أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

الشعلة الحيوية بتسليط ما يهدمها ، كالماء يسلّط على النار فيطفئها ، وبذلك نستريح من شبهة بقاء الحياة على ما هو أزيد من العمر المتعارف ، مثل الخضر عليه‌السلام ومثل نوح عليه‌السلام ومثل إمامنا ( أرواحنا فداه ) فإنّ ذلك ليس من خوارق الطبيعة ، وإن كان من خلاف العادة التي جرت في مخلوقاته تعالى على الغالب.

وعلى كلّ حال ، لا يكون الموت انتهاءً لأمد الحياة ، بل هو هادم لها ورافع فلا يكون الشكّ في بقائها إلاّمن قبيل الشكّ في الرافع.

ويمكن جريان هذا التقريب في النباتات بل في كثير من الجمادات كالجواهر ، فإنّ لكلٍ أمداً وانتهاءً وانحلالاً ولو كان ذلك بعد مدّة ، فهل حياة الجميع إلاّ اجتماع تلك الأجزاء المتناسبة وتركّبها وصيرورتها شيئاً واحداً ، ثمّ انحلالها وعود كلّ جزء منها إلى حالته الأصلية ، كلّ ذلك بتقدير مقدّرها وخالقها تبارك وتعالى ، وإلاّ فلماذا هذا الاجتماع والتواصل والالتئام بين هاتيك الأجزاء ثمّ يتبدّل بالتنافر والتباعد وانصدام البعض بالبعض ، وعن ذلك ينشأ التبدّل والتحوّل والتجدّد والفساد ، سنّة الله تعالى في جميع هذه الموجودات المادّية ولن تجد لسنّة الله تبديلا ، فسبحان من قدّر ذلك وعظمت حكمته.

والغرض أنّ هذا الاجتماع لا يؤول إلى التفرّق والانحلال إلاّبقاسر خارجي أو داخلي ، ولو بحيف بعض الأجزاء على بعض ، وهذا القاسر هو الذي أوجب ذلك الانحلال ، وإلاّ فإنّ الأجزاء موجودة والاستمداد ممّا كانت تستمدّه بحاله ، فدعوى كون جميع ذلك من قبيل الانتهاء لا من قبيل الهادم والرافع ممنوعة أشدّ المنع.

نعم ، هذه كلّها لها أمد مقدّر قدّره الله تعالى حسبما اقتضته حكمته تعالى لكن ذلك الأمد هو تحديد بالرافع والهادم لا تحديد بالمقتضي والاستعداد ، وما

٤١

يصنعه الجُدد من بيمة (١) الأعمار فهو مبني على ملاحظة الغالب من هذا السن وهذا البدن باعتبار تناسب أعضائه وتحمّل بعضها البعض في الامداد والاستمداد ، وبالأخرة يرجع ذلك إلى الهادم والرافع باعتبار حيف بعض الأعضاء على البعض في جهة الامداد والاستمداد وإن عبّر معبّرهم باستعداد البقاء ، أو أنّه قياس على الغالب ، ولو خرج عن أحد هذين الوجهين فليس هو إلاّمجازفة شبيهة بالقمار أو اليانصيب ، كما في بيمة الأموال المنقولة في البحار أو القطار أو الموجودة في محال التجّار (٢)

__________________

(١) كلمة فارسية يراد بها عقد التأمين.

(٢) [ وجدنا أوراقاً منفصلة ألحقها المصنّف قدس‌سره بهذه الحاشية ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش ، وإليك نصّ ما في الأوراق : ]

لا ريب في أنّ استصحاب عدم الرافع حاكم على استصحاب بقاء المرفوع ، فإنّ بقاء المرفوع من الآثار الشرعية لعدم الرافع ، وليس الغرض أنّه يكون هو مرتّباً على نفس عدم الرافع كي يقال إنّه ـ أعني المرفوع ـ وإن كان أثراً شرعياً إلاّ أن ترتّبه على عدم الرافع عقلي ، فيكون أصالة عدم الرافع بالقياس إلى الحكم ببقاء المرفوع مثبتاً ، بل الغرض من أصالة عدم الرافع هو طرد الآثار المترتّبة على وجوده ، وهي ارتفاع الموجود الذي هو الطهارة بالقياس إلى عدم الحدث ، لا ترتيب آثار العدم كي يقال إنّ ترتيب بقاء الطهارة عليه لا يكون إلاّبالأصل المثبت.

لا يقال : إنّ طرد رافعية الحدث عين بقاء الطهارة ، فلا يكون أصالة عدم الحدث بالنسبة إلى بقاء الطهارة من قبيل الأصل السببي والمسبّبي ، بل إنّ أحدهما عين الآخر.

لأنّا نقول : لا شكّ في أنّ الفسخ رافع للملكية ، فلو سقط أصالة عدم الفسخ بالمعارضة مع أصالة عدم الامضاء ، كما لو حصل منه ما هو مردّد بين الفسخ والامضاء ، أو حصل كلّ منهما وشكّ فيما هو المقدّم منهما ، فإنّه بعد تعارض الأصلين يكون المرجع هو

٤٢

__________________

استصحاب الملكية ، ولو كان بقاء الملكية عين عدم رافعها الذي هو الفسخ ، لكان استصحاب الملكية ساقطاً بسقوط أصالة عدم الفسخ.

لا يقال : لو كان أصالة عدم الرافع حاكماً على استصحاب بقاء المرفوع ، لكان ينبغي أن يكون الأصل الأوّلي هو أصالة عدم الحدث ، فلماذا عبّر الإمام عليه‌السلام بقوله : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » بل كان ينبغي أن [ يقول : ] وإلاّ فإنّه على يقين من عدم النوم.

لأنّا نقول : إنّ عدم النوم بخصوصه لا يترتّب عليه في المقام بقاء الوضوء ، لأنّ المفروض أنّه لم يحصل منه غير النوم من النواقض ، وحينئذ يكون ترتّب بقاء الوضوء على عدم النوم باللازم العقلي ، فيكون الأصل مثبتاً.

( لكن ذلك يحتاج إلى التأمّل ، إذ لا ريب في صحّة الاستصحاب في بعض أجزاء الموضوع إذا كانت البواقي محرزة بالوجدان ، وليس ذلك من الاثبات في شيء.

والأولى أن يقال : إنّ المانع هو كون المقام من قبيل الشكّ في كون تلك الحالة نوماً ، إمّا بنحو الشبهة الموضوعية أو بنحو الشبهة الحكمية أو بنحو الشبهة المفهومية ، وفي مثله لا يجري أصالة عدم النوم ، إذ هو من قبيل الشكّ في رافعية الموجود بنحو الشبهة الموضوعية أو بنحو الشبهة الحكمية ، فإنّه لا يجري استصحاب عدم الرافع ، نعم يكون الجاري هو استصحاب [ الطهارة ].

وهكذا الحال فيما لو شكّ في أنّ الخارج بول أو مذي ، أو خرج منه شيء يشكّ في شمول مفهوم البول له ، فإنّ ذلك كلّه لا يجري فيه أصالة عدم حدوث البول ، سواء كان بمفاد ليس التامّة أو بمفاد ليس الناقصة ، لعدم كونه مزيلاً للشكّ في هذا الخارج ، ولا يكون مثبتاً لبقاء الطهارة بل لا يكون المرجع في ذلك إلاّ استصحاب الطهارة ).

لا يقال : ولماذا لم يعبّر عليه‌السلام بقوله : وإلاّ فإنّه على يقين من عدم الحدث ، وعبّر بقوله : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ».

لأنّا نقول : إنّ حقّ العبارة وإن كان هو العبارة الأُولى ، إلاّ أنه عليه‌السلام تسامح وعبّر بالعبارة

٤٣

__________________

الثانية ، ومن الواضح أنّ هذا الكلام جارٍ على نحو من التسامح العرفي ، وليس مثل هذا الكلام من الخطابات العرفية مبنياً على الدقّة.

لا يقال : إنّ عدم الرافع ليس من آثاره الشرعية بقاء المرفوع ، بمعنى أنّ الرافعية ليست مجعولة ، بل هي منتزعة من الحكم ببقاء المرفوع عند عدم الرافع فتكون الرافعية منتزعة نظير المانعية.

لأنّا نقول : فرق بين الرافع والمانع ، فإنّ الثاني من قبيل الدفع والأوّل من قبيل الرفع ، ولمّا كان المرفوع بنفسه من المجعولات الشرعية ، كان من الضروري أنّه لا يرتفع إلاّبما يكون رافعاً له شرعاً ، فتكون الرافعية للحدث والفسخ مثلاً بجعل من الشارع ، بمعنى أنّ الشارع جعلهما رافعين لما قد جعله وهو أثر الوضوء والملكية ، فتأمّل.

ثمّ إنّ الطهارة والحدث إن قلنا بكونهما من الأُمور الواقعية التي كشف عنهما الشارع ولم تكن مجعولة من جانبه ، فإن قلنا بأنّ تقابلهما تقابل الضدّين ، لم يكن أحدهما رافعاً للآخر ، وإن قلنا بكون أحدهما عدمياً والآخر وجودياً ، كان ما هو العلّة في العدمي رافعاً لذلك الآخر المفروض كونه وجودياً ، فلو قلنا بأنّ الطهارة حالة نفسانية تعقب الوضوء كالنور النفساني مثلاً ، والحدث عبارة عن الظلمة النفسانية التي تعقب النوم مثلاً التي هي عدم ذلك النور ، كان النوم رافعاً للطهارة لكنّه رفع تكويني لا تشريعي.

لكن هذا الاحتمال ساقط ، وإنّما يكون ممكناً في الجملة في مثل الطهارة من الخبث والنجاسة ، لأنّ مزيل النجاسة والذي يكون سبباً للطهارة منها هو الغَسل مثلاً ، ويمكن القول بأنّ سببيته تكوينية ، بخلاف الطهارة من الحدث فإنّ سببها هو الغسل أو الأفعال الوضوئية ، المفروض اعتبار قصد القربة فيها الكاشف عن أنّ سببيته لها شرعية ، وأنّ المسبّب من المجعولات الشرعية. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لا مانع من كون ذلك الفعل القربي الشرعي مؤثّراً في النفس أثراً تكوينياً لا يعرفه البشر ، وكشف عنه الشارع.

٤٤

__________________

ولو قلنا بأنّهما من مقولة المجعولات الشرعية نظير الأحكام الوضعية ، فسواء قلنا بأنّهما من قبيل الضدّين ، أو قلنا بأنّهما من قبيل الوجود والعدم ، لم يكن هذا التضادّ أو التناقض بجعل من الشارع ، إذ التضادّ والتناقض غير قابلين للجعل الشرعي ، فإنّ أقصى ما عند الشارع أنّه رتّب الطهارة على الوضوء ورتّب الحدث على النوم ، وذلك بمجرّده لا يقتضي التناقض أو التضادّ بينهما ، لإمكان اجتماع هذه السببية مع كونهما مختلفين ، فيكون الطهارة خلاف الحدث لا أنّها ضدّه ولا نقيضه ، كما أنّ هذا التناقض والتضادّ بينهما ليس ذاتياً لهما كي يتحقّق بمجرّد جعلهما ، نظير تناقض الايجاب والتحريم وتضادّ الاستحباب والاباحة.

وحينئذ لابدّ أن يكون المنشأ في عدم اجتماعهما أمراً آخر غير التضادّ والتناقض الشرعيين أو الذاتيين ، وليس ذلك إلاّمن جهة أنّ الشارع قد جعل سبب كلّ منهما رافعاً للآخر ، فإن قلنا بأنّ الحدث عبارة عن عدم الطهارة كان ذلك ناشئاً عن جعل الشارع النوم رافعاً للطهارة ، وإن قلنا بكونهما وجوديين كان عدم اجتماعهما ناشئاً عن جعل الشارع سبب كلّ منهما رافعاً للآخر مضافاً إلى كونه محقّقاً لمسبّبه ، ولا يكفي في الحكم بعدم اجتماعهما مجرّد جعل الشارع لكلّ منهما عند وجود سببه ، لما عرفت من أنّ معنى جعل السببية لكلّ منهما هو مجرّد الحكم بكلّ منهما عند وجود سببه ، وهذا بمجرّده لا يقتضي عدم الاجتماع ، لإمكان كونهما متخالفين لا ضدّين ولا نقيضين ولا مثلين.

وبالجملة : أنّ عدم الاجتماع بين الحدث والطهارة بعد فرض كونهما من المجعولات الشرعية ، وبعد فرض أنّ التضادّ والتناقض بينهما ليس باقتضاء ذاتيهما كما في الوجوب والحرمة ، لابدّ أن يكون ناشئاً عن جعل الشارع سبب كلّ منهما رافعاً للآخر ، أو جعل ما هو سبب العدمي منهما رافعاً للوجودي ، وحينئذ تكون رافعية ما هو الرافع منهما من المجعولات الشرعية ، ويكون استصحاب عدمه جارياً باعتبار طرد تلك

٤٥

__________________

الرافعية المترتّبة على وجوده ، ويكون هذا الأصل سببياً بالنسبة إلى الحكم ببقاء نفس المرفوع ، لأنّ الشكّ في بقاء المرفوع مسبّب عن الشكّ في وجود رافعه ، فإذا طردنا وجود الرافع كنّا بطردنا لوجود الرافع قد طردنا رفع ذلك الموجود ، لا أنّا حكمنا بوجوده استناداً إلى التعبّد بعدم رافعه ، كي يقال إنّ ذلك الموجود وإن كان شرعياً إلاّ أن ترتّب بقائه على عدم رافعه لا يكون إلاّعقلياً ، كما أنّ الحكم ببقاء ذلك الموجود ليس هو عين طرد رافعه ، كي يكون لازم ذلك هو سقوط استصحاب بقائه بسقوط استصحاب عدم رافعه بالمعارضة فتأمّل.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّهما مجعولان شرعاً متضادّان أو متناقضان ذاتاً ، لكن هذا التناقض الذاتي بينهما واقعي كشف عنه الشارع ، ولا منافاة بين كون أصلهما مجعولاً وكون تدافعهما ذاتياً كشف عنه الشارع ، وبناءً على ذلك فلا ترافع بينهما ولابدّ حينئذ في كلّ منهما من الرجوع إلى استصحاب الوجود لكونهما حينئذ من الضدّين. وكذا لو قلنا بأنّه لا معنى للطهارة إلاّنفس الأفعال ، فإنّه أيضاً لا يكون أحدهما رافعاً للآخر ، إذ ليس في البين حينئذ إلاّ أن مثل النوم يكون موجباً لوجوب الاتيان بهذه الأفعال لمن أراد الصلاة مثلاً ، ويكون المرجع في الشكّ في كلّ منهما إلى أصالة العدم ، ولا معنى لاستصحاب الوجود في كلّ منهما ، بل عند الشكّ في الطهارة بعد الحدث لا يكون المرجع إلاّ أصالة عدم صدور تلك الأفعال ، كما أنّه بعد صدورها لا يكون المرجع إلاّ أصالة عدم صدور النوم مثلاً ، ولا يكون للرجوع إلى استصحاب بقاء الحدث في الأوّل أو استصحاب بقاء الطهارة في الثاني معنى متحصّلاً. إلاّ إذا قلنا بأنّ الطهارة وجودية والحدث عدمي ، فإنّه حينئذ يكون استصحاب عدم الحدث كافياً في ثبوتها ، وذلك إنّما يجري في خصوص الطهارة والحدث. لكنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ الظاهر منها هو الرافعية لا مجرّد مقابلة التضادّ أو التناقض.

وبالجملة : أصل الإشكال فيما ثبت كونه رافعاً ، وأنّه هل يترتّب على التعبّد بعدمه

٤٦

قوله : مع أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو نفس قوله عليه‌السلام : « فإنّه على يقين من وضوئه » بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية ... الخ (١).

لا يخفى أنّ تأويل هذه الجملة الخبرية إلى الانشائية يخرجها عن الصلاحية لصغرى الشكل الأوّل ، فلابدّ من كون الجواب مقدّراً بعد الفاء ، ليكون الشكل الأوّل المؤلّف من هذه الصغرى وتلك الكبرى برهاناً على ذلك الجواب الذي هو عين نتيجة ذلك الشكل.

__________________

الحكم ببقاء المرفوع ، وهل يكون الحكم ببقاء المرفوع عين الحكم بعدم الرافع ، أو أنّهما من قبيل السببي والمسبّبي ، أو أنّ الحكم ببقاء المرفوع لا يترتّب على التعبّد بعدم الرافع إلاّبالأصل المثبت ، وقد عرفت أنّ الظاهر أنّه يترتّب عليه وأنّه ليس عينه بل هو من قبيل السببي والمسبّبي ، فلاحظ وتأمّل ، وكيف يمكن [ القول ] بأنّ الطهارة هي عين عدم الحدث ، مع أنّ المفروض جريان استصحاب عدم مثل البول في أثناء اشتغاله بالوضوء ولو كان ذلك عين الطهارة لم يكن جارياً لعدم استقرار الطهارة فيه.

لكن الظاهر أنّ هذا النزاع لا تترتّب عليه ثمرة عملية ، لأنّ استصحاب عدم الرافع دائماً مجتمع مع استصحاب بقاء المرفوع إلاّفي مثل المثال الذي تقدّم أعني سقوط أصالة عدم الرافع ، فإنّه بناءً على الاتّحاد والعينية لا مجال للرجوع إلى استصحاب بقاء المرفوع ، بخلافه على تقدير التغاير والسببية والمسبّبية ، لكن الظاهر أنّه ينبغي الجزم بعدم الاتّحاد ، إذ لا ريب في أنّ التعبّد بعدم الرافع ليس هو عين بقاء المرفوع.

ينبغي مراجعة ما أفاده الشيخ قدس‌سره [ في فرائد الأُصول ٣ : ١٠٧ ] في مقام نقل الأقوال في الاستصحاب ، ومن جملتها التفصيل بين العدميات فيجري بخلاف الوجوديات ، فإنّه عند ذلك أفاد احتمال رجوعه إلى ما يختاره من انحصار الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، لأنّ مرجعه حينئذ هو البناء على عدم الرافع.

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٦.

٤٧

وأمّا ما أُفيد من الإشكال على تقدير الجواب بقوله : بداهة أنّه على هذا يلزم التكرار في الجواب وبيان حكم المسؤول عنه مرّتين بلا فائدة الخ (١) ففيه تأمّل ، لأنّ الجواب وهو قوله عليه‌السلام : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام » (٢) هو الذي كان جواباً لسؤال السائل ، وأمّا هذا المقدّر فليس هو جواباً لسؤال ، وإنّما هو جواب للشرط الذي فرضه عليه‌السلام وهو قوله عليه‌السلام : « وإلاّ » يعني وإن لا يكون قد استيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ، لأنّه على يقين من وضوئه الخ.

ثمّ إنّ هذا الإشكال ـ أعني لزوم التكرار ـ لو تمّ لكان متوجّهاً إلى ما أفاده قدس‌سره من كون الجواب هو قوله : « فإنّه على يقين » الخ ، بتأويله إلى الجملة الانشائية.

قوله : فتأخير قوله عليه‌السلام : « من وضوئه » عن « اليقين » كتقديمه عليه لا يستفاد منه أزيد من كونه طرف الاضافة ، من دون أن يكون له دخل في الحكم ... الخ (٣).

يمكن أن يقال : إنّ مركز هذه الأحكام ـ أعني اليقين والشكّ وعدم الوجوب أو عدم جواز نقض اليقين ـ إنّما هو الوضوء ، وعليه فيكون هو الموضوع في الصغرى الذي هو الأصغر ، ويكون حاصل الشكل هو أنّ الوضوء متيقّن وكلّ متيقّن لا ينقض بالشكّ ، فلا حاجة إلى ما أُفيد من التكلّف لاخراج الوضوء عن المدخلية في الحكم. نعم لو كان الموضوع في الصغرى هو المكلّف لكان ذلك التكلّف في محلّه ، فإنّ تركيب الشكل حينئذ يكون أنّ هذا المكلّف

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٦.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٧.

٤٨

متيقّن من وضوئه ، وكلّ من تيقّن لا ينقض يقينه بالشكّ ، وحينئذ لابدّ من إعمال عناية توجب خروج الوضوء عن حدّ الأوسط المتكرّر المحمول في الصغرى والموضوع في الكبرى ، لكن ذلك ـ أعني كون موضوع الصغرى هو المكلّف ـ خلاف الظاهر ، والظاهر هو ما ذكرناه من كون موضوعها هو الوضوء.

قوله : هذا ، مضافاً إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع ـ إلى قوله ـ فإنّ القابل للنقض وعدمه هو اليقين من دون دخل لتعلّقه بالوضوء ... الخ (١).

لا يخفى أنّه مع قطع النظر عمّا تقدّم يمكن المناقشة في هذه الاضافة ، لأنّ الحكم الاستصحابي بعد أن فرضناه على خلاف القاعدة ، فيحتمل كونه مقصوراً على باب الوضوء ، كما أنّ قاعدة التجاوز مختصّة بالصلاة ولا تشمل الوضوء ، مع أنّه يتأتّى فيها ما أُفيد في هذه الاضافة من مناسبة الحكم والموضوع ، وأنّ الذي له دخل في عدم الاعتناء بالشكّ هو الخروج عن الفعل والدخول في غيره ، من دون أن يكون لخصوصية أفعال الصلاة مدخلية في ذلك ، فكيف قلنا بعدم جريانها في الوضوء بل وفي مقدّمات الأجزاء ، مثل ما لو شكّ في السجود في حال النهوض.

ولا يخفى أنّه لو قلنا بأنّ الموضوع في الصغرى هو المكلّف لا الوضوء ، فلا محيص من الالتزام بما يقتضيه الظاهر من الاختصاص بباب الوضوء ، إلاّ أنه بملاحظة ما أُفيد أخيراً من كون هذه الجملة واردة على ما هو المألوف العرفي الذي جرى عليه ديدن العقلاء من عدم الاعتناء باحتمال انتقاض الحالة السابقة ، يكون ذلك قرينة على عدم مدخلية الوضوء في الحكم المذكور.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٤٩

قوله : ربما يتوهّم أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب ، فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشكّ ، وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد ... الخ (١).

لا يخفى أنّ نتيجة سلب العموم هو السالبة الجزئية ، ومن الواضح أنّ المقام لا يناسب السلب الجزئي ، إذ ليس الكلام مسوقاً لبيان أنّ بعض اليقين لا ينقض بالشكّ ، فإنّ ذلك لا يصلح برهاناً لعدم جواز نقض اليقين بالوضوء بالشكّ فيه.

وبالجملة : أنّ السلب الجزئي أو رفع الايجاب الكلّي لا يصلح لكبروية الشكل الأوّل ، فلابدّ حينئذ من لزوم كون القضية الواقعة كبرى في هذا الشكل الذي أفادته الرواية الشريفة كلّية ، إمّا سالبة كلّية بأن يكون المراد : ولا شيء من اليقين يجوز نقضه بالشكّ ، أو موجبة كلّية معدولة المحمول ، بأن يكون المراد : أنّ كلّ يقين لا ينقض بالشكّ ، والظاهر الثاني.

وعلى أي حال ، فإنّ سلب العموم أجنبي عمّا هو مفاد الرواية ، فما أُفيد في بيان موارد سلب العموم وعموم السلب وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّ أنه لا حاجة إليه في المقام بعد فرض كون الرواية غير صالحة للحمل على سلب العموم وما أدري كيف توهّم هذا المتوهّم إمكان حملها على سلب العموم الموجب لإفساد كون الجملة برهاناً على المطلوب المذكور ، هذا.

مضافاً إلى ظهور قوله عليه‌السلام : « أبداً » في السلب الكلّي. إلاّ أن يقال : إنّه مسوق لدوام السلب ، وهو كما يتأتّى في السالبة الكلّية يتأتّى أيضاً في السالبة الجزئية ، لكن ذلك على تقدير التسليم إنّما يكون في السلب الجزئي ، دون رفع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٨.

٥٠

الايجاب الكلّي.

والحاصل : أنّ قوله : « أبداً » إنّما يصحّ إذا كانت القضية سالبة كلّية أو كانت صريحة في السلب الجزئي ، أمّا رفع الايجاب الكلّي الذي يلزمه السلب الجزئي فلا يناسبه التعبير بقوله : « أبداً ». ولا يرد على ما ذكرناه من كون الكلّية موجبة معدولة المحمول ، فإنّ لفظة « أبداً » لا تنافيه ، بل تكون مفيدة لاستمرار النفي المأخوذ في ناحية المحمول.

قوله ـ في الرواية الشريفة ـ : « قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال عليه‌السلام : تغسله وتعيد » (١) ... الخ (٢).

لابدّ أن نفرض أنّه قد علم بالنجاسة في ثوبه إجمالاً ، لكنّه لم يعثر على محلّها بعد الفحص مع بقاء علمه الاجمالي بها ، وإلاّ فلا وجه للزوم الاعادة لو كان عند الفحص قد قطع بالعدم أو طرأ له الشكّ فيها. نعم يبقى الإشكال في وجه إقدامه على الصلاة فيه مع فرض علمه الاجمالي بها ، وهذا سهل.

وقد يقال : إنّه بعد أن طلبه ولم يقدر عليه حصل له الشكّ الساري إلى العلم الاجمالي بالاصابة ، فكان من موارد قاعدة اليقين ، ولكن السائل اعتمد على قاعدة الطهارة فصلّى ، لكن الإمام عليه‌السلام أمره بالاعادة ، فيكون ذلك من باب قاعدة اليقين الجارية في حقّه قبل الصلاة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٧ ، ٤٨٢ / أبواب النجاسات ب ٤١ ، ٤٤ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٤٠. [ سيأتي التعليق ثانياً على بعض هذه العبارة في الصفحة ٥٤ ].

٥١

لكن هذا التوجيه بعيد جدّاً ، لأنّه يقول : « ولم أقدر عليه » ولم يقل : لم أره ، والأُولى تدلّ على بقاء العلم الاجمالي غايته أنّه لم يقدر على التعيين.

قوله ـ في الصحيحة الثانية لزرارة ـ « قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ، فنظرت ولم أر شيئاً فصلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال عليه‌السلام : تغسله ، ولا تعيد الصلاة » ... الخ (١).

إنّ هذا المكلّف بعد أن نظر ولم ير شيئاً إمّا أن يحصل له القطع بالعدم وإمّا أن يبقى على حاله من الشكّ ، ثمّ إنّ قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » يحتمل أنّه قد علم أنّ تلك النجاسة التي رآها هي تلك النجاسة السابقة ، ويحتمل أنّه لم يعلم بذلك ، بل كان يحتمل أنّها نجاسة جديدة وقعت بعد الصلاة ، فتكون الصور أربعاً :

الأُولى : حصول العلم بعد النظر بعدم النجاسة ، وحصول العلم بعد الفراغ بأنّ تلك المرئية هي النجاسة السابقة. وفي هذه الصورة لا يجب الاعادة لكون الصلاة مع الجهل بالنجاسة ، وهي أجنبية عن كلّ من الاستصحاب وقاعدة اليقين.

الثانية : هي حصول العلم بعدم النجاسة ، لكنّه بعد الفراغ يحتمل أنّ ما رآه نجاسة جديدة ، وفي هذه الصورة ينطبق على الاعادة أنّها نقض لليقين بالشكّ ، فإن كان المراد باليقين هو اليقين الحاصل بعد النظر كانت قاعدة اليقين ، وإن كان المراد به اليقين السابق الذي كان قبل ظنّ الاصابة كانت عبارة عن الاستصحاب ، والظاهر هو الثاني ، ولكن لا إشكال في انطباق النقض على الاعادة على كلّ من القولين.

والصورة الثالثة : هي أن لا يحصل له العلم بعدم النجاسة بعد النظر ، بل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٤٠ ( مع اختلاف يسير ).

٥٢

يبقى شاكّاً ثمّ بعد الفراغ يحتمل أنّ تلك النجاسة التي رآها هي السابقة أو غيرها. وفي هذه الصورة ينطبق النقض على الاعادة ، ويكون المورد من صغريات الاستصحاب ، لأنّ المراد به حينئذ هو اليقين بالطهارة السابقة على ظنّ الاصابة ، ولا دخل لذلك بقاعدة اليقين.

الصورة الرابعة : هي هذه الصورة لكن يقطع بأنّ ما رآه هو نفس ما تقدّم ، وفي هذه الصورة لا مورد لقاعدة اليقين ، وإنّما المورد مورد للاستصحاب ، لكن لا ينطبق النقض على الاعادة ، بل إنّ الذي ينطبق عليه النقض هو الامتناع من الدخول في الصلاة. وهذه الصورة هي التي استظهرها شيخنا قدس‌سره وغيره ، ولأجل ذلك وقعوا في إشكال عدم انطباق النقض على الاعادة.

وعمدة ما يمكن أن يعيّن الصورة الرابعة أمران :

الأوّل ، ما يوجد في بعض النسخ من قوله : « فرأيته فيه » الظاهر في رجوع ضمير « رأيته » إلى النجاسة السابقة من الدم أو المني.

الثاني : سؤال زرارة عن الفرق بين هذه المسألة وسابقتها ، مع كون كلّ منهما قد [ انكشف ] للمكلّف أنّه صلّى مع النجس ، فلو حملت النجاسة على ما يحتمل حدوثها بعد الصلاة كان الفرق بين هذه المسألة وسابقتها في غاية [ الوضوح ] ولم يحتج إلى سؤال الفرق بين المسألتين.

أمّا الأمر الأوّل ، فيمكن الجواب عنه : بأنّ الضمير راجع إلى مطلق الدم كما في قوله : « فرأيته رطباً » غايته أنّ ذلك التصرّف كان بقرينة قوله : « رطباً » وقوله : « لعلّه أُوقع عليك » فليكن هذا التصرّف جارياً في هذه المسألة ، والقرينة هي تطبيق النقض على الاعادة ، لأنّه لا يتم مع كون النجاسة المرئية جديداً هي عين السابقة.

٥٣

وأمّا الأمر الثاني ، فلأنّه لم يظهر من زرارة السؤال عن الفرق بين المسألتين وإنما كان سؤاله عن وجه الحكم بعدم الاعادة ، فيمكن أن تكون النجاسة التي رآها بعد الصلاة مردّدة عنده بين السابقة والجديدة ، فأمره الإمام عليه‌السلام بعدم الاعادة فسأل عن وجه الحكم بعدم الاعادة لأجل مجرّد استفادة الوجه في ذلك ، لا لأجل الإشكال وأنّه توهّم اتّحاد المسألتين في الحكم فوجّه السؤال عن الفرق بينهما وإن أمكن أنّ زرارة يعرف الفرق بين المسألتين ، لأنّ تلك كان الإقدام فيها على الصلاة فيما هو معلوم النجاسة تفصيلاً ، وإن لم يكن المعلوم النجاسة هو الأعلى أو الأسفل من ثوبه مثلاً ، وهذه كان الإقدام فيها مع عدم العلم بالنجاسة ، إلاّ أنه إنّما سأل ليتّضح الفرق لمن يسمع مثلاً ونحو ذلك من البواعث على السؤال.

أمّا أنّ زرارة كيف دخل في الصلاة في الصورة الأُولى مع علمه بالنجاسة ، وفي الصورة الثانية مع شكّه فيها وعدم استناده إلى الاستصحاب لأنّه لم يكن عالماً بحجّيته ، فذلك ممّا لا أهميّة له ، لأنّ زرارة هو أجلّ من هذه الإقدامات ، وإنّما يسأل أسئلة فرضية كما هو الحال في التلميذ مع أُستاذه.

قوله : « قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه » (١).

لو دخل في الصلاة مع بقاء العلم الاجمالي كانت صلاته باطلة ، ولو انقلب بعد الفحص إلى اليقين بالطهارة لم تجب عليه الاعادة ، لكونه حينئذ من الجهل بالنجاسة.

ولو انقلب علمه الاجمالي بعد الفحص إلى الشكّ في الاصابة كان من الشكّ الساري ، وبناءً على قاعدة اليقين يكون وجوب الاعادة عليه واضحاً ، لأنّها

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٤٠. [ مرّ التعليق على هذه العبارة في الصفحة : ٥١ ].

٥٤

طابقت الواقع ، ويكون الوجه في دخوله في الصلاة هو عدم اعتنائه بقاعدة اليقين ورجوعه إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها ، ويكون حكم الإمام عليه‌السلام بوجوب الاعادة عليه بمنزلة ردعه عن عدم الأخذ بقاعدة اليقين.

لكن ذلك بعيد ، لأنّ السائل يقول : فلم أقدر عليه ، فهو يعترف ببقاء العلم الاجمالي ، لكنّه لم يقدر على التعيين ، وهذا بخلاف عبارته في الثانية أعني قوله : لم أر شيئاً.

١ ـ (١) بعد الفحص تيقّن بعدم النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة رأى النجاسة وعلم أنّها السابقة. [ وهذه الصورة ] خارجة عن مفاد قوله عليه‌السلام : « لأنّك » الخ ، وعن كلّ من قاعدة اليقين والاستصحاب ، وهي من الجهل بالنجاسة.

٢ ـ بعد الفحص شكّ في النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة احتمل أنّها النجاسة السابقة. ولا يقين له حينئذ إلاّما هو السابق على ظنّ الاصابة ، فيكون مورداً للاستصحاب ، ويكون النقض منطبقاً على الاعادة ، على إشكال في انطباق النقض على الاعادة تأتي الاشارة إليه (٢).

٣ ـ بعد الفحص شكّ في النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة علم أنّها السابقة. وهذه الصورة لا مورد فيها لقاعدة اليقين ، بل إنّ الجاري في حقّه هو استصحاب الطهارة التي تيقّن بها قبل ظنّ الاصابة ، والجاري في حقّه قبل الصلاة هو استصحاب تلك الطهارة ، وينطبق عليه النقض قبل الصلاة ، ويقع الإشكال في تطبيقه على الاعادة.

٤ ـ بعد الفحص تيقّن عدم النجاسة ، ثمّ بعد الصلاة وجد نجاسة يحتمل

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ هذه الصفحة ( المشتملة على صور سبق ذكرها ) وما بعدها إلى آخر الحاشية جاءت ضمن ملحقات أضافها المصنّف قدس‌سره إلى الأصل ].

(٢) في الصفحة : ٥٨.

٥٥

أنّها السابقة ، فإن كانت سابقة لم تجب إعادة الصلاة لكونها مع الجهل بالنجاسة ، وإن كانت متأخّرة لم يكن لها أثر في صلاته. نعم مع قطع النظر عن الحكم بصحّة الصلاة مع الجهل بالنجاسة ، بحيث نفرض أنّ من اعتقد طهارة ثوبه فصلّى فيه ثمّ بعد الفراغ تبيّن أنّه نجس يجب عليه الاعادة ، نقول حينئذ : إنّا إن نظرنا إلى حالته بعد الفحص كان من قاعدة اليقين ، وإن نظرنا إلى حالته قبل ظنّ الاصابة كان الاستصحاب. وعلى أيّ حال ، يكون النقض منطبقاً على الاعادة.

والأولى أن يقال : إنّ الرواية الشريفة لا تشمل الصورة الأُولى ، بل ولا الرابعة ، لأنّ الموجب للصحّة فيهما هو اليقين بالطهارة عند دخوله في الصلاة ، وأنّ انكشاف وقوعها مع النجاسة كما في الصورة الأُولى لا يضرّ بصحّتها ، لكونها من الجهل بالنجاسة ، فضلاً عمّا إذا احتمل بعد الفراغ وقوعها فيها كما في الصورة الرابعة ، ولا مدخلية في هاتين الصورتين للاستصحاب ولا لقاعدة اليقين.

نعم ، لو لم يحصل له اليقين بالطهارة بعد الفحص ، بل بقي على شكّه الحاصل من ظنّ الاصابة في قوله : « فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك » الخ ، ودخل على ذلك الشكّ في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ حصل له العلم بأنّه قد صلّى مع النجاسة كما في الصورة الثالثة ، أو لم يحصل له ذلك بل احتمل أنّ تلك النجاسة التي رآها بعد الصلاة هي نجاسة جديدة وقعت عليه بعد الصلاة كما في الصورة الثانية ، كان المورد قبل الدخول إلى الفراغ مورداً لاستصحاب الطهارة المتيقّنة قبل ظنّ الاصابة ، وحينئذ تكون صلاته صحيحة لأنّه محرز للطهارة وجاهل بالنجاسة ، فلا يضرّه العلم بعد الصلاة بأنّها كانت مع النجاسة كما في الثالثة ، فضلاً عن الشكّ في ذلك كما في الثانية. وبالجملة : أنّ الرواية الشريفة ناظرة إلى صورة بقاء الشكّ بعد الفحص ، سواء حصل له العلم بالنجاسة بعد الصلاة أو لم يعلم.

٥٦

ويمكن التفرقة بين الصورتين ، فإنّه في الصورة الثالثة وهي ما لو بقي على شكّه بعد الفحص ، وبعد الفراغ من الصلاة رأى تلك النجاسة التي كان قد شكّ فيها قبل الصلاة ، ففي هذه الصورة لا يكون له إلاّ استصحاب واحد ، وهو الذي كان قد أجراه من أوّل الدخول في الصلاة إلى الفراغ منها ، وهو قد انقطع بعد الفراغ برؤيته تلك النجاسة ، فلا يكون المصحّح لصلاته إلاّ استصحابه السابق الذي انكشف له خلافه ، فلو أراد أن يعيد لم تكن إعادته نقضاً لذلك الاستصحاب السابق. نعم ، أقصى ما في المسألة أنّه صلّى معتمداً على الاستصحاب ، فيدخل في من صلّى جاهلاً بالنجاسة ، فيكون عدم وجوب الاعادة عليه لأجل هذه الجهة أعني الجهل بالنجاسة ، لا لأنّ الاعادة تكون نقضاً لاستصحاب فعلي.

وهذا بخلاف الصورة الثانية وهي ما لو بقي على شكّه بعد الفحص ، وبعد الفراغ احتمل أنّ تلك النجاسة التي رآها هي السابقة أو أنّها جديدة طرأت بعد الفراغ من الصلاة ، فإنّه في هذه الصورة وإن كان له استصحاب أجراه من أوّل دخوله في الصلاة إلى الفراغ منها ، لكنّه بعد الفراغ ورؤيته لتلك النجاسة المحتمل كونها هي السابقة يبقى الاستصحاب جارياً في حقّه بعد رؤيته لتلك النجاسة ، فبالنظر إلى هذا الاستصحاب الفعلي الذي يجريه بعد رؤيته النجاسة تكون إعادته نقضاً لهذا الاستصحاب الفعلي الجاري في حقّه بعد رؤيته النجاسة ، وظاهر الرواية أنّه عليه‌السلام استند في عدم إعادته إلى الاستصحاب الفعلي ، لا إلى الاستصحاب الذي أجراه من أوّل الدخول إلى الفراغ ، وبناءً على ذلك تكون الرواية مختصّة بهذه الصورة أعني الصورة الثانية ، وليس لها نظر إلى الصورة الثالثة.

ولكن ذلك لا يخلو عن إشكال ، فإنّه في هذه ـ أعني صورة الشكّ في

٥٧

النجاسة المرئية بعد الصلاة ـ لا موقع للاستصحاب الفعلي بعد رؤيته النجاسة المذكورة ، فإنّ استصحابه السابق الذي كان جارياً في حقّه من أوّل الدخول في الصلاة إلى الفراغ منها قاضٍ بأنّه لا أثر للنجاسة لو كانت موجودة في حال الصلاة وأنّ صلاته صحيحة للجهل بالنجاسة مع فرض إحرازه الطهارة حينما كان في الصلاة إلى الفراغ ، ومع الحكم بصحّة الصلاة المذكورة استناداً إلى ذلك الاحراز السابق لا يبقى موقع لانكشاف وقوعها مع النجاسة ، فضلاً عن احتمال وقوعها فيه كي نحتاج إلى نفيه بالاستصحاب الفعلي الذي نريد إجراءه في حقّه بعد رؤيته النجاسة.

وحينئذ لا يكون القاضي بصحّة الصلاة إلاّ استصحابه السابق ، سواء انقطع بالعلم بأنّ النجاسة المرئية هي السابقة كما في الصورة الثالثة ، أو لم ينقطع لعدم العلم بكونها هي السابقة كما في الصورة الثانية ، وحينئذ تكون الرواية الشريفة شاملة للصورتين المذكورتين ، ولا تكون الاعادة فيها نقضاً ، بل يكون حاصل الرواية هو عدم وجوب الاعادة ، لكونه كان من أوّل الصلاة إلى آخرها مورداً لاستصحاب الطهارة المتيقّنة قبل ظنّ الاصابة.

ويمكن استفادة ذلك من قوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً » الخ (١) ، لأنّ محصّل قوله : « كنت على يقين فشككت » الخ ، أنّ موضوع الاستصحاب وهو اليقين المتعقّب بالشكّ كان متحقّقاً في حقّك ، فكان الاستصحاب جارياً في حقّك قبل الصلاة ، وهو قاضٍ بصحّتها ولو انكشف بعد ذلك خطؤه ، فضلاً عمّا احتمل خطؤه ، فلاحظ وتأمّل. وليس المراد تطبيق الاستصحاب ـ وهو عدم النقض ـ على الاعادة ، بل

__________________

(١) تقدّم استخراجه في الصفحة : ٥١ ( مع اختلاف عمّا في المصدر ).

٥٨

الغرض أنّك لا تعيد لأنّك كنت مستصحباً للطهارة ، وهذا هو الفارق بين هذه المسألة والمسألة السابقة المتضمّنة لقوله في السؤال : « وعلمت أنّه أصابه » فإنّه في تلك المسألة ـ أعني مسألة العلم بأنّه أصابه ـ لم يكن عنده موضوع الاستصحاب وهو اليقين والشكّ ، بخلاف هذه المسألة ، فلاحظ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ السؤال والجواب منصبّ على ما بعد الفراغ من الصلاة ، أمّا حاله من حين الشروع في الصلاة إلى الفراغ منها ، فلم يكن عنده حينذاك إلاّ اليقين السابق على ظنّ الاصابة والشكّ الحاصل من ظنّ الاصابة المفروض بقاؤه بحاله بعد الفحص ، لكنّه لم يستند في الإقدام على الصلاة إلى استصحاب الطهارة ليدخل تحت المحرزين للطهارة ببركة الاستصحاب ، لفرض عدم علمه بحجّية الاستصحاب ، فلا يكون إقدامه على الصلاة إلاّمثل إقدامه في صورة العلم الاجمالي باصابة الثوب ، لابدّ أن يكون عن غفلة ونحوها ممّا أمكن فيه قصد التقرّب ، وبعد الفراغ ورؤيته النجاسة فإن علم أنّها كانت هي السابقة لم يكن لصلاته ما يصحّحها ، أمّا الاستصحاب حينها فلفرض أنّه لم يستند إليه ، بل ولا إلى قاعدة الطهارة ، وأمّا الاستصحاب بعد رؤية النجاسة السابقة فلفرض علمه بها حينئذ. نعم يتولّد عنده الاستصحاب إذا كان شاكّاً في تلك النجاسة وأنّها لعلّها غير السابقة ، وحينئذ يجري الاستصحاب من جديد ، فلا تنطبق الرواية إلاّعلى هذه الصورة ، أعني صورة ما لو بقي شكّه بعد الفحص وبعد الفراغ ورؤيته النجاسة لم يعلم أنّها السابقة.

ثمّ إنّه مع قطع النظر عن الإجماعات والروايات الدالّة على عدم الاعادة على من صلّى مع النجاسة جاهلاً لو كان محرزاً لها (١) قبل الدخول ، لا يبعد أن

__________________

(١) [ الظاهر أنّه من سهو القلم والصحيح : « محرزاً لعدمها » أو « محرزاً للطهارة » ].

٥٩

يقال : إنّ هذه الرواية منصبّة الصدر والذيل على لزوم الاعادة على من تبيّن له أنّ صلاته كانت مع النجاسة ، فإنّ قوله عليه‌السلام في جواب قوله : « إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته » الخ (١) ، ويبعد التفرقة بين الانكشاف في أثناء الصلاة والانكشاف بعد الفراغ منها ، وعلى ذلك جرى في الصدر في صورة النسيان ، فإنّها أيضاً من باب انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة ، وكذلك مع الصورة الثانية وهي صورة العلم الاجمالي ، فإنّه بعد الفراغ يعلم تفصيلاً أنّ صلاته كانت مع الثوب النجس ، غايته أنّ النجاسة لم تعلم أنّها في الطرف الأعلى أو في الطرف الأسفل ، وعلى ذلك يمكن أن تنزّل الصورة الثالثة ، وهي جواب قول السائل : « فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ـ إلى قوله ـ أبداً » ولابدّ حينئذ أن نحمل الحكم بعدم الاعادة على ما لو لم يكن عالماً بأنّ النجاسة المرئية بعد الصلاة هي النجاسة السابقة ، إذ لو علم ذلك لزمه الاعادة ، سواء كان قد حصل له اليقين بالطهارة بعد الفحص أو كان قد بقي شاكّاً بناءً على الممشى المذكور أعني وجوب الاعادة على من صلّى مع النجاسة سواء كان محرزاً للطهارة من أوّل الدخول أو لم يكن ، وحينئذ يكون الحكم بعدم الاعادة مختصّاً بما لم يعلم ذلك بل احتمل بعد الفراغ أنّ النجاسة المرئية هي السابقة ، ولا أثر ليقينه بعد الفحص ولا لعدمه ، فيكون الحكم بعدم الاعادة شاملاً للصورتين ، ويكون الاعتماد في طرد احتمال وقوعها مع النجاسة السابقة على اليقين السابق على ظنّ الاصابة فتكون المسألة من الاستصحاب ، أو على اليقين الحاصل بعد الفحص إن كان ، فتكون المسألة من قاعدة اليقين.

ولقائل أن يقول : إنّ مسلّمية بطلان قاعدة اليقين يوجب كون الاعتماد على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٢ / أبواب النجاسات ب ٤٤ ح ١.

٦٠