أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

الأصغر ، وأصالة عدم الجنابة الجارية في حقّه حتّى فيما بعد الحدث الأصغر ، يوجبان انحلال العلم الاجمالي ، لكون الثاني نافياً للتكليف ، والأوّل وإن كان في حدّ نفسه نافياً ، إلاّ أنه بواسطة اقتضائه لزوم الوضوء بعد الحدث الأصغر يكون مثبتاً للزوم الوضوء ، وذاك نافٍ لوجوب الغسل ، فينحلّ العلم الاجمالي ، ثمّ بعد الوضوء يجري استصحاب القسم الثاني ، أعني استصحاب الحدث المتحقّق ما بين الحدث الأصغر والوضوء المردّد بين الأصغر والأكبر ، إلاّ أن أصالة عدم الجنابة حاكمة على الاستصحاب المذكور ، على ما عرفت تفصيله في الفرع السابق.

ومن جملة هذه الفروع ما لو احتملنا كون هذا الصوف أو الشعر مأخوذاً من الكلب مثلاً ، وجرت فيه قاعدة الطهارة ، ثمّ بعد ذلك عرضته نجاسة عارضية ، ثمّ طهّر من تلك النجاسة العارضية ، فإنّه حينئذ يجري فيه استصحاب القسم الثاني من الكلّي ، أعني استصحاب النجاسة المتحقّقة ما بين عروض النجاسة العارضية والتطهير ، لكن قاعدة الطهارة السابقة الجارية في نفي النجاسة الذاتية حاكمة على الاستصحاب المذكور ، لأنّ الشكّ في بقاء كلّي النجاسة مسبّب عن الشكّ في تلك النجاسة الذاتية ، المفروض أنّها قد حكم بعدمها بواسطة قاعدة الطهارة قبل طروّ النجاسة العارضية.

ومثله لو احتملنا كون هذا الحيوان كلباً فأجرينا فيه قاعدة الحل ، ثمّ طرأه الجلل الموجب للحرمة العارضية ، ثمّ زالت تلك الحرمة العارضية بالاستبراء ، فإنّه لا يجري فيه استصحاب كلّي الحرمة الثابتة بعد طروّ الجلل المردّدة بين الذاتية والعارضية ، لأنّ قاعدة الحل الجارية فيه قبل طروّ الجلل حاكمة عليه ، فإنّ قاعدة الطهارة وكذلك قاعدة الحل وإن لم تكن موجبة لإحراز عدم النجاسة

٣٤١

الذاتية ، أو عدم الحرمة الذاتية ، إلاّ أن ها لمّا كانت متضمّنة للتنزيل ، أعني تنزيل هذا المشكوك النجاسة الذاتية منزلة الطاهر الذاتي ، كان ذلك كافياً في حكومتها على استصحاب كلّي النجاسة المشكوك البقاء ، بواسطة دفعها لاحتمال النجاسة الذاتية الذي هو السبب في الشكّ في بقاء كلّي النجاسة ، فتكون القاعدة الجارية سابقاً حاكمة بزوال النجاسة بعد ارتفاع النجاسة العارضية.

وإن شئت فقل : إنّ من آثار الطهارة هو أنّه يطهر لو تنجّس وطهّر ، بل إنّ من آثار الطهارة هو أنّه يتنجّس بنجاسة عارضية لو لاقته نجاسة أجنبية ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن مسبوقاً بجريان قاعدة الطهارة ، بأن حصل لنا العلم الاجمالي الابتدائي المردّد بين كون هذا الصوف صوف كلب أو أنّه صوف غنم متنجّس ، فيحصل لنا العلم التفصيلي حينئذ بنجاسته المردّدة بين الذاتية والعارضية ، فحيث إنّه لم يكن مسبوقاً بقاعدة الطهارة ، يكون استصحاب النجاسة بعد غسله محكّماً لا محيص عنه ، فتأمّل جيّداً.

ومن جملة الفروع ، ما لو تنجّس الثوب بالدم الذي يكفي فيه الغسل مرّة واحدة ، واحتملنا تنجّسه بالبول بعد الدم ، فإنّه بعد غسله مرّة واحدة يجري فيه استصحاب كلّي النجاسة ، وقد حكم في العروة في م ١٠ بأنّه يكفي فيه المرّة الواحدة ، فراجع (١).

تنبيه : قد تقدّم لنا البحث فيما نقل عن الفاضل التوني في بعض مباحث البراءة (٢) ، فلا حاجة لنا إلى إعادته.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٧٢ ـ ١٧٣ / فصل في كيفية تنجّس المتنجّسات.

(٢) تقدّم البحث في أصالة عدم التذكية في المجلّد السابع من هذا الكتاب فراجع حواشيه قدس‌سره في الصفحة : ١٨٥ وما بعدها من المجلّد المذكور.

٣٤٢

وخلاصة البحث هي : أنّه ربما ادّعي التخلّص من الإشكال بجعل المسألة من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث من الكلّي ، بدعوى عدم التضادّ بين الحدثين ، فلو حدث الأكبر على الأصغر اجتمعا ، وعند الشكّ في طروّ الأكبر على الأصغر لو توضّأ يكون حدثه الأصغر مرتفعاً قطعاً ، ولكنّه يشكّ في مقارنة حدثه الأصغر لحدثه الأكبر ، وحينئذ يكون المرجع هو استصحاب كلّي الحدث ، وحيث قلنا بمنع الاستصحاب في القسم المذكور كنّا في راحة من هذا الإشكال ، وبه قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره فيما حرّرته عنه في الدرس.

وقال في مقالته : وأمّا إن كان الحدث المعلوم هو الأصغر كما لو رأى الإنسان بعد نومه رطوبة مردّدة بين المذي والمني ، ففي هذه الصورة إن قلنا بعدم التضادّ بين الحدثين واجتماعهما في زمان واحد ، غاية الأمر لا أثر للأصغر حين وجود الأكبر ، فلا إشكال أيضاً في الاكتفاء بموجب الأصغر ، فلا مجال لجريان استصحاب الكلّي ، لأنّه من القسم الثالث الراجع إلى الشكّ في مقارنة فرد إلى المعلوم تفصيلاً ، وفي مثله لا يكون مشكوك البقاء عين المتيقّن الحادث كي يشمله عموم حرمة النقض (١).

ولا يخفى ما فيه : فإنّه بناءً على عدم التضادّ بين الحدثين وإمكان اجتماعهما وعدم اندكاك أحدهما بالآخر ، لا تكون المسألة من هذا القسم أعني الأوّل من الثالث ، لأنّ الشرط في كونها من هذا القبيل هو العلم بارتفاع ما علم وجوده أعني الحدث الأصغر ، والمفروض أنّا لا نعلم بارتفاع الأصغر على كلّ حال ، بل إنّه على تقدير انضمام الأكبر إليه لا يكون الوضوء موجباً لارتفاعه ، بل لا يرتفع حينئذ إلاّبالغسل ، وحينئذ يكون الاستصحاب جارياً في الأصغر نفسه لا

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٥.

٣٤٣

في القدر الجامع بينه وبين الأكبر ، لأنّ حدثه الأصغر إنّما يرتفع بالوضوء لو كان منفرداً ولم ينضمّ إليه الحدث الأكبر ، وعند انضمام الحدث الأكبر إليه لا يكون الرافع له إلاّ الغسل الذي يكون رافعاً لهما معاً ، وحيث قد شككنا في الانفراد والانضمام فقد شككنا في ارتفاع نفس الأصغر بالوضوء ، فيجري فيه الاستصحاب ، لا في الكلّي كي يقال إنّا لا نقول بالاستصحاب في القسم الأوّل من الثالث ، لما عرفت من أنّه ليس من هذا القسم ، وكأنّه لأجل هذه الجهة لم يعتمد شيخنا قدس‌سره في دفع الإشكال في المقام على استصحاب عدم الأكبر ، القاضي بإسقاط جريان الاستصحاب في كلّي الحدث لكونه حاكماً عليه ، مع فرض أنّه لا معارض له من جانب الأصغر.

لا يقال : لا محصّل هنا لاستصحاب الحدث الأصغر ، لأنّ أثره المختصّ به هو وجوب الوضوء وقد حصل ، فلم يبق إلاّ أثر الجامع وهو المنع من الصلاة وحرمة مسّ المصحف ونحو ذلك من آثار القدر المشترك ، وقد مرّ أنّ استصحاب الشخص لا يجري في ترتيب أثر الكلّي.

لأنّا نقول : مرادنا من استصحاب الحدث الأصغر في المقام هو استصحاب الحصّة من الحدث ، وهي كافية في ترتيب أثر الكلّي.

أمّا شيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره فقد عرفت أنّه دفع الإشكال بدعوى كون الاختلاف بين الحدثين من قبيل الشدّة والضعف ، والمرتبة الضعيفة من الحدث موجودة بذاتها عند طروّ المرتبة الشديدة ، غير أنّ المنعدم هو حدّها ، ونحن عند علمنا بالحدث الأصغر نكون قد علمنا بوجود ذات تلك المرتبة الضعيفة ، فإذا احتملنا عروض الأكبر فقد احتملنا اشتداد الحدث ، فبعد الوضوء تكون المسألة من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، لأنّ الموجود قبل الوضوء إن كان هو تلك

٣٤٤

المرتبة الضعيفة فقد ارتفعت قطعاً ، وإن كان قد حصل اشتدادها بطروّ الأكبر عليها فهي باقية قطعاً.

لكن مع ذلك لا يكون استصحاب الكلّي جارياً ، لعين المانع في القسم الأوّل من الثالث ، بتقريب أنّ متعلّق اليقين هو نفس تلك المرتبة الضعيفة ، ومتعلّق الشكّ في البقاء هو الجامع بين المرتبة الضعيفة والمرتبة الشديدة ، فلم يكن متعلّق الشكّ متّحداً مع متعلّق اليقين. هذا خلاصة ما حرّرته عنه قدس‌سره في دروس جمادى الأُولى سنة ١٣٤١ ، وقد عرفت ما فيه من جريان الاستصحاب في شخص تلك المرتبة.

لكنّه قدس‌سره في مقالته بعد الفراغ من العبارة السابقة التي نقلناها ، وبعد أن أفاد أنّ استصحاب الكلّي لا يجري فيما لو احتملنا التضادّ وعدمه ، قال ما هذا لفظه : وإنّما المجزي له (١) هو خصوص فرض العلم الاجمالي بأحد الحادثين على سبيل منع الخلو والجمع كليهما ، وذلك لا يمكن إلاّبفرضهما متضادّين غير مجتمعين في زمان واحد ، وتلك المضادّة أيضاً تارةً في حدّيهما وأُخرى في ذاتيهما ، وعلى الأوّل تارةً ضعف الأصغر بالنسبة إلى الأكبر ليس بمقدار يصدق عليه الانعدام عرفاً بانقلاب حدّه إلى الأكبر ، وأُخرى كان بتلك المثابة ، كضعف الاصفرار من اللون بالإضافة إلى الاحمرار ، فإن كان من قبيل الأوّل فلا شبهة في جريان استصحاب شخص الحدث المعلوم المحفوظ بين الحدثين ( الحدّين ) بعد الوضوء ، لاحتمال عدم صلاحيته لرفعه ، كما أنّه لا بأس باستصحاب طبيعة الحدث أيضاً ، وإن كان من قبيل الثاني والثالث فلا يجري الاستصحاب

__________________

(١) [ في الطبعة الحديثة المصحّحة أُبدل « المجزي له » ب : المجرى له ، وهوالصحيح ].

٣٤٥

الشخصي ، ولكن لا بأس بجريان الكلّي منه (١).

ولا يخفى أنّ جريان الاستصحاب في شخص الحدث الأصغر لو قلنا بعدم التضادّ بينهما أولى منه في الصورة التي أفادها ، إذ لا يكون استصحابه إلاّشخصياً غير محتاج إلى عناية المحفوظ بين الحدّين.

ثمّ إنّه قدس‌سره بعد دفع بعض الإشكالات قال ما هذا لفظه : وعليه فلا محيص على ذلك الفرض إلاّ الابتلاء باستصحاب الكلّي ، الموجب لإثبات المانع عن الصلاة ، والحال أنّ ظاهرهم بل وسيرتهم على الاكتفاء بالوضوء الواحد في مثل ذلك الفرض ، وعليه فلا محيص في حلّ ذلك إمّا من كشف بنائهم في المقام على عدم المصير إلى الأصل المزبور عن عدم تضادّ بين الحدثين ، أو لا أقل من احتماله (٢).

قلت : لكنّك قد عرفت أنّه بناءً على عدم التضادّ يكون الجاري استصحاب نفس الحدث الأصغر.

قال قدس‌سره : أو من دعوى معارضة هذا الاستصحاب الكلّي باستصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، إذ من آثاره كون الوضوء مؤثّراً في الطهارة الموجب لصحّة الصلاة فعلاً ، إذ مثل هذا الأصل معارض باستصحاب الحدث المانع من صحّة الصلاة فعلاً فيتساقطان ، فيبقى استصحاب الطهارة على تقدير الوضوء بلحاظ الأثر المزبور باقياً بحاله ، لأنّ الأصل في السبب إذا كان معارضاً بمثله ، يبقى الأصل في المسبّب المحكوم جارياً بلا حاكم ولا معارض (٣)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٧.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٣٤٦

لا يخفى أنّه قدس‌سره لم يذكر استصحاب شخص الحدث المعلوم بين الحدّين ، وأين هو من هذه الاستصحابات المتعارضة ، ولعلّه قدس‌سره يرى أنّ استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاص إلى ما قبل الوضوء يكون حاكماً على استصحاب ذات الحدث المعلوم بين الحدّين بعد الوضوء ، ولكن هذه الحكومة إنّما تنفع لو سلم استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاص عن المعارض ، ومع ابتلائه بالمعارض الذي هو استصحاب كلّي الحدث لابدّ أن نقول بالتساقط والرجوع بعد ذلك إلى استصحاب الحدث الأصغر المعلوم بين الحدّين ، لا إلى ما ذكره من استصحاب الحكم التعليقي ، فالأولى أن يقال : إنّه قدس‌سره يرى أنّ استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ كما يعارض استصحاب كلّي الحدث بناءً على كون المسألة من استصحاب الكلّي ، فكذلك يعارض استصحاب شخص الحدث المعلوم المحفوظ بين الحدّين ، لأنّ كلاً منهما يقتضي البقاء بعد الوضوء ، واستصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ يقتضي الارتفاع بعد الوضوء.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من الحدّ الخاصّ إنّما هو تلك الجهة العدمية أعني عدم الأكبر ، فإن أُخذ هذا العدم قيداً في الحدث الأصغر لم يكن أثره إلاّ أن الوضوء رافع لنفس ذلك الحدث الأصغر ، وذلك بمجرّده لا ينافي استصحاب كلّي الحدث ، ولو تنافيا كان الأوّل ـ أعني استصحاب بقاء الأصغر بحدّه الخاصّ ـ حاكماً على الثاني أعني استصحاب كلّي الحدث ، وإن أُخذت تلك الجهة العدمية على نحو التركّب الانضمامي بمفاد ليس التامّة ، لم يكن محصّله إلاّ استصحاب عدم الأكبر في ظرف تحقّق الأصغر ، وحينئذ يكون إحراز الأصغر وجداناً وعدم الأكبر بالأصل ، وبذلك يتمّ ما هو موضوع رافعية الوضوء الحاكمة على

٣٤٧

استصحاب الكلّي ، كما قرّره شيخنا قدس‌سره على ما سيأتي توضيحه (١) إن شاء الله تعالى ، لا أنّ هذا الاستصحاب يكون معارضاً لاستصحاب كلّي الحدث ، بل هو بعد تمامية تلك الجهات يكون منتجاً لأنّ الوضوء رافع لحدثه ، وأنّ حدثه الفعلي حدث أصغر ، وبذلك يكون حاكماً على استصحاب كلّي الحدث.

والحاصل : أنّ الأُستاذ العراقي قدس‌سره بعد أن حكم بإسقاط الاحتمال الثالث وهو إمكان الاجتماع بقي عنده احتمال كون الأكبر رافعاً لذات الأصغر واحتمال كونه من قبيل الاشتداد ، وهذا الأصل أعني استصحاب الأصغر بحدّه إلى ما قبل الوضوء بناءً على الوجه الأوّل لا محصّل له ، إذ لاحدّ حينئذ للحدث الأصغر. مضافاً إلى أنّ استصحاب الأصغر إلى ما قبل الوضوء لا ينفع في تحقّق الطهارة على تقدير الوضوء ، لأنّ استصحاب وجود الأصغر أو استصحاب اتّصاف المكلّف بالحدث الأصغر لا يثبت أنّ حدثه الفعلي الذي هو من حين خروج البلل إلى حين الوضوء هو حدث أصغر إلاّبالأصل المثبت ، لأنّ الأوّل من قبيل استصحاب وجود الكلب في هذه الغرفة وهو لا يثبت أنّ هذا الموجود فعلاً فيها كلب إذا احتملنا تبدّله إلى الخروف مثلاً ، والثاني ـ أعني استصحاب الاتّصاف ـ من قبيل استصحاب اتّصاف الشخص بأحد الضدّين لنفي اتّصافه بالضدّ الآخر. وأمّا بناءً على الثاني أعني الاشتداد ، ففيه ما عرفت من أنّ استصحاب اتّصاف ذات الأصغر الموجودة بحدّه العدمي إلى ما قبل الوضوء يكون حاكماً على استصحاب ذات الأصغر بين الحدّين إلى ما بعد الوضوء ، وبعد المعارضة بين استصحاب الأصغر بحدّه العدمي إلى ما قبل الوضوء مع استصحاب كلّي الحدث فيما بعد الوضوء يسقط كلا الاستصحابين ، فيكون المرجع بعد سقوطهما هو استصحاب

__________________

(١) في الصفحة : ٣٥٩ وما بعدها.

٣٤٨

الحدث الأصغر بين الحدّين.

ومع قطع النظر عن هذا الاستصحاب الشخصي ، أعني استصحاب ذات الحدث الأصغر بين الحدّين إلى ما بعد الوضوء ، نقول : إنّ أقصى ما في استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ فيما قبل الوضوء هو انتاج أنّ الوضوء يكون مطهّراً من ذلك الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، وذلك بمجرّده لا يكون منافياً لاستصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ، ولو نافاه بأن كان قضية استصحابه بحدّه الخاصّ هو استصحاب عدم الأكبر مع فرض إحراز ذات الأصغر ، ومقتضاه حينئذ عدم تحقّق الحدث بعد الوضوء ، كان الاستصحاب المذكور حاكماً على استصحاب كلّي الحدث ، ورجع التوجيه إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره وهو ما نقله في المقالة بقوله : وتوهّم الخ (١) على ما عرفت شرحه من أنّ المراد به هو الشقّ الثاني ممّا ذكره في المقالة.

ثمّ إنّا لو سلّمنا التعارض بين استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ فيما قبل الوضوء ، وبين استصحاب كلّي الحدث فيما بعد الوضوء ، فلا وجه للرجوع بعد تساقطهما إلى ذلك الحكم التعليقي ، أعني تحقّق الطهارة لو توضّأ ، كما أفاده بقوله : فيتساقطان فيبقى استصحاب الطهارة على تقدير الوضوء بلحاظ الأثر المزبور باقياً بحاله الخ (٢).

وذلك لأنّ موضوع ذلك الحكم التعليقي هو الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، ومع سقوط استصحابه بالمعارضة مع استصحاب الكلّي لا يكون موضوع ذلك الحكم التعليقي محرزاً حينئذ ، فلا يجري استصحاب نفس الحكم

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٦.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٨.

٣٤٩

المذكور ، للشكّ في بقاء موضوعه الذي هو الحدث الخاصّ بحدّه العدمي ، فلاحظ تمام كلامه وتأمّل فإنّ الذي يظهر منه قدس‌سره في آخر جواب « إن قلت » الأُولى أنّه يستشكل من الاكتفاء بذلك الاستصحاب التعليقي بعد التساقط ، حيث قال : نعم لا يترتّب على مثل الأصل المزبور ( يعني استصحاب وجود الحدث وعدم الأكبر ) نفي الكلّي في الحدث ، إذ هو من لوازم نفي الزائد عقلاً ، كما أنّ ثبوت الطهارة التعليقية أيضاً لا يقتضي نفي الطبيعة في الحدث أيضاً إلاّبالملازمة العقلية الثابتة بين وجود كلّ شيء مع عدم ضدّه ، ولذا نقول إنّ مثل تلك الاستصحابات لا تكفي لنفي الشكّ عن بقاء الجامع الحدثي ، غاية الأمر كانا متعارضين بحسب الأثر (١) ولم أتوفّق لمعرفة المراد من هذه الجملة الأخيرة أعني قوله : كما أنّ ثبوت الطهارة التعليقية أيضاً لا يقتضي نفي الطبيعة في الحدث أيضاً إلاّبالملازمة.

ولعلّ المراد هو أنّا بعد أن تعارض أصالة بقاء الحدث الأصغر بحدّه المذكور ـ أعني عدم الأكبر ـ مع أصالة بقاء كلّي الحدث وتساقطا ، ورجعنا إلى استصحاب ذلك الحكم التعليقي الذي كان متحقّقاً قبل خروج البلل ، وهو أنّ ذلك المكلّف لو توضّأ لارتفع حدثه وجاز له الدخول في الصلاة ، لم يكن هذا الاستصحاب مجدياً في إزالة الشكّ في بقاء كلّي الحدث ، لأنّ ثبوت هذه الصحّة التعليقية لا تقتضي نفي طبيعة الحدث ، إذ أقصى ما في البين هو الحكم فعلاً على ذلك المكلّف بأنّه لو توضّأ لارتفع حدثه الأصغر ، وارتفاع الحدث الأصغر لا يرفع كلّي الحدث إلاّباعتبار الملازمة العقلية بين وجود الطهارة عند الوضوء وعدم الحدث ، وحينئذ لا يكون ثبوت تلك الطهارة قاضياً بعدم الحدث الكلّي ، فلا تكون مزيلة للشكّ في بقاء الحدث ، ومع الشكّ في بقائه لا يجوز له الدخول في

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٨.

٣٥٠

الصلاة ، وإن لم يجر فيه استصحاب كلّي الحدث لسقوطه بالمعارضة المذكورة فلاحظ.

وبناءً على ذلك لا يكون استصحاب تلك الطهارة التعليقية نافعاً في الاكتفاء بالوضوء للدخول في الصلاة ، اللهمّ إلاّ أن يكون مراده أنّه مجوّز للدخول في الصلاة وإن بقي شكّه في بقاء كلّي الحدث.

وتوضيح ذلك : أنّه قدس‌سره (١) بانٍ على أنّ الطهارة شرط والحدث مانع ، لكن تحقّق الطهارة مثلاً فعلاً ولو ظاهراً ملازم لتحقّق الصحّة من ناحية المانع ، لأنّ فعلية الصحّة من ناحية الشرط ملازمة عقلاً واقعاً وظاهراً لفعليتها من ناحية

__________________

(١) قال فيما حرّرته عنه : وقد يقال : إنّ أثر بقاء الحدث الأصغر بحدّه إلى حين الوضوء هو الحكم بصحّة الوضوء شرعاً الملازم شرعاً لصحّة الصلاة ، فيكون أثر أصالة بقاء الحدث الأصغر إلى حين الوضوء صحّة الصلاة مع الوضوء فيتمّ المطلوب.

ولكن لا يخفى أنّه كما أنّ الطهارة من الحدث شرط في صحّة الصلاة فكذلك الحدث مانع ، وحينئذ فكما يجري أصالة بقاء الحدث الأصغر بحدّه إلى حين الوضوء ، يجري أصالة بقاء القدر المشترك بين الحدثين ، فلا يجوز له الدخول فعلاً في الصلاة ، ولا تعارض بين الاستصحابين ، لأنّ الصحّة التي يثبتها الاستصحاب الأوّل صحّة تعليقية معلّقة على عدم المانع ، والاستصحاب الثاني متكفّل لإثبات المانع. بل قد يقال : إنّ الاستصحاب الأوّل لا يجري مع الاستصحاب الثاني. نعم لو كان مفاد الأوّل الصحّة الفعلية ، لكان الاستصحابان متعارضين ، وبعد التساقط يرجع إلى أصل آخر وهو استصحاب ما كان عليه المكلّف حين كونه قاطعاً بحدثه الأصغر قبل عروض ذلك البلل المشتبه عليه من كونه لو توضّأ جاز له الدخول في الصلاة ، إلاّ أنك قد عرفت أنّه لا يترتّب عليه إلاّ الصحّة التعليقية. هذا بعض ما حرّرته عن الأُستاذ العراقي قدس‌سره.

ثمّ إنّه بعد هذا دفع الإشكال بما تقدّم نقله عن درسه ، ولكنّه في المقالة دفع الإشكال بهذا الذي نقلناه عنه في مقالته قدس‌سره [ منه قدس‌سره ].

٣٥١

المانع.

ومن ذلك تعرف المراد في قوله : فإن قلت : إنّ المترتّب على الطهارة الخ (١) فإنّ حاصله هي أنّ صحّة الصلاة المترتّبة على تلك الطهارة المستصحبة لابدّ أن تكون فعليتها متوقّفة على عدم الحدث ، لما عرفت من كونه مانعاً ، وحينئذ يكون استصحاب الحدث رافعاً لأثر تلك الطهارة ، بل يكون حاكماً على استصحاب موضوعها أعني الحدث الأصغر بحدّه. وحاصل قوله : قلت : ذلك كذلك الخ (٢) أنّه يكفي في جريان الاستصحاب المذكور ترتّب الصحّة عليه من ناحية الشرط ، وهذه لو تحقّقت وصارت فعلية ولو باستصحاب موضوعها ، تكون فعليتها ملازمة للفعلية من باقي الجهات أعني الصحّة من ناحية المانع.

وقوله : وتوهّم الخ (٣) حاصله : أنّ استصحاب الحدث لمّا كان مثبتاً للمانع يكون رافعاً للصحّة المذكورة ، فيكون حاكماً على استصحاب الطهارة.

وقوله : مدفوع جدّاً الخ (٤) حاصله : أنّ استصحاب الحدث وإن أوجب فعلية عدم الصحّة من ناحيته ، إلاّ أن فعلية عدم الصحّة من ناحية المانع تكون موجبة لفعلية عدمها من ناحية الشرط أيضاً بنحو ما ذكرناه في فعلية الصحّة من ناحية الشرط الذي هو الطهارة ، وحينئذ يتعارض الأصلان ، ويكون المرجع هو استصحاب تلك الصحّة المعلّقة على الشرط ، أعني الطهارة على تقدير الوضوء فتكون تلك الصحّة من ناحية الشرط فعلية ، وهي ملازمة واقعاً وظاهراً للصحّة من ناحية الحدث الذي هو المانع.

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٨.

(٢و ٣) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٩.

(٤) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٩.

٣٥٢

وأمّا الصورة التي استثناها بقوله : نعم لو لم تحرز الصحّة الفعلية الخ (١) فلعلّ أن يكون المراد منها هي ما لو كان متطهّراً من الحدثين وخرج منه البول واحتمل خروج المني ، وكان مردّداً في أنّه على تقدير خروجه هل خرج قبل البول أو بعده أو معه ، فإنّه حينئذ لا يمكنه تطبيق استصحاب الصحّة التعليقية من ناحية الوضوء ، إذ لا يمكن أن يقال في حقّه إنّه كان في زمان محكوماً بأنّه لو توضّأ لحصلت له الطهارة ، فلا تتحقّق فيه الطهارة الفعلية عند الوضوء حتّى مع فرض الشكّ في وجود الحدث ، فضلاً عمّا لو أحرزه بالاستصحاب.

وأمّا قوله : لا يبقى مجال دعوى أُخرى الخ (٢) فحاصل هذه الدعوى هو أنّ كلّي الحدث لا أثر له قبل الوضوء للعلم بالحدث الأصغر ، فلا يترتّب أثر عملي على كلّي الحدث كي يجري فيه الاستصحاب ، ويكون العلم بكلّي الحدث عند طروّ ذلك البلل المردّد بين الأصغر والأكبر منحلاًّ بجريان الأصل المثبت في الأصغر والنافي في الأكبر. وحاصل الجواب هو أنّه لا يعتبر في المستصحب ترتّب الأثر عليه في حال اليقين به ، إذ يكفي ترتّب الأثر عليه في حال الشكّ في بقائه وهو ما بعد الوضوء ، لانقطاع استصحاب الأصغر حينئذ بالوضوء.

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في هذه الملازمة بين الصحّة من ناحية الشرط الذي هو الطهارة وبين الصحّة من ناحية المانع الذي هو الحدث ، فإن كان المنشأ فيها هو التضادّ بين الطهارة والحدث ، فهذا لا يخرجه عن الأصل المثبت إن كان المراد أنّ ثبوت الطهارة يوجب الحكم بعدم الحدث.

وإن كان المراد أنّ الحكم بالصحّة من ناحية الشرط يلازم الحكم بالصحّة

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٩.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٩٠.

٣٥٣

من ناحية المانع فلم يتّضح وجهه ، مضافاً إلى أنّه لا معنى لكون الشرط محصّلاً للصحّة الفعلية كي تكون هذه الصحّة ملازمة للصحّة الفعلية من ناحية المانع ، فإنّ الشرط لو كان موجوداً وجداناً لم يكن محصّلاً للصحّة الفعلية ، وإنّما أقصى ما فيه هو حصول الصحّة من ناحيته ، ومن الواضح أنّه لا ملازمة بين كون الشيء صحيحاً من ناحية الشرط مع فرض طروّ المانع عليه ، كما لو كان ثوب المصلّي مثلاً طاهراً لكن كان هو أو غيره ممّا لا يؤكل لحمه.

وحينئذ نقول : إنّه قدس‌سره لو اقتصر في بيان التعارض بناءً على كون الطهارة شرطاً والحدث مانعاً على كون استصحاب الحدث الأصغر بحدّه يقتضي صحّة الصلاة مع الوضوء ، واستصحاب الحدث الكلّي يقتضي بطلانها ، توجّه عليه الإشكال الذي تضمّنته « إن قلت » الثانية ، فإنّ وجود الشرط لا يحقّق الصحّة من جميع الجهات ، وإنّما يحقّق الصحّة من ناحية نفسه ، فلا يصلح لمعارضة استصحاب كلّي الحدث القاضي ببطلان الصلاة بقول مطلق.

ثمّ إنّه لو سلّمنا التعارض والتساقط لم يتمّ الرجوع إلى ذلك الحكم التعليقي كما أنّه لا يتمّ قوله : وجود المانع أيضاً ينتج بأنّ عدم الصحّة من قبله لا عدمها من جميع الجهات (١).

وبالجملة : أنّ الصحّة قابلة لأن تكون مضافة ، بمعنى أنّ هذا الموجود صحيح لو لم يكن في البين وجود المانع ، نظير ما نقول إنّ هذه الأجزاء صحيحة

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٩ [ لا يخفى أنّ المذكور في الطبعة القديمة : وجود المانع أيضاً ينتج بأنّ عدم الصحّة من قبله لا فتحها من جميع الجهات. وفي الطبعة الحديثة صحّحت العبارة هكذا : وجود المانع أيضاً ، وهو يفتح باب عدم الصحّة من قبله ، لا فتحها من جميع الجهات ].

٣٥٤

لو انضمّ إليها باقي الأجزاء والشرائط ، لكن البطلان وعدم الصحّة لا يعقل فيه ذلك ، وحينئذ يكون استصحاب كلّي الحدث حاكماً على استصحاب الحدث الأصغر بحدّه الخاصّ ، الذي يكون أثره أنّه لو توضّأ لحصلت له الطهارة ، ولو قلنا إنّ أثره هو أنّه لو توضّأ لارتفع حدثه ، لم ينفع في إحراز الشرط الذي هو الطهارة بناءً على المبنى المذكور ، أعني الجمع بين كون الطهارة شرطاً وكون الحدث مانعاً ، مضافاً إلى أنّه لا يعارض استصحاب الحدث ، لأنّ الحكم عليه بأنّ حدثه الأصغر مرتفع بالوضوء لا ينافي استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ، ولعلّه لأجل هذه الجهات غيّر السيّد ( سلّمه الله تعالى ) مركز المعارضة فجعلها بين استصحاب كلّي الحدث وأصالة عدم الأكبر ، وجعل المرجع بعد التساقط أصالة عدم وجوب الغسل ، فأورد على استصحاب كلّي الحدث بأنّه يعارضه استصحاب عدم الأكبر ، فإنّه ينفي وجوب الغسل لأنّه من أحكامه ، وبعد التساقط يرجع إلى استصحاب عدم وجوب الغسل ( الذي كان محكوماً به قبل طروّ احتمال الجنابة ) فإنّه حاكم على قاعدة الاشتغال ، إلخ (١) ولا تأتي هذه الطريقة فيما لو كان مسبوقاً بالطهارة من الحدثين ، أو كانت حالته السابقة غير معلومة ، لعدم جريان أصالة عدم الأكبر لكونها معارضة بأصالة عدم الأصغر.

ولكن لا يخفى أنّا فيما نحن فيه أعني من كان محدثاً بالأصغر ثمّ طرأه البلل المردّد ، بعد أن فرضنا أنّ أصالة عدم الأكبر لا تكون حاكمة على استصحاب كلّي الحدث ، لم يكن لها حينئذ أثر إلاّنفي وجوب الغسل ، وهذا لم يثبته استصحاب كلّي الحدث لتحصل المعارضة بينهما ، وأقصى ما في استصحاب كلّي الحدث هو ترتّب أثر ذلك الكلّي ، وهو المنع من مسّ المصحف والمنع من الصلاة إن قلنا إنّ

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

٣٥٥

الحدث مانع ، أو عدم إحراز شرط الصلاة إن قلنا إنّ الطهارة شرط ، وهذه المقادير لا ينافيها عدم الجنابة القاضي بعدم وجوب الغسل الذي هو أثر الحدث الخاصّ أعني الجنابة.

لا يقال : إنّ الطهارة شرط للصلاة ، وحينئذ يكفي في عدم جواز الدخول فيها مجرّد عدم إحراز الشرط ، فمن هذه الجهة لا يترتّب على استصحاب كلّي الحدث إلاّمجرّد المنع من الدخول في الصلاة ، لعدم إحراز الشرط وهذا وجداني ، فيكون المقام من قبيل الإحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ، وحينئذ لا يبقى بأيدينا ما يقضي بالمنع من الدخول في الصلاة إلاّقاعدة الاشتغال وأصالة عدم الجنابة باعتبار رفعها لوجوب الغسل حاكمة عليها.

لأنّا نقول : إنّ هذا المقدار لا يتولّد منه المعارضة مع استصحاب الكلّي ، بل يبقى استصحاب الكلّي جارياً ولو باعتبار أنّه لا يجوز له مسّ المصحف ، وحينئذ يكون الحكم أنّه يحرم عليه مسّ المصحف ولكن يجوز له الدخول في الصلاة ، ولا يخلو عن غرابة ، نعم إنّ استصحاب عدم الأكبر لا يجتمع مع استصحاب كلّي الحدث بعد فرض تحقّق الوضوء ، ولعلّ ذلك هو المشار إليه في عبارة صاحب الدرر ، وذلك قوله : ثمّ إنّك قد عرفت أنّ إجراء الأصل في الكلّي لا يثبت الفرد وإن كان ملازماً له ، لأنّ هذه الملازمة ليست شرعية ، وحينئذ فلو كان للفرد أثر خاصّ ينفى بالأصل ، إلاّ إذا كان للفرد الآخر أيضاً أثر خاصّ ، فيتعارض الأصلان ـ ثمّ قال ـ وكذا لو علم أنّ الحكم ببقاء الكلّي في الأثر والحكم بعدم الفرد كذلك ممّا لا يجتمعان في مرحلة الظاهر أيضاً (١).

والشاهد في هذه العبارة الأخيرة ، فإنّها تنطبق على ما نحن فيه ، فيقال إنّه

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٣٦.

٣٥٦

بعد فرض التضادّ الذاتي بين الحدثين ، لو كان الشخص محدثاً بالأصغر ثمّ طرأه احتمال الجنابة ، فلو توضّأ جرى في حقّه استصحاب كلّي الحدث ، وحينئذ يكون استصحاب عدم الأكبر معارضاً لاستصحاب كلّي الحدث ، لعدم إمكان اجتماعهما بعد فرض تحقّق الوضوء منه ، لأنّه إن كان محدثاً بالأصغر فقد ارتفع حدثه قطعاً ، فلو بقي كلّي الحدث فإنّما يبقى في ضمن الأكبر ، فيكون الحكم ببقاء الحدث الكلّي منافياً لأصالة عدم الأكبر ، لأنّهما لا يجتمعان في مرحلة الظاهر لكونهما إحرازيين مع العلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع.

وفيه : أنّ أغلب الأُصول الاحرازية متنافية ، كما في مثل استصحاب الحياة واستصحاب عدم نبات اللحية ، ونحن وإن قلنا بتعارض الأُصول الاحرازية التي يعلم بمخالفة أحدها للواقع ، إلاّ أن له ضابطاً وتفصيلاً تعرّض له شيخنا قدس‌سره في خاتمة الاستصحاب.

ثمّ إنّا لو سلّمنا التعارض فيما نحن فيه والتساقط لم يكن المرجع هو استصحاب عدم وجوب الغسل ، إذ أنّه لا يكون حاكماً على قاعدة الاشتغال في الصلاة ، لأنّ استصحاب عدم وجوب الغسل لا يرفع الشكّ في إحرازه لشرط الصلاة ، نعم يكون حاكماً على أصالة الاشتغال بالطهارة ، وهذا ـ أعني حكومته على قاعدة الاشتغال بالطهارة ـ لا يوجب حكومته على قاعدة الاشتغال بالصلاة.

ثمّ إنّ عدم وجوب الغسل إنّما كان لأجل عدم الجنابة ، ومع الشكّ فيها وعدم إحراز الموضوع لا يجري استصحاب ذلك الحكم ـ أعني عدم الوجوب ـ إلاّ بواسطة أصالة عدم الجنابة ، والمفروض أنّها قد سقطت بالمعارضة.

ثمّ بعد البناء على جريان استصحاب عدم وجوب الغسل وأنّه حاكم على قاعدة الاشتغال ، لو قلنا إنّ الطهارة الواجبة عليه في حال احتماله الجنابة هي

٣٥٧

المعنى النفساني الناشئ من الوضوء والغسل ، فهل يكون استصحاب وجوب ذلك المعنى النفساني لشكّه في حصوله لاحتمال توقّف حصوله هنا على الغسل معارضاً لاستصحاب عدم وجوب الغسل أم لا؟ فيه تأمّل ، لأنّه بناءً على هذا القول ـ أعني كون الواجب هو ذلك المعنى النفساني ـ لا يكون الغسل واجباً كي يكون مورداً لاستصحاب عدم الوجوب. نعم إنّ الغسل حينئذ محصّل لذلك الواجب النفساني ، فهو قبل طروّ احتمال الجنابة لم يكن متوقّفاً على الغسل ، وعند احتمالها يحتمل توقّفه عليه ، فلا يكون المستصحب إلاّعدم التوقّف وعدم الوجوب المقدّمي للغسل ، وحينئذ يكون استصحاب عدم التوقّف حاكماً على استصحاب وجوب ذلك الأمر النفساني أو على استصحاب عدم حصوله ، فتأمّل.

قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره : وتوهّم أنّ الوضوء في حال عدم الجنابة كان رافعاً لأصل طبيعة الحدث ، فإذا فرض في تلك الصورة الوضوء بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، فلا يبقى مجال الشكّ في بقاء الكلّي ، مدفوع الخ (١).

لعلّ هذا تعريض بما أفاده شيخنا قدس‌سره في طريقة التخلّص عن الإشكال بما تضمّنه هذا التحرير ممّا تقدّم (٢) التعليق عليه ، وذلك قوله : ولكن الظاهر أنّه يجوز للمكلّف في المثال فعل كلّ مشروط بالطهارة الخ (٣)

(٤) وقد تقدّم (٥) أنّ حاصل ما أفاده قدس‌سره من الجواب ينحلّ إلى جهات ثلاث : الأُولى دعوى دلالة الآية الشريفة على أنّ موضوع وجوب الوضوء هو النوم مع عدم الجنابة. الثانية : إلحاق بقيّة

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٦.

(٢) في الصفحة : ٣٣٣.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦.

(٤) في الصفحة : ٣٣٦.

٣٥٨

موارد الحدث الأصغر بالنوم. الثالثة : دعوى أنّه إذا وجب عليه الوضوء لم يجب عليه الغسل ، بناءً على أنّه لا يمكن أن يكون حكمه الواقعي هو وجوب كلّ منهما ، إمّا لأجل ما أُفيد من التناقض ، وإمّا لأجل أنّه إذا حكم عليه شرعاً بأنّه داخل في من يجب عليه الوضوء ، لم يمكن أن يحكم عليه ثانياً بوجوب الغسل ، بدعوى أنّه ليس في الشريعة الجمع في الواقع بين الطهارتين ، انتهى. وقد تقدّم أيضاً أنّ هذه الجهات لو تمّت فلا تنفع في إسقاط استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء.

لكن الإنصاف أنّ الجهة الأُولى هي الأساس في طريقة شيخنا قدس‌سره ، وهي أنّ الحدث الأصغر ليس هو ذات النوم مثلاً ، بل هو ذات النوم وعدم الجنابة على نحو الاجتماع في الزمان من وجود النوم وعدم الجنابة بمفاد ليس التامّة ، والآية الشريفة حاكمة بأنّ الوضوء رافع للحدث عمّن نام ولم يجنب ، بحيث يستفاد منها رافعية الوضوء للحدث عمّن نام ولم يجنب.

وهذه الجهة ـ أعني كون الوضوء المذكور رافعاً للحدث ـ لابدّ من رعايتها ، ولأجل ذلك قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وحينئذ يكون ترتّب ارتفاع الحدث على وجود الوضوء مع عدم الجنابة ترتّباً شرعياً ، فإذا توضّأ بعد أن جرت في حقّه أصالة عدم حدوث الجنابة ، ترتّب ارتفاع حدثه ، ولا يبقى معنى حينئذ لاستصحاب كلّي الحدث. وبعبارة أوضح يكون متوضئاً غير مجنب ، فيدخل في قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) الخ (١) ويكون ممتثلاً لهذا الأمر ، وتصحّ له الصلاة وكلّ ما هو مشروط بالطهارة ، وكذا يسوغ له ما يكون سائغاً للمتوضّي غير الجنب كمسّ المصحف ممّا يكون الحدث فيه مانعاً ، انتهى.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٣٥٩

وقال السيّد ( سلّمه الله تعالى ) فيما حرّره عنه قدس‌سره : فإذا أُحرز أحد الجزأين بالوجدان والآخر بالأصل ، فلا محالة يتحقّق موضوع وجوب الوضوء شرعاً الرافع للحدث والمبيح لكلّ ما هو مشروط بالطهارة ، فالشكّ في بقاء الحدث ناشٍ عن الشكّ في تحقّق الجنابة المأخوذ عدمها في موضوع التكليف بالوضوء ، فمع إحرازه بضمّ الوجدان إلى الأصل يكون التكليف الفعلي هو وجوب الوضوء الرافع للحدث شرعاً ، فلا يبقى مجال لاستصحابه (١).

وهذه الكلمات كلّها ظاهرة في أنّ مراده هو كون موضوع وجوب الوضوء الذي هو رافع الحدث هو الحدث مع عدم الجنابة ، فلابدّ من إدخال رافعية الوضوء للحدث في جملة كلماته ، لكن هذا التحرير خال منها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ موضوع رافعية الوضوء للحدث ليس هو مجرّد عدم الجنابة كما ذكره شيخنا العراقي في قوله : وتوهّم أنّ الوضوء في حال عدم الجنابة كان رافعاً لأصل طبيعة الحدث الخ ، بل هو الحدث الأصغر مع عدم الجنابة كما أفاده في آخر هذه العبارة بقوله : وإن كان الموضوع المحدثَ بالأصغر الذي لم يكن جنباً الخ.

وبناءً على ذلك لا يتوجّه على شيخنا قدس‌سره ما أفاده في المقالة بقوله : مدفوع بأنّ رفع الوضوء الحدث ـ إلى قوله ـ وحينئذ فمع الشكّ في وجود الطبيعي المردّد بينهما وجداناً ، لا يجدي الأصل المزبور مع الوجدان المذكور في رفع الشكّ عن بقاء أصل الطبيعة الخ (٢) فإنّ إحراز النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل قاضٍ بأنّ حدثه الفعلي هو الأصغر ، ومع الحكم بأنّ حدثه الفعلي بعد طروّ احتمال الجنابة

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٩٨.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٦.

٣٦٠