أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

عليه الجلوس في النهار مثلاً فجلس إلى أن شكّ في انقضاء الزمان أو بقائه ، إذ يصحّ أن يقال : إنّ جلوسه كان سابقاً جلوساً في النهار والآن كما كان ، فيترتّب ( عليه ) حكمه أعني الوجوب. لا يقال : إنّ الجلوس في هذه القطعة من الزمان ليس له حالة سابقة ضرورة كونه مردّداً من أوّل الأمر بين وقوعه في الليل أو النهار. لأنّا نقول : المفروض عدم ملاحظة الجلوس في القطعات من النهار موضوعاً مستقلاً ، بل اعتبر حقيقة الجلوس المتحقّق في النهار موضوعاً واحداً للوجوب ، وهذا واضح (١).

قلت : لا يخفى أنّه قدس‌سره كفانا مؤونة الجواب عمّا أفاده بقوله : فحاله حال استصحاب نفس الزمان الخ ، فإنّا قد شرحنا فيما تقدّم أنّ استصحاب نفس الزمان كالنهار والحكم ببقائه لا يوجب الحكم بأنّ هذا الآن نهاري ، فكذلك استصحاب الجلوس المحدود بكونه مظروفاً للنهار ، أعني به الجلوس المستمرّ من أوّل النهار إلى آخره ، فإنّ استصحاب بقائه لا يوجب الحكم على هذا الجلوس الأخير بأنّه جلوس في النهار.

نعم لو صحّ لنا أن نقول إنّ زماننا كان نهاراً والآن أيضاً هو نهار لصحّ لنا أن نقول إنّ جلوسنا كان متّصفاً بأنّه في النهار أو بأنّه نهاري والآن أيضاً هو في النهار أو هو نهاري ، لكن ذلك ـ أعني قولنا إنّ زماننا كان نهارياً والآن كما كان ـ غير صحيح ، ولقد كان شيخنا الأُستاذ العراقي يقول بذلك كما حرّرته عنه في درسه ، إلاّ أنّا قد علّقنا عليه المناقشة في ذلك بأنّه من قبيل قولنا إنّ حيواننا الموجود في هذه الغرفة كان خروفاً ، والآن عند احتمال تبدّله إلى الأرنب أنّه ـ أعني الحيوان الموجود في هذه الغرفة ـ هو كما كان أعني كونه خروفاً ، لنثبت بذلك أنّ الحيوان

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٤٠.

٤٢١

الموجود فعلاً هو خروف.

ولا يخفى أنّ هذا لو تمّ فإنّما ينفع في مثل الصوم ونحوه ممّا يستمرّ باستمرار النهار ، دون مثل الصلاة عند الشكّ في بقاء الوقت.

ثمّ إنّ العلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية أفاد أنّ المقوّم على قسمين : فتارةً يكون بوجوده المحمولي قيداً وأُخرى يكون بوجوده الناعتي ، ثمّ قال : فالأُولى كما إذا قيل أمسك في النهار ، فإذا كان الامساك محقّقاً بالوجدان والنهار محقّقاً بالتعبّد ، كفى في كون الامساك في النهار ، فإنّه إمساك بالوجدان في النهار التعبّدي. وهكذا قوله : وأمّا إذا كان الامساك في النهار موضوعاً فلا حاجة فيه إلى استصحاب كونه في النهار ، لما عرفت من أنّ التعبّد بذات القيد يكفي ، لأنّ التقيّد وجداني لا حاجة فيه إلى التعبّد حتّى يقال بأنّه لا يثبت بالتعبّد بذات القيد الخ (١).

ففيه ما لا يخفى ، فإنّ القيد إن كان هو نفس وجود الزمان كان استصحابه بمفاد كان التامّة نافعاً ، وأمّا إن كان القيد هو وقوع الفعل فيه ، فقد عرفت أنّ استصحاب نفس الزمان بمفاد كان التامّة لا ينفع فيه ، إذ لا يكون التعبّد ببقاء نفس الزمان موجباً لتحقّق كون هذا الآن الذي نحن فيه هو ذلك الزمان ، كي يكون وقوع الفعل فيه قهرياً لا يحتاج إلى التعبّد ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا الصورة الثانية فهي الوجود الناعتي ، بأن يكون الصوم النهاري هو المطلوب فقد منع فيها من جريان استصحاب وجود النهار ، بل اعتمد فيها على استصحاب اتّصاف الصوم بأنّه كان في النهار ، ويكون ما أفاده فيها هو عين ما أفاده صاحب الدرر ، والأُستاذ العراقي في درسه بل في مقالته ، بل العلاّمة

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

٤٢٢

الخراساني قدس‌سره في كفايته والسيّد سلّمه الله في حقائقه ، وقد عرفت التأمّل في ذلك فراجع كلماتهم.

لا يقال : إنّا إذا لاحظنا الامساك شيئاً واحداً مستمرّاً من أوّل النهار إلى أن ينتهي نفس الامساك ، فكما يصحّ لنا أن نقول إنّه وجد الامساك من أوّله إلى آخره بوجود أوّل جزء منه ، ولأجل ذلك نستصحب وجوده عند الشكّ في انقضائه لو تصوّرنا الشكّ في انقضائه ، كما لو كان الممسك غيرنا ، وتقدّم نظيره في نفس الزمان ، فكذلك يصحّ لنا أن نقول إنّ إمساكنا متّصف بأنّه نهاري ، أو أنّه موجود في النهار عند وجود أوّل جزء منه ، وحينئذ فعند الشكّ في انقضاء النهار نشكّ في بقاء إمساكنا على ما كان عليه من كونه نهارياً ، فنجري الاستصحاب في اتّصافه ، ولعلّ هذا هو المراد للعلاّمة الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته بقوله : فيقال هذا الامساك الواحد كان نهارياً والآن كما كان الخ (١) ، وكذا ما أفاده صاحب الدرر في جواب لا يقال المذكورة فيما تقدّم (٢) من نقل كلامه ، وكذا ما في الحقائق من قوله (٣) : فإنّ استصحاب كون الامساك في رمضان يوجب كونه واجباً الخ.

لأنّا نقول : إن اعتبار الوحدة للامساك المستمرّ إنّما هي بالنسبة إلى ما يكون من أوّل النهار إلى آخره ، وهذا المقدار من الامساك ممّا لم يحصل الشكّ في بقاء اتّصافه بكونه نهارياً ، ولو كان الملاحظ وحدته هو الإمساك من أوّل وجود نفسه إلى آخر وجود نفسه وإن لم يكن آخره هو آخر النهار ، فهذا الامساك الواحد لم يكن بتمامه متّصفاً بكونه نهارياً ، وإنّما المتّصف بكونه نهارياً هو

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٥٨.

(٢) في الصفحة : ٤٢١.

(٣) المتقدّم في الصفحة : ٤١٩.

٤٢٣

خصوص ما كان منه واقعاً في النهار. ولا يقال : إنّ هذا الامساك الواحد المستمرّ نلاحظه مجرّداً عن الزمان ، فنقول : إنّه قد اتّصف بكونه في النهار أو نهارياً ، والآن كما كان. لما عرفت من أنّه لم يتّصف بتمامه بكونه نهارياً. نعم يمكن التجوّز والتسامح في النسبة ، بأن ينسب الاتّصاف بالنهارية إلى مجموع ذلك الامساك في حين أنّ المتّصف هو بعضه ، إلاّ أن تلك النسبة التجوّزية باقية بحالها لم يطرأها الشكّ ، وليست هو موضوع الأثر ، وإنّما موضوعه هو الامساك الذي يتّصف في حدّ نفسه بكونه نهارياً وصفاً حقيقياً ، بمعنى أنّ نسبة وصف النهارية إليه نسبة حقيقية ، وليست النسبة المجازية التي هي من نحو المجاز العقلي منشأ لحكم شرعي ، فإنّ ذلك ـ أعني التجوّز في النسبة بنحو المجاز العقلي ـ شيء والتوسّع العرفي المصحّح لاتّحاد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة شيء آخر.

ولو كان هذا التوسّع وذلك النظر الوحداني إلى ما بين المبدأ والمنتهى مصحّحاً للاستصحاب ، بحيث يصحّ لنا أن نقول إنّ إمساكنا كان متّصفاً بأنّه نهاري فالآن هو كذلك ، لتمّ ذلك في نفس الزمان ، فنقول إنّ زماننا كان نهاراً فالآن هو كما كان ، فيثبت بذلك أنّ الساعة التي نحن فيها ساعة نهار ، ويكون الامساك فيها إمساكاً في النهار ، فلماذا رفضوا ذلك في نفس الزمان وأجروه بعينه في الامساك ، فلاحظ وتدبّر.

نعم ، يظهر من الكفاية الالتزام بذلك ، وأنّ الاستصحاب كما يجري في نفس الامساك الخاصّ ، فكذلك يجري في الزمان الخاصّ ، فإنّه قال ما هذا لفظه : وأمّا الفعل المقيّد بالزمان ، فتارةً يكون الشكّ في حكمه من جهة الشكّ في بقاء قيده ، وطوراً مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة ـ إلى أن قال ـ فإن كان من جهة الشكّ في بقاء القيد فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان كالنهار الذي قيّد به

٤٢٤

الصوم مثلاً ، فيترتّب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيّد ، فيقال : إنّ الامساك كان قبل هذا الآن في النهار والآن كما كان فيجب ، فتأمّل (١).

قوله : مع وحدة الداعي ومجلس التكلّم ... الخ (٢).

الظاهر أنّ منشأ انتزاع الوحدة العرفية هو وحدة الداعي ، وأنّه لا دخل لوحدة المجلس في انتزاع تلك الوحدة ، على أنّ كون الداعي دائماً هو منشأ الوحدة محلّ تأمّل وإشكال ، إذ ربما لا يكون في البين داع أصلاً كما في حركة الحيوان ونحوه. وعلى كلّ حال ، فإنّ أمثال هذه الأُمور ما لم يكن في البين وحدة عرفية لا يمكن الاستصحاب فيها.

ويمكن المنع من عدم جريانه ، نظراً إلى أنّ أمثال هذه الأُمور إذا لم يكن وحدة تجمعها ، نقول إنّ المتكلّم كان مشغولاً بالكلام والآن كما كان ، ولو باعتبار نوع الكلام شيئاً واحداً أو الحركة أو المشي أو الوقوف والسكون ونحو ذلك من الأفعال ، من دون فرق في ذلك بين كون المستصحب هو اتّصاف الفاعل بها ، أو كونه هو نفس ذلك الفعل وتحقّقه في الخارج.

قوله : فالشكّ في بقائه يرجع بتقريب إلى القسم الأوّل أو الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، وبتقريب آخر إلى الوجه الثالث من القسم الثالث ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ مفروض الكلام إنّما هو الوجه الأوّل ، وهو ما إذا أُحرز الداعي

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٠.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٠ ـ ٤٤١.

٤٢٥

ومقدار اقتضائه لكن شكّ في حدوث الرافع ، وهذا لا يكون الاستصحاب فيه إلاّ شخصياً أو كلّياً من القسم الأوّل ، ولا يكون من القسم الثاني إلاّ إذا كان الداعي المعلوم مردّداً بين أمرين أحدهما يقتضي الفرد الطويل والآخر يقتضي الفرد القصير ، أو كان مردّداً بين ما يكون هذا الحادث رافعاً له وما لا يكون الحادث المذكور رافعاً له ، وأمّا رجوعه إلى الوجه الثالث من القسم الثالث من الكلّي فإنّما يتمّ فيما لو علم بالحركة مثلاً ، وعلم بحدوث أمر تردّد بين كونه رافعاً لها من أصلها أو كونه رافعاً لمقدار السرعة فيها. وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الاحتمالات لا تتوارد على مورد واحد ، بحيث إنّه يمكن أن يوجّه الاستصحاب فيه بأحد التوجيهات المزبورة (١).

قوله : الثاني : الشكّ في بقاء الزماني المتصرّم كالتكلّم والحركة ، وقد أطلق ( يعني الشيخ ) جريان الاستصحاب فيه ، ولكن كان الأنسب أن يذكر فيه التفصيل المتقدّم (٢).

لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره ذكر في آخر كلامه على هذا القسم ما لفظه : ثمّ إنّ الرابطة الموجبة لعدّ المجموع أمراً واحداً موكولة إلى العرف ، فإنّ المشتغل بقراءة القرآن لداع يعدّ جميع ما يحصل منه في الخارج بذلك الداعي أمراً واحداً ، فإذا شكّ في بقاء اشتغاله بها في زمان لأجل الشكّ في حدوث الصارف الخ (٣) وهذا

__________________

(١) ولأجل ذلك قال السيّد سلّمه الله في تحريراته : وتوهّم رجوع هذا القسم إلى استصحاب الكلّي بعد فرض وحدة الوجود الخارجي واضح الفساد. [ منه قدس‌سره راجع أجود التقريرات ٤ : ١٠٩ ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٢.

(٣) فرائد الأُصول ٣ : ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

٤٢٦

تصريح بأنّه تارةً الشكّ في البقاء لأجل الشكّ في الرافع ، وأُخرى يكون لأجل الشكّ في المقتضي ، وأُخرى يكون من باب احتمال حدوث مقتض آخر ، فراجع تمام كلامه.

قوله : الثالث : الشكّ في بقاء الزماني المقيّد بالزمان الخاص ، كما إذا وجب الجلوس إلى الزوال ثمّ شكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال ... الخ (١).

لا يخلو هذا التحرير من تسامح ، لأنّ المشكوك في المسألة المفروضة إنّما هو بقاء حكم ذلك الزماني وهو الوجوب ، لا بقاء نفس الزماني أعني الجلوس المقيّد بالزمان الخاصّ ، إذ لاشكّ في عدم بقاء ذلك الجلوس ، سواء أُخذ الزمان الخاصّ ظرفاً له أو أُخذ قيداً فيه.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ نفس الوجوب المذكور زماني وقد شكّ في بقائه.

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ المراد من الزماني هو نفس الفعل لا حكمه ، والأمر سهل بعد وضوح المراد ، فإنّ المراد هو المسألة المعروفة ، وهي ما لو وجب الجلوس إلى الزوال وقد شكّ في بقاء الوجوب إلى ما بعد الزوال.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : وقد جزم ( الشيخ قدس‌سره ) بعدم جريان الاستصحاب فيه والحق فيه أيضاً التفصيل بين كون الزمان قيداً للجلوس الخ (٢) الإنصاف أنّه تحرير لغير أوانه ، فإنّ الشيخ قدس‌سره كما سيأتي قد فصّل هذا التفصيل ، على أنّ شيخنا قدس‌سره قد منع من جريان استصحاب الوجوب سواء كان الزمان ظرفاً أو كان قيداً ، أمّا الأوّل فلرجوعه إلى الشكّ في المقتضي ، وأمّا الثاني فلتبدّل الموضوع ، فراجع تحرير السيّد سلّمه الله ، وذلك قوله : ويرد على ما ذكره ( الشيخ ) قدس‌سره أوّلاً : أنّ ما أفاده من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٢.

٤٢٧

التمسّك باستصحاب الوجود فيما إذا أُخذ الزمان ظرفاً غير مستقيم ، لما عرفت من رجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المقتضي الخ (١) وأشار بقوله : لما عرفت ، إلى ما حرّره من قوله : فإنّ الشكّ في بقاء الحكم السابق فيما بعد ذلك الزمان المأخوذ ظرفاً لا قيداً ، لا ينفكّ لا محالة عن احتمال كونه مغيّى بالجزء الأخير من الزمان الخ (٢).

وإن كنت لم أتوفّق لمعرفة كون ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي ، فإنّ الزمان ـ أعني اليوم مثلاً ـ إن جرّدنا الجلوس منه وربطناه بالوجوب ، فإن أُخذ ظرفاً لنفس الوجوب لا قيداً أو شرطاً فيه ، فلا محصّل حينئذ لاحتمال كونه مغيّى بالجزء الأخير ، وحينئذ يكون استصحاب الوجوب بلا مانع. وكأنّه ناظر في ذلك إلى أنّ الشكّ في كون الحكم مغيّى بالغاية الفلانية التي هي من الزمان لا الزماني ، يوجب كون الشكّ في بقائه من قبيل الشكّ في المقتضي ، لما تقدّم في تفسير الشكّ في المقتضي من احتمال كون الحكم محدوداً بالزمان.

ولكن لا يخفى أنّ معنى كون الزمان فيما نحن فيه ظرفاً للحكم كما سيأتي ، هو أنّ ذلك الزمان يكون ظرفاً لوجود الحكم لا قيداً فيه ، ويكون محصّل ذلك هو أنّ وجوب الجلوس كان متحقّقاً في النهار ، وبعد انقضاء النهار نشكّ في بقاء الحكم ، ومن الواضح أنّ هذا المعنى لا يجتمع مع كون آخر النهار غاية للحكم ، فإنّ كونه مغيّى بذلك عبارة أُخرى عن كون نفس النهار قيداً وشرطاً في الحكم على نحو ما دام ، بحيث يكون حدوثه شرطاً في حدوثه وبقاؤه شرطاً في بقائه ، وحينئذ فلا مجال فيه لاستصحاب بقائه بعد العلم بانتهاء ذلك ، لعدم الشكّ في

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١١٢.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ١٠٩.

٤٢٨

بقائه ، وإنّما أقصى ما في البين هو احتمال حدوث وجوب آخر بعد انقضاء ذلك الوجوب السابق.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لو أُخذ النهار قيداً في الجلوس ، كان ذلك موجباً لتقييد الوجوب به على نحو ما دام على ما تقدّم شرحه (١) ، وحينئذ لا يكون المقيّد إلاّ الوجوب ، ومع تقيّد الوجوب لا يبقى لنا شكّ في عدم بقائه عند انقضاء ذلك الزمان.

نعم ، لو أُخذ الزمان ظرفاً في الحكم بالنحو الذي عرفت ، ولو بأن يكون قول الشارع قم في النهار على [ وزان ] قوله صلّ في السفر ، في قبال توهّم اختصاص الوجوب بغير مورد الظرف الذي هو الليل في مثل قوله قم في النهار ، أو الحضر في مثل قوله صلّ في السفر ، لا يكون الشكّ في بقائه ملازماً للشكّ في الغاية ، بل لا يكون مجتمعاً مع الشكّ في الغاية ، وينحصر الشكّ في بقائه بالشكّ في وجود رافعه من الزمانيات أو رافعية الموجود ، ومعه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

وأمّا إن أخذناه شرطاً في الحكم فقد تقدّم منه قدس‌سره (٢) أنّه على نحو العلّة لا على نحو الموضوعية ، وحينئذ فإن كان في البين غاية ، تعيّن أنّه على نحو ما دام ، ولا مورد فيه حينئذ للاستصحاب بعد حصول الغاية ، وإن لم يكن في البين غاية وقد شككنا في بقاء الحكم بعد ارتفاع تلك العلّة ، لاحتمال أن يكون الشرط هو نفس حدوثها ، فيبقى المعلول وهو الوجوب ولو بعد انقضائها ، كان استصحاب الوجوب جارياً ، وليس ذلك من قبيل الشكّ في المقتضي على تأمّل في ذلك ،

__________________

(١) في الصفحة : ٤٠٤ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٩٩ وما بعدها.

٤٢٩

لأنّ مرجع الشكّ في العلّة المذكورة إلى الشكّ في تحديد الحكم وعدمه ، فيكون من قبيل الشكّ في المقتضي.

ولو تردّدنا بين الظرفية والقيدية فالظاهر أنّه لا يجري الاستصحاب أيضاً إن كانت القيدية المحتملة مردّدة بين الاحتمالين المذكورين.

ولا يرد على ذلك : بأنّ لازمه عدم جريان الاستصحاب في مسألة النجاسة والتغيير عند زوال التغيير ، للفرق الواضح بين الحدّ هنا والحدّ في مسألة التغيير ، فإنّ الحدّ هنا لمّا كان بحسب الزمان دَخَل فيما يكون الحكم غايته الزمان ، وهو من الشكّ في المقتضي ، بخلاف زوال التغيير فإنّه ليس بزمان ، فلا يكون الحكم فيه مغيى بالزمان ، فيخرج عمّا يكون غايته [ الزمان ] ويدخل فيما يكون غايته زماني ، وهو ارتفاع التغيير وزواله ، فلا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، بل يكون من قبيل الشكّ في الرافع.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا أعني كون المسألة من قبيل الشكّ في المقتضي فيكون سقوط استصحاب الحكم لأجله لا لأجل مجرّد التقييد ، لا يتوجّه على شيخنا قدس‌سره ، لأنّ مراده من التقييد ليس هو ما عرفت من كون الزمان شرطاً في الوجوب ، بل مراده من التقييد هو أخذ الزمان في الوجوب ، فيكون المراد من الوجوب السابق هو الوجوب المقيّد بكونه في الزمان الأوّل ، ومن الواضح أنّه بعد أخذ الوجوب عبارة عن خصوص وجوب الزمان الأوّل ، يمتنع جرّه إلى الزمان الثاني كما سيأتي شرحه إن شاء الله عند التعرّض لبيان المانع من استصحاب العدم (١).

نعم ، يرد على شيخنا قدس‌سره وعلى الشيخ أيضاً أنّه لا موجب لأخذ الموضوع في الحكم المستصحب كي يكون هو المانع من استصحابه ، فإنّ الشرط وإن كان

__________________

(١) في الصفحة : ٤٣٤ وما بعدها.

٤٣٠

علّة للوجوب ، إلاّ أن الوجوب المعلول لا يكون مقيّداً بشرطه وعلّته كما حقّق في محلّه من أنّ المحمول لا يؤخذ في موضوع الحكم ، كما أنّ الموضوع لا يؤخذ في المحمول ، وإن كان كلّ منهما منحصراً في مورد الآخر ، فإنّ الانحصار القهري شيء والتقييد المانع من الاستصحاب شيء آخر ، لأنّ ذلك يتوقّف على أخذ القيد في لسان الدليل وكيفية جعله الوجوب ، ومن الواضح أنّ الوجوب المشروط بالزمان الذي هو الساعة الأُولى لا يكون مقيّداً بحسب الجعل بذلك الزمان ، وإن كان هو ـ أعني الوجوب المذكور ـ منحصراً بذلك الزمان.

مضافاً إلى أنّ ذلك الانحصار القهري إنّما هو فيما أُخذ الاشتراط بنحو ما دام الزمان ، أمّا إذا كان حدوث الزمان شرطاً في حدوث الحكم وبقائه ، فلا يكون الحكم المقرون منه بذلك الزمان إلاّحدوثه دون بقائه ، فتأمّل.

واعلم أنّ الإشكال على التقييد المزبور لا يتأتّى في أخذ الزمان مربوطاً بالفعل على نحو القيدية لا الظرفية ، فإنّه حينئذ لابدّ من أخذ القيام الواجب هو خصوص القيام في الساعة الأُولى ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن سحب الوجوب من القيام المقيّد بالساعة الأُولى إلى القيام في الساعة الثانية ، لكن قد تقدّم أنّ تقييد الواجب بالساعة الأُولى يوجب كون المقيّد بذلك هو الوجوب بنحو ما دام ، وحينئذ يكون عدم الانسحاب لأنّ الوجوب مقيّد بالساعة الأُولى بنحو ما دام الموجب لارتفاع الوجوب وانتهائه بانتهاء الساعة الأُولى ، ومعه لا مجال لانسحابه إلى الساعة الثانية.

وتفصيل ذلك : أنّا إن جعلنا النهار متعلّقاً بالجلوس ، كانت [ المسألة ] محلّ النزاع مع الفاضل النراقي قدس‌سره ، لكن لو تمّ استصحاب الوجوب فيها بأن قلنا إنّ ذكر النهار من باب الظرفية للجلوس لا من باب القيدية ، جرى استصحاب الوجوب ،

٤٣١

ولم يكن ذلك من باب الشكّ في المقتضي ، ويكون معنى ظرفية النهار للجلوس الواجب جارياً على نحو ما عرفت في ظرفيته للوجوب ، بأن يكون قول الشارع : الجلوس في النهار واجب ، في قبال توهّم اختصاص الواجب بما يكون في الليل ، فيكون نظير قوله : الصلاة في السفر واجبة ، في قبال من يتوهّم أنّ الصلاة الواجبة هي ما يكون منها في الحضر ، وبعد ثبوت الظرفية للجلوس بالمعنى المذكور لا مانع من استصحاب الوجوب إلى الليل ، ولا يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المقتضي بل ينحصر الشكّ في بقاء الوجوب بالشكّ في الرافع.

وربما يقال : إنّ المراد من الظرفية هي الظرفية بحسب الذوق العرفي ، وإن كان مقتضى لسان الدليل هو القيدية.

وفيه تأمّل ، لأنّه إن كان المراد من ذلك هو أنّ العرف يفهمون من لسان الدليل الظرفية ، فذلك عبارة أُخرى عن أنّهم يفهمون لغوية القيد المذكور ، وإن كان المراد أنّهم بحسب ذوقهم يرون أنّ الفاقد لذلك الظرف متّحد مع الواجد ، فيطبّقون حديث « لا تنقض » وإن اعترفوا أنّ ظاهر الدليل هو القيدية ، فذلك أمر آخر غير مسألة كون النهار ظرفاً أو قيداً ، بل هو راجع إلى دعوى التسامح العرفي في الاتّحاد مع الاعتراف بالقيدية ، وعهدة ذلك على من يدّعي هذه الدعوى على العرف ، فإنّ المسلّم من التسامح العرفي هو فهم العلّية في قبال فهم الموضوعية ، ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى التعرّض لتفصيل هذه الجهة عند الكلام على اعتبار الاتّحاد بين القضيتين (١).

لا يقال : لعلّ المراد من كون يوم الجمعة ظرفاً لوجوب الجلوس هو أنّ الوجوب المعلوم هو الوجوب في يوم الجمعة ، فيستصحب ذلك الوجوب الذي

__________________

(١) حواشيه قدس‌سره على هذا المطلب تأتي في بداية المجلّد الحادي عشر. راجع الحاشيتين المذكورتين في ذلك المجلّد في الصفحة : ٨٦ وما بعدها والصفحة : ٩٩ وما بعدها.

٤٣٢

كان موجوداً في يوم الجمعة إلى يوم السبت.

لأنّا نقول : هذه الظرفية متحقّقة في كلّ مستصحب لأنّه هو المعلوم وجوده في الزمان السابق ، فبالاستصحاب نسحب وجوده إلى الزمان اللاحق ، ولا خصوصية حينئذ للوجوب فيما نحن فيه. على أنّ هذا المعنى لا يتأتّى في أخذ الزمان ظرفاً لنفس الجلوس ، وإنّما تتأتّى الظرفية المذكورة فيما لو كان بقاء الجلوس في الزمان اللاحق مشكوكاً ، دون محلّ كلامنا ممّا يكون المراد به استصحاب الوجوب الذي كان وارداً على الجلوس ، لأنّ الزمان السابق لا يكون ظرفاً بهذا المعنى لنفس الجلوس ، بل إنّما يكون ظرفاً للوجوب ، إذ لا يقال إنّ الجلوس في الزمان السابق كان واجباً والآن نشكّ في بقاء وجوبه ، لأنّ الجلوس الموجود في الزمان السابق لا شكّ لنا في بقاء وجوبه ، وإنّما نشكّ في بقاء الوجوب الذي كان في الزمان السابق وارداً على نفس الجلوس.

وبالجملة : أنّ الظرفية بهذا المعنى لا تكون إلاّبالنسبة إلى نفس المستصحب الذي هو الوجوب ، دون ما تعلّق به ذلك الوجوب أعني الجلوس.

على أنّ هذه الظرفية في الحقيقة إنّما تكون بالنسبة إلى المعلوم والمتيقّن ، وهي متحقّقة في كلّ مستصحب ، فلاحظ وتأمّل.

هذا إن أخذنا الزمان الذي هو متعلّق بالجلوس ظرفاً بالمعنى الذي عرفت ، وإن أخذناه قيداً فيه رجعت المسألة إلى تقييد الوجوب بالزمان المذكور على نحو ما دام ، وامتنع استصحاب الوجوب حينئذ.

تنبيه : قد ذكرنا أنّه لو أُخذ الزمان الخاص مثل النهار شرطاً في وجوب القيام وعلّة في الوجوب ، وشككنا في أنّه بنحو ما دام ، أو أنّ حدوثه يكون علّة في حدوث الوجوب وبقائه وإن انقضى النهار ، تكون المسألة من قبيل الشكّ في

٤٣٣

المقتضي ، لرجوع الشكّ المذكور إلى الشكّ في كون الوجوب محدوداً بانقضاء النهار أو غير محدود. فاعلم أنّ هذا الإشكال لا يجري فيما يكون علّة من غير الزمان مثل التغيّر بالنسبة إلى النجاسة ، لأنّ النجاسة حينئذ وإن كانت مردّدة بين المحدود بارتفاع التغيّر وغير المحدود بذلك ، إلاّ أن ها لا يكون الشكّ في بقائها من قبيل الشكّ في المقتضي ، لما عرفت في محلّه من أنّ الحدّ المحتمل إن كان هو الزمان كان المورد من قبيل الشكّ في المقتضي ، وإن كان الحدّ هو غير الزمان لم يكن من هذا القبيل ، سواء كان الحدّ هو حدوث زماني أو كان هو ارتفاعه.

قوله : والعدم المقيّد بما بعد الزوال كالوجود المقيّد به قوامه وتحقّقه إنّما يكون بما بعد الزوال ، ولا يكون له تحقّق قبل الزوال ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه ـ بعد بيان هذا الإشكال بمثل هذه العبائر ـ ما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه : والحاصل أنّ الاستصحاب إنّما يجري بعد تجريد المستصحب عن الزمان ، وحينئذ فبعد تقييده بالزمان لا يمكن فيه جريان استصحاب الوجود ولا العدم ، فإنّ ما هو مقيّد بالزمان كما لا يتحقّق وجوده إلاّفي ذلك الزمان ، فكذلك لا يتحقّق عدمه إلاّفي ذلك الزمان ، والعدم أو الوجود السابق لا يكون هو المقيّد بذلك الزمان ، بل هو أمر آخر ، فالوجوب المقيّد بكونه واقعاً في اليوم المشكوك لا يكون معدوماً فيما قبل ذلك الزمان ، كما أنّه لا يكون موجوداً فيما قبله ، فلا تتّحد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة ، فلا يجري استصحاب العدم ولا الوجود ، انتهى.

قلت : ولتوضيح المطلب لنأخذ مثالاً خارجياً وهو القيام في الساعة الثانية من النهار ، فتارة نأخذ القيام مجرّداً عن التقييد بالساعة الثانية ، ونحكم عليه بأنّه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٤٦ [ سيأتي تعليق آخر على هذا المتن في الصفحة : ٤٤٤ ].

٤٣٤

موجود في الساعة الثانية أو معدوم فيها ، وهذا هو الذي نصطلح عليه بأخذ الزمان ظرفاً. وأُخرى نأخذ القيام مقيّداً بالساعة الثانية ، ونقول إنّ القيام المقيد بالساعة الثانية متحقّق مثلاً في وعاء الدهر أو غير متحقّق ، وهذه الصورة نصطلح عليها بأخذ الزمان قيداً ، وحاصل الفرق بين الصورتين هو أنّ الساعة الثانية في الصورة الأُولى تكون مربوطة بوجود القيام أو عدمه لا بنفس القيام ، وفي الصورة الثانية تكون الساعة الثانية مربوطة بنفس القيام.

وحينئذ نقول في الصورة الأُولى : إنّ نفس القيام لو كان وجوده أو عدمه في الساعة الثانية مشكوكاً ، كان علينا أن ننظر [ إلى ] الساعة الأُولى ، فإن كانت فارغة من القيام صحّ لنا استصحاب ذلك العدم ، فنقول : إنّ القيام كان معدوماً في الساعة الأُولى فنجرّ عدمه إلى الساعة الثانية ، ونحكم بأنّ نفس القيام منعدم في الساعة الثانية ، أمّا لو كانت الساعة الأُولى مظروفة للقيام امتنع علينا ذلك الحكم ، سواء كان ذلك القيام الذي انشغلت به الساعة الأُولى قد أُخذت الساعة الأُولى ظرفاً له أو أنّها أُخذت قيداً فيه ، فإنّ ذلك لا يوجب تفاوتاً في امتناع استصحاب العدم إلى الساعة الثانية المفروض كونها مأخوذة ظرفاً للقيام ، وإنّما يوجب التفاوت في استصحاب وجود القيام إلى الساعة الثانية ، لأنّ الأُولى لو كانت ظرفاً صحّ استصحاب وجود القيام إلى الثانية ، وإن أُخذت قيداً لم يصحّ كما لم يصحّ استصحاب العدم أيضاً ، إلاّ أن علّة عدم صحّة استصحاب العدم هو مجرّد الوجود في الساعة الأُولى وإن لم تكن قيداً ، فلا تكون القيدية في الأُولى هي المانعة من استصحاب العدم في الثانية.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن أخذ الساعة الأُولى قيداً يوجب كون الثانية أيضاً كذلك ، لكنّه ممنوع ، لعدم الدليل على هذه الملازمة ، هذا حال الصورة الأُولى.

٤٣٥

أمّا على الصورة الثانية ، وهي أخذ القيام مقيّداً بالساعة الثانية على وجه يكون منشأ الأثر والمنظور إليه هو القيام المقيّد بالساعة الثانية ، امتنع جريان استصحاب العدم فيه حتّى لو كانت الساعة الأُولى خالية من القيام ، لأنّ العدم الذي نجرّه من الساعة الأُولى إلى الثانية ليس هو عدم القيام المقيّد بالساعة الثانية الذي هو مورد الأثر حسب الفرض ، بل العدم المنجرّ من الأُولى إلى الثانية هو عدم ذات القيام ، والمفروض أنّ المأخوذ ليس هو ذات القيام ، بل القيام المقيّد بكونه في الثانية ، وكما لا يجري في هذه الصورة استصحاب العدم فيما لو كانت الساعة الأُولى خالية من القيام ، فكذلك لا يجري فيها استصحاب الوجود لو كانت الساعة الأُولى مشغولة ، سواء كان القيام بالنسبة إلى الساعة الأُولى مقيّداً بها ، أو كان غير مقيّد بها ، بأن كانت الأُولى ظرفاً له ليس إلاّ.

ومن ذلك يظهر لك أنّ المدار في المسألة على النظر في حال الزمان المشكوك ، وأنّه هل أُخذ قيداً في القيام أو أُخذ ظرفاً ، لا على حال الزمان السابق ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لو ثبت كون الزمان السابق قيداً في القيام ، كان في اللاحق أيضاً كذلك ، وقد عرفت المنع من هذه الملازمة.

وعلى كلّ حال ، أنّ القيام المقيّد بالساعة الثانية لا أصل له ، لأنّ قيام الساعة الثانية غير مسبوق بالوجود في الساعة الأُولى ولا بالانعدام ، وليس شكّنا في قيام الساعة الثانية باعتبار أنّه لا أصل له إلاّكشكّنا في نفس الساعة الثانية ، وأنّها هل هي ساعة قيام أو ساعة عدم قيام في عدم الأصل له ، فلاحظ.

إذا عرفت تفصيل ذلك في المثال المذكور فطبّقه على الوجوب في الساعة الثانية ، وقل إنّ الوجوب فيها إن لوحظ مجرّداً عنها وأُخذت هي ظرفاً لوجوده أو عدمه ، كان علينا ملاحظة الساعة الأُولى ، فإن كانت فارغة من الوجوب سحبنا

٤٣٦

عدمه فيها إلى الثانية ، وحكمنا بمقتضى الاستصحاب بعدم الوجوب في الساعة الثانية ، وإن كانت الساعة الأُولى مشغولة بالوجوب لم يمكن استصحاب العدم إلى الساعة الثانية ، سواء كان ذلك الوجوب الموجود في الساعة الأُولى مقيّداً بها أو لم تكن الساعة الأُولى إلاّظرفاً له ، فإنّ ذلك لا يؤثّر على استصحاب العدم إلى الثانية ، وإنّما يؤثّر على استصحاب وجود الوجوب إلى الساعة الثانية ، فعلى القيدية لا يجري ، بخلاف الظرفية ، هذا لو أخذنا الوجوب في الثانية مجرّداً عن الزمان ، وكانت الساعة الثانية ظرفاً لوجوده أو عدمه.

أمّا لو أخذناه مقيّداً بالساعة الثانية ، وأردنا أن نعرف هل تحقّق الوجوب المقيّد بكونه في الساعة الثانية أو لم يتحقّق ، لم يكن لنا أصل يحرز عدم الوجوب المقيّد بالقيد المذكور ، وكان هذا الشكّ بمنزلة شكّنا في الساعة الثانية وأنّها هل هي ساعة وجوب أو هي ساعة عدم وجوب ، فكما لا أصل لنا يحرز أنّ هذه الساعة الثانية هي ساعة عدم وجوب ، وأنّ عدم وجود الساعة الثانية فيما تقدّم لا يوجب الحكم على هذه الساعة الثانية بأنّها ساعة عدم وجوب ، فكذلك لا أصل لنا يحرز أنّ الوجوب المقيّد بالساعة الثانية متّصف بالعدم ، وأنّ عدم وجود الوجوب فيما تقدّم لا يوجب الحكم على الوجوب المقيّد بالساعة الثانية بأنّه منعدم ، من دون فرق في ذلك بين كون الساعة الأُولى خالية من الوجوب أو كونها مشغولة به ، سواء كان الوجوب الموجود في الساعة الأُولى مقيّداً بها أو كانت ظرفاً صرفاً.

هذا كلّه بناءً على ما عرفت من تفسير قيدية الساعة الثانية للوجوب ، أعني أخذ الوجوب المقيّد بالساعة الثانية والحكم عليه بأنّه محقّق أو غير محقّق ، لكنّك قد عرفت المراد من القيدية وأنّها في المقام بمعنى آخر غير ما ذكر ، وذلك هو

٤٣٧

عبارة عن كونها شرطاً فيه حدوثاً أو حدوثاً وبقاءً ، وحينئذ تكون الساعة الثانية بمنزلة العلّة والوجوب بمنزلة المعلول ، وهو وإن كان موجوداً في الساعة الثانية سيّما إذا أُخذت بنحو الدوام شرطاً له ، إلاّ أنه لا يكون الوجوب المذكور مقيّداً بها ، بمعنى أنّ الوجوب الحادث عند الساعة الثانية إنّما هو نفس الوجوب وذاته ، لا الوجوب المقيّد بالساعة الثانية ، وإن كان هو لا يوجد إلاّفيها ، وحينئذ فلو كانت الساعة الأُولى فارغة من الوجوب لم يكن مانع من استصحاب عدمه إلى الساعة الثانية. نعم لو كانت الأُولى مشغولة بالوجوب امتنع استصحاب العدم ، لا لأنّ عدم الوجوب في الساعة الثانية لا أصل له ، بل لانقلاب الأصل فيه في الساعة الأُولى.

لا يقال : هذا لو كان الوجوب مشروطاً بالساعة الثانية ، أمّا لو لم يكن إلاّ أن الساعة الثانية قيد في متعلّق الوجوب وهو الجلوس ، فلازمه هو اتّصاف ذلك الوجوب بأنّه في الساعة الثانية.

لأنّا نقول أوّلاً : أنّك قد عرفت أنّ أخذ الزمان قيداً في المتعلّق يوجب كون المقيّد به هو الوجوب بمعنى كونه هو المشروط به. وثانياً : لو أُغضي النظر عن ذلك ، إنّ تقييد المتعلّق لا يوجب إلاّكون الساعة الثانية ظرفاً لوجود الوجوب ، لا أنّه يكون عبارة عن الوجوب المتّصف بالساعة الثانية ، على نحو تكون الساعة الثانية قيداً في نفس الوجوب ، بحيث يكون هو الوجوب الملحوظ وجوده في الساعة الثانية ليمتنع استصحاب عدمه فيها.

وبالجملة : ليس كلّ ما يحتمل وجوده في الساعة الثانية يكون ملحوظاً به الوجود فيها بحيث إنّه لا يمكن استصحاب عدمه ، كما لو احتمل القيام في الساعة الثانية مع فرض خلو الساعة الأُولى عنه ، وكما في من توضّأ في الساعة الأُولى واحتمل أنّه قد أحدث في الساعة الثانية ، وهكذا في كلّ حادث محتمل فإنّه على

٤٣٨

تقدير وجوده لابدّ أن ينوجد في زمان خاصّ من الأزمنة ، لكن هذا لا يوجب تقيّده به على وجه يمنع من استصحاب عدمه فيما لو كان الزمان السابق خالياً منه.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد من وجهين :

الأوّل : أنّ جعل المدار على القيدية والظرفية في الساعة الأُولى لم يظهر وجهه ، بل الذي ينبغي هو جعل المدار في ذلك على الساعة الثانية ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى التلازم بين القيدية في الأُولى والقيدية في الثانية ، وقد عرفت المنع من هذه الدعوى. نعم القيدية في الساعة الأُولى بمعنى كونها شرطاً في الوجوب الحاصل عندها ربما أوجب كون الساعة الثانية كذلك ، إلاّ أن هذه القيدية بهذا المعنى لا تنتج عدم صحّة استصحاب عدم الوجوب في الساعة الثانية ، كما يتّضح لك من التأمّل.

والثاني : وهو أنّ القيدية التي توجب كون الوجوب في الساعة الثانية لا أصل له هي القيدية بالنحو الثاني من النحوين اللذين عرفتهما في مثال القيام في الساعة الثانية ، والمفروض أنّ قيدية الساعة الثانية للوجوب الموجود فيها لم تكن بهذا النحو ، بل هي بنحو الشرطية ، وهي لا توجب تقيّد الوجوب بالساعة الثانية ، وإن كان هو لا يقع قهراً إلاّفي الساعة الثانية لو كان أخذها شرطاً بنحو الدوام ، على نحو يكون حدوثها علّة لحدوث الوجوب وبقاؤها علّة لبقائه ، بخلاف ما لو أُخذت بغير هذا النحو بأن كان حدوثها علّة للحدوث والبقاء ، فإنّه وإن كان بأوّل وجوده مظروفاً لها ، إلاّ أنه باستمراره وبقائه لا يكون مظروفاً لها.

وبالجملة : أنّ مرجع الشكّ في حدوث الوجوب عند الزوال إلى الشكّ في سببية الزوال للوجوب ، والمرجع في ذلك إلى أصالة عدم ترتّب الأثر ، وما هو إلاّ من قبيل أصالة الفساد في المعاملة عند الشكّ في تأثيرها ، الراجعة إلى أصالة عدم

٤٣٩

ترتّب الأثر عليها ، ومن قبيل أصالة اللزوم عند الشكّ في تأثير الفسخ التي كان أحد أدلّتها هو استصحاب بقاء أثر المعاملة ، الذي هو عبارة أُخرى عن استصحاب عدم حصول أثر الفسخ الذي هو حلّ المعاملة ، وقد مرّ تفصيل ذلك في مباحث الأحكام الوضعية عند الكلام على السببية والشك في سببية الشيء الفلاني للحكم الفلاني (١).

ولا فرق بين هذه الموارد وبين ما نحن فيه إلاّفي أنّ السبب المشكوك السببية فيما نحن فيه هو الزمان نفسه ، وكما أنّ سببية الافطار العمدي مثلاً لوجوب الكفّارة لا تكون موجبة لتقيّد الوجوب بأخذه ملحوظاً به الافطار أو الواقع بعده ، وإن كان هو كذلك ، فكذلك سببية الساعة الثانية للوجوب الواقع بعدها لا تكون موجبة لتقييده بكونه الوجوب الواقع في تلك الساعة ، وإن كان هو قهراً واقعاً فيها ، وحينئذ لا مانع من استصحاب عدمه لو كانت الساعة الأُولى خالية من الوجوب.

نعم ، لو كانت الساعة الأُولى مشغولة بالوجوب امتنع استصحاب عدم الوجوب في الساعة الثانية ، سواء كان الوجوب الذي كان واقعاً في الساعة الأُولى مقيّداً بها بمعنى كونها شرطاً فيه ، أو لم يكن مقيّداً بها ، بأن كان ذلك الوجوب السابق بسبب آخر غير الساعة الأُولى ، بل حتّى لو فرضنا أخذ الوجوب السابق مقيّداً بالساعة الأُولى ، بمعنى كونه عبارة عن الوجوب الملحوظ كونه في الساعة الأُولى ، فإنّه يمنع من استصحاب عدم الوجوب في الساعة الثانية ، وإن كان هذا الفرض لا واقعية له.

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يقصد بذلك ما تقدّم في المجلّد الثامن في الصفحة : ٢٦٣ وما بعدها. وعلى أي حال فإنّ بحث السببيّة تقدّم في هذا المجلّد ، فراجع الحواشي المتقدّمة في الصفحة : ١٧٨ وما بعدها.

٤٤٠