسب تعدّد الآنات ، على وجه يكون كلّ آن فيه وجوب متعلّق بالامساك ، ويكون ذلك الوجوب وجوباً مستقلاً لا ربط له بالوجوب الآخر على وجه لو سقط الوجوب الآخر لعروض ما يسقطه يبقى الوجوب الأوّل بحاله ، ليتفرّع عليه أنّ مقتضى القاعدة هو لزوم الكفّارة في الصورة المفروضة ، بل إنّه لا يكون إلاّوجوباً واحداً مستمرّاً من أوّل الفجر إلى الغروب ، بحيث إنّه ينحلّ ذلك

٤٠٨

الوجوب ويسقط بتمامه عند سقوطه في قطعة واحدة ، كما يشاهد ذلك فيما لو كان انتفاء بعض الشروط في أوّل الوقت ثمّ في أثنائه حصل الشرط الذي كان مفقوداً ، والظاهر أنّه لا فرق بين السقوط من الأوّل والسقوط من الآخر في كون كلّ منهما يكون موجباً لانحلال ذلك الوجوب وسقوطه في تمام الوقت.

أمّا الكفّارة فلا دليل عليها يعتدّ به سوى الإجماع المنقول في بعض فروع المسألة وهي مسألة تأخّر السفر ، أو الشهرة في غيرها وهي ما لو طرأ الحيض أو الجنون في آخر النهار.

وعلى كلّ حال ، فلو ثبتت الكفّارة لم يكن ثبوتها كاشفاً عن أنّ تلك القطعة هي قطعة صوم حقيقي واقعي ، بل أقصى ما فيه أن نقول : يجب الامساك لمن علم أنّه يطرؤه العذر لأجل الاحترام ليس إلاّ ، وأنّ هذا المقدار من الحكم الاحترامي تترتّب الكفّارة على تعمّد مخالفته لا أنّه صوم شرعي.

والحاصل : أنّ من طرأه العذر في آخر الوقت خصوصاً مثل الحيض والجنون لا يكون الصوم في الواقع واجباً عليه من أوّل الوقت ، سواء قلنا بأنّ المقيّد بالزمان هو نفس الوجوب ، أو قلنا بأنّ المقيّد به هو الواجب الذي هو الامساك.

أمّا الثاني فواضح ، لأنّ مقتضى تعلّق الوجوب الآن بالامساك الحاصل في جميع أجزاء النهار يوجب أن تكون الشروط في الآنات اللاحقة شروطاً في نفس ذلك الوجوب السابق ، غايته أنّها لمّا كانت متأخّرة قلنا إنّ الشرط هو العنوان المنتزع أعني التعقّب ، كما أنّ تعلّق الوجوب الآن بالامساك الذي هو في آخر النهار لا يكون من قبيل المعلّق ، لأنّه بالنسبة إلى تلك القطعة من الامساك يكون مشروطاً بحصول زمانها ( وهذا هو الأولى في دفع إشكال التعليق ، فراجع ما

٤٠٩

حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره في المسألة المذكورة ) (١).

وأمّا على الأوّل فلما عرفت من ارتباط الوجوب الذي هو في الآن الأوّل بالوجوب الذي هو في الآن الثاني على وجه التلازم بينهما حدوثاً وسقوطاً ، لأنّ الارتباطية في المتعلّق وإن لم تكن موجبة إلاّ التلازم في مرحلة الامتثال دون التلازم بين التكليفين ، بحيث إنّه لو كان التكليف بالجزء الثاني موجوداً كالتكليف بالجزء الأوّل ، لكان مقتضى الارتباطية هو توقّف صحّة الامتثال في الأوّل على الامتثال في الثاني كالعكس ، ولو كان التكليف بالثاني ساقطاً سقطت الارتباطية كما نراه في تعذّر بعض أجزاء الصلاة ، فإنّه لا يوجب سقوط الباقي ، وحينئذ فلا تكون الارتباطية بنفسها موجبة للتلازم بين التكليفين إلاّ إذا كان المتعذّر ركناً كما في الطهور ، فإنّ ارتباطيته مع باقي الأجزاء والشرائط كانت على نحو الركنية على وجه لو تعذّر يكون تعذّره موجباً لسقوط الأمر بالباقي ، فهذه الارتباطية توجب كون القدرة على الثاني واجتماع الشرائط فيه معتبرة في التكليف الأوّل ، والامساك المتأخّر بالنسبة إلى المتقدّم يكون من هذا القبيل ، بمعنى أنّا ولو قلنا إنّ الزمان قيد في الوجوب ، إلاّ أنّ شرائط الوجوب المتأخّر تكون معتبرة في الوجوب المتقدّم ، لأنّ نسبة الامساك المتأخّر إلى مجموع الامساك في تمام النهار يكون من قبيل الركن الذي يكون انتفاؤه موجباً لانتفاء الكل ، إذ لا يتبعّض الصوم ، وحينئذ فبالأخرة تكون القدرة واجتماع شرائط الوجوب في الزمان المتأخّر شروطاً في التكليف الموجود في الزمان المتقدّم.

__________________

(١) [ يحتمل أن يكون مراده قدس‌سره تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس‌سره ، وعلى كلّ حال فهذه العبارات تقدّمت بعينها في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : ٩٨ وما بعدها فراجع ].

٤١٠

فالأولى أن تجعل ثمرة هذا النزاع هو الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند سقوط العموم ، كما لو شككنا في القطعة التي هي ما بين غروب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية ، فإنّه بناءً على كون المقيّد بالزمان هو الحكم يمكن استصحاب ذلك الحكم إلى تلك القطعة ، بناءً على أخذه ظرفاً لا قيداً ، بخلاف [ ما ] لو قلنا إنّ الزمان قيد للمتعلّق الذي هو الامساك ، فإنّه بعد سقوط ذلك العموم للشكّ في شموله لتلك القطعة لا يمكن الرجوع إلى استصحاب نفس الحكم في تلك القطعة ، بناءً على أنّ رجوع هذا القيد إلى المتعلّق يكون موجباً لأن يكون محصّل الحكم هو وجوب كلّ واحد من تلك الامساكات ، فيكون كلّ واحد موضوعاً برأسه [ و ] يكون الاستصحاب من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر ، وقد تقدّمت الاشارة إلى هذه المسألة في بعض المباحث السابقة ، وقلنا بأنّ رجوع العموم الأزماني إلى المتعلّق لا يكون موجباً لتقيّد كلّ واحد من [ أجزاء ] ذلك الفعل بزمان خاصّ ، بل لا يخرج بذلك عن الظرفية ، فلا يكون في البين حينئذ مانع من الاستصحاب حتّى بناءً على رجوع القيد فيما نحن فيه إلى المتعلّق ، ويكون النهار ظرفاً للامساك لا للوجوب ، فراجع وتأمّل.

والحاصل : أنّه لا ريب في ارتباطية الصوم ، وأنّه لا يتبعّض من حيث الاطاعة والعصيان ، بحيث إنّه لو أمسك في أوّل [ النهار ] ثمّ إنّه أكل في آخره أو بالعكس ، لم يكن مطيعاً فيما أمسك فيه ، وهذا المقدار مسلّم لا ريب فيه ، فإنّا لو قلنا بأنّ الزمان قد أُخذ ظرفاً للوجوب لا للامساك يكون لنا وجوبات متعدّدة حسب تعدّد تلك الآنات ، أو يكون لنا وجوب واحد مستمرّ من أوّل الفجر إلى الغروب ، وعلى أيّ حال يكون لنا إمساكات متعدّدة حسب تعدّد تلك الوجوبات ، أو إمساك واحد مستمر حسب استمرار ذلك الوجوب ، وحينئذ نقول

٤١١

إنّه لا ريب في ارتباطية تلك الامساكات أو ارتباطية أجزاء ذلك الامساك الواحد المستمرّ.

وبالجملة : أنّا لو أخذنا الزمان قيداً في الوجوب لم يكن ذلك موجباً للخروج عن مقتضى هذه الارتباطية التي عرفت أنّها مسلّمة لا ريب فيها ، وعليه نقول : إنّ ارتباط بعض الأجزاء ببعض تارةً يكون في مقام الاطاعة والعصيان فقط فلو طرأ على بعض هذه الأجزاء ما يوجب سقوط التكليف بها ، ولم يكن اعتبار ذلك البعض مطلقاً على وجه يكون تعذّره موجباً لتعذّر المجموع ، بحيث يكون سقوط التكليف به موجباً لسقوط الأمر بالباقي ، ففي مثل ذلك لم يكن مقتضى هذه الارتباطية إلاّمجرّد التلازم في مقام الاطاعة والعصيان ، من دون أن يكون سقوط التكليف في بعضها موجباً لسقوطه في الباقي ، أمّا لو كان اعتبار ذلك البعض المتعذّر مطلقاً ويعبّر عنه بالركن ، كما في مثل مطلق الطهور بالنسبة إلى الصلاة ، فإنّ تعذّره يوجب تعذّر الصلاة ، ويكون سقوط الأمر به موجباً لسقوط الأمر بالصلاة ، ففي مثل ذلك تكون الارتباطية موجبة للتلازم بين التكليفين في مقام البقاء والسقوط ، مضافاً إلى التلازم في مقام الامتثال.

وقد فهمنا من مجموع الأدلّة الواردة في باب الصوم أنّ كلّ جزء من أجزاء النهار لو طرأ عليه ما يوجب سقوط التكليف بالامساك فيه ، كان ذلك موجباً لسقوط الأمر به في باقي أجزاء النهار ، كما يستفاد ذلك من أدلّة اشتراط عدم الحيض والجنون والسفر ، فيكون نسبة كلّ إمساك من تلك الامساكات إلى باقيها ، كنسبة الركن إلى المركّب في أنّ سقوط التكليف به يكون موجباً لسقوط التكليف بالبواقي ، وبناءً على ذلك يكون الوجوب في الآن الأوّل ـ بناءً على كون الزمان قيداً للوجوب ـ مشروطاً باجتماع الشرائط فيه وفيما بعده من الآنات ، فلابدّ

٤١٢

حينئذ من الالتزام بكون الشرط هو التعقّب فراراً من الالتزام بالشرط المتأخّر ، كما هو الحال فيما لو قلنا بأنّ الزمان قيد للامساك لا لوجوبه ، ومقتضاه هو أن لا يكون الوجوب في الآن الأوّل متحقّقاً لمن كان في آخر النهار خارجاً عن هذه الشروط ، فلا وجه حينئذ لوجوب الكفّارة عليه ، بل لا وجه للالتزام بكون الامساك واجباً عليه فيما لو كان قد علم بأنّه في آخر النهار يطرؤه زوال بعض الشرائط ، اللهمّ [ إلاّ ] أن يستفاد من الإجماع ونحوه وجوب الامساك عليه وجوباً احترامياً ، لا أنّه صيام حقيقي ، والشاهد على ذلك هو عدم التزامهم بوجوب القضاء في مثل الموت والجنون ونحوهما ، أمّا الكفّارة فمقتضى القاعدة هو عدم وجوبها في مخالفة ذلك الحكم الاحترامي ، إلاّ أن يدّعى أنّه يستفاد من أدلّتها التوسعة لمثل هذه الجرأة على المخالفة ، وإن لم يكن ذلك الذي خالفه وهو الأمر بالامساك صوماً حقيقة.

وقد استدلّ الجماعة قدس‌سرهم لوجوب الكفّارة عليه في بعض فروع المسألة وهي مسألة السفر بعد الافطار العمدي فراراً من الكفّارة ، بما اشتملت عليه صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم ـ في حديث طويل ـ قالا « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيّما رجل كان له مال وحال عليه الحول فإنّه يزكّيه. قلت له : فإن وهبه قبل حلّه بشهر أو يومين؟ قال : ليس عليه شيء أبداً ». قال وقال زرارة عنه إنّه قال : « إنّما هذا بمنزلة رجل أفطر في شهر رمضان يوماً في إقامته ثمّ خرج في آخر النهار في سفر ، فأراد بسفره ذلك إبطال الكفّارة التي وجبت عليه ». وقال : « إنّه حين رأى الهلال الثاني عشر وجبت عليه الزكاة ولكنّه لو كان وهبها قبل ذلك لجاز ولم يكن عليه شيء بمنزلة من خرج ثمّ أفطر » (١) انتهى (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ١٣٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٥٨ ح ١.

(٢) عن الحدائق [ منه قدس‌سره. الحدائق الناضرة ١٣ : ٢٣٤ ].

٤١٣

والمشار إليه بقوله عليه‌السلام : « هذا » هو الفرض الأوّل ، وهو من أراد الفرار من الزكاة بعد تعلّقها بتمام الحول عليه ، ولم أتوفّق للوجه في دلالة هذه الجملة الشريفة لما نحن فيه ، فإنّ المفروض فيها هو السفر في آخر النهار ، ولا إشكال في أنّه لا يسقط وجوب الصوم فيما قبله ، وإنّما الذي يسقطه هو السفر قبل الزوال ، فإنّ ذلك هو محلّ الكلام في أنّه لو طرأ هل يوجب سقوط الكفّارة ، دون ما لا يكون مسقطاً للصوم الذي هو السفر بعد الزوال.

ولم أعثر على من استشكل في دلالة الرواية من هذه الجهة إلاّ المرحوم الحاج الشيخ عبد الله المامقاني في حواشيه على كتابة والده في الصوم (١) ، ولم أعثر لهذا الإشكال على إشارة من أحد الأصحاب أو تلويح إليه. ولعلّهم فهموا منها أنّ قصد الفرار بالسفر لا يكون رافعاً للكفّارة.

وحاصله : أنّ الرواية تعطي المقابلة بين السفر والهبة وبين الزكاة ووجوب الكفّارة ، فإن كانت الهبة قبل أوان وجوب الزكاة والسفر قبل أوان وجوب الكفّارة فلا شيء عليه ، وإن كان السفر بعد أن وجبت عليه الكفّارة وكانت الهبة بعد أن وجبت عليه الزكاة ، لم يكن ذلك مسقطاً لهما.

والحاصل : أنّه يستفاد من مجموع الرواية أنّ المدار في الكفّارة على كون موجب الكفّارة قبل السفر ، سواء كان السفر قبل الزوال أو بعده بحيث يكون السفر بعد الافطار ، فالإمام عليه‌السلام في مقام بيان أنّ السفر الذي هو في حدّ نفسه موجب لسقوط وجوب الصوم لو أقدم عليه المكلّف بعد أن أقدم على موجب الكفّارة ، وكان إقدامه على السفر لأجل الفرار والتخلّص من وجوب الكفّارة ، لا يكون اختياره لذلك السفر موجباً لتخلّصه من وجوب الكفّارة. وربما يؤيّد كون

__________________

(١) منتهى مقاصد الأنام في شرح شرائع الإسلام : ٤٨٦ / تعليقة رقم ٣٧.

٤١٤

المراد هو هذا المعنى قوله عليه‌السلام في الفقرة الثانية وهي قوله عليه‌السلام : « بمنزلة من خرج ثمّ أفطر » فإنّه يتعيّن حمله على من خرج قبل الزوال ، وإلاّ فإنّ الخروج بعد الزوال ثمّ الافطار بعد الخروج لا يكون موجباً لسقوط الكفّارة.

ولا يخفى أنّ استفادة هذا الاطلاق من الرواية مع تصريحها بأنّ السفر في آخر النهار ، يحتاج إلى فقاهة قوية يقصر عنها ذهني القاصر ، فإنّ المقابل للهبة في الرواية إنّما هو السفر في آخر النهار ، وهو الذي يكون بعد تحقّق الكفّارة ، لأنّه واقع بعد أن تمّ وجوب الصوم عليه في تمام النهار ، فلا يكون وقوعه رافعاً للكفّارة ، ولا تعرّض للرواية للسفر قبل الزوال ، بل قد يقال : إنّ تقييد السفر المحكوم عليه بأنّه لا يسقط الكفّارة بكونه في آخر النهار لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أنّه لو كان قبل الزوال لم يكن محكوماً عليه [ بأنّه ] لا يسقط الكفّارة ، بل كان محكوماً عليه بأنّه مسقط لها ، ويكون حاله حال من وهب قبل وجوب الزكاة عليه.

ولا يخفى أنّ هذه الرواية طويلة ذكرها في الجواهر في كتاب الزكاة في شرح قول المصنّف : لا زكاة في السبائك ، وقيل : إذا عملهما كذلك فراراً وجبت الزكاة ولو كان قبل الحول. قال في الجواهر بعد ذكر بعض متن الرواية : والظاهر من قوله عليه‌السلام : « هذا » الاشارة إلى قوله : « أيّما رجل كان له مال وحال عليه الحول فإنّه يزكّيه » والصواب : « ثمّ وهبه فإنّه يزكّيه » ، ولعلّه سقطت كلمة « ثمّ وهبه » من قلم النسّاخ ، أو اكتفي عنها بدلالة ما بعدها الخ (١).

أمّا ما ذكر في كتاب الصوم فهو ما في الشرائع والجواهر : فرع : من فعل ما تجب به الكفّارة ثمّ سقط فرض الصوم بسفر قهري أو حيض أو جنون وشبهه ،

__________________

(١) جواهر الكلام ١٥ : ١٨٨.

٤١٥

قيل : تسقط الكفّارة ، واختاره الفاضل في جملة من كتبه (١) إن لم يكن فعل المسقط للتخلّص منها ، وقيل كما في فوائد الشرائع (٢) : تسقط إن لم يكن المسقط اختيارياً كسفر ونحوه ، وإن كنت لم أتحقّق قائله. وقيل لا تسقط مطلقاً ، كما هو خيرة الأكثر ، بل في الخلاف (٣) الإجماع عليه ، وهو الأشبه ، لذلك ( يعني الإجماع المنقول ) لا لصدق الافطار ، إذ التحقيق انتفاء الأمر بالمشروط مع العلم بانتفاء شرطه ، نعم يمكن أن يكون مبنى الكفّارة ولو بمعونة الإجماع السابق المعتضد بفتوى الأكثر التكليف ظاهراً الذي به يحصل هتك الحرمة بالجرأة ، بل قد يظهر ذلك أيضاً من صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام الوارد في الفرار من الزكاة بعد تعلّقها ، وأنّه كالفارّ من الكفّارة بالافطار بالسفر في آخر النهار ، وإلاّ فهو دالّ على بعض الدعوى ، وهو ما إذا كان المسقط من فعل المكلّف مقصوداً به إبطال الكفّارة الخ (٤).

قال المرحوم السيّد أبو تراب الخونساري رحمه‌الله في شرحه النجاة : والرواية أيضاً في العكس أظهر ، بديهة أنّ الإضمار أو السقوط على خلاف الأصل ، بل الظاهر أنّ المشار إليه إنّما هو قوله عليه‌السلام : « فإن وهبه » والمراد التشبيه في الجواز ، ولا ينافيه تنزيله في الذيل منزلة من خرج ثمّ أفطر ، فإنّه قد يذكر لشيء نظيران

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ٦ : ٨٣ / م ٤٦ ، قواعد الأحكام ١ : ٣٧٧ ، مختلف الشيعة ٣ : ٣١٨ / م ٦٢.

(٢) حاشية الشرائع ( حياة المحقّق الكركي وآثاره ) ١٠ : ٣١٠.

(٣) لاحظ الخلاف ٢ : ٢١٩ / مسألة (٧٩) ، فإنّ مثاله المسقط غير الاختياري. وسيشير المصنّف قدس‌سره إلى الإجماع في الصفحة : ٤٢١.

(٤) جواهر الكلام ١٦ : ٣٠٦ ، شرائع الإسلام ١ : ٢٢٣.

٤١٦

ويقرّر النظير بوجهين الخ.

قلت : لا يخفى أنّه سدّ باب الاحتمال الذي أفاده في الجواهر بأصالة العدم ليمتنع إرجاع الاشارة إلى قوله : « أيّما رجل » ، ويتعيّن إرجاعه إلى قوله : « فإن وهبه » الخ.

وفيه : أنّه بعد البناء على أنّ قوله عليه‌السلام : « إنّما هذا » الخ إشارة إلى قوله : « فإن وهبه قبل حلّه بشهر » الخ ، أعني من وهب ثمّ حال الحول ، فإنّه لا يجب عليه الزكاة ، فهو في ذلك نظير من أفطر ثمّ سافر في أنّه لا يجب عليه الكفّارة ، وكما أنّ هذا يجوز له السفر بعد الافطار فكذلك ذلك يجوز له الهبة قبل الحول ، أو أنّه لو وهب قبل الحول يجوز له ترك الزكاة ، وحاصله : أنّه عليه‌السلام أوّلاً شبّه من وهب قبل الحول ثمّ حال عليه الحول في عدم وجوب الزكاة عليه بمن أفطر ثمّ سافر في عدم وجوب الكفّارة عليه ، ثمّ ثانياً شبّهه بمن سافر ثمّ أفطر بعد السفر في عدم وجوب الكفّارة عليه.

ولكن لا يخفى أنّه إنّما يصحّ التشبيه الأوّل إذا كان خروجه قبل الزوال ، وحينئذ فيدلّ على ما أفاده السيّد من أنّ الوجوب للامساك غير متحقّق قبل الخروج المذكور ، بأن يكون ذلك الخروج كاشفاً عن أنّه لم يكن الصوم واجباً عليه فيما مضى من النهار ، ولكن الرواية دلّت على تقييد السفر بكونه في آخر النهار الكاشف عن تحقّق وجوب الصوم فيما مضى المستلزم لوجوب الكفّارة ، وحينئذ لابدّ من إرجاع الاشارة إلى قوله السابق : « أيّما رجل له مال فحال عليه الحول فإنّه يزكّيه » الخ ، ليتساويا في كون ذاك تجب عليه الزكاة وهذا تجب عليه الكفّارة ، وأنّ الفرار بعد تعلّق الوجوب غير نافع ، وحينئذ لابدّ من فرض ذاك قد

٤١٧

وهب بعد الحول ، بتخيّل أنّ ذلك مسقط لوجوب الزكاة ، كتخيّل هذا أنّ خروجه في آخر النهار مسقط لوجوب الكفّارة ، ولكن لو لم يكن القيد المذكور موجوداً في اللفظ وأسقطه النسّاخ فلا أقل من دلالة القرينة المقامية عليه.

لكن هذا المقدار لا بأس به ، وليس هو بمناف لما ذكرناه من الارتباطية في ناحية التكليف وجوداً وعدماً زيادة على الارتباطية في ناحية الاطاعة والعصيان ، فإنّ تلك الارتباطية التي ندّعيها في أجزاء الصوم إنّما هي بمعنى أنّ سقوط الوجوب من الآخر يكون موجباً لسقوطه من الأوّل ، والمفروض أنّه قد قامت الأدلّة على أنّ الخروج بعد الزوال لا يسقط وجوب الصوم ولا إبطاله ، فلا تكون في الرواية شهادة على ما رامه الجماعة من تصحيح الكفّارة فيما لو طرأ باقي الأعذار على القاعدة ، ولا يكون الامساك في القطعة السابقة صوماً حقيقة.

والذي يظهر من الجواهر أنّه قدس‌سره ملتزم بأنّ هذه القطعة من الامساك السابق لم تكن صوماً واجباً حقيقة ، بل لزوم الامساك فيها والكفّارة بتركه لمجرّد الاحترام وعدم هتك الحرمة ، وأنّ هذا المعنى هو الظاهر من الصحيحة المذكورة ، ولم أتوفّق للوجه في ظهوره من الصحيحة بعد البناء على أنّ قوله : « إنّما هذا » الخ إشارة إلى قوله : « أيّما رجل » الخ ، وبعد كون المفروض فيها هو كون الخروج في آخر النهار ، اللهمّ إلاّ أن يكون الوجه في ذلك هو تقييد الخروج بكونه في آخر النهار احترازاً عن الخروج قبل الزوال مثلاً ، لكن الاحترازية تدلّ على أنّه لا تجب الكفّارة حينئذ لا أنّها تجب احتراماً ، ولعلّ المراد بقوله : بل قد يظهر ذلك من الصحيح ، هو ظهورها في التوسعة ، وأنّ الكفّارة لا تسقط بما يطرأ بعد إيجاد سببها ممّا يكون مسقطاً للوجوب ، سواء كان اختيارياً أو كان غير اختياري ، وسواء كان الاختياري قد قصد به الفرار أو لم يقصد ، فلاحظ.

٤١٨

قال في النجاة : ولا كفّارة في إفطار ما وجب قضاؤه بترك مراعاة ونحوها وإن وجب الامساك في شهر رمضان ، نعم لو فعل ما تجب به الكفّارة ثمّ سقط بعد ذلك فرض الصوم بحيض أو جنون أو نحوهما من المفسدات لم تسقط على الأصحّ ، ومنه إفطار المسافر قبل وصوله إلى محلّ الترخّص ، وأولى بعدم السقوط من سافر بعد الافطار بقصد الفرار من الكفّارة الخ (١).

وقال في الحدائق : المسألة الرابعة : لو فعل ما تجب به الكفّارة ثمّ سقط فرض الصوم بسفر أو حيض أو شبهه ، فهل تسقط الكفّارة أم لا؟ قولان ، ثانيهما للشيخ في الخلاف وأكثر الأصحاب ، وادّعى عليه في الخلاف إجماع الفرقة (٢). ثمّ إنّ صاحب الحدائق قال في آخر المسألة : وكيف كان ، فالظاهر أنّه لو كان المكلّف إنّما فعل ذلك لأجل إسقاط الكفّارة بعد أن وجبت عليه ، فإنّه لا يدخل في محلّ الخلاف ، وإلاّ لزم إسقاط الكفّارة عن كلّ مفطر باختياره ثمّ السفر لاسقاط الكفّارة ، ويدلّ على ذلك صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم (٣). ثمّ ذكر الصحيحة.

وعلى كلّ حال ، أنّ المستفاد من مجموع هذه الكلمات هو أنّه لم يحم أحد حول كون وجوب الصوم قابلاً للتقطيع ، وإنّما جلّ نظرهم إلى أنّ الوجوب احترامي والكفّارة على خلاف القاعدة ، وأنّها ليست على حذو كفّارة إفطار الصوم الواجب أصالة محتاجة إلى دليل خاصّ غير الدليل الدالّ عليها في إفطار الصوم.

وتقريب هذا البحث بنحو أوضح هو أن يقال : بناءً على أخذ الزمان فيما نحن فيه في متعلّق الحكم الذي هو الامساك ، لا وجه لكون اجتماع [ شرائط

__________________

(١) نجاة العباد : ٢٠١.

(٢) الحدائق الناضرة ١٣ : ٢٣١.

(٣) الحدائق الناضرة ١٣ : ٢٣٤.

٤١٩

الوجوب ] في الجزء الأخير معتبراً في الوجوب من الأوّل إلاّ ارتباطية أجزاء ذلك الامساك ، والارتباطية في حدّ نفسها لا تقتضي كون سقوط التكليف في بعض الأجزاء موجباً لسقوطه في البواقي ، كما في مثل تعذّر بعض أجزاء الصلاة غير الركنية ، وإنّما تكون مقتضية لذلك فيما هو من قبيل الركن كالطهور بالنسبة إلى الصلاة ، ولا دليل فيما نحن فيه على ركنية كلّ واحد من تلك الامساكات إلاّقاعدة عدم تبعّض الصوم ، المستفادة من مجموع النصوص والفتاوى التي من جملتها وجوب قضاء تمام اليوم الذي طرأ العذر في أثنائه ، إذ لو أمكن التبعيض لكان الواجب هو القضاء من حدّ طروّ العذر ، دون ما تقدّمه ممّا تمّ فيه الامساك جامعاً لباقي الشرائط ، وهذه القاعدة ـ أعني قاعدة عدم تبعّض الصوم ـ مسلّمة عندهم لا ريب فيها ، ولولاها لما تمّ لنا هنا ما أُفيد من أنّه على تقدير رجوع الزمان إلى المتعلّق الذي هو الامساك كان مقتضاه الشرط المتأخّر ، والجواب عنه بالتعقّب.

وحينئذ نقول : إنّ هذه القاعدة بنفسها تكون محكّمة فيما لو قلنا بأنّ الزمان راجع إلى الوجوب نفسه لا إلى الامساك ، فإنّ رجوعه إلى الوجوب وإن كان مقتضاه لو خلّي ونفسه هو عدم اشتراط السابق بالشرائط في اللاحق ، ولازمه تحقّق الوجوب من الفجر إلى حين طروّ العذر ، إلاّ أنّ قاعدة عدم تبعّض الصوم قاضية عليه بأنّه لابدّ من ارتباط الوجوب المتحقّق في الآن الأوّل بالوجوب في الآن الثاني من حيث اجتماع الشرائط ، على وجه تكون الشرائط في الوجوب المتأخّر معتبرة في الوجوب المتقدّم ، ولابدّ من إرجاعها إلى عنوان التعقّب ، ولابدّ أيضاً من الالتزام بأنّه عند طروّ العذر في آخر الوقت يكون الوجوب ساقطاً من الأوّل ، ويكون الحكم بوجوب الامساك على من علم بأنّه يطرؤه العذر بعد ذلك على خلاف القاعدة إن تمّ الإجماع عليه ، ويكون ذلك حكماً احترامياً ، لا أنّه

٤٢٠