أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

العموم الزماني للعموم الأفرادي الخ ، ظاهرة في أنّ المدار على النظر إلى الدوام والاستمرار أو إلى تعدّد الأفراد ، لا على الفوقية والتحتية.

نعم ، هي تزيد على عبارة الرسائل بظهورها في أنّ الدوام والاستمرار إنّما [ هو ] فيما لو كان الملحوظ بعموم الزمان هو الحكم ، وأنّ التعدّد والتكثّر إنّما هو فيما لو كان الملحوظ بعموم الزمان هو متعلّق الحكم المعبّر عنه بموضوع الحكم ، وهذا أمر آخر لا دخل [ له ] بكون المانع هو الفوقية.

وهذه الزيادة لا يبعد القول بها ، فإنّه مع ملاحظة عموم الزمان في ناحية الحكم ، لا معنى للتعدّد والتكثّر ، لأنّ الحكم الموجود في آنات الزمان لا تعدّد فيه ولا تكثّر ، وأقصى ما في ذلك أن يكون مستمرّاً دائمياً ، بخلاف ما لو لوحظ العموم الأزماني في ناحية الفعل الصالح للتعدّد والتكثّر ، فإنّه لا يلزمه كونه فعلاً واحداً مستمرّاً إلاّ إذا كان نفس الفعل غير ظاهر فيه التعدّد والتكثّر ، كالوفاء والامساك ونحوهما ، وإلاّ فأغلب الأفعال المتجدّدة مثل الاكرام والضرب ونحوهما ممّا يحدث ويتجدّد فإنّه ظاهر في التعدّد والتكثّر. وعلى كلّ حال ، هذه جهة أُخرى للفرق بين نفس الوجوب ونفس ما تعلّق [ به ] من عدم ظهور للأوّل في التعدّد والتكثّر بخلاف الثاني ، فتأمّل هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الجهة ـ أعني كون الحكم أو كون الوفاء غير قابل للتعدّد ـ قابلة للمنع. فإنّهما وإن لم يكونا قابلين للتعدّد حقيقة ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من قابليتهما للتعدّد اعتباراً ، باعتبار تعدّد آنات الزمان الذي أخذ ظرفاً للوفاء أو ظرفاً للوجوب ، بعد فرض كون الزمان مأخوذاً على نحو التقطيع ، كما يعطيه قوله : بل المناط كون الزمان في الأوّلي ظرفاً للحكم وإن فرض عمومه لغوياً فيكون الحكم فيه حكماً واحداً مستمرّاً لموضوع واحد الخ ، إذ لا محصّل لكون

٣٠١

عموم الزمان لغوياً إلاّ إذا أُبرز بقالب « كلّ » ، بأن يقال : يجب في كلّ آن الوفاء بالعقد. ومن الواضح أنّه مع ذلك لا مجال لدعوى الوحدة إلاّبنحو من التأويل لقوله كلّ آن بإرادة الدوام والوحدة والاستمرار. وهذا التأويل لا يصار إليه إلاّبعد عدم معقولية وجود الحكم في كلّ آن ، وقد عرفت الإشكال في عدم المعقولية. وهكذا الحال فيما لو قال : يجب الوفاء في كلّ آن ، فإنّ الوفاء قابل للوجود في كلّ آن. ومتى تمّ هذا العموم الكبروي الذي حاصله أنّ كلّ آن ينوجد فيه وجوب الوفاء أو كلّ آن ينوجد فيه الوفاء الواجب ، كان مرجعاً عند الشكّ في بعض الآنات بتشكيل الصغرى والكبرى ، فيقال : هذا آن ، وكلّ آن ينوجد فيه وجوب الوفاء أو كلّ آن ينوجد فيه الوفاء الواجب ، وتكون النتيجة أنّ هذا الآن ينوجد فيه وجوب الوفاء أو ينوجد فيه الوفاء الواجب.

والإنصاف : أنّ هذه العبارة ـ أعني قوله في المكاسب : ثمّ لا يخفى أنّ مناط هذا الفرق الخ ـ ظاهرة في أنّ تمام الفارق بين النحوين هو أنّ الزمان في النحو الأوّل قد أُخذ ظرفاً للحكم ، وفي النحو الثاني قد أخذ ظرفاً لمتعلّق الحكم ، غايته أنّه قدس‌سره يدّعي الملازمة بين أخذه ظرفاً للحكم وبين الوحدة والدوام ، وقد عرفت المنع من هذه الملازمة. نعم لو تمّت الطولية التي ادّعاها شيخنا قدس‌سره ـ ولعلّه هي التي أُشير إليها في كلامه بالتبعية ـ [ كانت ] هي المانعة من إمكان التمسّك لا الوحدة والدوام فلاحظ ، هذا.

وللشيخ قدس‌سره عبارة أُخرى فيما طبع عنه في النكاح من ملحقات المكاسب في مسألة خيار الأمة المزوّجة لو طرأها العتق ، وأنّ خيارها في فسخ النكاح على الفور ، فقد ردّ الفور بعضهم باستصحاب الخيار ، قال هناك قدس‌سره في ردّه ما هذا لفظه : أقول : وهذا الردّ غير صحيح ، لأنّه إذا كان مقتضى عموم وجوب الوفاء

٣٠٢

بالعقود شاملاً لجميع الأفراد في جميع الأزمان ، والمفروض أنّه لم يخرج بالإجماع إلاّفرد واحد في بعض الأزمنة وهو أوّل أزمنة عتق الأمة وما في حكمه ، بقي الباقي تحت العموم ، فلا وجه للاستصحاب. إلاّ أن يقال : إنّ عموم أدلّة الوفاء ليس فيها دلالة أصلية على عموم الأزمان حتّى يكون كلّ فرد في كلّ زمان فرداً له ، بل مدلولها هي الأفراد ، وإنّما يجيء عموم الأزمان تبعاً ، فإذا خرج فرد واحد فلم يلزم في العموم إلاّتخصيص واحد ، سواء كان الحكم الثابت للفرد ثابتاً له في كلّ الأزمان أم في زمان واحد ، وليس الفرد الخارج في الزمان الثاني فرداً آخر حتّى يلزم من خروجه زيادة التخصيص ، وحينئذ فإذا شكّ في استمرار حكم الفرد الخارج وارتفاعه في الزمان الثاني ، جاز إثباته بحكم الاستصحاب ، فافهم واغتنم (١).

وهذه العبارة كصدر عبارته في المكاسب ، أعني قوله : والسرّ فيه ما عرفت من تبعية العموم الزماني للعموم الأفرادي ، فإذا فرض خروج بعضها فلا مقتضي للعموم الزماني فيه حتّى يقتصر فيه من حيث الزمان على المتيقّن ، بل الفرد الخارج واحد ، دام زمان خروجه أو انقطع الخ (٢) ، يمكن أن يستند إليها شيخنا قدس‌سره في حكمه أنّ مراده كون العموم الأزماني متفرّعاً على إحراز الحكم ، فمع الشكّ في الحكم لا مجال للتمسّك بالعموم الأزماني ، إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ المراد بها هو أنّه إذا لم يكن إلاّ الدوام والاستمرار ، ولم يكن في البين لحاظ تعدّد وتكثّر ، لا يكون لدينا إلاّحكم واحد مستمر وارد على كلّ واحد من أفراد العام أعني العقود أو العلماء ، فلا يكون الخروج من العموم الأزماني ، إذ ليس لنا حينئذ عموم

__________________

(١) كتاب النكاح : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) كتاب المكاسب ٥ : ٢٠٧.

٣٠٣

أزماني ، بل لا يكون الخروج إلاّمن العموم الأفرادي ، فإذا خرج الفرد سقط العموم الأفرادي فيه ، سواء كان خروجه دائمياً أو كان في بعض الآنات. ولا يمكن التمسّك بذلك العموم الأفرادي في ذلك الفرد الخارج بالنسبة إلى الآن الثاني ، لعدم كونه في الزمان الثاني فرداً آخر مغايراً له في الزمان الأوّل كي يتمسّك على بقائه بذلك العموم الأفرادي ، وحينئذ ينحصر المرجع في ذلك الآن الثاني بالاستصحاب إن كان ، وإلاّ كان المرجع فيه هو الأُصول العملية ، فلاحظ.

قوله : الجهة الثانية : لو كان مصبّ العموم الزماني متعلّق الحكم ، فعند الشكّ في التخصيص وخروج بعض الأزمنة عن العموم ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لا معنى لكون مصب العموم الأزماني هو متعلّق الحكم إلاّكون العموم في ناحية المتعلّق بحسب أفراده الطولية عموماً شمولياً أو مجموعياً لا بدلياً ، فإنّ المتعلّق للحكم مثل الإكرام في قولك : أكرم كلّ عالم ، له أفراد عرضية وهي الإكرام بالإطعام أو الاكرام بالإعطاء أو الإكرام بالتعظيم ونحو ذلك ، وله أفراد طولية وهي الإكرام في الآن الأوّل ثمّ الآن الثاني ثمّ الآن الثالث وهكذا إلى آخر الأزمنة ، وبالنسبة إلى الأفراد العرضية لو كان التكليف تحريمياً لابدّ أن يكون عمومه شمولياً ، وفي التكاليف الايجابية كالأمر لا يكون العموم فيها إلاّبدلياً ، إلاّ في بعض الصور ، بأن يأمره باكرامه بجميع أنواع الاكرامات. أمّا بالنسبة إلى الأفراد الطولية فالعموم قابل لكلّ من البدلية والاستغراقية والمجموعية ، خصوصاً في باب الأوامر ونحوها من الأحكام الايجابية.

ثمّ بعد البناء على عدم إرادة البدلية نقول : إنّه لو شكّ في خروج بعض تلك الأفراد الطولية كالإكرام مغرباً مثلاً ، كان ذلك العموم محكّماً فيه ، سواء كان ذلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٧.

٣٠٤

بعد فرض خروج ما قبله أم لم يكن.

أمّا الرجوع إلى الاستصحاب فإن كان المراد به هو استصحاب حكم الخاص ، بأن كان الزمان في الخاص ظرفاً لا قيداً مانعاً من استصحاب حكمه إلى ما بعده ، وكان الاخراج من الأوّل أو الوسط ، دون ما إذا [ كان ] الاخراج من آخر الأزمنة ، فالاستصحاب وإن كان في حدّ نفسه لا مانع منه ، إلاّ أنّه مع وجود الدليل الاجتهادي وهو العموم ، لا يمكن إجراؤه ، لتقدّم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، من دون فرق في ذلك بين كون العموم مجموعياً أو انحلالياً.

وما يظهر ممّا أُفيد من كون المانع من استصحاب حكم الخاص هو عين المانع من استصحاب حكم العام ، وهو تسرية الحكم من موضوع [ إلى ] آخر ، لم يتّضح وجهه ، فإنّ تعدّد الموضوع في الحكم العام وإن كان محقّقاً ، إلاّ أنّ تحقّق الحكم الخاص في بعض الأفراد بالنسبة إلى بعض الآنات ليس من هذا القبيل ، إلاّ إذا أُخذ ذلك الآن قيداً في ذلك الحكم الخاص لا ظرفاً.

وبالجملة : إنّ أخذ الزمان قيداً في الحكم العام لا يوجب كونه كذلك في الحكم الخاص ، بل إنّ الحكم الخاص تابع لما يستفاد من دليله ، فإن دلّ على أخذ الزمان قيداً فيه لم يجر الاستصحاب فيما بعده ، وإلاّ كان جارياً.

وإن كان المراد بالاستصحاب هو استصحاب حكم العام ، ففيه أنّه مع قطع النظر عن كون العام مقدّماً على الاستصحاب ، أنّه لا معنى للرجوع إلى الاستصحاب المذكور ، لأنّ المفروض أنّ مصبّ العموم الأزماني هو المتعلّق ، وأنّ المولى لاحظ الاكرام في الآن الأوّل والآن الثاني والآن الثالث ، وأمر بجميع تلك الاكرامات إمّا انحلالياً أو مجموعياً ، ولم نعلم أنّ الاكرام في الآن الرابع هل هو داخل في تلك الاكرامات أم لا ، فكيف لنا أن نعدّي الوجوب من تلك

٣٠٥

الاكرامات إلى هذا الاكرام الذي هو في الآن الرابع بالاستصحاب؟ وليس ذلك إلاّ نظير تعدية الحكم الوارد على العلماء وهم زيد وعمرو وبكر بالاستصحاب إلى العالم الرابع وهو خالد ، مع فرض الشكّ في خروجه عن عموم أكرم العلماء. نعم لو لم يكن المتعلّق مصبّاً للعموم الأزماني ، لأمكن جريان الاستصحاب بأن نقول : كان الاكرام واجباً والآن كما كان ، إلاّ أنّ ذلك لا دخل له بما نحن فيه من وجود العموم الأزماني وأنّ مصبّه هو المتعلّق ، من دون فرق في ذلك بين أخذ العموم المذكور انحلالياً أو أخذه مجموعياً.

وإن شئت فقل : إنّ الآمر بعد أن لاحظ الأفراد الطولية للاكرام وحكم بوجوبها ، إمّا على نحو الاستغراق أو على نحو المجموعية ، لو شكّ في وجوب الإكرام الموجود في الآن الفلاني مع فرض عدم جريان العموم الأزماني فيه ، لا يمكن الحكم بوجوبه استصحاباً للوجوب الثابت لغيره من الاكرامات الموجودة في غير ذلك الآن المشكوك ، لأنّ الاكرام في ذلك الآن المشكوك الوجوب لم يكن مسبوقاً بالوجوب ، فلا يكون إجراء إستصحاب الوجوب فيه إلاّمن تسرية الحكم من أحد أفراد الإكرام إلى الفرد الآخر. هذا فيما لم يكن مسبوقاً بالتخصيص.

أمّا ما يكون مسبوقاً به فالأمر فيه أشكل ، لأنّ الآن الذي هو مورد الشكّ حينئذ لا يكون مسبوقاً بالوجوب ، بل يكون مسبوقاً بعدم الوجوب. لكن هذا لا يرد عليه قدس‌سره ، لأنّه من قبيل الشكّ في التخصيص الزائد لا من قبيل الشكّ في أصل التخصيص.

نعم ، يرد عليه قدس‌سره الإشكال فيما يكون احتمال عدم الوجوب فيه هو أوّل الآنات ، فإنّه لا يكون مسبوقاً بالوجوب كي يستصحب فيه حكم العام ، وإنّما

٣٠٦

المسبوق بالوجوب هو الآن المتوسّط أو الآن الأخير غير المسبوقين بالتخصيص ، فيتأتّى فيه احتمال إجراء استصحاب الوجوب الذي هو حكم العام ، لكنّه منعه قدس‌سره لكونه من قبيل تسرية الحكم من موضوع إلى آخر. ولا يخفى أنّ كون ذلك من قبيل تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع ، مبني على أنّ أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق عبارة أُخرى عن أخذ الزمان قيداً فيه.

ويمكن التأمّل في ذلك ، فإن أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، يجتمع مع احتمال أخذه فيه على نحو الظرفية ، وحينئذ فلا مانع من جريان استصحاب حكم العام فيه.

والحاصل : أنّ الذي يظهر ممّا أُفيد في هذه الجهة الثانية أمران :

الأوّل : أنّ أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ملازم لكون ذلك العموم استغراقياً لا مجموعياً ، وقد عرفت أنّه يمكن المنع منه لإمكان أخذه مجموعياً ، كما في الصوم المعتبر فيه التتابع مثل صوم الشهرين في الكفّارة ، وصوم الأيّام الثلاثة في الحجّ والسبعة بعد الرجوع من الحجّ ، بل في صوم اليوم الواحد ، فإنّ عمومه لكلّ واحد من آنات اليوم لا يكون إلاّمجموعياً ، مع كون الزمان مأخوذاً في المتعلّق الذي هو الامساك لا في الوجوب ، لكن قد عرفت أنّ جلّ غرضه قدس‌سره هو استظهار الاستغراقية لا تعيّنها ، فلاحظ.

الأمر الثاني : أنّه لو أُخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، كان ذلك موجباً لعدم إمكان إجراء الاستصحاب فيه ، لا استصحاب حكم الخاصّ ولا استصحاب حكم العام ، وقد عرفت أنّ عدم إمكان إجراء استصحاب الحكم الخاصّ مبنيّ على أخذ الزمان في الخاصّ قيداً لا ظرفاً ، فلو أُخذ الزمان فيه ظرفاً لم يكن مانع من استصحاب حكم الخاصّ ، أمّا استصحاب حكم العام فهو لا

٣٠٧

يجري في الزمان الأوّل ، لأنّه لم يكن مسبوقاً بحكم العام ، أمّا في الوسط أو الأخير فهو مبني على كون الزمان في المتعلّق قيداً لا ظرفاً ، أمّا لو أخذ ظرفاً فالظاهر أنّه لا مانع من استصحابه فتأمّل ، كما في استصحاب وجوب الصوم فيما بين الغروب والمغرب.

اللهمّ إلاّ أن يكون المراد هو أنّ الزمان لمّا كان مفرّداً للفعل الواحد ، وموجباً لتعدّده حسب تعدّد الآنات ، كان كلّ واحد من أفراد الاكرامات موضوعاً مستقلاً ، فيكون الزمان فيه قيداً لا ظرفاً. فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه لأنّه من قبيل إجراء حكم من فرد إلى فرد آخر ، ثمّ لمّا كان الدليل قد أخرج الاكرام الواقع في الآن الأوّل ، كان ذلك عبارة أُخرى عن كون آنات الزمان قيداً فيه ، لأنّه إخراج من تلك الاكرامات التي فرّدها الزمان ، وحينئذ يكون الزمان في حكم الخاصّ قيداً ، فلا يجري الاستصحاب في كلّ من حكم الخاصّ عند الشكّ في التخصيص الزائد ، وحكم العام عند الشكّ في أصل التخصيص ، هذا.

ولكن قال السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه قدس‌سره : توضيح ذلك : أنّ الزمان إذا أُخذ في ناحية المتعلّق ظرفاً أو قيداً استغراقياً أو مجموعياً ، فقد عرفت أنّ الحكم يرد عليه ، والعموم الزماني كالأفرادي يكون في مرتبة سابقة عليه ، فكما أنّ خروج بعض الأفراد لا يضرّ بالتمسّك به في غيره ، فكذلك خروج بعض الأزمنة لا يضرّ بالتمسّك به في غيره ، فإنّ المفروض أنّ كلّ زمان مشمول للحكم كالأفراد ، فإذا خرج بعض الأزمنة عن العموم كما في مورد خيار الغبن ، فلا مانع عن التمسّك في غيره بالعموم. ولو فرضنا مانعاً عن التمسّك به فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب أيضاً في الآن الثاني فيما كان الزمان مأخوذاً قيداً ، فإنّ الشكّ حينئذ لا يكون في البقاء ، بل في حدوث حكم آخر لفرد آخر كما هو

٣٠٨

ظاهر (١).

هذه العبارة تنادي بأُمور :

الأوّل : أنّ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق يمكن أن يكون مجموعياً كما يمكن أن يكون استغراقياً ، خلافاً لما في هذا التحرير من حصره بالعموم الاستغراقي.

الثاني : أنّه لو كان العموم المذكور مجموعياً كان التمسّك به في موارد الشكّ ممكناً ، خلافاً لما يظهر من هذا التحرير من حصر إمكان التمسّك بما إذا كان العموم المذكور استغراقياً.

الثالث : أنّه لو أُغضي النظر عن التمسّك بالعموم في موارد الشكّ في التخصيص الزائد ، يكون استصحاب حكم الخاصّ ممكناً إن أخذ الزمان فيه ظرفاً ، نعم لا يمكن الاستصحاب المذكور لو كان الزمان فيه قيداً ، خلافاً لما يظهر من هذا التحرير ، من أنّه مع قطع النظر عن العموم لا يكون التمسّك باستصحاب حكم الخاصّ ممكناً ، وحصر الزمان في ناحية الخاصّ بكونه قيداً لا ظرفاً.

الرابع : أنّه مع فرض كون العموم الأزماني في ناحية المتعلّق استغراقياً أو مجموعياً ، يمكن أن يكون مأخوذاً فيه على نحو الظرفية ، كما يمكن أن يكون مأخوذاً فيه على نحو القيدية. ويتفرّع على الأوّل أنّه مع قطع النظر عن العموم يكون التمسّك باستصحاب حكم العام فيما يكون الشكّ فيه شكّاً في أصل التخصيص ممكناً ، خلافاً لما يظهر من هذا التحرير من حصر العموم الأزماني في ناحية المتعلّق بكونه على نحو القيدية ، الذي يتفرّع عليه عدم إمكان استصحاب حكم العام في مورد الشكّ المزبور مع قطع النظر عن العموم المذكور ، فلاحظ

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٧٠.

٣٠٩

وقابل بين التحريرين وتأمّل.

والعمدة من هذه الأُمور هو الأمر الأوّل ، فإنّا لو تسامحنا في عبارة هذا التحرير أعني قوله : فإنّه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيّام العمر أو السنة موضوعاً لإكرام واحد مستمرّ الخ (١) ، وحملنا العام المجموعي على الدوام والاستمرار ، بمعنى كون الاكرام إكراماً واحداً مستمرّاً ، كما فسّره به بقوله : بحيث الخ ، كما ستعرف في مثال الامساك الواحد المظروف لزمان واحد وهو ما بين الفجر إلى الغروب (٢) ، أو الوفاء الواحد من حين العقد إلى آخر الدهر كما سيأتي شرحه في التعليق الآتي إن شاء الله ، لم يكن مجال للتمسّك بذلك العام الأزماني ، إذ لا يكون في البين عام أزماني ، وإنّما هو فعل واحد منطبق على زمان واحد ، فلا عموم في ناحية الزمان كي يتمسّك به في مقام الشكّ في أصل الخروج ، أو في المقدار الزائد على ما تيقّن خروجه ، ولازم ذلك هو انحصار العموم الأزماني بالاستغراقي والمجموعي المصطلح ، الذي هو عبارة عن نفس ما في العام الاستغراقي من لحاظ آنات الزمان آناً فآناً ، ولحاظ الاكرامات الموجودة في هاتيك الآنات المتكثّرة بتكثّرها كلاً على حدة ، وتعلّق الأمر بها.

غايته أنّه يعتبر في العام المجموعي زيادة على اللحاظ المذكور لحاظ تلك الآنات وهاتيك الاكرامات مجتمعة ومنضمّاً بعضها إلى بعض في مقام الإيجاد ، على حذو لحاظ أجزاء الواجب الارتباطي التي لا يكون معنى الارتباط فيها إلاّ عبارة عن تقيّد كلّ منها بالاجتماع مع البواقي ، ولا ريب أنّه بعد لحاظ الآنات

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٧ ـ ٥٣٨.

(٢) راجع ما يذكره قدس‌سره في الحاشية الآتية في الصفحة : ٤٠٧ وما بعدها.

٣١٠

والإكرامات متعدّدة متكثّرة ، سواء لوحظت مجتمعة ومنضمّاً في الوجود بعضها إلى بعض الذي هو عبارة عن العموم المجموعي ، أو لوحظت مستقلاً الذي هو عبارة عن العموم الاستغراقي ، لا يمكن التفوّه بأنّ الزمان قد أُخذ ظرفاً ، لأنّ ذلك ينافي لحاظ التكثّر والتعدّد في هاتيك الآنات والإكرامات التي تقع فيها ، فكانت كالعام الأفرادي المجموعي أو الاستغراقي الذي هو في ناحية نفس العلماء ، ولا ريب أنّه لا يمكننا أن نسحب بالاستصحاب الحكم من أحد هاتيك الأفراد إلى فرد آخر.

وحينئذ فلو أغضينا النظر عن ذلك العموم الأزماني ، لم يمكنّا جرّ الوجوب الذي هو الحكم العام بالاستصحاب من أحد تلك [ الأفراد ] إلى فرد آخر منها ، كما أنّه لو وقع تخصيص وإخراج بعض الآنات عن حكم العام لم يكن الخارج إلاّ فرداً واحداً أو أفراداً من ذلك العام ، فلو شكّ في خروج ما بعده أيضاً ، لم يمكن التمسّك في ذلك المشكوك بالاستصحاب وسحب حكم الفرد الخارج إلى ذلك الفرد الآخر المشكوك الخروج ، وحينئذ يكون الصواب هو ما أُفيد في هذا التحرير ، لولا ما فيه من التسامح في إطلاق لفظ العام المجموعي على ما عرفت من الفعل الواحد المستمرّ في زمان واحد.

قوله : وأمّا إذا كان مصبّ العموم الزماني نفس الحكم ، فلا مجال للتمسّك فيه بالعموم إذا شكّ في التخصيص أو مقداره ـ إلى قوله : ـ والسرّ في ذلك هو أنّ الشكّ في التخصيص أو في مقداره فيما إذا كان الحكم مصبّ العموم الزماني يرجع إلى الشكّ في الحكم ، وقد تقدّم أنّ الحكم يكون بمنزلة الموضوع للعموم الزماني ... الخ (١).

لا يخفى أنّ فرض الكلام إنّما هو تجرّد المتعلّق عن الزمان ، وأنّ الزمان إنّما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٣٩.

٣١١

لوحظ في نفس الوجوب ، بحيث إنّه كان من قبيل الحكم على ذلك الوجوب بأنّه دائمي أو أنّه ثابت في جميع الأزمنة والآنات ، وحينئذ نقول : إنّ قول الآمر : أكرم العلماء ، يتضمّن جعل إيجابات متعدّدة حسب تعدّد أفراد العالم ، بحيث يكون قوله : أكرم كلّ عالم ، بمنزلة قوله : جعلت وجوب إكرام زيد ووجوب إكرام عمرو ووجوب إكرام خالد ، إلى آخر الأفراد ، سواء كان ذلك على نحو الاستغراق أو كان على نحو المجموعية ، ويكون كلّ واحد من هذه الأحكام الواردة على تلك الأفراد مهملاً من حيث الزمان ، بحيث إنّه لا يفيد إلاّثبوت الحكم في الجملة ، من دون تعرّض لكونه في جميع الآنات أو في بعض دون بعض ، وقد تقرّر في محلّه أنّ القضية المهملة في قوّة الموجبة الجزئية.

ثمّ إنّه لو قال بعد ذلك : إنّ هذا الحكم الذي هو الوجوب ثابت في كلّ آن أو إنّه ثابت دائماً ، كان محصّل ذلك هو الحكم على كلّ واحد من تلك الوجوبات بأنّه ثابت في كلّ آن أو أنّه ثابت دائماً ، ويكون ملخّص ذلك أنّ وجوب إكرام زيد ثابت في كلّ آن أو أنّ وجوب إكرامه دائمي. وهكذا وجوب إكرام عمرو ووجوب إكرام خالد ، إلى آخر الأفراد ، ويكون كلّ واحد من هذه الأحكام الواردة على تلك الأفراد بالنسبة إلى الزمان من قبيل الموجبة الكلّية.

فلو ورد دليل ثالث يدلّ على عدم وجوب إكرام زيد العالم دائماً ، بحيث يكون بالنسبة إلى الزمان من قبيل السالبة الكلّية المناقضة للمهملة التي هي في حكم الجزئية ، كان زيد المذكور خارجاً موضوعاً عن الدليل الثاني المتكفّل لكون وجوب إكرام العلماء دائمياً ، لفرض عدم وجوب إكرام زيد المذكور ، فلا يكون داخلاً فيما يفيده الدليل الثاني من كون وجوب إكرام العالم دائمياً ، بل يكون خارجاً عنه خروجاً موضوعياً. نعم خروجه عن الدليل الأوّل القائل إنّه يجب

٣١٢

إكرام كلّ عالم يكون بالتخصيص لا بالتخصّص. وبالجملة : إنّ هذا الدليل الثالث لا تعرّض له بالنسبة إلى الدليل الثاني ، ويكون مخصّصاً للدليل الأوّل.

أمّا لو كان مفاد الدليل الثالث عدم وجوب إكرام زيد في خصوص يوم السبت ، بحيث إنّا فهمنا منه أنّ عدم وجوب إكرامه مختصّ بيوم السبت دون غيره من الأيّام ، على وجه كان في باقي الأيّام محكوماً بوجوب الإكرام ، كان حال هذا الدليل على العكس من حال السابق ، يعني أنّه يكون غير متعرّض للدليل الأوّل ، ويكون مخصّصاً للدليل الثاني ، فإنّه يكون بالنسبة إلى الدليل الأوّل غير مخصّص ، بمعنى أنّ الدليل الأوّل القاضي بوجوب إكرام كلّ عالم يكون باقياً بحاله من شموله لزيد ، لفرض أنّ إكرامه في باقي الأيّام باقٍ على ما هو عليه من الوجوب ، وإنّما لم يجب إكرامه في خصوص يوم السبت فقط ، وذلك لما تقرّر في محلّه من أنّ السالبة الجزئية لا تنافي الموجبة الجزئية ، فلا تنافي بين كون زيد لا يجب إكرامه في خصوص يوم السبت كما هو مقتضى ذلك الدليل ، وبين كونه واجب الإكرام في الجملة كما هو مقتضى الدليل الأوّل ، وحيث إنّه أمكن الجمع بين هذا الدليل الثالث والدليل الأوّل ، فلا يكون لهذا الدليل الثالث أثر ، إلاّ أنّه يكون مخصّصاً للدليل الثاني القائل إنّ كلّ واحد من تلك الوجوبات ثابت في كلّ آن أو إنّه دائمي ، ويكون محصّل الجمع بين الدليل الثالث والدليل الثاني هو أنّ وجوب إكرام زيد ثابت في كلّ آن إلاّفي يوم السبت ، فإنّه لا يكون وجوب إكرامه ثابتاً فيه.

ثمّ بعد هذا نقول : إنّه لو شككنا في خروج زيد العالم في جميع الأزمنة بمعنى أنّا احتملنا أنّه في جميع الأزمنة غير واجب الإكرام ، لكان العموم الأفرادي ـ أعني الدليل الأوّل ـ متكفّلاً بأنّه واجب الإكرام ، وبعد دخوله تحت من يجب

٣١٣

إكرامه يكون وجوب إكرامه دائمياً بمقتضى الدليل الثاني ، فالدليل الثاني وإن كان جريانه متوقّفاً على تحقّق وجوب إكرامه ، إلاّ أنّ الدليل الأوّل متكفّل بهذه الجهة ، وهو قاضٍ بوجوب إكرامه في الجملة ، وبعد ما ثبت به وجوب إكرامه في الجملة يتحقّق فيه ما هو الموضوع للدليل الثاني ، ويكون بذلك محكوماً بأنّ وجوب إكرامه ثابت في كلّ آن ، أو يكون محكوماً بأنّ وجوب إكرامه دائمي.

ولو علمنا بوجوب إكرامه في الجملة لكن احتملنا أن لا يكون الوجوب المذكور ثابتاً في يوم السبت فقط ، كان علمنا بوجوب إكرامه في الجملة ولو بواسطة الدليل الأوّل كافياً في تحقّق موضوع الدليل الثاني وكان مقتضى العموم الأزماني الذي تكفّله الدليل الثاني ، هو وجوب إكرامه دائماً ، أو في كلّ آن حتّى يوم السبت.

وبالجملة : أنّ أصالة العموم الأزماني الذي تكفّله الدليل الثاني قاضية بتحقّق وجوب إكرامه يوم السبت ، وهذا العموم الأزماني ـ أعني كون وجوب الاكرام ثابتاً في كلّ آن ـ وإن توقّف إعماله في المورد على إحراز موضوعه الذي هو الوجوب ، إلاّ أنّ هذا الموضوع محرز ببركة الدليل الأوّل ، لأنّ المفروض أنّ الدليل الثاني القائل إنّ وجوب الإكرام ثابت في كلّ آن ، ليس موضوعه هو الوجوب يوم السبت كي يقال إنّ ذلك غير محرز ، بل الموضوع إنّما هو الوجوب المتعلّق بالإكرام المفروض تجرّد كلّ منهما ـ أعني الوجوب والإكرام ـ عن الزمان ، فلا يكون موضوعه إلاّ الوجوب الوارد على إكرام زيد في ضمن وروده على إكرام جميع العلماء. وهذا المقدار يتكفّل به الدليل الأوّل القائل إنّه يجب إكرام كلّ عالم ، غايته أنّا احتملنا أنّ زيداً العالم لا يجب إكرامه يوم السبت ، بحيث إنّه على تقدير أنّه لا يجب إكرامه يوم السبت يكون الذي يطرأ عليه التخصيص هو الدليل

٣١٤

الثاني ، وحينئذ فأصالة العموم في الدليل الثاني قاضية بتحقّق وجوب إكرامه يوم السبت.

وهكذا الحال لو علمنا بأنّه ليس بواجب الإكرام في يوم السبت ، واحتملنا أنّه كذلك في يوم الأحد ، فإنّ الدليل الثاني وإن طرأه التخصيص وخرج عنه يوم السبت ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى يوم الأحد يكون باقياً على عمومه ، ومقتضى أصالة العموم فيه يكون أنّ يوم الأحد من جملة الآنات التي يتحقّق فيها وجوب الإكرام.

والحاصل : أنّ الدليل الأوّل لا يكون إلاّبنحو القضية المهملة ، وهي لا تزيد على الموجبة الجزئية ، فإنّه لا يتكفّل إلاّجعل الوجوب لإكرام كلّ عالم في الجملة من دون نظر فيه إلى كون الإكرام في كلّ آن أو كون وجوبه في كلّ آن ، وهذا المقدار لا يطرأ عليه التخصيص إلاّ إذا كان الدليل الخاصّ حاكماً بأنّ زيداً العالم لا يجب إكرامه بالمرّة في جميع الأزمنة على نحو السالبة الكلّية ، أمّا إذا كان الدليل الخاصّ متكفّلاً لإخراج زيد في يوم خاصّ مع القطع ببقاء الوجوب في باقي الأيّام ، فلا يكون مخصّصاً للدليل الأوّل ، لعدم التنافي بين السالبة الجزئية والموجبة الجزئية ، وإنّما يكون مخصّصاً للدليل الثاني لتحقّق التنافي بين السالبة الجزئية والموجبة الكلّية. وفي هذه الصورة لا حاجة لنا إلى إعمال أصالة العموم في الدليل الأوّل.

نعم ، إن احتملنا أنّ زيداً مع عدم وجوب إكرامه يوم السبت أنّه غير واجب الإكرام في باقي الأيّام أيضاً ، كانت أصالة العموم الأفرادي ـ أعني مفاد الدليل الأوّل ـ محكّمة فيه ، وكان زيد المذكور محكوماً بوجوب الإكرام في الجملة ، وبعد أن ثبت وجوب إكرامه في الجملة يدخل تحت الدليل الثاني ، ويكون وجوب إكرامه ثابتاً في كلّ آن ما عدا الآن الذي دلّ الدليل على خروجه فيه.

٣١٥

والخلاصة : هي أنّ الشكّ في خروج زيد يكون على أنحاء :

الأوّل : ما يكون على النحو الأوّل ، بأن يحتمل خروج زيد في جميع الأيّام ، وهذا الشكّ يزيله الدليل الأوّل القاضي بلزوم إكرامه في الجملة ، ثمّ الدليل الثاني القاضي بأنّ الوجوب ثابت في كلّ يوم.

الثاني : ما يكون على النحو الثاني ، بأن يحتمل خروج زيد يوم السبت فقط مع بقائه في باقي الأيّام على وجوب الإكرام ، وهذا ينفرد الدليل الثاني في إزالته والحكم بأنّه يجب إكرامه حتّى في يوم السبت.

الثالث : ما يكون على النحو الثالث ، بأن علمنا بخروج زيد يوم السبت واحتملنا خروجه في باقي الأيّام وبقائه فيها ، وهذا يزيله الدليل الأوّل القاضي بإكرامه في الجملة ، ثمّ الدليل الثاني القاضي بأنّ الوجوب في كلّ يوم ، غايته أنّه خرج منه يوم السبت ، فيكون ذلك تخصيصاً للدليل الثاني. ففي الفرض الأوّل يشترك الدليلان في إزالة الشكّ ، ولا يكون في البين تخصيص لا أفرادي ولا أزماني. وفي الثاني ينفرد الدليل الثاني ولا يكون تخصيص أصلاً. وفي الثالث يشترك الدليلان في إزالة الشكّ ، ولكن تكون المسألة من باب التخصيص الأزماني بالنسبة إلى ما علم خروجه وهو يوم السبت.

والظاهر أنّ مسألة فورية الخيار من هذا القبيل ، أعني النحو الثالث من أنحاء الشكّ ، فإنّه قد علم فيها بعدم وجوب الوفاء بالعقد في الآن الأوّل ، واحتمل أنّ عدم وجوب الوفاء به يكون مستمرّاً وباقياً في باقي الآنات ، فعلى تقدير كونه كذلك يعني أنّه ليس بواجب الوفاء في جميع الآنات ، يكون التخصيص واقعاً على قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ، وحينئذ تكون أصالة العموم الأفرادي حاكمة

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٣١٦

بأنّه يجب الوفاء به في الجملة ، ومقتضى ذلك أن يتحكّم فيه العموم الأزماني ، أعني ما دلّ على كون ذلك الوجوب ثابتاً في جميع الآنات ، ولو كان ذلك الدليل هو دليل الحكمة الذي هو بمنزلة الدليل المتّصل بقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وتكون النتيجة هي تطرّق التخصيص إلى هذا العموم الأزماني ، وأنّه لم يخرج منه إلاّ الآن الأوّل ، فتكون النتيجة هي فورية الخيار.

وتوضيح ذلك : أنّ قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بمنزلة قوله : يجب الوفاء بكلّ عقد ومنها هذا العقد الغبني الخاصّ ، فيكون محصّل ذلك هو أنّ هذا العقد الخاصّ يجب الوفاء به. لكن هذا الحكم في حدّ نفسه معرّى عن الزمان ، إذ لم يؤخذ الزمان فيه ولا في متعلّقه الذي هو الوفاء ، ثمّ إذا لاحظنا دليل الحكمة وجدناه يقول إنّ كلّ وجوب من تلك الوجوبات يكون ثابتاً في كلّ آن ، فيكون مقتضى ذلك أنّ وجوب الوفاء بهذا العقد الخاصّ ثابت أيضاً في جميع الآنات ، فإذا لاحظنا دليل الغبن القائل بعدم وجوب الوفاء بهذا العقد ، المفروض أنّه لم يعلم منه أنّ هذا الحكم ـ أعني عدم وجوب الوفاء بذلك العقد ـ هل هو ثابت في جميع الآنات أو أنّه في خصوص الآن الأوّل ، فعلى تقدير أنّه في جميع الآنات يكون مخصّصاً للعموم الأفرادي المستفاد من الآية الشريفة ، لكن أصالة ذلك العموم الأفرادي نافية لذلك الاحتمال ، وحاكمة بأنّه يجب الوفاء به في الجملة ، ثمّ بعد ذلك نلاحظ دليل الحكمة ونخصّصه بدليل الغبن ، ونرفع اليد عن العموم الأزماني فيه بمقدار ما ثبت من دليل الغبن وهو في الآن الأوّل ، وفي باقي الآنات يكون دليل الحكمة محكّماً فيه ، وفي الحقيقة يكون ثبوت الفورية بواسطة كلّ من العموم الأفرادي والعموم الأزماني ، فالعموم الأفرادي ينفي خروجه بالمرّة عن وجوب الوفاء بكلّ عقد ويتعرّض لإثبات وجوب الوفاء به في الجملة ، والعموم

٣١٧

الأزماني يثبت أنّ وجوب الوفاء به في كلّ آن ، وأنّه لم يخرج هذا العقد عن هذا العموم الأزماني إلاّفي الآن الأوّل ، فلا يكون المتطرّق إليه التخصيص بدليل الغبن إلاّ ذلك العموم الأزماني ، ولا يكون تخصيصه به إلاّبالمقدار المتيقّن من دليل الغبن ، وهو الآن الأوّل دون باقي الآنات ، فإنّها تكون باقية تحت أصالة ذلك العموم الأزماني.

وقد يقال : لا حاجة إلى تجشّم الرجوع أوّلاً إلى الدليل الأوّل ، ثمّ بعد الرجوع إليه وثبوت أصل الوجوب به يرجع إلى الدليل الثاني المتكفّل لكون الوجوب موجوداً في جميع الآنات ، بل يكفي الرجوع من أوّل الأمر إلى الدليل الثاني ، وهو وحده كافٍ في إزالة الشكّ بحذافيره.

وبيان ذلك هو أن يقال : إنّه وإن كان من المسلَّم أنّ القضية لا تتكفّل بإحراز وجود موضوع نفسها ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما كان المحمول في القضية أمراً زائداً على أصل وجود موضوعها ، كما في قولك : العالم عادل ، فإنّ هذه القضية لا تحرز وجود موضوع نفسها الذي هو العالم ، بل لابدّ في إحراز وجود موضوعها من دليل آخر غير نفس هذه القضية ، وإلاّ فإنّ نفس هذه القضية لا تدلّ على وجود العالم الذي هو موضوعها.

أمّا إذا كان المحمول في القضية هو نفس الوجود ، بأن يكون صورة القضية هو قولك : العالم موجود ، فلا ريب في أنّ نفس هذه القضية محرزة لوجود الموضوع الذي هو العالم ، بل إنّ مدلولها المطابقي هو عين وجود موضوعها ، وحينئذ نقول : إنّ الدليل الثاني وهو قوله : وجوب إكرام العالم دائمي أو إنّه موجود في جميع الآنات ، لا يكون المحمول فيه إلاّعبارة عن وجود الموضوع فيه ـ الذي هو الوجوب ـ في جميع الأزمنة ، فتكون محرزة لموضوع نفسها في زمان الشكّ ،

٣١٨

لأنّ ذلك هو مفادها ومدلولها المطابقي ، وليس هذا الدليل بالنسبة إلى زمان الشكّ في وجود الحكم إلاّكقولنا : القيام موجود في كلّ آن ، بالنسبة إلى زمان الشكّ في وجود القيام ، فكما أنّ قولك : القيام موجود في كلّ آن ، يكون محرزاً لوجود القيام في زمان الشكّ فيه ، لكون ذلك هو عين مدلوله المطابقي من دون أن يتوقّف على جهة أُخرى تحرز أصل وجود القيام ، فكذلك قوله : الوجوب موجود في كلّ آن ، يكون محرزاً لوجود الوجوب في زمان الشكّ فيه ، لكون ذلك هو عين مدلوله المطابقي ، من دون أن يتوقّف على جهة أُخرى تحرز وجود أصل الوجوب ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون المحمول في الدليل هو الثبوت في كلّ آن أو هو الدوام والاستمرار ، فإنّ جميع هذه المحمولات راجعة إلى مفاد واحد وهو وجود الوجوب في كلّ آن ، ومن الواضح أنّ مدلوله المطابقي هو عين وجود الحكم في زمان الشكّ فيه.

وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين مثل قولنا : القيام موجود في كلّ آن ، وبين ما تضمّنه الدليل الثاني فيما نحن فيه ، فإنّ قولنا : القيام من القوم موجود في كلّ آن متعرّض لجهتين ، الأُولى : إثبات أصل وجود القيام منهم ، والثانية : كون وجوده منهم مستمرّاً ومتحقّقاً في كلّ آن. وبواسطة تضمّنه لكلتا الجهتين يكون نافياً للشكّ في وجود القيام من زيد في يوم السبت مثلاً ، فإنّه بالجهة الأُولى يثبت أصل وجود قيامه ، وبعد ثبوت أصل وجود القيام بالجهة الأُولى تكون الجهة الثانية مثبتة لوجود القيام منه يوم السبت ، ولو كان قد علم عدم قيامه يوم السبت وشكّ في قيامه يوم الأحد ، كان العلم بعدم قيامه يوم السبت موجباً للتصرّف في الجهة الثانية ، مع بقاء الجهة الأُولى في حقّ زيد المذكور من ثبوت وجود قيامه في الجملة بحالها ، وهذه الجهة تكون مصحّحة لانطباق الجهة الثانية عليه وحاكمة

٣١٩

بأنّ وجود قيامه ثابت في يوم الأحد ، فلا يكون خروجه عن الجهة الثانية إلاّفي يوم السبت فقط.

وهذا بخلاف مفاد الدليل الثاني فيما نحن فيه ، فإنّه لم يتعرّض إلاّللجهة الثانية ، لأنّ الدليل الأوّل قد تعرّض لإثبات أصل وجود وجوب إكرام العلماء في الجملة ، من دون تعرّض لكون ذلك الوجوب دائمياً أو غير دائمي ، والدليل الثاني ناظر إلى هذا الوجوب المفروغ عن أصل وجوده ، فكأنّه يقول إنّ هذا الوجوب المفروض الوجود ثابت وموجود في جميع الآنات ، وحينئذ ففي مورد الشكّ في وجوب إكرام زيد العالم في باقي الأيّام مع فرض ثبوت عدم وجوب إكرامه يوم السبت ، لا يمكننا الاعتماد في إزالة هذا الشكّ على الدليل الثاني فقط ، لأنّه حكم على الوجوب المفروض الوجود في الجملة ، والمفروض أنّ أصل وجود وجوب الإكرام في الجملة بالنسبة إلى زيد المذكور مشكوك ، فلابدّ حينئذ من الاعتماد أوّلاً على الدليل الأوّل المتعرّض لإثبات أصل وجود الوجوب في الجملة ثمّ بعد أن ثبت بذلك الدليل الأوّل أصل وجود الوجوب في الجملة ننقل الكلام إلى الدليل الثاني ونقول : إنّ الذي خرج عن مقتضاه إنّما هو الوجوب في يوم السبت ، وأمّا الوجوب في باقي الأيّام فهو باقٍ على ما يقتضيه الدليل الثاني من كون الوجوب موجوداً في كلّ آن.

نعم ، لو كان الدليل الثاني متعرّضاً لأصل وجود وجوب الإكرام ولكون وجوده دائمياً وفي كلّ آن ، كان ذلك الدليل وحده كافياً في إزالة الشكّ ، وكانت الجهة الأُولى منه مثبتة لأصل وجود وجوب الإكرام ، والجهة الثانية مثبتة لكونه مستمرّاً وموجوداً في كلّ آن ، لكنّك قد عرفت أنّ الدليل الثاني لا تعرّض له إلاّ للجهة الثانية ، وأنّ الدليل الأوّل هو المتكفّل للجهة الأُولى ، لما عرفت من أنّ

٣٢٠