أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

نفس الاعتبار الوحداني غير معلّق ـ إلى قوله ـ فالمعتبر تارةً هو الملكية الغير المحدودة بعدم الفسخ ، وأُخرى هي الملكية المحدودة بعدم الفسخ الخ (١) فإنّ ذلك كلّه لو سلّمناه يكون خروجاً عن فرض الرافعية ، وكلامنا إنّما هو مع فرض كون الشيء رافعاً هل يمكن أن يتقيّد المرفوع بعدمه ، وقد عرفت أنّ ثبوت الرافعية لبعض الأشياء هي من الارتكازيات الشرعية ، فلأجل ذلك تراهم ينشئون رفع الملكية بالفسخ ورفع النكاح بالطلاق.

قوله في الحاشية : وتخيّل أنّ الشيء لا يعقل أن يعلّق على عدم رافعه ، لأنّ فرض الرافع فرض وجود المرفوع ، فكيف يعلّق وجوده على عدم ما يتوقّف على وجوده ، مدفوع بأنّ المعلّق ليس أصل الوجود حتّى يلزم المحال ، بل بقاء الوجود ، والرافع لا يقتضي إلاّ أصله ، والتعليق لا يقتضي إلاّتوقّف البقاء الخ (٢).

أيّ محالية في توقّف ج على عدم ب وتوقّف ب على ج؟ إلاّ أن يقال : إنّ عدم ب يكون في رتبة وجود ب ، فإذا كان وجود ب متوقّفاً على ج كان عدم ب متوقّفاً على ج. أو يقال : إنّ توقّف ب على ج عبارة أُخرى عن كون ب معلولة لج ، ويكون الحاصل حينئذ أنّ وجود ج متوقّف على عدم معلوله. وفي كلا التوجيهين تأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من المحالية ليست براجعة إلى هذا ولا إلى ذاك ، بل هي في مقام اللحاظ ، وأنّ الجاعل عند جعله الشيء ففي مرتبة جعله لا يكون الملحوظ إلاّهو ، ولحاظ رافعه وعدم رافعه إنّما هو بعد الوجود ، فلا يمكن أن يؤخذ في مرتبة الجعل التي هي سابقة على ذلك.

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٦٧.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٦٧.

٤٨١

وللمرحوم صاحب الدرر قدس‌سره (١) في المقام كلام لا بأس بنقله ، فإنّه بعد أن نقل ملخّص ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الجواب عن إشكال النراقي قدس‌سره بأنّ ما قبل الزوال إن كان قيداً لم يجر إلاّ استصحاب عدم الوجوب ، وإن كان ظرفاً لم يجر إلاّ استصحاب الوجوب ، أفاد أنّه يمكن اختيار الشقّ الأوّل ، ولكن نأخذ الجلوس مهملاً من حيث التقييد بالزمان وعدمه كما قدّمنا في مسألة الأقل والأكثر فنقول : إنّه كان واجباً والآن كما كان ، ويمكن اختيار الشق الثاني فنستصحب الوجوب ، فكذلك نستصحب العدم ، بأن نأخذ الزمان قيداً فيما بعد الزوال فنقول الأصل عدم وجوب الجلوس المقيّد.

ثمّ أورد على الأوّل بأنّه من قبيل القسم الثالث من الكلّي ، للعلم بارتفاع وجوب الجلوس المقيّد بانقضاء قيده ، والشكّ في قيام وجوب آخر مقامه ، وإنّا وإن قلنا بجريان الاستصحاب في ذلك إلاّ أنه هنا ممنوع ، لأنّ الشكّ في بقاء ذلك الوجوب الذي أخذناه متعلّقاً بالجلوس مسبّب عن حدوث الوجوب المتعلّق بما بعد الزوال ، فالأصل عدمه ، وهو حاكم على استصحاب البقاء.

قلت : لا يخفى أنّ الجلوس المهمل من حيث القيد وعدمه ليس إلاّ الجلوس لا بشرط المقسمي ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يقبل حكماً من الأحكام ، فلا محصّل لاستصحاب وجوبه. وأمّا ما ذكره في مسألة الأقل والأكثر وأنّ تعلّق الوجوب بالمهمل معلوم والخصوصية منفية بالبراءة ، فقد تقدّم التأمّل فيه في تلك المسألة ، وأنّه لا محصّل لذلك الاهمال إلاّذلك الاجمال ، أعني العلم الاجمالي المردّد بين الأقل والأكثر.

مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا إمكان تعلّق الوجوب بالجلوس لا بشرط المقسمي ،

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٤١ ـ ٥٤٢.

٤٨٢

لقلنا إنّ ذلك الوجوب قد ارتفع في المقام قطعاً ، لأنّ المفروض أنّ الجلوس الذي كان متّصفاً به هو المقيّد ، وحينئذ نحتاج إلى الفرض الثاني من تعدّد المطلوب الذي تقدّم ذكره (١) في تفسير عبارة الكفاية ، أو إلى دعوى كون المستصحب هو القدر الجامع بين الوجوب السابق المتعلّق بالمقيّد والوجوب الجديد المحتمل المتعلّق بالفاقد ، وهذا سهل لا يحتاج إلى التشبّث بالاهمال المذكور.

ولا يرد عليه إلاّ أن القدر الجامع بين الوجوبين ليس من الأحكام الشرعية ، ومع قطع النظر عن هذه لا يكون إلاّمن قبيل القسم الثالث من الكلّي الذي يقول هو بصحّة استصحابه ، وأمّا حكومة أصالة عدم الحادث فقد عرفت ما أفاده شيخنا قدس‌سره من عدم جريانه ، إذ لا أصل له.

ثمّ أفاد في الايراد على ما ذكره في الشقّ الثاني ما هذا لفظه : وأمّا الشقّ الثاني فاستصحاب الوجوب ليس له معارض ، فإنّ مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيّد بالزمان الخاصّ أنّ هذا المقيّد ( بالزمان الخاصّ ) ليس مورداً للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيداً ، ولا ينافي وجوب الجلوس في ذلك الزمان الخاصّ على نحو لوحظ الزمان ظرفاً للوجوب (٢).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ بقاء الوجوب في الزمان الثاني متعلّقاً بالجلوس منافٍ لعدم وجوبه ، لأنّه حينئذ يقال : إنّ هذا الجلوس واجب باعتبار كونه مصداقاً للجلوس المطلق ، وليس بواجب باعتبار كونه خاصّاً بالزمان الثاني ، ولعلّ المراد ـ كما هو غير بعيد ـ أنّ الوجوب المنفي عن الجلوس هو وجوب جديد وارد عليه بخصوصه ، والوجوب المثبت هو الوجوب السابق ، فيكون الحاصل أنّ هذا

__________________

(١) في الصفحة : ٤٦٣.

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٤٣ ـ ٥٤٤.

٤٨٣

الجلوس واجب بذلك الوجوب السابق المتعلّق بالجلوس المطلق ، وليس بواجب بوجوب جديد ، ولا منافاة بينهما كما عرفت فيما قدّمناه سابقاً في الأخذ بنظرية شيخنا قدس‌سره من لزوم كون الوجوب المنفي في الزمان الثاني وجوباً آخر غير الوجوب السابق هذا ، مضافاً إلى بطلان الرجوع إلى أصالة العدم في الوجوب الثاني ، فلاحظ.

قوله : فخلاصة الكلام فيه : هو أنّ الشكّ في بقاء الموضوع إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في موضوعية الموضوع فلا إشكال أيضاً في جريان استصحاب بقاء الموضوع إن لم تكن تلك الخصوصية من أركان الموضوع عرفاً ، ولا يضرّ انتفاؤها ببقائه في نظر العرف ... الخ (١).

لا يخفى أنّ استصحاب بقاء الموضوع في جميع الأحكام إنّما يجري عند الشكّ في بقائه لاحتمال ارتفاعه ، كأن يكون الموضوع مثلاً هو الكذب المقيّد بالضرر وقد شكّ في بقاء الضرر كما هو مورد الصورة الثانية ، أمّا هذه الصورة التي يكون ارتفاع الخصوصية فيها معلوماً لكن كان المكلّف يحتمل عدم دخلها في الموضوع ، فليست هي من موارد استصحاب الموضوع ، بل هي مورد استصحاب الحكم ، ويدفع إشكال اتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة بما أُفيد من عدم كون تلك الخصوصية بحسب النظر العرفي ركناً.

أمّا استصحاب نفس الموضوع في هذه الصورة ، فإن أُريد به استصحاب عنوان الموضوعية لتلك الذات التي زالت عنها تلك الخصوصية ، فذلك عبارة أُخرى عن استصحاب الحكم ، وإن أُريد بذلك استصحاب وجود الموضوع على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٢.

٤٨٤

نحو مفاد كان التامّة ، من دون تعرّض لاثبات صفة الموضوعية لتلك الذات التي زالت عنها تلك الخصوصية ، فذلك راجع إلى الصورة الثانية ، وهي غير محتاجة إلى ما أُفيد من النظر العرفي ، ولا يبعد أن يكون عدّ الصورة المذكورة ـ أعني الصورة الأُولى ـ من صور استصحاب الموضوع من سهو القلم ، ولم أجد ذلك في تحريراتي ولا في التحريرات المطبوعة في صيدا ، فراجع وتأمّل.

ولعلّ ذلك مأخوذ من عبارة الشيخ في التنبيه الثالث ، فإنّه بعد أن ذكر أنّ الحكم العقلي لا يجري فيه الاستصحاب لعدم تطرّق الشكّ إليه قال : وأمّا الشكّ في بقاء الموضوع فإن كان لاشتباه خارجي ـ إلى قوله ـ وإن كان لعدم تعيين الموضوع تفصيلاً واحتمال مدخلية موجود مرتفع ـ إلى قوله ـ هذا حال نفس الحكم العقلي ، وأمّا موضوعه كالضرر ، إلى آخره (١) ، فتخيّل أنّ قوله : وإن كان لعدم تعيين الموضوع ، يراد به استصحاب الموضوع ، لكن الشيخ قدس‌سره إنّما أراد به الحكم ، فتأمّل.

ثمّ إنّا قد قدّمنا الكلام على استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي في أوائل الاستصحاب (٢).

قوله : سواء كان الشكّ في الغاية أو الرافع ، وسواء كان الرافع والغاية شرعيين أو عقليين ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو في جريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، ومنشأ الشكّ فيه إنّما هو من جهة ارتفاع بعض

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢١٥ ـ ٢١٧.

(٢) في الصفحة : ١٦ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٠.

٤٨٥

القيود التي كانت مورداً للحكم العقلي ، مثل ارتفاع الضرر في مورد حكم العقل بقبح الكذب الضارّ ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس من قبيل الشكّ في الغاية أو الرافع. نعم ، يمكن أن يقال : إنّ انعدام الضرر وارتفاعه بعد فرض مدخليته يكون من قبيل الرافع ، فيكون الشكّ في مدخليته في القبح من قبيل الشكّ في رافعية الموجود.

والذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام بعد الفراغ عمّا أفاده أوّلاً وثانياً في جواب الإشكال ، وبعد الفراغ عمّا أفاده قدس‌سره من المسامحة العرفية ، هذا نصّه : هذا على تقدير كون الشكّ في بقاء الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل ناشئاً عن غير الشكّ في حصول الغاية أو الرافع لذلك الحكم الشرعي ، وأمّا إذا كان الشكّ في بقائه ناشئاً عن الشكّ في حصول الغاية أو الرافع ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى ذلك الحكم الشرعي حتّى بناءً على اعتبار الوحدة في الموضوع عقلاً ، انتهى.

ولا يخفى أنّ الشكّ في الغاية والرافع يتصوّر فيه أن يكون من قبيل الشكّ في رافعية الموجود ، فيكون حاله حال الشكّ في مدخلية مثل الضرر في قبح الكذب ، وأن يكون من قبيل الشكّ في وجود الرافع ، فيكون حاله حال الشكّ في بقاء الضرر بعد الفراغ عن مدخليته في القبح ، والأوّل من قبيل الشبهة الحكمية والثاني من قبيل الشبهة الموضوعية.

قوله : وثانياً : سلّمنا أنّ كلّ خصوصية أخذها العقل ... الخ (١).

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥١.

٤٨٦

لا يخفى أنّ مرجع الإشكال الأوّل إلى دعوى احتمال عدم مدخلية الخصوصية الزائلة في موضوع الحكم العقلي ، ومرجع الإشكال الثاني إلى تسليم مدخليتها في الحكم العقلي ، ولكن يحتمل أن يكون في البين ملاك آخر هو العلّة في الحكم الشرعي لم يطّلع العقل [ عليه ] ، بحيث يكون ذلك الحكم الشرعي ناشئاً عن ملاكين ، أحدهما ما أدركه العقل وهو قائم بالخصوصية الزائلة ، والآخر ما لم يدركه العقل وهو باقٍ لم يزل ، فيدور الأمر في ذلك الحكم الشرعي بين ذي الملاكين وذي الملاك الواحد الزائل ، ولا مانع من استصحاب ذلك الحكم الشرعي بعد فرض خروج الملاك عن موضوعية ذلك الحكم ودخوله في علّته ، فيكون المستصحب هو الحكم الشخصي ، لتردّد علّته بين تلك الواحدة الزائلة وبين العلّتين اللتين قد زالت إحداهما وبقيت الأُخرى ، من دون توقّف في ذلك على الالتزام بالشدّة والضعف ، فراجع ما حرّرناه في أوائل الاستصحاب (١) في مبحث الاستصحاب في الحكم الشرعي الناشئ عن الأحكام العقلية ، وراجع ما حرّرناه قريباً (٢) في شرح عبارة الكفاية في التسامح من ناحية وحدة المطلوب وتعدّده.

وبالجملة : بعد فرض كون الحكم مردّداً بين كونه عن ملاك واحد وكونه عن ملاكين ، يكون المستصحب نفس ذلك الحكم الشخصي ، وليس هو من قبيل المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، كي نحتاج إلى استصحاب القدر الجامع بينهما ، لما عرفت من خروج الملاك عن موضوعيته ودخوله في علّته ،

__________________

(١) في الصفحة : ٢٦.

(٢) في الصفحة : ٤٦٣ وما بعدها.

٤٨٧

وحينئذ يكون حاله حال النور الواحد المردّد بين كونه معلولاً لسراجين أو لسراج واحد ، أو نظير الحرارة في الماء المردّدة بين كونها معلولة لنار واحدة أو نارين ، مع فرض عدم الاختلاف في الشدّة والضعف ، فالاستصحاب فيما نحن فيه لا يحتاج إلى استصحاب القدر الجامع ، ولا إلى التعلّق بمسألة الاختلاف في الشدّة والضعف ، ولا إلى التعلّق بمسألة التسامح العرفي ، لأنّ المفروض أنّ مورد الشكّ إنّما هو في الملاك ، وهو أجنبي عن موضوعية الحكم ، حيث إنّ هذا الحكم الشرعي لم يكن ناشئاً عن دليل لفظي يدلّ على أنّ الكذب الضارّ محرّم ، كي نقول إنّ استصحاب الحرمة بعد ارتفاع الضرر يحتاج إلى التسامح المذكور ، بل إنّ هذا الحكم ناشٍ عن حكم العقل بالكذب الضارّ ، وليس ذلك الوصف قيداً في موضوع حكم العقل ، بل إنّه يكون علّة في حكم العقل على الكذب بأنّه قبيح ، فيكون الحكم الشرعي المستكشف به على وتيرته ، والمفروض أنّ العنوان لم يكن موضوعاً لذلك الحكم العقلي ، لما عرفت من كونه ملاكاً للحكم العقلي بالقبح ، فيكون من قبيل علّة الحكم.

ولا وجه لما يقال : من أنّ ملاكات الأحكام العقلية هي موضوعاتها ، كما أفاده صاحب الدرر قدس‌سره بقوله : وأمّا القضية الملقاة من العقل ، فليست مشتملة على شيء آخر خارج عن الموضوع يسمّى ظرفاً أو حالاً وواسطة في ثبوت الحكم ، كما كان في القضية الملقاة من الشرع الخ (١) لما هو واضح من أنّه ليس في الأحكام العقلية قوانين كلّية وقضايا حملية ، وإنّما هو محض الاستقذار والاستنكار والتنفّر

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥١٥.

٤٨٨

الخارجي ، وهو لا يقع إلاّعلى ذات الكذب لأجل أنّه ضارّ. ولو سلّمنا موضوعية الضرر في ذلك الحكم العقلي فهو بالنظر العرفي علّة ، وحينئذ نلتزم بالاحتياج إلى التسامح العرفي ولا ضير فيه.

وعلى كلّ حال ، لا يكون المقام من قبيل الشكّ في المقتضي ، لما عرفت من أنّ ارتفاع بعض القيود لا يكون موجباً للتحديد بوجوده ، ولو سلّم هذا الاحتمال فلا [ يكون ] التحديد بارتفاع ذلك القيد من قبيل التحديد بالزمان ، كي يكون من قبيل الشكّ في المقتضي.

قوله : وأمّا المقام الثالث وهو استصحاب بقاء الموضوع ـ إلى قوله : ـ إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات ـ وإلى قوله : ـ وإن كان الشكّ في بقاء الموضوع لبعض الأُمور الخارجية ... الخ (١).

مرجع النحو الأوّل إلى ما هو من قبيل الشبهة المفهومية ، لأجل احتمال مدخلية الخصوصية المفروض انتفاؤها في موضوعية ذلك الحكم العقلي ، فتكون الشبهة مفهومية ، نظير التردّد في المفهوم بين الأقل والأكثر ، ومعه لا مجال لاستصحاب وجود الموضوع ، كما مرّ فيما لو تردّدت العدالة بين ترك مطلق الذنب أو ترك خصوص الكبائر ، وكما لو تردّد المرض المسوّغ للافطار بين مطلق المرض وعدم الصحّة ، أو هو خصوص المرض الصعب مثلاً ، وقد تقدّم (٢) أنّه لا يجري فيه استصحاب الموضوع ، وإنّما الجاري هو استصحاب الحكم بعد تمامية التسامح العرفي ، وحينئذ يكون هذا القسم الأوّل من المقام الثالث راجعاً إلى

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(٢) في الصفحة : ٤٦٠.

٤٨٩

المقام الأوّل إن أُريد استصحاب الحكم العقلي ، أو إلى المقام الثاني إن أُريد استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي ، فلاحظ.

قوله : فإنّ العقل إنّما يستقلّ بقبح الإقدام على الضرر المظنون فعلاً ، واستصحاب بقاء الضرر في السم لا يوجب حصول الظنّ الفعلي ... الخ (١).

لو كان للعقل استقلال في المقام فهو إنّما يستقلّ بقبح الإقدام على محتمل الضرر وهو متحقّق وجداناً ، فلا محصّل لاستصحاب الضرر ، نعم يشكل الأمر في استصحاب عدم الضرر لو كان المورد منه ، ومنشأ الإشكال هو أنّ استصحاب عدم الضرر لا ينفي الاحتمال الوجداني للضرر الذي هو تمام ملاك حكم العقل ، بل ملاك حكم الشرع بالاحتياط طبقاً للحكم العقلي الاحتياطي الطريقي ، فراجع ما تقدّم في مباحث حجّية الظنّ (٢). أمّا لو كان لنا حكم شرعي مستقل مترتّب على الظنّ بالضرر ثابت لدليل خاصّ غير حكم العقل ، فذلك مقام آخر ، وهو لا ينفع فيه استصحاب الضرر ولا استصحاب عدم الضرر ، فتأمّل.

قوله : ليس في الأحكام العقلية ما يستقلّ العقل بالبراءة فيها عند الشكّ في الموضوع الذي يحكم العقل بقبحه ... الخ (٣).

لو تصوّرنا الشكّ في قبح فعل من الأفعال بنحو الشبهة الحكمية لا الموضوعية ، فهل يكون عند العقل مورد للاحتياط الطريقي كما في الشبهة الموضوعية.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٣.

(٢) لاحظ المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥١٤.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٣.

٤٩٠

قوله : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ العقل إذا استقلّ بحسن شيء أو قبحه ، فتارةً يكون له حكم واحد بمناط واحد ... الخ (١).

الظاهر أنّ الغرض من هذا التقسيم الايراد على ما أفاده الشيخ قدس‌سره بأن يقال : إنّ الضرر من قبيل القسم الثاني من الأحكام العقلية التي يجري فيها الاستصحاب عند الشكّ في البقاء.

وفيه تأمّل ، فإنّ الغرض من الاستصحاب إن كان هو ترتّب الحكم الشرعي وهو الحرمة فذلك لا ينكره الشيخ ، فإنّه صرّح بترتّب الحرمة على الاستصحاب المذكور ، فراجع الرسائل في التنبيه الثالث (٢) وإن كان الغرض من الاستصحاب هو ترتّب الحكم العقلي وهو القبح ، فهذا لا تقولون به أنتم ولا الشيخ ، وقد صرّح به الشيخ أيضاً.

وأمّا ما تقدّم نقله عن الشيخ من الابتناء على كون الاستصحاب من باب الظنّ ، فهو مطلب آخر حاصله : أنّا لو قلنا بأنّ الاستصحاب مفيد للظنّ ، وقلنا بأنّ موضوع حكم العقل بالقبح شامل للظنّ بالضرر ، فإنّ موضوع حكمه بالقبح هو إدراك الضرر إدراكاً راجحاً ، كان ذلك الاستصحاب موجباً لتحقّق موضوع الحكم العقلي ، فيترتّب الحكم العقلي ترتّباً قهرياً ، ولأجل ذلك عبّر بقوله : فيحمل عليه الحكم العقلي (٣) ، فلا يتوجّه عليه شيء حينئذ سوى دعوى أنّه لم يقل أحد بحجّية الاستصحاب من باب الظنّ الشخصي حتّى يبتني الكلام عليه ، وذلك سهل ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٦.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢١٧.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٢١٧.

٤٩١

وسوى أنّ العقل في مورد احتمال الضرر يلزم بالاحتياط ، وهذا لم يظهر من الشيخ إنكاره ، وإنّما الذي صرّح هو أنّه لو قلنا بكون موضوع حكم العقل بالقبح هو الظنّ بالضرر ، لكان ذلك متحقّقاً بالاستصحاب بناء على حجّيته من باب الظنّ فتأمّل.

والحاصل : أنّ الشيخ قدس‌سره ليس بصدد الحكم العقلي الاحتياطي في هذا القسم من الأحكام العقلية ، ولعلّه قدس‌سره ينكر هذا الحكم الاحتياطي ، وإنّما جلّ غرضه هو أنّا لو قلنا بأنّ موضوع الحكم العقلي بلزوم دفع الضرر منوط بالاعتقاد الراجح ، لكان ذلك الحكم العقلي ثابتاً ثبوتاً واقعياً عند استصحاب الضرر بناءً على كون حجّيته من باب [ الظنّ ] ولابدّ حينئذ من التوفيق بين الظنّين ، أعني ما هو موضوع الحكم العقلي وما هو حاصل بالاستصحاب من حيث كونه نوعياً أو شخصياً.

قوله : إذا تبيّن ذلك فنقول : إنّه في القسم الأوّل من الأحكام العقلية لا تجري الأُصول العملية في موارد الشكّ في الموضوع ولا مجال للتعبّد بها ... الخ (١).

لا يخفى أنّ أظهر موارد القسم الأوّل حكم العقل بقبح التشريع الذي يكون موضوعه هو عدم العلم ، بمعنى عدم الحجّة الشرعية ، حيث إنّه يكون استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها ساقطاً ، لكفاية مجرّد الشكّ في تحقّق القبح المذكور ، لكن قد تقدّم في محلّه (٢) أنّ استصحاب عدم الحجّية وإن لم يكن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٧.

(٢) في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٦٦ وما بعدها.

٤٩٢

جارياً لما ذكر ، إلاّ أن استصحاب الحجّية فيه جارٍ كجريان الأمارة النافية والأمارة المثبتة ، فلاحظ ما قدّمناه في ذلك الباب.

قوله : وأمّا إذا لم يكن في المشكوك أصل موضوعي محرز ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة والحل ، فالحكم العقلي الطريقي يكون حاكماً ومقدّماً في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، لأنّ موردهما أعمّ من المستقلات العقلية ، فلو قدّم أصالة البراءة والحل يبقى الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ... الخ (١).

قال السيّد ( سلّمه الله تعالى ) فيما حرّره عن شيخنا قدس‌سره : بل لا محالة يحكم العقل في الموارد المشكوكة بحكم آخر طريقي. ومنه يظهر أنّه لا مجال في هذه الموارد للرجوع إلى أصالتي البراءة والحلّية ، فإنّ الحكم العقلي بالقبح في تلك الموارد المشكوكة طريقياً يكون مخصّصاً لأدلّة البراءة والحلّية ، بل يكون حاكماً عليها ، إذ لا يبقى مع حكم العقل بالقبح مجال للشكّ في الحلّية حتّى يكون مورداً لها الخ (٢).

ولا يخفى أنّ ما أُفيد في هذا التحرير لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ صدر الكلام هو دعوى حكومة هذا الحكم العقلي الطريقي وتقدّمه في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، فلا وجه لتعليله بأنّ هذا الحكم العقلي أخصّ فيلزم تقديمه على دليل البراءة وقاعدة الحل إذ لو عكس الأمر لزم كون ذلك الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ، بل الذي ينبغي هو أن يعلّل هذه الدعوى بما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه الله

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٧.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١١٨.

٤٩٣

من كون هذا الحكم العقلي الطريقي رافعاً للشكّ الذي هو موضوع البراءة وقاعدة [ الحل ] وذلك قوله : بل يكون حاكماً عليها ، إذ لا يبقى مع حكم العقل بالقبح مجال للشكّ في الحلّية حتّى يكون مورداً لها.

وإن كان هو أيضاً لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ وجود الحكم العقلي الطريقي لا يرفع موضوع البراءة وقاعدة [ الحل ] وهو الشكّ في الحكم الواقعي ، بل ينبغي العكس ، لأنّ حكم الشارع بالترخيص وعدم الاعتناء باحتمال وجود المنع الواقعي رافع لموضوع الحكم العقلي الطريقي ، وأقصى ما فيه هو أن لا يبقى لذلك الحكم العقلي الطريقي مورد ، وقد حقّق في محلّه أنّه مع الحكومة لا تلاحظ النسبة بين الدليلين ، فيقدّم العام على الخاصّ لو كان الأوّل حاكماً على الثاني. نعم لو كان الخاصّ دليلاً لفظياً كالعام كان ذلك مستهجناً ، أمّا مع كون الخاص من الأحكام الطريقية العقلية ، فلا يبعد الالتزام باسقاط هذه الحكومة العقلية.

والذي وجدته فيما حرّرته عنه كان مقصوراً على مجرّد الإشكال وهذا نصّه : وما كان من قبيل القسم الأوّل كانت الأمارات والأُصول جارية في مورد الشكّ في تحقّق موضوعه ، سواء كانت موافقة أو مخالفة ، فإنّ العقل وإن استقلّ بقبح الاقدام على ما لا يؤمن مع الاقدام عليه من الوقوع فيما هو قبيح واقعاً ، إلاّ أن الأمارة أو الأصل يكون مؤمّناً من ذلك ، فتكون الأمارة والأصل رافعة لموضوع ذلك القبح الاحتياطي الطريقي ، نعم في مورد البراءة الشرعية وقاعدة الحل إشكال من حكومتهما على ذلك القبح الطريقي ، أو كونه مقدّماً عليهما ، وقد تقدّم ذلك في محلّه مفصّلاً ، انتهى. ومراده بمحلّه هو ما أفاده في الموارد التي وقع

٤٩٤

الكلام فيها على وجوب دفع الضرر الدنيوي ، كما في أوائل حجّية الظنّ المطلق ، وفي الاستدلال على الاحتياط بدفع الضرر المحتمل ، فراجع.

والأولى أن يستند في توجيه التقديم ـ أعني تقديم هذا الحكم العقلي الطريقي على البراءة وقاعدة الحل ـ إلى دعوى الملازمة بين الحكم العقلي الطريقي وبين الحكم الشرعي الطريقي ، أعني الاحتياط الشرعي ، وعند ثبوت الاحتياط الشرعي المستكشف من ذلك الاحتياط العقلي بطريق الملازمة ، يكون هذا الاحتياط الشرعي مقدّماً على أصالة البراءة وقاعدة الحل لكونه أخصّ ، أو لأجل حكومته عليهما بدعوى كون المراد من المشكوك وما لا يعلمون هو الأعمّ من عدم العلم بالواقع وعدم العلم بالوظيفة الشرعية.

وبالجملة : يكون حال هذا الاحتياط الشرعي المستكشف من الاحتياط العقلي حال الاحتياط الشرعي في باب الدماء والفروج والأموال ، بل هو هو بعينه فلاحظ.

وأمّا حكومته على البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان فواضح حتّى لو اقتصرنا على مجرّد الاحتياط العقلي ، ولم نلتزم بالاحتياط الشرعي المستكشف به ، فلاحظ وتأمّل ، وراجع ما في الجزء الأوّل من هذا التحرير ص ١٣٤ وص ٧٩ تجده صريحاً فيما ذكرناه ، وراجع ما علّقناه هناك على ص ٧٩ (١) في كيفية حكومته على الاستصحاب سواء كان طريقياً أو كان موضوعياً.

قال في ص ١٣٤ من الجزء الأوّل ـ بعد أن ذكر حكم العقل بلزوم دفع

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥١٥ وما بعدها.

٤٩٥

الضرر المحتمل الدنيوي ، وهل هو من قبيل ذي الحكم الواحد أو من قبيل ذي الحكمين ـ ما هذا لفظه : وعلى كلّ تقدير سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه ، يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه الخ (١).

وقال في ص ٧٩ : وعلى كلّ حال ، سواء قلنا بأنّ حكم العقل في موارد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي ، فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعاً في سلسلة علل الأحكام ، فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل ، فإن كان الحكم العقلي طريقياً فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضاً يكون طريقياً ، نظير إيجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج ، وإن كان موضوعياً فالحكم الشرعي أيضاً يكون كذلك ، ولا يمكن أن يختلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية ، بل يتبعه في ذلك لا محالة ، وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكماً على أدلّة الأُصول الشرعية من البراءة والاستصحاب ، كما يكون وارداً على البراءة العقلية ، فإنّه يخرج المورد عن كونه « ما لا يعلمون » ، وعن نقض اليقين بالشكّ ، وعن كون العقاب عليه بلا بيان ، بل يكون ممّا يعلمون ، ومن نقض اليقين باليقين ، ومن كون العقاب عليه عقاباً مع البيان الواصل ، ويأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى (٢).

هذا ما حرّرناه سابقاً فيما يرجع إلى هذا التنبيه الراجع إلى استصحاب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٦٧.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٨.

٤٩٦

الأحكام الشرعية الثابتة بالحكم العقلي ـ أعني التحسين أو التقبيح العقليين ـ بواسطة الملازمة بين الحكم الشرعي والحكم العقلي ، فيكون الانتقال إلى الحكم الشرعي من قبيل الاستدلال على المعلول بعلّته.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه لم يكن لدينا من الأحكام الشرعية ما هو من ذلك القبيل وما هو إلاّفرض محض ، وأغرب منه التكلّم في موضوع الأحكام العقلية لو كانت الشبهة مفهومية ، مثل ما لو حكم العقل بقبح الكذب الضار ثمّ تجرّد عن الضرر ، فهل يبقى قبحه أو لا. ليت شعري إذا كان الحاكم هو العقل فمن هو الشاكّ ، وكيف يرجع الحاكم الذي هو العقل في تنقيح موضوعات أحكامه إلى العرف ، وأنّ القيد الفلاني في نظرهم ممّا له دخل في الموضوع أو هو أجنبي في نظرهم عن الموضوع.

وبعد هذا كلّه ننقل الكلام إلى ما أُفيد من الحكم العقلي الذي هو ذو الحكم الواحد والحكم العقلي الذي هو ذو الحكمين ، وأنّ الأوّل لا مجال فيه للأُصول بخلاف الثاني ، فيجري فيه الاستصحاب المثبت والنافي ، ويكون حاكماً على الاحتياط الذي يحكم به العقل حكماً ثانوياً. ولو لم يكن إلاّقاعدة الحل والبراءة وقبح العقاب من دون بيان ، هل يقع التعارض بينها وبين الاحتياط العقلي ، أو أنّه حاكم عليها لكونه أخصّ منها ، كلّ هذه التفاصيل لا واقعية لها في الأحكام العقلية.

نعم ، إنّ بعض الأحكام الشرعية مثل حرمة الكذب وحرمة التشريع وحرمة القول على الشارع ، وهذه موضوعها عدم العلم ، كما في الحجّية لو شككنا في أنّ الشهرة حجّة شرعية ، في مثل هذه الأحكام يكون الشكّ كافياً في القطع بالحرمة ،

٤٩٧

ولا يكون استصحاب عدم الحجّية جارياً ، إذ لا تزيد بذلك على ما هو الموضوع أعني عدم العلم الذي هو أعمّ من العلم بالعدم. نعم يجري استصحاب الحجّية ، لأنّه يخرج المسألة عن موضوع عدم العلم بأنّه من الشارع ويدخلها في العلم بأنّه من الشارع.

كما أنّ لنا أحكاماً واقعية لكن قام الدليل على لزوم الاحتياط فيها ولو مثل ما لو علّق الترخيص على عنوان وجودي ، القاضي بلزوم التوقّف ما لم يحرز ذلك العنوان الوجودي ، إلى غير ذلك ممّا يوجب انقلاب الأصل من البراءة مثلاً إلى الاحتياط ، كما في باب أموال الناس والدماء والفروج ، فإنّه بناءً على ذلك الانقلاب يكون الاستصحاب من الطرفين ـ أعني مثبته ونافيه ـ جارياً وحاكماً على دليل الاحتياط ، وما لم يكن هناك استصحاب يكون المتعيّن هو الاحتياط الذي دلّ عليه الدليل في خصوص ذلك الباب ، أعني باب الدماء مثلاً ، ويكون ذلك الدليل لو تمّ مقدّماً على دليل البراءة الشرعية لكونه أخصّ منه ، وحاكماً على البراءة العقلية أعني حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ ذلك الدليل الدالّ على لزوم الاحتياط كافٍ في كونه بياناً وحجّة مصحّحة للعقاب.

نعم ، الشأن كلّ الشأن في تمامية ذلك الدليل الموجب للخروج عن عمومات البراءة الشرعية ، وهو أمر آخر لا دخل له بما نحن في صدده من إنكار هذا التفصيل في الأحكام العقلية ، بل إنكار أصل قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقاعدة الملازمة. ولو سلّمناها فلا صغرى لها في أحكامنا الفقهية الثابتة في الشريعة الإسلامية ، فلاحظ وتأمّل لتستريح من انتقادات المحدّثين الموجّهة إلى الأُصوليين في هذا الدليل العقلي الراجع إلى ذلك.

٤٩٨

أمّا الأحكام العقلية كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، وقاعدة امتناع اجتماع الأمر والنهي ونحو ذلك من الملازمات العقلية ، فإنّها لا مجال للإشكال فيها ، ولا تدخل فيما يورده المحدّثون على الأُصوليين في التعلّق بالأحكام العقلية لإثبات الأحكام الشرعية.

٤٩٩
٥٠٠