أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : وحاصل الكلام ، وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان حادثاً مسبوقاً بالعدم ، إلاّ أن العدم المسبوق به ليس هو العدم الأزلي ، لانتقاض العدم الأزلي بوجوب الجلوس قبل الزوال الخ (١) فإنّ المراد من وجوب الجلوس بعد الزوال إن كان هو كونه مشروطاً ببعد الزوال ، وأنّ الزوال سبب في ذلك الوجوب ، كان المانع من استصحاب عدمه منحصراً بما أُفيد من انتقاض ذلك العدم بالوجوب الحاصل قبل الزوال ، وإلاّ بأن كان المراد بذلك هو أخذ الوجوب بعد الزوال مقيّداً ببعد الزوال ، بحيث يكون هو الوجوب المقيّد بأنّه الحاصل بعد الزوال ، لم يكن المانع من استصحاب عدمه هو مجرّد وجود الوجوب فيما قبل الزوال ، بل كان استصحاب عدمه ممتنعاً حتّى لو لم يكن الوجوب موجوداً فيما قبل الزوال ، والسبب في امتناعه هو ما شرحناه من أنّ الوجوب المقيّد بالزمان المذكور ليس له حالة سابقة ، وهو ما أشار إليه بقوله : فقبل الزوال ليس الوجوب المقيّد بما بعد الزوال متحقّقاً ، ولا عدم الوجوب المقيّد بذلك متحقّقاً ، إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع الخ (٢) وبقوله في العبارة السابقة : وبعبارة أوضح : العدم المقيّد بقيد خاصّ من الزمان أو الزماني إنّما يكون متقوّماً بوجود القيد ، كما أنّ الوجود المقيّد بقيد خاصّ إنّما يكون متقوّماً بوجود القيد ، ولا يعقل أن يتقدّم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاصّ عنه ، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقّق في يوم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٧.

٤٤١

الجمعة الخ (١) ومن الواضح أنّ الإشكال من هذه الناحية لا يكون من جهة تحقّق الوجوب في الزمان السابق ، بل هذا الإشكال جارٍ حتّى لو كان الزمان السابق خالياً من الوجوب ، فلاحظ.

قوله : فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلاّ إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الإشكال إنّما يتّجه لو كان المنظور إليه هو ما بعد الزوال الخاصّ على نحو القضية الشخصية ، فإنّ هذا الزوال الخاصّ من حين وجوده إمّا أن يكون مقروناً بوجود الحكم فيه ، أو يكون مقروناً بعدم وجود الحكم فيه ، ولم تكن له حالة سابقة كان فيها مقروناً بعدم الحكم كي يجري استصحاب تلك الحالة فيه. أمّا إذا أُخذ كلّياً وهو كلّي ما بعد الزوال من يوم الجمعة الصادق على كلّ يوم من أيّامها ممّا قد مضى وممّا يأتي ، فهذا الزمان الكلّي الجامع بين تلك الأفراد قد كان ولم يكن الوجوب موجوداً فيه ، فأي مانع من استصحاب عدم الحكم في ذلك الكلّي من الزمان.

نعم ، يتوجّه عليه الإشكال الذي أفاده قدس‌سره في باب استصحاب البراءة (٣) ، أمّا هذا الإشكال وهو أنّه لم تمض على هذا الزمان مدّة لم يكن الوجوب متحقّقاً فيه ، فلا يرد عليه إلاّ إذا كانت القضية شخصية خارجية ، والمفروض أنّ محلّ الكلام إنّما هو القضايا الأحكامية ، ومن الواضح أنّ كلّي ما بعد الزوال من يوم الجمعة قد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٦.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٢ وما بعدها.

٤٤٢

كان ولو قبل الشريعة الإسلامية ، ولم يكن الوجوب موجوداً فيه ، فلِمَ لا يجري فيه الاستصحاب المذكور ، وهل هو إلاّكما إذا شككنا في وجوب الفعل الفلاني في الزمان الفلاني ، وأيّ أثر لتقدّم الوجوب على الزمان المشكوك فيه في ناحية الاستصحاب المذكور.

ولكن لا يخفى عدم ورود هذا الإشكال ، لأنّ المستصحب عدمه إن كان هو الجعل فقد تعرّض شيخنا قدس‌سره لجوابه ، وإن كان هو نفس الوجوب المجعول فهو وإن كان وارداً على نفس الكلّي وهو كلّي ما بعد الزوال ، إلاّ أن المفروض تقييده بكونه الوجوب المقيّد بكونه بعد الزوال ، وهذا لا أصل له ، ولا يمكن استصحاب عدمه إلاّ إذا أُخذ مجرّداً عن الزمان ، وقيل إنّ وجود الوجوب فيما بعد الزوال مشكوك ، وهذا عبارة أُخرى عن أخذ الزمان المذكور ظرفاً لا قيداً ، فلاحظ.

وبالجملة : أنّ الذي يدّعي شيخنا قدس‌سره عدم جريان الاستصحاب في عدمه إنّما هو فيما لو أُخذ الزمان المذكور قيداً في الوجوب ، وهذا الذي توهّمناه من جريان الاستصحاب في عدمه إنّما هو نفس الوجوب لا الوجوب الخاص ، وذلك لا يمنع منه شيخنا قدس‌سره ، وإنّما يمنع من استصحاب عدم الوجوب الخاصّ ، أعني المقيّد بكونه فيما بعد الزوال ، وهذا الوجوب المقيّد بكونه واقعاً بعد الزوال لا يكون إلاّشخصياً ، وإن أخذناه كلّياً كان استصحاب العدم فيه عبارة أُخرى عن عدم الجعل لا عدم المجعول ، فلاحظ.

نعم ، العمدة إنّما هو في هذا التقييد ، وهل مفاده كما أُفيد من لحاظ الوجوب الموجود في الزمان الخاصّ ، أو أنّه ليس إلاّعبارة عن كون الزمان الخاصّ شرطاً في تحقّق الوجوب ، من دون أن يكون المشروط هو الوجوب

٤٤٣

الموجود في ذلك الزمان ، وسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

قوله (١) : والعدم المقيّد بما بعد الزوال كالوجود المقيّد به قوامه وتحقّقه إنّما يكون بما بعد الزوال ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه ليس لنا في البين عدم مقيّد ، بل العدم إنّما هو مطلق وقد سلّطناه على الوجوب بعد الزوال ، وحاصل مراد الشيخ قدس‌سره (٣) أنّا إذا أخذنا قبل الزوال قيداً في الواجب أو الوجوب كان مكثّراً للموضوع ، فكان لنا وجوب جلوس مقيّد بقبل الزوال ، وآخر مقيّد بما بعد الزوال ، وكلّ من الوجوبين وارد على موضوع يخصّه ، نظير الوجوب الوارد على إكرام زيد والوجوب الوارد على إكرام عمرو ، فانتقاض العدم في الأوّل لا يوجب انتقاضه في الثاني ، بل يبقى الوجوب الثاني على ما هو عليه من العدم الأصلي حتّى ينوجد ويتحقّق.

ولكن شيخنا قدس‌سره (٤) وسّع المسألة إلى كلّ وجوب مشكوك الحدوث ، بل كلّ تكليف مشكوك الحدوث ، ويقول إنّا عند الشكّ في حدوثه لو أجرينا أصالة العدم انسدّ علينا باب البراءة الشرعية عند الشبهات الحكمية ، بل كان المرجع في ذلك دائماً إلى استصحاب العدم ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

__________________

(١) جمادى الثانية سنة ١٣٨٠ وينبغي الاعتماد على هذه الصفحة وترك التفاصيل السابقة [ منه قدس‌سره ولا يخفى أنّه قدس‌سره يقصد بهذه الصفحة صفحة من المخطوط تشتمل على هذه الحاشية بأكملها ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٦.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٢١٠ وما بعدها.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٥.

٤٤٤

ولابدّ في توجيه ذلك من الركون إلى ما حقّقناه في مباحث البراءة (١) من أنّ المستصحب عدمه إن كان هو الجعل لم يترتّب عليه أثر إلاّبلازمه العقلي وهو عدم المجعول ، وإن كان المستصحب عدمه هو المجعول أعني نفس الوجوب ، فإن كان المراد هو أنّ نفس الوجوب من دون النظر به إلى موضوع خاصّ حادث من الحوادث والأصل عدمه ، فهذا حقّ لكن أين هذا من عدم الوجوب على هذا المكلّف ، فإنّ الوجوب عرض من عوارضه وعارض الشيء بما أنّه عارض ذلك الشيء لا يتّصف بالوجود والعدم قبل تحقّق موضوعه ، ألا ترى أنّه قبل وجود زيد لا يمكننا القول بأنّ قيامه موجود ، وكذلك لا يمكننا القول بأنّ قيامه منعدم إلاّ على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وهكذا الحال في الوجوب الوارد على الجلوس الذي يكون موضوعه بعد الزوال ، فما لم يتحقّق بعد الزوال لم يكن هناك وجوب ولا جلوس ، كما أنّه لم يتحقّق عدم وجوب الجلوس ولا نفس عدم الجلوس بعد الزوال إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولأجل ذلك يكون عدم عارض الشيء توأماً مع وجوده ، وكما لا يمكن وجود العارض قبل وجود المعروض ، فكذلك لا يمكن تحقّق عدم العارض قبل وجود المعروض إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ولا يخفى أنّ هذا المطلب سيّال في كلّ تكليف بالنسبة إلى موضوعه الخاصّ ، بل في كلّ عارض بالنسبة إلى معروضه ، ومرجع ذلك إلى عدم الجدوى في أصالة العدم بمفاد ليس التامّة في مقام مطلوبية العدم بمفاد ليس الناقصة ، إذ انعدام كلّ عارض عن معروضه إنّما يكون بمفاد ليس الناقصة ، فلا يجدي فيه

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٣٧٠ ، وأشار إليه أيضاً في الصفحة : ٤٥١ وما بعدها من هذا الكتاب.

٤٤٥

العدم الأزلي الذي هو مفاد ليس التامّة ، فإنّ عدم وجود القيام بقول مطلق لا دخل له بعدم وجود القيام لزيد ، وهكذا.

قوله : نعم جعل الوجوب بعد الزوال وإنشاؤه إنّما يكون أزلياً كعدم الجعل والانشاء ـ إلى قوله ـ فالأصل عدم الجعل ، لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم ... الخ (١).

لابدّ أن يكون مراده من الأزلية في هذه العبائر هو أنّ جعل الوجوب على تقدير الزوال يكون سابقاً على وجود الزوال خارجاً ، لا الأزلية الاصطلاحية بمعنى القديم الذي لا مبدأ لوجوده ، فإنّ ذلك واضح الفساد ، مع أنّه لا يلتئم مع قوله : لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم.

قوله : غايته أنّه إن أُخذ الزمان قيداً لوجوب الجلوس ... الخ (٢).

مراده من الزمان المذكور هو ما قبل الزوال ، ويدلّ على ذلك أيضاً قوله : فإنّه لا مانع من إنشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس أو قبله.

والأولى إسقاط قوله : نعم جعل الوجوب بعد الزوال وإنشاؤه إنّما يكون أزلياً كعدم الجعل والانشاء الخ (٣) وتبديله بهذه العبارة وهي : نعم إنّ عدم الجعل والانشاء أزلي ، فإذا شكّ في جعل الوجوب بعد الزوال فالأصل عدم الجعل ، لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم الأزلي الخ ، وحينئذ لا نحتاج إلى ذلك التكلّف في تفسير الأزلية ، فلاحظ.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٧.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٧.

٤٤٦

قوله : ولكن قد تقدّم بما لا مزيد عليه في مباحث الأقل والأكثر أنّه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلاّباعتبار ما يلزمه من عدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت ... الخ (١).

وأمّا عدم جريان استصحاب عدم المجعول فقد قال عنه في مبحث الأقل والأكثر : والسرّ في ذلك هو أنّ ظرف وجود المجعول الشرعي إنّما هو ظرف تحقّق الموضوع خارجاً ، وهو الإنسان بجميع ما اعتبر فيه من القيود من البلوغ والعقل والقدرة وغير ذلك من الشرائط ـ إلى أن قال ـ فقبل وجود الموضوع خارجاً لا مجال لجريان استصحاب عدم المجعول ، لأنّه ليس رتبة وجوده ، بل الاستصحاب الجاري هو استصحاب عدم الجعل الأزلي ، وأمّا بعد وجود الموضوع وتحقّق شرائط التكليف ، فالاستصحاب إنّما يجري بالنسبة إلى نفس المجعول الشرعي وجوداً وعدماً ، فإنّه إذا زال الزوال وشكّ المكلّف في وجوب الصلاة عليه ، فالعدم الذي كان قبل الزوال هو عدم المجعول وهو المستصحب ، ولا معنى لاستصحاب عدم الجعل ، لأنّه قبل الزوال ليس رتبة الجعل والانشاء ، فإنّه أزلي رتبته سابقة على خلق العالم ، ومن المعلوم أنّ عدم كلّ شيء إنّما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلاّ استصحاب عدم الجعل ، وبعد وجود الموضوع لا يجري إلاّ استصحاب عدم المجعول الخ (٢) وهذه العبارة لا تخلو من الخلط الذي اشتملت عليه العبارة الموجودة هنا ، فمن ذلك قوله : فالعدم الذي كان قبل الزوال الخ.

وعلى كلّ حال ، المراد هو أنّ استصحاب عدم الجعل لا ينفع ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

٤٤٧

واستصحاب عدم المجعول لا يجري ، لأنّ عدم كلّ شيء إنّما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلاّعدم الجعل وهو غير نافع ، وإنّما النافع هو استصحاب عدم المجعول وهو غير جار ، إذ لا تحقّق لعدم المجعول قبل مرتبته التي هي الزوال ، فإنّ الزوال لمّا كان موضوعاً كان مرتبة وجود الوجوب وعدمه منحصرة فيه ، ولا يعقل تقدّم عدم الوجوب المجعول للزوال على ما قبل الزوال ، كما لا يعقل تقدّم وجوده على ذلك ، والسرّ في ذلك هو أنّه قدس‌سره يأخذ الموضوع الذي هو الزوال مثلاً في ناحية الحكم الذي هو الوجوب ، ومن الواضح أنّ الوجوب المقيّد بالزوال لا يكون متّصفاً بالعدم فيما قبل الزوال.

ولعلّ المراد من قوله : وبعد وجود الموضوع لا يجري إلاّ استصحاب عدم المجعول الخ ، أنّه إنّما يتصوّر عدم المجعول في مرتبة إمكان وجوده وهي مرتبة وجود موضوعه ، وإن لم يمكن استصحاب عدمه ، إذ لا يكون مسبوقاً بذلك العدم حينئذ ، وليس المراد هو أنّه عند وجود الموضوع يكون استصحاب عدم الحكم جارياً ، لأنّ ذلك ناقض لما يرومه من عدم جريان استصحاب العدم في المجعول ، فلاحظ.

لكن في تحرير السيّد سلّمه الله في هذا المقام من الأقل والأكثر ما هذا لفظه : وإن كان المستصحب هو عدم المجعول ـ وهو الوجوب الفعلي عند تحقّق موضوعه ـ فيرد عليه إشكال المعارضة لا غير (١) ومراده بالمعارضة معارضة استصحاب عدم وجوب الأكثر باستصحاب عدم وجوب الأقل.

ولا يخفى أنّ هذا مناف لمسلكه قدس‌سره في استصحاب عدم الوجوب ، قال هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٠٦.

٤٤٨

( أعني السيّد سلّمه الله في مبحث البراءة في مقام الردّ على تصحيح التمسّك للبراءة بأصالة عدم التكليف الثابت في حال الصغر ) ما هذا لفظه : والحقّ فيه العدم ، فإنّ عدم الحرمة الثابت حاله ليس إلاّبمعنى اللاّ حرجية العقلية ، وهذا قد ارتفع يقيناً إمّا بجعل الترخيص أو الحرمة بعد البلوغ ـ إلى أن قال ـ هذا مع أنّ عدم الحرمة إذا كان باقياً بعد البلوغ أيضاً فهو حينئذ عدم مستند إلى الشارع ومضاف إليه ، لما ذكرناه من أنّ عدم الحكم كنفس الحكم بيده وبتصرّفه ، وهذا بخلاف العدم السابق فإنّه أجنبي عن الشارع بالكلّية ، فاستصحاب العدم السابق وإثبات إضافته إلى الشارع داخل في الأُصول المثبتة ـ إلى أن قال ـ والحاصل أنّ العدم السابق لكونه غير مستند إلى الشارع غير محتمل البقاء ، وما هو محتمل بعد البلوغ وهو العدم المضاف مشكوك الحدوث ولم يكن متيقّناً سابقاً (١) ، وكأنّه يفرق بين ما إذا تحقّق عدم التحريم بعد البلوغ في زمان طويل أو قصير ثمّ شكّ بعد ذلك في طروّ التحريم ، صحّ استصحاب عدم التحريم ، لأنّ المستصحب هو العدم الثابت بعد البلوغ ، وهو أثر شرعي باعتبار البقاء ، بخلاف ما لو كان الشكّ من أوّل البلوغ ، فإنّه لا يصحّ استصحاب العدم الثابت قبل البلوغ.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ العدم السابق على البلوغ وإن لم [ يكن ] في السابق أثراً شرعياً ، إلاّ أن بقاءه لمّا كان أثراً شرعياً صحّ استصحابه ، لما تقدّم من قوله في هذه الصفحة : من أنّ الأعدام وإن لم تكن مقدورة في الأزل إلاّ أن ها مقدورة بقاء واستمراراً ، فكما أنّ التحريم بيد الشارع فكذلك عدمه بيده الخ (٢) ، غايته أنّ هذه العبارة كانت في مقام بيان أنّ نفس العدم مقدور بقاء واستمراراً ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٣١.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٣٠.

٤٤٩

وإذا صحّحنا نسبة العدم إلى الشارع بهذا الاعتبار أعني البقاء والاستمرار ، نقول فيما نحن فيه : إنّ العدم السابق الذي كان متحقّقاً قبل البلوغ في ظرف كونه غير مستند إلى الشارع لا حدوثاً ولا بقاء نحكم ببقائه إلى ما بعد البلوغ ، ومن الواضح أنّ بقاءه فيما بعد البلوغ مستند للشارع ، فنجرّ ذلك العدم من الظرف الذي هو فيه غير مستند للشارع إلى الظرف الذي يكون فيه مستنداً إليه ، وهو ظرف ما بعد البلوغ أو بعد الشريعة.

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه في ذلك المبحث ـ أعني مبحث البراءة والاستدلال عليها باستصحاب عدم التكليف ـ ما هذا لفظه حسبما حرّرته : ولازم هذا الاستدلال سقوط البراءة في جميع الشبهات الحكمية ، لجريان الاستصحاب المذكور وحكومته عليها ، وتوضيح ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الايراد عليه : هو أنّ الاستصحاب وإن لم ينحصر بما إذا كان المستصحب أثراً شرعياً قابلاً للتعبّد بنفسه أو باعتبار كونه ذا أثر عند حدوثه ، بل يجري فيما لو كان نفس بقائه قابلاً للتعبّد والحكم بالبقاء وإن لم يكن عند حدوثه أثراً شرعياً ولا ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، فلا مانع من هذه الجهة من استصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فإنّ ذلك العدم وإن لم يكن في زمان اليقين به ـ أعني حال الصغر ـ أثراً شرعياً ولا ممّا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، إلاّ أنه في مرحلة الحكم ببقائه ـ أعني حال الكبر ـ أثر شرعي قابل للحكم بالبقاء ، فلا إشكال من هذه الجهة على استصحاب عدم التكليف.

إلاّ أنّ فيه إشكالاً من جهة أُخرى ، وهي أنّ العدم المطلق ليس بنفسه أثراً شرعياً ولا ذا أثر شرعي ، فالحكم ببقائه إلى ما بعد البلوغ لا ينفع إلاّباعتبار مقارنته وملازمة بقائه مع العدم المضاف ، فإن أُريد إثبات العدم المضاف كان الأصل

٤٥٠

مثبتاً ، وإن أُريد القدر المشترك بين العدم المطلق والعدم المضاف ، فلا أثر له إلاّ عدم العقاب ، وهو حاصل يقيناً بنفس الشكّ في التكليف ، فيكون الركون إلى الأصل المذكور من قبيل الركون إلى الأصل في إثبات الأمر المتحقّق وجداناً ، هذا.

مضافاً إلى العلم بانتقاض العدم السابق بالعلم بورود أحد الأحكام الخمسة عليه ، سواء كان المستصحب هو العدم في حال الصغر أو العدم قبل الشريعة ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

قلت : أمّا العلم بالانتقاض فلا ينافي الحكم ببقاء عدم التحريم إذا لم يكن الغرض منه إلاّمجرّد إثبات عدم التحريم ، وإن كان في الواقع لا يخرج عن أحد الأحكام الأربعة الباقية. وأمّا أنّ استصحاب العدم المطلق لا ينفع في إثبات العدم المضاف ، فإن كان المراد هو الاضافة إلى الشارع فقد عرفت الجواب عنه ، وأنّه يكفينا في تحقّق الاضافة والاستناد إلى الشارع جهة البقاء ، وإن لم يكن فيما سبق مستنداً ومضافاً إليه.

ولا أستبعد أنّا جميعاً لم نفهم مراده قدس‌سره من هذه الاضافة وذلك الاطلاق ، فجعلنا الاضافة هي إضافة العدم إلى الشارع ، بل المراد من الاضافة هي إضافة التحريم أو الوجوب إلى ما بعد البلوغ ، وذلك بأخذ الحكم مقيّداً بموضوعه ، وذلك موجب لكون العدم مقيّداً ومضافاً إلى الزمان الذي يمكن أن يتوجّه فيه الحكم ، كما قاله المرحوم الشيخ محمّد علي في عبارته في مسألة الأقل والأكثر ، أعني قوله : ومن المعلوم أنّ عدم كلّ شيء إنّما يكون في مرتبة وجود الشيء الخ (١).

وحينئذ يتوجّه إشكاله قدس‌سره الذي حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٨٦.

٤٥١

مبحث الأقل والأكثر ، وهو أنّ عدم الوجوب المقيّد بما بعد البلوغ لا أصل له ، والثابت في حال الصغر هو عدم الوجوب المطلق ، واستصحاب عدم الوجوب المطلق لا ينفع في إثبات عدم الوجوب المقيّد بما بعد البلوغ ، لأنّ ذلك العدم الثابت فيما قبل البلوغ لا يكون إلاّبمعنى عدم الجعل لا بمعنى عدم المجعول ، أو لأنّ عدم الوجوب فيما قبل البلوغ لا يكون إلاّعدماً مطلقاً ، أمّا بعد البلوغ فلا يكون إلاّبمعنى عدم الملكة ، والمطلوب هو الثاني ، أعني عدم الوجوب في مورد يمكنه جعل الوجوب ، كما حرّرته عنه قدس‌سره في مبحث الأقل والأكثر فراجع (١).

نعم ، يمكن التأمّل في أخذ الوجوب الذي يراد إثبات عدمه مقيّداً بكونه الوجوب بعد البلوغ ، إذ لا داعي إلى هذا التقييد ، ولا دليل عليه ولا حاجة تدعو إليه ، لما عرفت من إمكان جرّ عدم ذات الوجوب من محلّ اليقين به إلى محلّ الشكّ فيه وهو ما بعد البلوغ ، وبذلك يكون بقاء العدم مستنداً إلى الشارع ، وبه أيضاً يقابل وجود الوجوب مقابلة العدم والملكة إن كنّا مضطرّين إلى جعله من قبيل العدم والملكة ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذه النظرية لو تمّت لم يفرّق فيها بين العدم الثابت قبل البلوغ وبين العدم الثابت بعد البلوغ ، فيما لو احتمل المكلّف البالغ أنّه قد حدث له تكليف بواسطة طروّ السبب الفلاني ، فلا وجه لقول السيّد فيما نقلناه (٢) عن تحريره أعني قوله : مع أنّ عدم الحرمة إذا كان باقياً بعد البلوغ الخ.

وكيف كان ، نقول فيما نحن فيه : إنّ الوجوب إن لم يكن موجوداً في الساعة الأُولى لا مانع من استصحاب عدمه إلى الساعة الثانية ، إلاّ إذا أخذنا

__________________

(١) الظاهر أنّه قدس‌سره يرجع إلى تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس‌سره. وعلى أيّ حال راجع فوائد الأُصول ٤ : ١٨٦ وما بعدها.

(٢) في الصفحة : ٤٤٩.

٤٥٢

الوجوب مقيّداً بكونه في الساعة الثانية ، ولا دليل على هذا التقييد سوى تلك النظرية ، وهي أخذ الموضوع في الحكم. نعم لو كان الوجوب موجوداً في الساعة الأُولى وكان محدوداً بها ، كان ذلك ملازماً لكون الوجوب المحتمل في الساعة الثانية وجوباً آخر غير الوجوب الذي كان في الساعة الأُولى ، الذي قد انتهى قطعاً بانتهائها ، ولا ريب أنّ ذلك الوجوب الآخر الذي نحتمله في الساعة الثانية ملحوظ به التقييد بالساعة الثانية ، فيمتنع استصحاب عدمه ، إذ لا أصل حينئذ لعدمه.

وهكذا الحال فيما لو كانت الساعة الأُولى ظرفاً للوجوب الثابت فيها لا قيداً فإنّه حينئذ لا يشكّ في بقائه إلاّمن جهة الشكّ في طروّ رافع يرفعه ، فالوجوب في الساعة الثانية لا يحتمل عدمه إلاّمن جهة احتمال حدوث رافع الوجوب السابق ، وعلى تقدير ذلك الرافع لا يكون الوجوب في الثانية إلاّوجوباً آخر ، فلابدّ أن يكون مقيّداً بأنّه في الثانية ، وحينئذ يعود المحذور وهو أنّ عدم الوجوب المقيّد بالثانية لا أصل له.

والذي تلخّص : هو أنّه لا يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الوجوب في الساعة الثانية بعد فرض الوجوب في الساعة الأُولى ، سواء كان الوجوب السابق مقيّداً بالساعة الأُولى ، أو كانت الساعة الأُولى ظرفاً صرفاً ، فلاحظ.

وخلاصة البحث : أنّ الساعة الأُولى إن كانت مأخوذة على نحو الظرفية في نفس الوجوب أو في متعلّقه الذي هو الجلوس بالمعنى المتقدّم من الظرفية ، لم يكن لنا شكّ في بقاء الحكم في الساعة الثانية إلاّلأجل احتمال طروّ الرافع ، وإن أخذناها علّة في الحكم على نحو ما دام ، كان ذلك موجباً للقطع بعدم ذلك الحكم في الساعة الثانية ، وإن أخذناها على وجه يكون علّة لحدوث الوجوب وبقائه لم يكن شكّ في بقائه إلاّمن جهة الرافع ، وإن تردّدت العلّة بين هذين النحوين امتنع

٤٥٣

الاستصحاب لكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وكذلك لو انضمّ إليهما احتمال الظرفية ، لكن شيخنا قدس‌سره لم يمنعه في صورة عدم انضمام احتمال الظرفية من هذه الجهة ، بل منعه من جهة أخذ الساعة الأُولى قيداً في الوجوب ، وأنّه لا يمكن سحب الوجوب المقيّد بالساعة الأُولى إلى الثانية لاختلاف الحكمين حينئذ.

وأمّا إذا أخذنا الساعة الأُولى قيداً في المتعلّق ، فقد منع شيخنا قدس‌سره الاستصحاب فيها لأجل اختلاف الموضوع ، للتغاير بين القيام المقيّد بالساعة الأُولى مع القيام في الساعة الثانية ، فلابدّ أن يكون الوجوب المتعلّق بالثاني مغايراً للوجوب المتعلّق بالأوّل ، وحينئذ ربما يتوجّه عليه إمكان التسامح العرفي على نحو ما شرحناه ، ونحن قد منعناه لأجل أنّ تقيّد الواجب بالساعة الأُولى يوجب تقييد الوجوب بها على نحو ما دام ، بل قد أقمنا البرهان على أنّه لا يكون المقيّد في مقام الثبوت إلاّنفس الوجوب ، وحينئذ يكون الوجوب في الساعة الأُولى محدوداً بها ، ولو كان الوجوب موجوداً في الثانية لكان وجوباً آخر ، وحينئذ يمتنع الاستصحاب.

أمّا استصحاب عدم الوجوب في الثانية ، فقد منعه شيخنا قدس‌سره لتلك النظرية القائلة بأخذ الموضوع في الحكم ، ونحن وإن تأمّلنا في هذه النظرية فيما لو كان الوجوب مسبوقاً بالعدم ، إلاّ أنا لابدّ لنا من الالتزام بها فيما نحن فيه ، أعني ما لو كان الوجوب موجوداً في الساعة الأُولى ، سواء كانت الساعة الأُولى ظرفاً أو كانت قيداً ، وسواء كانت على نحو العلّة بما دام أو كانت علّة في الحدوث والدوام ، لأنّ وجود الوجوب في الساعة الأُولى يوجب كون الوجوب المحتمل عدمه في الثانية وجوباً آخر غير الوجوب الأوّل ، وهذه الغيرية إنّما تكون من جهة أخذ الساعة الثانية فيه ، وحينئذ يمتنع استصحاب العدم بالنسبة إلى الوجوب المقيّد بالساعة

٤٥٤

الثانية ، كما يمتنع استصحاب وجوده ، إذ لا أصل لكلّ من وجوده وعدمه.

وهذا واضح على تقدير القيدية في الساعة الأُولى ، سواء كانت قيداً للواجب ، أو كانت قيداً في الوجوب على نحو العلّية بما دام. أمّا لو كانت الساعة الأُولى قيداً في الحكم على نحو العلّية للحدوث والبقاء ، أو لم تكن إلاّظرفاً للحكم أو للمتعلّق من دون قيدية في البين ، فالظاهر أنّه كذلك ، لأنّ الشكّ في البقاء حينئذ لابدّ أن يستند إلى احتمال وجود الرافع ، وفي هذه المرحلة وإن كان الحكم السابق محتمل الانعدام في الساعة الثانية ، إلاّ أن عدم الحكم السابق لا معنى لكونه هو الأصل حتّى لو لم يمكن إجراء الاستصحاب في بقاء الحكم السابق.

وبالجملة : لم يتوهّم أحد بأنّ الحكم السابق الأصل عدمه في الساعة الثانية ، وإنّما الذي يتوهّم جريان الأصل في عدمه هو الحكم الجديد المغاير للحكم السابق لا الحكم السابق ، وحينئذ تدخل المسألة في أنّ المستصحب هو عدم الحكم المقيّد بأنّه في الساعة الثانية ، الذي عرفت أنّه لا أصل لكلّ من وجوده وعدمه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك إشكال آخر على الفاضل النراقي قدس‌سره وهو أنّه لو سلّمنا جريان الاستصحاب في وجود الحكم وصحّحنا استصحاب العدم ، لم يكن ذلك موجباً للتعارض ، إذ لا منافاة بين الحكم في الساعة الثانية ببقاء الوجوب السابق وانعدام وجوب آخر فيها ، فلاحظ.

والحاصل : أنّه بعد أن كان الوجوب متحقّقاً في الساعة الأُولى ، لم يكن معنى محصّل لأصالة عدم الوجوب في الساعة [ الثانية ] إلاّ أصالة عدم وجوب جديد فيها ، لأنّ إجراء أصالة عدم الوجوب السابق في الساعة الثانية من الأغلاط

٤٥٥

الواضحة ، وإنّما الكلام في استصحاب بقائه فيها ، ولا يتوهّم عاقل بأنّ الأصل بقاء انعدام ذلك الوجوب فيها ، كما أنّه لا يتوهّم أحد بعد وجود الوجوب في الساعة الأُولى أنّ الأصل بقاء عدم طبيعة الوجوب ، لأنّه قد انتقض بالوجوب السابق ، فلابدّ أن يكون المراد من استصحاب العدم في الساعة الثانية هو استصحاب عدم حدوث وجوب جديد فيها غير الوجوب الأوّل الذي كان متحقّقاً في الساعة الأُولى.

وحينئذ نقول : لو صحّ استصحاب عدم حدوث وجوب جديد في الساعة الثانية ، فإن كان استصحاب بقاء الوجوب السابق إلى الساعة الثانية ممنوعاً ، لما تقدّم من القيدية ، أو لكونه من قبيل الشكّ في المقتضي ، انفرد استصحاب العدم في الساعة الثانية ، وإن لم يكن استصحاب الوجوب السابق ممنوعاً ، بل كان جارياً إمّا لأجل كون الساعة الأُولى ظرفاً للحكم أو لمتعلّقه ، وإمّا لأجل أنّها قيد في الوجوب على نحو العلّة المحدثة المبقية ، لكون الشكّ حينئذ من قبيل الشكّ في الرافع ، كان محصّل ذلك الاستصحاب هو بقاء الوجوب السابق في الساعة الثانية ، وهذا لا ينافيه استصحاب عدم وجوب جديد فيها لو سلّمنا جريانه ، فأين المعارضة بين الاستصحابين.

ولو كان المراد أنّ أصالة عدم الوجوب المطلق قد انتقض في الساعة الأُولى ولم يعلم انتقاضه في الساعة الثانية ، فيجري فيها استصحاب عدم الوجوب المطلق ، كان محصّله هو لحاظ الساعات موضوعات متعدّدة متباينة ، لكلّ منها وجوب مستقل مباين لوجوب الساعة الأُخرى ، وكان ذلك موجباً لعدم جريان استصحاب الوجوب من الساعة الأُولى إلى الثانية ، وانفراد استصحاب العدم في الساعة الثانية لو سلّمنا صحّة استصحاب العدم في ذلك ، وأغضينا النظر عن أنّ

٤٥٦

الوجوب المختصّ في الساعة الثانية لا أصل له.

وإن لوحظت الساعات ظرفاً واحداً بأن نظرنا إلى آنات النهار بنظر وحداني ، فإن كان الشكّ متعلّقاً ببقاء الحكم في تمام تلك الآنات لاحتمال طروّ رافع له في أثناء النهار ، جرى استصحاب وجود الحكم ، ولا محصّل لاستصحاب عدمه. وإن كان الشكّ متعلّقاً ببقاء الحكم فيما بعد تلك الآنات كالليل مثلاً ، فإن كان النهار ظرفاً أو علّة مبقية جرى استصحاب الحكم ، لكون الشكّ حينئذ في بقائه من جهة احتمال الرافع ، وإن كان علّة دوامية أو شكّ في ذلك وتردّد بين الظرفية والعلّية بقسميها ، لم يجر استصحاب الوجود كما لم يجر استصحاب العدم.

ومن ذلك يظهر لك النظر فيما أفاده في المقالة من قوله : ثمّ في فرض قيدية الزمان في الحكم أو موضوعه ـ إلى قوله ـ كما هو ظاهر (١) فإنّه جعل المدار على أخذ الآنات واحدة أو متعدّدة ، فعلى الأوّل قال : لا يبقى محلّ إلاّ لاستصحاب الوجود (٢) ، وعلى الثاني قال : فلا يكاد يجري الأصل في القيد ، بل ولا في المقيّد أيضاً ، بل المشكوك حينئذ تحت استصحاب العدم الخ ، ونفى التعارض في الثاني حتّى لو كان الزمان ظرفاً ، فقال : ولو لم يكن الزمان إلاّظرفاً محضاً الخ.

ووجه النظر هو ما عرفت من عدم جريان أصالة العدم في الثاني ، وأنّ المراد على الأوّل إن كان هو إجراء استصحاب الوجود في آنات النهار فلا ريب

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

(٢) [ في الطبعة القديمة والحديثة : لا يبقى محلّ الاستصحاب للوجود ، لكنّ المصنّف قدس‌سره صحّح العبارة ، فلاحظ ].

٤٥٧

فيه ، لكنّه ليس هو محلّ كلمات الجماعة ، ولا هو المنظور إليه في كلمات النراقي ، وإن كان المراد هو إجراء استصحاب الوجود فيما بعد آنات النهار ، فهذا هو المتنازع فيه ، ولابدّ حينئذ من أخذ النهار ظرفاً أو بما عرفت من العلّة المبقية ، فلا يمكن الجزم باطلاق جريان الاستصحاب فيه.

ثمّ على مسلكه قدس‌سره من جريان استصحاب العدم في الآنات المتعدّدة ينبغي له إجراؤه هنا ، لأنّ العدم فيما زاد على النهار لم ينتقض إلاّبالوجود في النهار.

وحاصل مراده هو أنّ المجموع من زمان اليقين وزمان الشكّ إن لوحظ شيئاً واحداً جرى استصحاب الوجود ، ولا مورد فيه لاستصحاب العدم ، وإن لوحظا متعدّدين ولم تلاحظ الوحدة بينهما لم يجر إلاّ استصحاب العدم ، ولا أثر لأخذ الزمان ظرفاً. وإن لوحظت أجزاؤه وآناته متعدّدة لم يجر إلاّ استصحاب العدم في كلّ من القيد والمقيّد ، ولا أثر لأخذ الزمان ظرفاً.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ أخذ كلّ آن موضوعاً مستقلاً هو عبارة أُخرى عن التقييد به في قبال الظرفية ، كما أنّه لو لوحظ المجموع من الزمان المتيقّن فيه والمشكوك شيئاً واحداً عبارة عن القيدية ، لا يشكّ أحد في جريان الاستصحاب فيما لو ثبت الحكم في أوّله ، وليس ذلك إلاّمن جهة كون الأوّل ظرفاً لما أُخذ فيه لا قيداً ، وإنّما النزاع فيما لو نظر إلى مجموع آنات واعتبرت الوحدة بينها مثل آنات النهار وأُطلق عليها اسم النهار ، وقد تحقّق الحكم في تلك المجموعة وكان الكلام في تسريته إلى ما بعدها ، فهنا يقال إنّ مجموع آنات النهار إن أُخذت ظرفاً للحكم بالمعنى الذي شرحنا ، لم يكن ما يمنع من استصحاب الوجود إلى ما بعدها ، وإن أُخذت قيداً وموضوعاً لذلك الحكم ، لم يجر استصحاب الوجود ،

٤٥٨

أمّا استصحاب العدم ففيه البحث المتقدّم (١) عن شيخنا قدس‌سره مع الشيخ قدس‌سره ، ولازم لحاظ النهار قيداً هو لحاظ التباين بين المجموع من آناته وبين ما بعده من الآنات ، ولازم لحاظه ظرفاً هو عدم لحاظ التباين بين مجموع آناته وبين ما بعده من الآنات. نعم عند ملاحظة النهار قيداً بمعنى كونه شرطاً يمكن أن يكون بنحو العلّية المحدثة المبقية ، فلو كان كذلك فلازمه هو بقاء الحكم بعد انقضائه كما لو لوحظ ظرفاً ، لكن لو شكّ في بقائه لأجل الشكّ في طروّ رافع لذلك جاز استصحاب بقائه.

والخلاصة : أنّه قدس‌سره جعل المدار على لحاظ الوحدة والتعدّد في الآنات ، فعلى الأوّل لا يجري إلاّ استصحاب الوجود ، وعلى الثاني لا يجري إلاّ استصحاب العدم ، ومع قطع النظر عمّا أفاده من التسوية في ذلك بين الظرفية والقيدية حتّى فيما لو لوحظت الآنات متعدّدة ، فإنّه يمكن أخذ الآن الأوّل ظرفاً للحكم ، فلا مانع من سحبه إلى الآن الثاني ، نقول : إنّ هذا الضابط لا ينطبق على ما هو محلّ النزاع ، وهو ما لو لوحظت آنات متعدّدة بنحو الوحدة ولكن حصل الشكّ في بقاء الحكم بعد انتهاء تلك الوحدة.

بل يمكن أن يقال : إنّ هذه الصورة داخلة في القسم [ الثاني ] ممّا ذكره ، حيث إنّه قد لوحظت المباينة والتعدّد بين تلك المجموعة وبين ما بعدها من الآنات ، فينبغي أن يكون الجاري فيها هو استصحاب العدم وحده دون استصحاب الوجود ، لكن ذلك فيما لو أُخذت المجموعة السابقة ظرفاً لا قيداً ، بل حتّى لو أُخذت قيداً بمعنى الشرطية للوجوب على نحو العلّة المبقية ، وحصل الشكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في الرافع ، فلاحظ.

__________________

(١) في الصفحة : ٤٤٤ وما بعدها.

٤٥٩

قوله : وأمّا ما ذكره من مثال الصوم ففيه أوّلاً : أنّه لابدّ من فرض الصحّة والمرض من حالات الموضوع والمكلّف الذي يجب عليه الصوم لا من القيود المأخوذة فيه ... الخ (١).

لا يخفى أنّه لو كانت الشبهة في عروض المرض موضوعية لو أمكن تصوّرها ، فبعد فرض كونهما موضوعين لا يمكن الرجوع إلى استصحاب الحكم وهو وجوب الصوم للشكّ في الموضوع ، كما لا يمكن الرجوع إلى استصحاب عدم وجوبه ، نعم يمكن الرجوع إلى الأصل الموضوعي وهو استصحاب الصحّة. وبالجملة : يكون حال الشبهة الموضوعية فيما نحن فيه حال ما لو وجب إكرام العادل وقد شكّ موضوعياً في بقاء عدالة زيد ، فإنّ المرجع في ذلك هو استصحاب الموضوع أعني العدالة ، لا استصحاب الحكم أعني وجوب الاكرام.

ولكن الظاهر من الفرض في الكلمات التي نقلها الشيخ قدس‌سره عن النراقي قدس‌سره كون الشبهة مفهومية ، بأن حصل الشكّ في كون الحمّى مثلاً مشمولة للمرض الذي يجوز معه الافطار ، فإنّه قال : ثمّ أجرى ما ذكره ـ من تعارض استصحابي الوجود والعدم ـ في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ في بقاء وجوب الصوم معه ـ إلى أن قال ـ فحكم في الأوّل بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم الخ (٢).

وحينئذ ففي الفرض المذكور لا يجري استصحاب الحكم ، لعدم إحراز بقاء الموضوع. أمّا استصحاب الموضوع الذي هو الصحّة ففيه تأمّل ، لتردّدها حينئذ بين مطلق عدم المرض فيقطع بارتفاعها ، أو خصوص عدم المرض

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٨.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٢٠٩.

٤٦٠