أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

وذات أثر النوم وإن اجتمع مع الأكبر إلاّ أن مجرّد حدث النوم لا أثر له ، وإنّما موضوع الأثر هو المركّب ، ولا يعقل اجتماع المركّب من أثر النوم مع عدم الجنابة أو أثرها مع الجنابة نفسها أو أثرها ، كي تأتي شبهة استصحاب ذلك الشخص من الحدث الذي كان موجوداً قبل طروّ ذلك البلل ، سواء كان الاجتماع من قبيل الاشتداد أو كان من قبيل اجتماع غير المتضادّين ، بل لا تكون المسألة إلاّ من قبيل التبدّل ، لكن ذلك لا يوجب كون المسألة من باب إحراز أحد الجزأين بالأصل والآخر بالوجدان الذي هو ذات أثر النوم ، لعدم إحرازه وجداناً ، بل لابدّ من إحراز كلّ منهما أو المجموع منهما بالأصل ، فلاحظ.

قال السيّد سلّمه الله في الصورة الثانية ـ بعد أن أرجعها إلى القسم الأوّل من الثالث من الكلّي الذي بنى على عدم جريان الاستصحاب فيه ـ : فأصالة عدم الحدث الأكبر محكّمة ، ومقتضاها عدم الحاجة إلى الغسل. نعم لو احتمل أنّ الأصغر إذا اجتمع مع الأكبر لا يرتفع إلاّبالغسل ، كان بقاء الحدث الأصغر بعد الوضوء محتملاً لاحتمال كون الرطوبة منياً ، وعليه فاستصحاب بقاء الأصغر محكّم ولابدّ من الغسل ، وهذا بعينه جارٍ في الصورة الثالثة ، إذ أنّ مرتبتي الوجود الواحد بمنزلة الوجودين ، ثمّ قال بعد ذكر الروايتين الشريفتين (١) : وحينئذ فإمّا أن يستفاد منهما أنّ الوضوء مطهّر للمحدث بالأصغر إذا لم يكن جنباً ، أو أنّ الأصغر يرتفع بالوضوء وإن كان مقارناً للأكبر ، وأنّه لا تضادّ بينهما ، وأنّ الصورة الأُولى خلاف الواقع. فعلى الأوّل يكتفى بالوضوء على تقدير كلّ من الصور ، إذ في الأُولى يحرز تمام الموضوع بالاستصحاب ، وفي الأخيرتين يحرز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل. وعلى الثاني يكتفى بالوضوء على تقدير إحدى

__________________

(١) المتقدّمتين في هامش الصفحة : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٣٨١

الأخيرتين كما عرفت الخ (١).

الصورة الأُولى من الصور المحتملة هي التضادّ والتبدّل ، والثانية هي الاجتماع ، كلّ في محلّه ، والثالثة هي الاشتداد.

لا يقال : إنّ كون الوضوء مطهّراً للمحدث بالأصغر إذا لم يكن جنباً عبارة أُخرى عن أنّ الحدث الأصغر إذا اجتمع مع الأكبر لا يرتفع إلاّبالغسل ، وقد تقدّم منه أنّه على هذا التقدير يكون استصحاب بقاء الأصغر بعد الوضوء محكّماً ، ولا ينفعه أصالة عدم الأكبر.

لأنّا نقول : فرق بين كون الحكم الشرعي هو أنّ الحدث الأصغر عند اجتماعه مع الأكبر لا يرتفع إلاّبالغسل ، وبين كون الحكم الشرعي هو أنّ الحدث الأصغر يرتفع بالوضوء عند عدم الأكبر ، وذلك هو المعبّر عنه في كلامه بأنّ الوضوء مطهّر للمحدث بالأصغر إذا لم يكن جنباً ، فلو كان الحكم الشرعي هو الأوّل كان استصحاب الحدث الأصغر محكّماً في الصورة الثانية والثالثة ، بل يضاف إلى ذلك في الصورة الثالثة استصحاب الكلّي الجامع بين الحدّين ، وهو من القسم الثاني.

وهذا بخلاف ما لو كان الحكم الشرعي هو الثاني ، فإنّ استصحاب عدم الأكبر على التقدير الثاني يكون محقّقاً لموضوع رافعية الوضوء ، غايته أنّه على الصورة الأُولى نحتاج إلى استصحاب نفس الحدث الأصغر واستصحاب عدم الأكبر ، فيكون كلّ من الجزأين محرزاً بالأصل ، وعلى الثانية والثالثة يكون أحد الجزأين وهو ذات الحدث الأصغر محرزاً بالوجدان ، وإنّما نحتاج إلى الأصل في الجزء الآخر وهو عدم الأكبر ، وهذا هو المراد من أنّه في الأُولى نحرز تمام

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٢ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٣٨٢

الموضوع بالاستصحاب ، وليس مراده من ذلك أنّ استصحاب عدم الأكبر وحده محرز لتمام الموضوع ، إذ لا ريب حينئذ أنّ تمام الموضوع ليس هو مجرّد عدم الأكبر.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه الطريقة هي طريقة شيخنا قدس‌سره وحاصلها هو ما عرفت من أنّ من يجب عليه الوضوء أو من يكون الوضوء رافعاً لحدثه وبعبارة الاصطلاح المحدث بالأصغر ليس هو مجرّد أثر النوم ، بل هو المركّب منه ومن عدم الجنابة ، وهذا ـ أعني المركّب من أثر النوم وعدم الجنابة ـ هو الذي عليه المدار في هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي الاحتمالات الثلاثة التي تصوّرناها عند ورود الجنابة على حدث النوم ، فإنّ هاتيك الاحتمالات لا تكون إلاّمن قبيل التصوّرات العقلية لكيفية الاجتماع ، ولا دخل لها في ترتّب تلك الأحكام وإجراء تلك الأُصول ، بل المدار في تلك الأحكام وإجراء هاتيك الأُصول على كون حدث النوم مجتمعاً مع عدم الجنابة وهو الحدث الأصغر حينئذ ، بخلاف ما إذا لم يكن مجتمعاً مع العدم المذكور ، بل كان مجتمعاً مع وجود الجنابة ، أو كانت الجنابة وحدها ، وهذه الطريقة متعيّنة بمقتضى الآية الشريفة ، فيتعيّن حينئذ حمل الروايتين عليها.

وأمّا الطريقة الأُخرى المؤلّفة من دعوى بطلان الصورة الأُولى لعدم التضادّ بين الحدثين ، ودعوى أنّ الحدث الأصغر عند اجتماعه مع الجنابة يكون الوضوء مؤثّراً في رفعه ، فالظاهر أنّه لا شاهد عليها ، ومجرّد إمكان حمل الروايتين عليها لا يكون دليلاً على صحّتها ، بعد أن كانت الآية الشريفة ناطقة بمقتضى الطريقة الثانية الموجبة لتعيّن حمل الروايتين عليها.

وأمّا مسألة استحباب الوضوء للنوم بعد الجنابة أو رافعيته للكراهة ، فلا

٣٨٣

شاهد فيه على كونه رافعاً لأثر الحدث الأصغر ، بل هو حكم تعبّدي صرف ، نظير استحبابه للأكل والشرب المقرون بغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق أو غسل اليدين فقط على نحو التخيير أو الترتيب ، سيّما إذا نظرنا إلى وجود هذا الحكم عند الجنابة وحدها من دون أن يكون في البين حدث أصغر ، فإنّ الظاهر أنّ الوضوء مستحبّ في حقّه أو هو رافع للكراهة ، فليس ذلك الوضوء رافعاً لأثر الحدث الأصغر.

ثمّ بعد تسليم هاتين الدعويين تدخل المسألة في القسم الأوّل من الثالث من الكلّي ، وقد تقدّم الإشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، سيّما إذا قلنا بالصورة الثالثة ، وأنّ الاختلاف بينهما في الشدّة والضعف الذي بنى الأغلب على جريان الاستصحاب فيه ، لعدم الفرق في ذلك بين كون الشكّ في قوّة الطارئ وتردّده بين كونه مزيلاً للموجود بجميع مراتبه وكونه لا يزيل إلاّبعض مراتبه ، كما لو اتّصف الجسم بالسواد الشديد ، وقد وقع عليه الماء وشككنا في أنّه أزال تمام ذلك السواد ، أو أنّه لم يزل به إلاّ المرتبة الشديدة ، وبين كون الشكّ في قوّة الموجود ، وأنّه هل هو بالمرتبة الشديدة التي لا يزيلها بتمامها هذا المقدار من الماء بل إنّما يزيل مقداراً منها ويبقى منها مقدار آخر ، أو أنّه بالمرتبة الضعيفة التي يزيلها هذا المقدار ، كما لو علمنا بوجود النور في الغرفة وهبّت ريح عاصفة ، فإن [ كان ] الموجود فيها هو السراج النفطي فقط فقد زال النور فيها ، وإن كان معه ضياء كهربائي فقد ارتفع منها مقدار وهو المستند إلى النفطي ، وبقي المستند إلى الكهربائي.

وما نحن فيه من الحدث الأصغر والأكبر على تقدير الصورة الثالثة التي هي الاشتداد عند الاجتماع ، لو قلنا بأنّ الوضوء رافع لتلك المرتبة من الأصغر

٣٨٤

المجتمعة مع الأكبر ، من قبيل النحو الثاني أعني كون منشأ الشكّ في الارتفاع هو الشكّ فيما هو الموجود من الحدث ، وهل هو المرتبة الشديدة المولّفة من الأصغر والأكبر ، أو هو خصوص المرتبة الضعيفة أعني الأصغر وحده ، وحينئذ يكون داخلاً في النوع الثالث من أقسام القسم الثالث من الكلّي الذي قال الأغلب بجريان الاستصحاب فيه ، إلاّ أن يقال : إنّهم إنّما يجرون الاستصحاب في ذلك للوحدة العرفية ، ويمكن منعها في المقام بدعوى كونهما متباينين بالنظر العرفي.

وهذا الأخير أعني دعوى كون المسألة من قبيل النوع الثالث من القسم الثالث ، وأنّ الاستناد في منع الاستصحاب فيها إنّما هو إلى التباين العرفي بينهما ، بعد البناء على أنّ مرتبة الحدث الأصغر ترتفع بالوضوء عند اجتماعها مع الأكبر من فوائد سيّدنا الأُستاذ المرحوم السيّد أبي الحسن الأصفهاني قدس‌سره حسبما حرّرته عنه في درسه تعليقاً على الكفاية.

ولكن يمكن التأمّل فيما أُفيد في النحو الأوّل ، أعني ما لو كان الموجود هو المرتبة الشديدة من السواد ، وقد شككنا في ارتفاعها بالتمام أو بقاء مقدار منها فإنّها خارجة عمّا نحن فيه ، لأنّ المستصحب فيها يمكن أن يكون هو الكلّي الصادق على الضعيف والشديد ، ويكون ذلك من قبيل القسم الأوّل من استصحاب الكلّي. ويمكن أن يكون المستصحب هو تلك المرتبة الضعيفة ، فإنّها كانت بذاتها موجودة في ضمن الشديدة ، بل لا يحتاج الاستصحاب فيها إلى تقدّم وجود المرتبة الضعيفة ، لجريانه فيما لو كان الموجود مردّداً من أوّل الأمر بين القوي والضعيف ، على وجه لو كان هو القوي لكان الضعيف موجوداً في ضمنه ، فكان الاستصحاب المذكور جارياً فيه.

وقد مثّل سيّدنا قدس‌سره لذلك بنجاسة الاناء المردّدة بين الولوغ وغيره من

٣٨٥

النجاسات وقد غسل بالماء ، فإن كانت ولوغاً فقد ارتفع مقدار منها وبقي مقدار يتوقّف على التعفير ، وإن كانت غير الولوغ فقد ارتفعت بتمامها.

وفرق بين هذا المثال وبين مثال البقّة والفيل ، فإنّ الحادث في مثال البقّة والفيل يكون مردّداً بين الارتفاع وبين البقاء بتمامه ، بخلاف المثال فإنّ الحادث فيه لو كان هو غير الولوغ فقد ارتفع بتمامه ، وإن كان هو الولوغ فلم يرتفع بتمامه ، بل يبقى منه مرتبة.

وفيه : أنّها لو كانت ولوغاً كان المقدّم هو التعفير ، ولا أثر فيه لتقدّم الماء وحينئذ يدور بين الباقي بتمامه والمرتفع بتمامه. نعم في الحدث الأصغر لو احتمل ورود الأكبر عليه وقلنا بأنّه يرتفع بالوضوء ، يكون من قبيل ما لو تردّد بين المرتفع بتمامه والباقي ببعض مراتبه ، ولكن مع ذلك لا يكون من قبيل الشديد من السواد عند ورود الماء عليه الذي يشكّ في كثرته على وجه يكون قد رفعه بتمامه ، أو أنّه قليل لم يرفع منه إلاّمرتبة الشدّة وبقيت منه مرتبة ضعيفة ، فإنّ المرتبة الضعيفة كانت موجودة قطعاً ويشكّ في ارتفاعها ، بخلاف مسألة الحدث الأصغر والأكبر فإنّ المرتبة الضعيفة وهي الأصغر وإن كانت موجودة قطعاً ، إلاّ أن ها قد ارتفعت بالوضوء قطعاً ، وإنّما الذي يشكّ فيه هو تلك الزيادة التي تحصل من ورود الأكبر على الأصغر ، فالمرتبة التي يشكّ في بقائها ليست هي المتيقّنة ، بل هي مشكوكة من أوّل الأمر ، والمتيقّن من المرتبة الضعيفة قد ارتفع قطعاً ، فيرجع الاستصحاب فيها إلى القسم الأوّل من الثالث.

وما أفاده سيّدنا قدس‌سره من أنّه من قبيل السواد المردّد بين الضعيف والشديد وقد وقع عليه قليل من الماء ، فإن كان ضعيفاً فقد ارتفع وإن كان شديداً فقد بقي مقدار منه ، فإنّ الأصغر عند اجتماعه مع الأكبر يشتدّ ، فإن كان وحده فقد ارتفع

٣٨٦

الحدث بتمامه ، وإن كان قد اشتدّ مع الأكبر لم يكن الوضوء رافعاً إلاّلشدّته.

ففيه : أنّه لا يكون من هذا القبيل أيضاً ، للفرق الواضح بين المثالين ، ففي مثال السواد المردّد يكون الضعيف معلوم الوجود ، فإن كان وحده فقد ارتفع ، وإن كان في ضمن الشديد فالمرفوع هو الشدّة ويبقى ذلك الضعيف بحاله ، فيجري فيه الاستصحاب ، بخلاف الأصغر والأكبر فإنّ الأصغر وإن كان معلوم الوجود على كلّ حال ، إلاّ أنه يرتفع بالوضوء على كلّ حال ، سواء كان وحده أو كان قد انضمّ إليه الأكبر ، لأنّ الوضوء لا يرفع الشدّة الآتية من ناحية الأكبر ، وإنّما يرفع نفس الأصغر ، فلا يكون إلاّمن قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث ، ويكون حال احتمال كونهما من قبيل الاشتداد حال احتمال كونهما من قبيل الاجتماع من دون اشتداد.

كلّ ذلك بناءً على ارتفاع الأصغر بالوضوء عند اجتماعه مع الأكبر في كون ذلك من استصحاب النوع الأوّل من القسم الثالث ، وإلاّ كان الجاري على تقدير كونهما من الاشتداد استصحاب شخص الأصغر واستصحاب النحو الثاني من الكلّي ، وعلى تقدير الاجتماع من دون اشتداد كان الجاري هو استصحاب شخص الأصغر دون الكلّي ، كما عرفت تفصيله.

قوله : وأمّا الوجه الثاني وهو ما إذا احتمل حدوث فرد آخر مقارناً لارتفاع الفرد المتيقّن ، فعدم جريان الاستصحاب فيه أوضح ... الخ (١).

ومن الوجه في عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم يندفع الإشكال في الفرع المعروف بالإشكال المشهور بفرع المخدع (٢) وهو ما لو كان محدثاً بالأصغر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٨.

(٢) المِخدَع ، المُخدَع ، المَخدَع : بيت داخل البيت الكبير [ غرفة النوم ] المنجدمادّة « خدع ».

٣٨٧

فدخل المخدع ، وبعد أن خرج شكّ في أنّه عند دخوله في المخدع هل كان قد توضّأ وصلّى ، أو أنّه لم يفعل شيئاً من ذلك بل قد أجنب ، فإنّ منشأ الإشكال فيه هو أنّه بعد فرض جريان استصحاب الحدث الأصغر في حقّه ، لو أراد الوضوء والصلاة بدون غسل الجنابة ـ إذ لم يثبت موجبه بل كان استصحاب عدمها جارياً في حقّه ـ يعلم بعدم كونه مأموراً بهما ، إمّا لأنّه على جنابة وإمّا لأنّه قد امتثلهما.

والجواب عنه : هو المنع من جريان استصحاب الحدث الأصغر في حقّه ، للعلم بارتفاعه إمّا بالوضوء أو بالجنابة ، بناءً على ما قدّمناه من عدم اجتماع الحدث الأصغر مع الجنابة ، وحينئذ فمقتضى أصالة الاشتغال في الصلاة السابقة المحتملة ولزوم إحراز الشرط في الصلوات اللاحقة ، هو لزوم الغسل وإعادة الصلاة السابقة المحتملة. وأمّا استصحاب عدم الجنابة فهو وإن اقتضى عدم لزوم الغسل ، إلاّ أنه إنّما يقتضي ذلك إذا أمكنه الوضوء ، فبفعل الوضوء وأصالة عدم الجنابة يكون محرزاً للشرط في الصلوات الآتية ، أمّا إذا لم يمكنه الوضوء لما عرفت من العلم بعدم كونه مأموراً به ، فلا ينفعه أصالة عدم الجنابة.

ولو كان متطهّراً من الأصغر والأكبر ، وتردّد في الحادث بين الصلاة والحدث الأكبر ، جرى في حقّه استصحاب الطهارة ، لكنّه لا ينفعه في هذه الصلاة المعادة للعلم بعدم مطلوبيتها ، فلابدّ له حينئذ من الغسل ، نعم ينفعه بالنسبة إلى الصلوات الأُخر إذا أراد فعلها قبل إعادة تلك الصلاة. وينبغي مراجعة أوّل حاشية من حواشي ص ١٦ وحاشية ص ٢٥٩ (١) فيما لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين البول والماء الطاهر.

والأولى في هذا الفرع ـ أعني فرع المخدع ـ أن يقال : إنّه لا يجري في حقّه

__________________

(١) راجع المجلّد السابع ، الصفحة : ٥٢٠ وما بعدها ، وكذا المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٣٩.

٣٨٨

استصحاب كلّي الحدث ، لكونه من القسم الثاني من القسم الثالث ، ولما عرفت فيما تقدّم من عدم القدر الجامع بين الحدثين ، كما أنّه لا يجري في حقّه استصحاب الحدث الأصغر ، لعلمه بارتفاعه إمّا بالوضوء أو بالجنابة.

ومن ذلك تعرف أنّه لا يتمّ فيه ما ذكرناه من إحراز الحدث الأصغر بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، ليتوجّه الإشكال حينئذ بأنّه كيف يتوضّأ ويصلّي الصلاة المحتملة مع علمه أنّه إمّا قد امتثلهما أو أنّه فعلاً على جنابة ، وذلك لوضوح أنّ حدثه الأصغر الوجداني قبل دخوله المخدع لا يفيده ، بل لابدّ من جرّه إلى حالته الفعلية بعد خروجه من المخدع ، ولا يكون ذلك إلاّبالاستصحاب ، وقد علم بسقوطه وارتفاع حدثه الأصغر ، وحينئذ يبقى هو وأصالة عدم الجنابة وأصالة عدم الاتيان بالوضوء والصلاة ، فإن تعارضا كما هو الظاهر لكونهما إحرازيين يعلم بكذب أحدهما ، وحينئذ يبقى هو واحتماله الجنابة واحتمال بقاء اشتغال ذمّته بالصلاة ، فيجري البراءة في كلّ ما يحرم على المحدث والجنب ، لكن بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة يلزمه إحرازها ، وذلك لا يكون إلاّبالغسل أمّا الوضوء فهو قاطع بعدم مطلوبيته.

نعم ، لو قلنا بعدم المعارضة بين أصالة عدم الجنابة وأصالة عدم الاتيان بالصلاة ، وأجريناهما معاً لعدم لزوم مخالفة قطعية ، أو لأنّ الجاري في ناحية الصلاة هو أصالة الاشتغال ، كان محكوماً عليه فعلاً بأنّه مشغول الذمّة بالصلاة وأنّه لم يجنب.

وإن شئت فقل : إنّه محكوم بأنّه لم يصدر منه الوضوء والصلاة ولم تصدر منه الجنابة ، وهذا المقدار لا يكفيه في صحّة صلاته التي يصلّيها ، سواء كانت هي تلك التي احتملها أو غيرها ، فإنّ هذين الأصلين لا يحرزان له الطهارة التي هي

٣٨٩

شرط الصلاة ، فلأجل لزوم إحراز الشرط يلزمه الغسل.

ومنه يظهر لك الحال في الفرع الآخر ، وهو ما لو كان متطهّراً وتردّد فيما صدر منه بين الجنابة والصلاة ، فلو قلنا بتعارض الأصلين أعني أصالة عدم الجنابة ـ الذي هو عبارة أُخرى عن استصحاب الطهارة ـ وأصالة عدم الصلاة ، كان اللازم عليه هو الطهارة بالغسل وإعادة الصلاة.

وهكذا الحال فيما لو توضّأ وتردّد فيما صدر منه بين الحدث الأصغر والصلاة ، لأنّا لو قلنا بالتعارض بين استصحاب وضوئه واستصحاب عدم الاتيان بالصلاة ، كان بعد التعارض شاكّاً في طهارته وصلاته من دون أصل محرز ، فيلزمه الوضوء والصلاة ، لكن لو لم نقل بتعارض هذين الأصلين لعدم لزوم المخالفة القطعية ، أو قلنا إنّ الجاري في ناحية الصلاة أصالة الاشتغال وفي الطهارة الاستصحاب ، أُشكل الأمر فيها ، لأنّ مقتضى استصحاب طهارته هو إحرازه للشرط ، وحينئذ لو صلّى يعلم أنّها غير مطلوبة ، إمّا لأنّه قد فرغ منها ، وإمّا لأجل أنّه غير متطهّر.

واعلم أنّ شيخنا قدس‌سره وإن قال بتعارض الأُصول الاحرازية وتساقطها وإن لم يلزم المخالفة القطعية ، إلاّ أنه لا يقول بذلك في جميع ما يكون من موارد العلم بالخلاف ، بل إنّما يقول به في موارد خاصّة وضابط مخصوص ، حتّى أنّه التزم بجريانها في من توضّأ غفلة بمائع تردّد عنده بعد الوضوء بين الماء والبول ، فأجرى في حقّه استصحاب طهارة الأعضاء وبقاء الحدث ، مع أنّه يتوجّه فيه نظير ما نحن فيه ، فإنّه لو توضّأ ثانياً من ماء طاهر يعلم أنّ وضوءه غير مأمور به ، إمّا لكونه متوضئاً أو لكون أعضائه نجسة ، فراجع ما علّقناه على ص ١٦ وص ٢٥٩.

لو علم بأنّه تكلّم في حال قيامه كثيراً ، ولكنّه تردّد في أنّه كان من كلام

٣٩٠

الآدميين أو كان هو القراءة ، وكان ذلك قبل الدخول في الركوع.

لو كان في حال القيام وتردّد في أنّه هل ركع أو أنّه استدبر القبلة.

لو شكّ بين الأقل والأكثر من حيث الركعات ، وعلم أنّه على تقدير الأقل قد ترك ركوعاً ، كمن شكّ بين الثلاث والأربع ، وعلى تقدير الثلاث فقد نقص ركوعاً أو قد زاد ركوعاً ، فلاحظ مسألة ١٢ ، ومسألة ٤٣ من ختام العروة (١) ، ولاحظ ما حرّرناه في المجموعة (٢) فيما لو تردّد بين الاستدبار وبين الركوع ، أو بين السكوت الطويل أو كلام الآدميين وبين القراءة ، فإنّ جميع هذه المسائل يكون اللازم هو العلم بأنّ ما يأتي به غير مأمور به لو لم نقل بتعارض مثل أصالة العدم في الركوع وأصالة العدم في ذلك المبطل ، إلاّ أن نقول : إنّ أصالة العدم في الركوع لا تجري ، إذ لا يمكن ترتيب أثرها عليها وهو وجوب الركوع ، فتنفرد أصالة عدم الاتيان بذلك المبطل ويمضي في صلاته من غير ركوع.

والتحقيق في فرع المخدع هو أن يقال : إنّه لا يجري في حقّه استصحاب حدثه الأصغر الذي كان قبل دخوله المخدع ، للعلم بارتفاعه إمّا بالحدث الأكبر وإمّا بالوضوء ، كما أنّه لا يجري في حقّه استصحاب عدم الوضوء ، لأنّ أثره هو وجوب الوضوء ، وهذا الأثر ينعدم في المسألة لأنّه لا يمكنه الوضوء ، لأنّه إمّا على جنابة أو على وضوء ، فلم يبق إلاّ أصالة عدم الجنابة ، وهذا لو سلّمنا جريانه لا ينفعه في إحراز شرط الصلاة ، إذ لو بنى على عدم الجنابة ولم يغتسل لم يمكنه الدخول في الصلاة ، فإنّ ذلك إنّما ينفعه لو كان قد أحرز صدور الوضوء ، ومجرّد عدم الجنابة لا يوجب الحكم بكون الصادر منه هو الوضوء إلاّبالأصل المثبت ،

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٣٣٤ و ٣٧٧.

(٢) مجموعته قدس‌سره الفقهية مخطوطة لم تطبع بعدُ.

٣٩١

فلم يبق بيده ما يحرز به الطهارة ، فاللازم عليه إحرازها للصلاة التي يريد أن يأتي بها ، وذلك لا يكون إلاّبالغسل ، وعند صدور الغسل منه يعلم بأنّه على طهارة ، لأنّ الصادر منه إن كان هو الجنابة فقد ارتفعت بالغسل ولا يحتاج معه إلى الوضوء وإن كان الصادر منه هو الوضوء لم يحتج إلى إعادته ، أمّا الوضوء وحده بدون غسل فهو يعلم بأنّه غير واجب عليه. فتلخّص : أنّه لا يجب عليه الوضوء لا وحده ولا منضمّاً إلى الغسل ، ولا يحرز شرط الطهارة إلاّبالغسل ، وهو وحده كاف في ذلك.

ومن ذلك يظهر لك الحال في دوران أمره بين الركوع والتحوّل إلى عكس القبلة ، فإنّ أصالة عدم الالتفات والتحوّل لا تجري في حقّه ، لأنّها لا تثبت عدم (١) إتيانه بالركوع ، بل أقصى ما فيها أنّها تقضي عليه بالمضي في صلاته وهو لا يمكنه المضي فيها ، أمّا مع الاتيان بالركوع فلعلمه بأنّه غير واجب عليه ، إمّا لأنّه قد أدّاه وإمّا لأنّه في صلاة باطلة بالالتفات ، وأمّا مع عدم الركوع فلأنّه لا يمكنه ترك الركوع لكونه شاكّاً في الاتيان به. كما أنّ أصالة عدم الاتيان بالركوع أو قاعدة الشكّ في المحل لا تجري في حقّه ، لأنّها تقضي عليه بالاتيان بالركوع وهو لا يمكنه الاتيان به ، إمّا لأنّه قد أدّاه ، وإمّا لأنّه في صلاة باطلة ، وأصالة عدم الاتيان بالركوع لا تثبت أنّه قد حصل منه الالتفات إلاّبالأصل المثبت ، فبقي المكلّف في صلاة يحتمل بطلانها بالالتفات ، ولا أصل يحرز له عدم الالتفات ، فيلزمه قطعها والاستئناف.

ومن ذلك ما لو توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء والبول ، فإنّه لا يمكنه إجراء استصحاب الحدث ، لأنّه يقضي عليه بالاتيان بالوضوء وهو لا يقدر عليه ،

__________________

(١) [ هكذا في الأصل ، والظاهر زيادة : عدم ].

٣٩٢

لأنّه إمّا وضوء على وضوء وإمّا وضوء على أعضاء نجسة ، وحينئذ يبقى هو والشكّ في الوضوء ، فيلزمه الاتيان به من باب لزوم تحصيل شرط الصلاة الذي هو الطهارة من الحدث ، لكن ذلك وحده لا يحصّل الشرط ، بل لابدّ من إحرازه طهارة أعضائه بغسلها ، وقاعدة الطهارة لا تجري في حقّه ، لأنّ جريانها يسدّ باب الوضوء الذي لزمه بمقتضى إحراز الشرط.

والخلاصة : هي أنّه لا يجري في حقّه كلّ من قاعدة الطهارة في الأعضاء واستصحاب الحدث ، لا أنّهما يجريان في حدّ أنفسهما كي نتكلّم في أنّهما متعارضان أو أنّهما غير متعارضين.

لا يقال : لِمَ لا يكون المرجع هو قاعدة الفراغ في الوضوء وقاعدة الطهارة في الأعضاء ، فيحكم بصحّة وضوئه لقاعدة الفراغ وبطهارة أعضائه لقاعدة الطهارة.

لأنّا نقول : قد حقّق في مبحث قاعدة الفراغ أنّها لا تجري فيما لو كانت صورة العمل محفوظة ، كما لو صلّى إلى هذه الجهة المعيّنة ثمّ شكّ في أنّها هي القبلة ، وقد تعرّضنا لهذا الفرع في حواشي ص ١٦ من أصالة الاشتغال (١) ، وفي حواشي ص ٢٥٦ و ٢٥٩ من مباحث الاستصحاب (٢) ، فراجع.

قوله : وليس السواد الشديد والضعيف كزيد وعمرو ، بحيث يكون وجود الإنسان في ضمن زيد نحواً يغاير وجوده في ضمن عمرو عقلاً وعرفاً ... الخ (٣).

قد حرّرت عنه قدس‌سره في هذا المقام ما هذا نصّه : وضابط الفرق بينه وبين

__________________

(١) راجع المجلّد السابع الصفحة : ٥٢٠ وما بعدها.

(٢) راجع المجلّد الحادي عشر الصفحة : ٥٢٤ و ٥٣٩.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٩.

٣٩٣

القسم الثاني ، هو أنّ القسم الثاني من قبيل الانعدام والانوجاد ، وفي اصطلاحهم من قبيل النزع واللبس ، بخلاف القسم الثالث فإنّه من قبيل التبدّل مع وحدة مستمرّة ، فلا يكون من قبيل النزع واللبس ، بل من قبيل اللبس فاللبس مع وحدة مستمرّة ، ولأجل هذه الوحدة يكون الاستصحاب فيه جارياً ، وهو على قسمين : لأنّه إمّا أن يكون من قبيل التدريجيات كالزمان ونحوه ممّا يكون تدريجياً كالحركة والتكلّم ، وإمّا أن يكون من قبيل المراتب ، فالأوّل يجري فيه الاستصحاب ، لأنّه شيء واحد مستمرّ وإن تبدّل من شخص إلى آخر ، والثاني أيضاً يجري فيه الاستصحاب ، من جهة كون الفرد الثاني منه وهو الضعيف موجوداً في ضمن الفرد الأوّل وهو الشديد ، غاية الأمر أنّه عند وجود الفرد الشديد يكون الفرد الضعيف مندكّاً في ضمنه ، بمعنى أنّه لا يكون بحدّه موجوداً ، بل يكون في حدّ ذاته متحقّقاً في ضمنه ، وبعد ارتفاع الفرد الأوّل لو احتمل بقاء الفرد الثاني يتحدّد الفرد الثاني ، فإنّ السواد الضعيف موجود مندك في ضمن السواد الشديد ، وعند ارتفاع السواد الشديد يتحدّد السواد الضعيف ، فمع احتمال أنّ المرتفع هو المرتبة الشديدة لا مانع من استصحاب كلّي السواد الذي كان قد حصل اليقين بوجوده ، مع فرض الشكّ في بقائه ولو في ضمن المرتبة الضعيفة ، التي على تقدير بقائها تتحدّد بحدّها الضعيف.

قوله : لا أقول إنّ العدم الأزلي يتبدّل إلى عدم آخر ، فإنّ ذلك واضح البطلان ، بل العدم في حال حياة الحيوان هو العدم الأزلي قبل حياته ، غايته أنّه قبل الحياة كان محمولياً لعدم وجود معروضه ، وبعد الحياة صار نعتياً لوجود موضوعه ... الخ (١).

لا يخفى أنّ كون العدم السابق على وجود الحيوان ليس بموضوع للحكم لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٣.

٣٩٤

يوجب المنع من استصحابه إذا فرض ترتّب الأثر عليه بعد وجود الحيوان ، وكان استصحابه بعد وجوده. نعم يتمّ ذلك فيما لو قلنا إنّ الموضوع مركّب من وجود الحيوان وعدم التذكية ، من دون أن يكون الثاني نعتاً للأوّل ، أمّا بعد فرضه نعتاً له فلا يكون من هذا القبيل ، بل إنّ الموضوع فيه هو وجود الحيوان الذي هو متصّف بعدم التذكية ، ولأجل ذلك منعنا من الركون إلى مثل أصالة عدم القرشية ، فالعدم المحمولي وإن لم يتبدّل إلى العدم النعتي ، بل كان المأخوذ وصفاً هو ذلك العدم لكن لمّا زيد عليه اتّصاف الحيوان به في موضوعية الحكم ، لم يكن مجرّد أصالة العدم المحمولي نافعاً في تحقّق ذلك الموضوع إلاّبالأصل المثبت ، فلا يرد على شيخنا قدس‌سره أنّ هذه الجمل من قوله : لا أقول ، إلى آخرها ، منافية لمسلكه من عدم الركون إلى مثل أصالة عدم القرشية ، بل هي ملائمة لمسلك صاحب الكفاية قدس‌سره من الاعتماد على الأصل في مورد ترتّب الأثر على العدم النعتي.

٣٩٥

[ استصحاب الزمان والزماني ]

قوله : وعلى كلّ حال ، المنع عن الاتّحاد الحقيقي لا يضرّ بصحّة الاستصحاب بعد الاتّحاد العرفي الذي عليه المدار ... الخ (١).

إجراء الاستصحاب في الزمان يحتاج إلى اعتبار الوحدة فيما بين الحدّين كالنهار مثلاً ، وإلى اعتبار كون الموجود بوجود أوّل جزء منه ، بحيث إنّه يصدق في أوّل النهار أنّه وجد النهار ليكون وجوده معلوماً ، ويكون الشكّ في انقضائه شكّاً في بقائه.

والظاهر أنّ كلاً من هذين الاعتبارين ليس بمبني على التسامح العرفي ، بل هما اعتباران عقلائيان نظير باقي الأُمور العقلائية التي يجرون عليها بعد الاعتبار من دون تسامح ولا تساهل عرفي.

نعم ، إنّما يتمّ جريان الاستصحاب في ذلك إذا كان الحكم مترتّباً على الوجود أو العدم بمفاد كان أو ليس التامّة ، لا ما إذا كان مترتّباً على كون هذا الآن نهاراً أو عدم كونه نهاراً كما أفاده قدس‌سره فيما سبق هذه العبارة ، وكما أنّ ذلك خارج عمّا يجري فيه الاستصحاب ، فكذلك تخرج عنه ما لو كانت الشبهة حكمية مفهومية ، بأن يشكّ في أنّ ما بين غروب الشمس إلى ذهاب الحمرة من النهار ، لكن ليس ذلك من جهة كون المقام حينئذ من المردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٦.

٣٩٦

الارتفاع كما يظهر من الأُستاذ العراقي قدس‌سره في درسه وفي مقالته (١) ، ومثله جارٍ في جميع موارد الشبهات المفهومية ، مثل تردّد العدالة بين ترك مطلق الذنوب صغيراً وكبيراً ، أو كونها عبارة عن ترك خصوص الكبائر ، وتردّد الكرّ بين ما يزيد على الأربعين أو ما هو أقلّ من ذلك كالسبعة والعشرين ، إلى غير ذلك من الشبهات المفهومية ، بل لأنّ الاستصحاب لا يجري في موارد الشكّ فيها ولو بمفاد كان التامّة ، حيث إنّ هذه المفاهيم الوصفية بمنزلة الحكم لكونها محمولات وموضوعها المحمولة عليه مردّد بين الأقل والأكثر ، فلا يجري فيها الاستصحاب لعدم إحراز موضوعها ، فلا تتّحد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوكة لاختلافهما في المحمول عليه.

وإن شئت فأبدل العدالة بوجوب الإكرام واجعل مركبه وموضوعه مردّداً بين تارك كلّ من الصغيرة والكبيرة وتارك الكبيرة فقط ، وافرض كون زيد بالأمس تاركاً لهما معاً ، وأنّه في هذا اليوم قد ارتكب الصغيرة فقط ، فإنّك تجد أنّ قضيّتك المتيقّنة هي الوجوب الوارد على تارك الاثنين ، وقضيّتك المشكوكة هي الوجوب الوارد على تارك خصوص الكبيرة ، فلا يمكنك الاستصحاب لاختلاف الموضوع في قضيّتك المشكوكة عمّا هو الموضوع في قضيّتك المتيقّنة.

نعم ، لو كان ذلك المحمول عليه ـ أعني تارك الكبيرة أو تارك الكبيرة والصغيرة ـ بمنزلة العلّة لتحقّق ذلك الوصف أو الحكم على وجه يكون صفة العدالة أو الوجوب كلون للشخص ، وتكون علّته مردّدة بين تركهما أو ترك خصوص الكبيرة منهما ، نظير حرارة الماء المردّدة بين كون علّتها هي الكهرباء أو النار العادية ، لأمكن القول بأنّ المستصحب فيها من قبيل الفرد المردّد بين مقطوع

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

٣٩٧

البقاء ومقطوع الارتفاع.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، فإنّه لو كان من قبيل تباين العلّة كما في النار والكهرباء بالنسبة إلى الحرارة ، لأمكن دعوى كون الحرارة من قبيل الفرد المردّد ، أمّا لو كانت العلّة المعلومة مردّدة بين الأقل والأكثر ، كما في ترك مطلق الذنب أو ترك خصوص الكبائر بالنسبة إلى العدالة ، فلا تكون العدالة فيه إلاّشخصاً واحداً مردّداً بين البقاء والارتفاع ، ولعلّ مثله ما لو علمنا بوجود الحرارة للجسم ، وتردّد الحال في العلّة الموجدة لذلك الشخص من الحرارة هل هي اجتماع الكهرباء والنار أو هي النار وحدها ولم يكن الكهرباء موجوداً أصلاً ، ثمّ علمنا بارتفاع النار ولإن أمكن ادّعاء ذلك في مثل العدالة فهو في مثل الكرّية ممنوع ، ولإن أمكن ادّعاؤه في الكرّية فهو في مثل النهار ممنوع أشدّ المنع ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : ويكون كلّ آن جزءاً من الليل أو النهار لا جزئي ... الخ (١).

إذ لو كان النهار مثلاً كلّياً وكانت الآنات التي هي ما بين الحدّين أفراداً له ، لكان من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي ، للعلم حينئذ بارتفاع الفرد الأخير والشكّ في قيام فرد آخر مقامه ، لأنّ الآن المشكوك كونه من الليل أو النهار على تقدير كونه من النهار يكون من أفراد النهار ، ويكون قائماً مقام ذلك الفرد النهاري الذي انقضى ، وعلى تقدير كونه من الليل تكون أفراد النهار قد تصرّمت ، والباقي يكون من أفراد الليل ، فهو نظير ما لو وجد الكلّي في ضمن زيد ثمّ بعده في ضمن بكر ثمّ بعده في ضمن خالد ، ثمّ جاء الفرد الأخير المشكوك كونه من أفراد الإنسان.

ثمّ لا يخفى أنّ الكل وأجزاءه وإن لم يكن الكل مقطوع الوجود إلاّبعد تمام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٦.

٣٩٨

أجزائه كالسرير ، إلاّ أن ذلك إنّما هو في الكل القار الذات ، أمّا الكل غير القار فلا يكون وجوده إلاّبوجود أوّل أجزائه ، ويكون ارتفاعه بانقضاء تلك الأجزاء ، وحينئذ فمعنى الشكّ في انقضائه هو الشكّ في بقائه ، فيجري فيه استصحاب البقاء (١).

قوله : ولا يندفع الإشكال باستصحاب نفس الحكم كما يظهر من الشيخ قدس‌سره في هذا المقام ... الخ (٢).

حاصل ما أشكله قدس‌سره في الدورات السابقة على هذا الاستصحاب أوّلاً : بأنّه إذا لم يجر الاستصحاب الموضوعي الذي هو استصحاب الوقت كيف يمكن إجراء الاستصحاب الحكمي مع فرض الشكّ في الموضوع. وثانياً : أنّ هذا الاستصحاب الحكمي لا فائدة فيه ولا أثر يترتّب عليه ، إذ لا يمكنه الاتيان بالفعل الواجب ، لعدم إحراز قيده وهو وقوعه في الوقت المضروب له.

ولكنّه قدس‌سره في الدورة الأخيرة أجاب عن الإشكال الأوّل بالفرق بين موضوع الحكم الذي يكون معروضاً له ، فلا يجري الاستصحاب عند الشكّ في بقائه ، وموضوع الحكم الذي يكون بمنزلة العلّة له ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه مع الشكّ في بقائه ، ولو كان أخذه فيه من قبيل العلّة حدوثاً وبقاء ، وبيان ذلك : هو أنّ قيد الحكم بعد أن أخرجناه عن كونه موضوعاً للحكم وجعلناه من قبيل العلّة للحكم ، فتارةً يكون الشكّ في بقاء الحكم ناشئاً عن كون تلك العلّة هل هي

__________________

(١) فهو من حيث إنّ وجوده يتحقّق بأوّل آن من تلك الآنات يحذو حذو الكلّي ، ومن حيث إنّه يكون باقياً مستمرّاً ما دامت تلك الآنات باقية مستمرّة ... [ منه قدس‌سره. ولا يخفى أنّ في الأصل سقطاً في آخر العبارة ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٨.

٣٩٩

علّة للحدوث والبقاء ، أو أنّ حدوثها علّة للحدوث وبقاءها علّة للبقاء ، كما في مثال تغيّر الماء الموجب لنجاسته بعد زوال التغيير ، وأُخرى يكون الشكّ في بقاء الحكم ناشئاً عن الشكّ في بقاء تلك العلّة ، كما في الشكّ في بقاء النور في الغرفة لأجل الشكّ في بقاء علّته التي هي وجود السراج فيه ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وعن الثاني بأنّ استصحاب نفس الحكم نافع في الجهة المطلوبة ، لكون المستصحب هو الحكم بما له من المتعلّق المفروض كونه مقيّداً بالوقوع في الزمان الخاصّ ، فراجع التقريرات المطبوعة في صيدا (١).

لكن الجواب عن الإشكال الثاني لا يخلو من تأمّل ، لأنّ حدود متعلّق التكليف لا تدخل في المستصحب الذي هو نفس التكليف ، ولو سلّمنا دخول حدود متعلّق التكليف في الوجوب المستصحب ، بأن قلنا إنّ المتيقّن السابق هو الوجوب المتعلّق بالصوم الواقع في النهار ، وهذا المتيقّن برمّته نستصحبه ونجرّه إلى حالتنا الفعلية التي هي حالة الشكّ في بقاء النهار ، لم يندفع الإشكال المزبور ، فإنّ استصحاب الوجوب المتعلّق بالصوم المظروف للنهار لا يحقّق لنا أنّ صومنا في هذا الآن المشكوك هو صوم في النهار ، وذلك نظير ما لو كان يجوز أكل ذلك الحيوان الذي كان موجوداً في الغرفة لكونه من الغنم ، لكن احتملنا زوال ذلك الحيوان ووجود الأرنب مكانه ، فإنّ استصحاب جواز أكل ذلك الحيوان الموجود لا ينقّح لنا أنّ هذا الموجود من الغنم يجوز أكله.

وأمّا ما أُفيد في المستمسك في مقام تصحيح استصحاب الحكم ونفعه في إزالة الإشكال بقوله : ولا يقال عليه : إنّ المعلوم الثبوت سابقاً هو وجوب الصوم

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ١٠٤ ـ ١٠٦.

٤٠٠