أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

نافعة في الحكم بعدم كلّي الحدث إلاّبضمّ ذلك المعلوم الوجداني إليه.

ثمّ لا يخفى أنّ عبارة السيّد قدس‌سره في الحاشية في بيان الجواب عن معارضة أصالة العدم في الفرد الطويل بأصالة العدم في الفرد القصير هي قوله : قلت نمنع ذلك ، لأنّ المفروض أنّه لا يترتّب على الأصل الثاني أثر شرعي مثبت للتكليف حتّى يصلح للمعارضة ، مثلاً أصالة عدم وجود النجاسة بالدم لا يثبت تكليفاً فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض ، ولازمها نفي وجوب الغسلة الأُخرى ، وهكذا (١).

وهذه العبارة لا تخلو عن قصور في بيان المراد ، فإنّ مراده أنّ نجاسة الدم في مورد التردّد بينها وبين نجاسة البول ، لا توجب تكليفاً زائداً على ما علم من وجوب الغسل المردّد بين المرّة والمرتين ، فإنّ وجوب الغسل مرّة معلوم على كلّ حال ، لكون المسألة من قبيل الأقل والأكثر ، وذلك موجب لعدم جريان أصالة العدم في ناحية الأقل ، لعدم كون هذا الأصل صالحاً لنفي التكليف المترتّب على المنفي فيه.

لكن العلاّمة المرحوم الأصفهاني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية أخذ بظاهر العبارة فقال : وأمّا ما عن بعض الأجلّة في حاشيته على كتاب البيع للشيخ الأجل قدس‌سره من فرض المثال فيما إذا دار أمر النجس الحادث بين أن يكون بولاً يوجب الغسل مرتين ، أو دماً لا يوجب الغَسل مرتين ، وأنّ الأصل في طرف البول ينفي وجوب الغسلة الثانية ، وأنّ الأصل في طرف الدم لا يثبت وجوب الغسلة الثانية ، فلا معارضة (٢) ، فحمل عدم المعارضة في كلام السيّد قدس‌سره على أنّه يمكن

__________________

(١) حاشية كتاب المكاسب ١ : ٣٥٦.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٤٩.

٣٠١

الجمع بين أصالة العدم في طرف البول وأصالة العدم في طرف الدم ، لأنّ الأُولى تنفي وجوب الغسلة الثانية ، والثانية لا تثبت وجوب الغسلة الثانية ، وحينئذ يمكن الجمع بينهما ، إذ لا تدافع بينهما ، فلأجل ذلك أورد عليه بأنّه لا يمكن الجمع بين الأصلين لاقتضائهما نفي وجوب الغسل مع العلم بأنّه قد وجب في الجملة ، وحينئذ يقع التعارض بينهما من جهة اقتضائهما نفي الجامع وهو معلوم الوجود ، ومن جهة اقتضائهما نفي كلّ من الخصوصيتين ، والمفروض أنّ إحدى الخصوصيتين معلومة الوجود ، هذا كلّه إنّما يتوجّه على السيّد لو كان مراده من عدم التعارض هو إمكان الجمع بينهما.

والإنصاف : أنّ عبارته وإن كانت ظاهرة في ذلك ، لكن المراد معلوم ، وهو ما عرفت من أنّ عدم التعارض إنّما هو لأجل عدم الأثر لأصالة عدم الدم ، إذ لا يمكن الحكم بنفي أثره الذي هو الغَسل مرّة ، للعلم التفصيلي بوجوبها على كلّ من طرفي العلم الاجمالي ، كما هو الشأن في كلّ علم إجمالي مردّد بين الأقل والأكثر.

ويشهد بذلك قوله : فيكون أصالة عدم النجاسة بالبول سليمة عن المعارض الخ. فإنّ هذه الجملة إنّما تقال في الأصل الواحد لا في الأصلين اللذين لا تعارض بينهما ، ولعلّ مراد المحشي في إيراده على السيّد هو أنّه لابدّ لنا من نفي القدر الجامع ، وهو لا يحصل إلاّبإجراء الأصل في الدم وإجرائه في البول ، وحينئذ يقع التعارض بين الأصلين للعلم بتحقّق القدر الجامع ، ولعلّ مراد السيّد هو حصول نفي الجامع من الوجدان بالغسلة الواحدة وأصالة عدم البول كما أفاده الأُستاذ العراقي ، لكن ذلك متوقّف على أن يكون لنا موضوع واحد قد حصل أحد جزأيه بالأصل والآخر بالوجدان ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فلاحظ.

٣٠٢

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ المطلوب من إجراء الأصل في الأقل هو نفي القدر الجامع لا نفي أثره الخاصّ ، وهذا لا يفرق فيه بين كون حصول العلم الاجمالي قبل انتفاء الأقل بالوجدان أو بعده ، كما أنّه لا يتوقّف على إجراء الأصل فيه قبل خروجه عن الابتلاء كما في التحرير عن شيخنا قدس‌سره (١).

وكأنّه لأجل هذه الملاحظة أفاد المرحوم الشيخ محمّد حسين إلحاقاً بما تقدّم ، فقال : ومنه يعلم أنّ دعوى عدم المعارضة من حيث تيقّن الأقل فلا يجري فيه الأصل ، ويختصّ الأصل بعدم موجب الأكثر ، مدفوعة بأنّ أثر الدم ليس وجوب الغسل المجامع مع جواز الاكتفاء وعدم جواز الاكتفاء ، فإنّه أثر الجامع ، بل أثر الدم هو وجوب الغسل اللاّ بشرط القسمي المساوق لجواز الاكتفاء فيه بالمرّة ، وهو مباين للغسل بشرط شيء ، فإنّهما تعيّنان متقابلان ليس أحدهما متيقّناً بالاضافة إلى الآخر. نعم وجود الجامع متيقّن لا يجري فيه الأصل ، إلاّ أن جريان الأصلين في الفردين بنحو العدم المحمولي منافٍ للقطع بوجود الجامع أيضاً كما عرفت (٢).

ولا يخفى أنّ هذه الشبهة أعني شبهة إرجاع مسألة الأقل والأكثر إلى مسألة التباين ، بدعوى كون الأقل مأخوذاً لا بشرط القسمي والأكثر مأخوذاً بشرط شيء وهما لحاظان متباينان داخلان تحت اللاّ بشرط المقسمي ، هي شبهة المحقّق صاحب حاشية المعالم قدس‌سره وقد تقدّم الكلام عليها وعلى الجواب عنها في مباحث الأقل والأكثر (٣) فراجع. والسيّد وكلّ من وافقه في هذه المسألة ـ أعني مسألة تردّد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٨.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٥٠.

(٣) راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : ٢٦٩.

٣٠٣

النجاسة بين الدم والبول ـ على عدم جريان أصالة العدم في ناحية الدم كشيخنا قدس‌سره والمرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم قدس‌سره لم يعتمدوا على الشبهة المذكورة ، فلا يتّجه الإيراد على السيّد بما هو مبني على هذه الشبهة ، هذا.

مضافاً إلى أنّه هو أيضاً ممّن تصدّى لدفع تلك الشبهة في مباحث الأقل والأكثر ، فراجع ما أفاده في الجزء الأوّل ص ٢٦٥ من مباحث الأقل والأكثر ، فإنّه ذكر هناك شبهة عدم الانحلال الراجعة إلى دعوى أنّ المعلوم تفصيلاً إنّما هو وجوب الأقل بنحو اللاّ بشرط المقسمي ـ الذي هو الجامع بين الأقل على نحو اللاّ بشرط القسمي والأقل على نحو البشرط شيء ـ لا يوجب الانحلال ، لتباين الماهية لا بشرط القسمي مع الماهية على نحو البشرط شيء.

وأجاب عنها بما هذا لفظه : أنّ الاعتبار اللاّ بشرطي ( يعني القسمي ) والاعتبار البشرط شيء وإن كانا متقابلين ، إلاّ أن تقابل الاعتبارات لا يقتضي تقابل ما له الاعتبار ، ولذا اشتهر أنّ الماهية اللاّ بشرط شيء يجتمع مع ألف شرط ، ومن المعلوم أنّ ذات الماهية اللاّ بشرط هي الواجبة بالحمل الشايع لا بما لها من الاعتبار ، وهذه الذات معلومة الوجوب تفصيلاً الخ (١) فإذا كانت ذات الغسلة الواحدة المردّدة بين اللاّ بشرط والبشرط شيء فيما نحن فيه معلومة تفصيلاً فكيف يمكن نفيها بالأصل كي يكون أصالة عدم الدم معارضاً لأصالة عدم البول ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : الظاهر أنّه لا فرق في عدم جريان الأصل في طرف الأقل بين التردّد بين الدم والبول على نحو الشبهة الموضوعية ، وبين كون التردّد على نحو الشبهة الحكمية ، بأن يحصل لنا الشكّ في أنّ هذه النجاسة ـ أعني نجاسة الخمر ـ

__________________

(١) نهاية الدراية ٤ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

٣٠٤

هل تحتاج إلى غسلتين أو يكفيها الغسلة الواحدة.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : مدفوعة بأنّ أثر الدم ليس وجوب الغسل المجامع مع جواز الاكتفاء وعدم جواز الاكتفاء فإنّه أثر الجامع الخ (١) ، لعلّه مناف لما تقدّم منه في قوله : بيانه أنّه أثر النجاسة الجامعة بين جميع أنحاء النجاسات الخ ، فإنّ ذلك الكلام كان مفاده هو أنّ أصالة عدم الدم يترتّب عليها عدم الجامع ولو من ناحيته ، ولأجل ذلك يكون معارضاً لأصالة عدم البول. نعم لعلّ مناقشته في هذه الجملة الأخيرة أعني قوله : مدفوعة الخ ، متّجهة إلى الأثر الخاصّ بالدم ، وأنّه داخل في أثر البول أو لا.

فائدة : قال الشيخ قدس‌سره في بيان القسم الثاني من استصحاب الكلّي : وأمّا الثاني فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلّي مطلقاً على المشهور. نعم لا يتعيّن بذلك أحكام الفرد الباقي ، سواء كان الشكّ فيه من جهة الرافع كما إذا علم بحدوث البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة وجب الجمع بين الطهارتين ، فإذا فعل إحداهما وشكّ في رفع الحدث فالأصل بقاؤه ، وإن كان الأصل عدم تحقّق الجنابة ، فيجوز له ما يحرم على الجنب ، أم كان الشكّ من جهة المقتضي (٢). ومثّل لذلك بالبقّة والفيل ، وقد عرفت أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير ينحو هذا المنحى.

ولا يخفى أنّ من خرج منه البلل المردّد بين البول والمني إن كانت حالته السابقة المعلومة لديه هي الطهارة من الحدثين ، كانت حالته الفعلية بعد خروج ذلك البلل مردّدة بين الحدثين ، فيكون داخلاً فيما نحن بصدده. ولا ينبغي

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٤٩.

(٢) فرائد الأُصول : ٣ : ١٩١ ـ ١٩٢.

٣٠٥

إخراجه ، إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره من قوله : ولم يعلم الحالة السابقة ، هو أنّه لم يعلم أنّ حالته السابقة كانت هي أحد الحدثين ، وحينئذ يكون شاملاً لمن علم أنّ حالته السابقة هي الطهارة من الحدثين ، ولكنّه تكلّف بعيد عن ظاهر العبارة. نعم لو كانت حالته السابقة المعلومة لديه هي الحدث الأكبر ، لم يكن لخروج ذلك البلل المردّد أثر ، ولا يكون حينئذ من قبيل التردّد بين الحدثين. ولو كانت حالته السابقة هي الحدث الأصغر ، كان أيضاً خارجاً عمّا نحن فيه من القسم الثاني ، وكان داخلاً في القسم الثالث ، على تأمّل وتفصيل يأتي التعرّض له في القسم الثالث إن شاء الله تعالى.

وحينئذ يكون القسم الثاني شاملاً لمن كانت حالته السابقة المعلومة هي الطهارة من الحدثين ، ولمن لم تكن حالته السابقة معلومة لديه ، فإن كلاً منهما تكون حالته الفعلية بعد خروج ذلك البلل المردّد مردّدة بين الحدثين ، وحينئذ فبعد البناء على وجوب الوضوء على المحدث بالأصغر ووجوب الغسل على المحدث بالأكبر ، كما هو ظاهر الآية الشريفة ، أعني قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) ـ إلى قوله تعالى ـ ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(١) وكما هو مفروض كلام الشيخ قدس‌سره حيث إنّه أوجب الجمع بين الطهارتين ، وظاهره هو فرض حصول العلم الاجمالي قبل الوضوء.

وحينئذ نقول : إنّه في ذلك الحال ـ أعني حال ما قبل الوضوء ـ قد تنجّز عليه بواسطة العلم الاجمالي كلّ من حرمة مسّ المصحف ووجوب الوضوء ووجوب الغسل وحرمة اللبث في المساجد ، وليس المقام بالقياس إلى هذا الأخير ـ أعني حرمة اللبث ـ من قبيل الأقل والأكثر كما شرحناه غير مرّة ، وبعد أن

__________________

(١) المائدة ٥ : ٦.

٣٠٦

توضّأ تبقى البواقي على تنجّزها من دون حاجة إلى استصحاب الكلّي.

نعم ، لو لم يحصل له ذلك العلم الاجمالي إلاّبعد أن فرغ من الوضوء ، لم يكن العلم الاجمالي المذكور مؤثّراً ، لكونه بعد تلف بعض الأطراف ، وينحصر الأمر حينئذ بالرجوع إلى استصحاب كلّي الحدث القاضي بترتيب آثار القدر الجامع ، وهي حرمة مسّ المصحف والمنع من الدخول في الصلاة ، ولا يسوغ له ذلك إلاّبعد الغسل ، فلا يكون إيجاب الغسل عليه إلاّمن باب تحصيل إحراز الشرط في الصلاة ، لا من باب أنّ استصحاب كلّي الحدث يقتضيه ، ولا من باب العلم الاجمالي.

أمّا حرمة اللبث فالمرجع فيها هو البراءة أو أصالة عدم الجنابة القاضي بعدم وجوب الغسل وعدم حرمة اللبث ، وهذا لا ينافي لزوم الغسل عليه من باب تحصيل إحراز شرط الصلاة ، كما أنّه لا ينافي استصحاب كلّي الحدث بعد فرض أنّه قد صدر منه الوضوء على ما عرفت الوجه فيه. هذا كلّه على تقدير القول بوجوب الوضوء ووجوب الغسل.

أمّا على تقدير القول بعدم ذلك وأنّه ليس في البين إلاّكونهما رافعين ، فقد تقدّم تفصيل الكلام فيه فراجع (١). والذي تلخّص : أنّه بناءً على عدم وجوب الغَسل مرّة أو مرتين وعدم وجوب الوضوء أو الغسل لا يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الدم أو أصالة عدم البول ، أو أصالة عدم الحدث الأصغر أو أصالة عدم الحدث الأكبر ، لأنّ هذه الخصوصيات حينئذ لا أثر لها ، وإنّما الأثر للكلّي ، فلا يجري إلاّ استصحاب كلّي النجاسة أو استصحاب كلّي الحدث. نعم يجري استصحاب عدم الجنابة في نفي أثرها المختصّ بها ، وهو حرمة اللبث في

__________________

(١) راجع الصفحة : ٢٩٤ وما بعدها.

٣٠٧

المسجد ، ولا منافاة بينها وبين استصحاب كلّي الحدث بعد فرض ارتفاع الأصغر بالوضوء.

لا يقال : يكفي في أصالة العدم في كلّ من هذه الأُمور نفي أثرها الوضعي وهو الارتفاع بالغسلة الواحدة أو الغسلتين أو الوضوء أو الغسل.

لأنّا نقول : لا أثر لنفي مثل الدم إلاّنفي أثره وهو الارتفاع بالغسلة الواحدة وهذا الأثر لا يكون انتفاؤه عند انتفاء الدم بأصالة العدم إلاّعلى نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا أثر لها في رفع الشكّ في هذا الفرد من النجس المردّد بين الدم والبول ، وهذا إشكال آخر غير إشكال مفاد ليس الناقصة وليس التامّة ، إذ لو فرضنا أنّ الأثر هو وجوب الغسل مرّة ، لقلنا إنّ نفي وجود الدم ولو بمفاد ليس التامّة كافٍ في نفي ذلك الوجوب عن عاتق المكلّف ، بخلاف ما لو كان الأثر هو كونه يرتفع بالغسل مرّة ، فإنّه ليس في البين شيء على عاتق المكلّف حتّى يكون نفي الدم نافياً له عن عاتق المكلّف ، وإنّما هو ذلك الحكم الوضعي ، أعني ارتفاع نجاسة الدم بالغسلة الواحدة ، ونفيه بانتفاء موضوعه لا يكون إلاّمن قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، التي لا تكون منشأ لشيء من الآثار.

قوله : ففي مثال الحدث يحرم مسّ المصحف لاستصحاب بقاء الحدث ويجب الغسل للعلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو الغسل ، والمفروض أنّ المكلّف قد توضّأ فيبقى عليه الغسل مقدّمة للعلم ... الخ (١).

الآثار في باب الحدث ثلاثة : الأوّل حرمة مسّ المصحف ، وهذا تابع لكلّي الحدث ، لا لخصوص أحد الحدثين ولا لكلّ منهما بخصوصه. الثاني : الغسل والوضوء ، والأوّل تابع لحدث الجنابة ، والثاني تابع للحدث الأصغر. الثالث :

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٠.

٣٠٨

حرمة اللبث في المسجد ، وهو تابع لخصوص حدث الجنابة دون الحدث الأصغر ، فعند العلم الاجمالي بأحد الحدثين وقبل العلم بارتفاع أحدهما ، يعني قبل فعل أحد الأمرين من الغسل أو الوضوء ، تتنجّز هذه الآثار الثلاثة كلّها.

أمّا الأوّل وهو حرمة مسّ المصحف فللعلم التفصيلي. وأمّا الثاني وهو كلّ من الغسل والوضوء فللعلم الاجمالي. وكذلك الثالث وهو حرمة اللبث في المسجد ، فإنّه بعد أن كان حرمة مسّ المصحف متنجّزاً بالعلم التفصيلي ، يبقى العلم الاجمالي مردّداً بين الجنابة وأثرها كلّ من وجوب الغسل وحرمة اللبث في المسجد ، والحدث الأصغر وأثره وجوب الوضوء فقط ، فيكون من قبيل الدوران بين ذي الأثرين وذي الأثر الواحد ، مع فرض عدم دخول الواحد في الاثنين ، فلا يكون من قبيل الأقل والأكثر ، بل يكون من قبيل المتباينين ، فيتنجّز عليه كلّ من الغسل وحرمة اللبث في المسجد والوضوء ، هذا حاله قبل فعل أحد الأمرين من الغسل أو الوضوء.

وأمّا بعد فعل الوضوء مثلاً فبالنسبة إلى الأثر الأوّل وهو حرمة مسّ المصحف يجري استصحاب كلّي الحدث الموجب لحرمة المسّ ، فيكون تركه لمسّ المصحف مستنداً إلى ثبوت الحدث في حقّه بواسطة الاستصحاب المذكور ، لا إلى احتمال كونه محدثاً بالجنابة الذي كان منجّزاً عليه بالعلم الاجمالي السابق ، وأمّا بالنسبة إلى وجوب الغسل فلا يجري الاستصحاب المذكور ، إذ لا يكون ذلك الاستصحاب حاكماً بأنّ إتيانه بالغسل بداعي الجنابة ، بل إنّه إنّما يأتي به بداعي احتمال الجنابة ، وهذا متحقّق وجداناً بواسطة العلم الاجمالي السابق ، فلا يكون الاستصحاب جارياً بالنسبة إلى هذا الأثر ، وهكذا الحال بالنسبة إلى حرمة اللبث في المسجد ، فإنّ العلم الاجمالي السابق كافٍ في

٣٠٩

تنجّزه ، هذا كلّه لو كان علمه الاجمالي سابقاً على الاتيان بالوضوء.

وأمّا لو كان حصول علمه الاجمالي بعد أن فرغ من الوضوء ، فبالنسبة إلى الأثر الأوّل وهو حرمة مسّ المصحف يجري استصحاب كلّي الحدث ، وبالنسبة إلى الأثر الثالث وهو حرمة اللبث في المسجد تجري البراءة ، لعدم منجّزية العلم الاجمالي المتأخّر عن ارتفاع أحد الطرفين. أمّا بالنسبة إلى الأثر الثاني وهو وجوب الغسل ، فالعلم الاجمالي وإن لم يكن موجباً لتنجّزه ، لأنّ المفروض حصول هذا العلم بعد الوضوء الذي هو بمنزلة تلف أحد طرفي العلم الاجمالي ، إلاّ أنّه يكفي في لزوم الاتيان به لزوم إحراز الطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة ، فيكون متنجّزاً من هذه الجهة ، فيكون حاله حال ما لو كان العلم سابقاً في عدم جريان استصحاب كلّي الحدث بالنسبة إلى هذا الأثر ، وذلك بناءً على شرطية الطهارة.

وأمّا بناءً على كون الحدث مانعاً فيمكن القول بأنّه لا يجب عليه الغسل لأصالة عدم الجنابة ، ولا يعارضها أصالة عدم الأصغر ، لأنّ المفروض هو حصول العلم الاجمالي بعد الوضوء ، ولكن استصحاب كلّي الحدث قاض بأنّه لا يصحّ له الصلاة لكونه قد أحرز المانع. وهذا التفصيل مبني على كون الغسل والوضوء واجبين ، وإلاّ فقد عرفت التفصيل على تقدير عدم وجوبهما وأنّهما من مجرّد الرافع فلاحظ ، هذا كلّه بالنسبة إلى مسألة الحدث المردّد بين الجنابة والحدث الأصغر.

وأمّا بالنسبة إلى الوجوب المردّد بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، فقبل الاتيان بأحدهما يلزمه الاتيان بهما للعلم الاجمالي ، وبعد الاتيان بأحدهما يلزمه الاتيان بالباقي ، لا للاستصحاب بل للعلم الاجمالي ، ولو كان العلم الاجمالي

٣١٠

حادثاً بعد فعل أحدهما فلا أثر له في لزوم الاتيان بالباقي ، وهل يجري استصحاب كلّي الوجوب المردّد بين الوجوبين؟ فيه تأمّل وإشكال ، إذ لا أثر في البين يترتّب على القدر الجامع بين الوجوبين ، وعليه فينبغي أن يكون المرجع هو البراءة من وجوب الباقي ، ويكون حاله حال من علم بنجاسة أحد الاناءين بعد تلف أحدهما ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إحراز ترتّب العصر على سابقتها لازم ، فيلزمه الاتيان بالباقي لأجل إحراز الشرط المذكور ، فتأمّل فإنّه كالعلم الاجمالي الأصلي.

قوله : وأمّا مثال البقّة والفيل فلا يجري فيه استصحاب بقاء القدر المشترك عند العلم بانتهاء عمر البقّ ، لأنّه من الشكّ في المقتضي ، وقد تقدّم عدم جريان الاستصحاب فيه ... الخ (١).

قد تقدّم في محلّه (٢) النقض على القول بعدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي باستصحاب الحياة في مورد الشكّ في استعداد الشخص ، وقد أجبنا عن ذلك في محلّه بما محصّله : أنّ العرف لا يرى الموت إلاّمعدماً ورافعاً للحياة ، وإن كان بالدقّة في بعض الموارد من قبيل انتهاء الاستعداد الطبيعي ، ولكن ذكرنا في بعض تحريراتنا في أوائل المعاطاة عند الكلام على أصالة اللزوم إشكال العلاّمة الخراساني قدس‌سره في حاشيته (٣) على استصحاب القدر الجامع بين الملكيتين ، بأنّه من قبيل الشكّ في المقتضي ، وقلنا إنّه ليس من ذلك القبيل ، وأنّ شيخنا قدس‌سره سلّم الإشكال في القسم الثاني من الكلّي في مثال البقّة والفيل ، وأنّه يمكن التأمّل في ذلك حتّى في مثل البقّة والفيل ، فإنّ استصحاب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(٢) الصفحة : ٢٧ فما بعدها.

(٣) حاشية كتاب المكاسب : ١٣.

٣١١

القدر المشترك ليس من قبيل الشكّ في المقتضي ، وإلاّ لكان استصحاب الحياة ساقطاً من أصله ، أو يكون مختصّاً بخصوص ما لو طرأ الشكّ لحدوث حادث غير انتهاء العمر الطبيعي كالقتل ونحوه.

وفي هذا الأخير ما لا يخفى ، إذ لا شكّ في جريان استصحاب الحياة في الشخص مطلقاً ، سواء كان الشكّ ناشئاً عن وقوع القتل عليه أو كان ناشئاً عن الموت العادي ، فإنّ الموت العادي لابدّ أن يكون ناشئاً عن حدوث شيء في الطبيعة يكون موجباً لاعدام الحياة ، وليس الموت العادي من قبيل انتهاء علّة الحياة نظير النفط بالنسبة إلى السراج حتّى بالنسبة إلى البقّة نفسها ، وما يذكره علماء الطب أو الطبيعة كلّه تخرّص لا عبرة به ، بعد اطّلاعنا على الكثير ممّن بقي ويبقى إلى ما شاء الله تعالى ، كما في كثير من المعمّرين ، بل مثل الخضر والمهدي ( عجّل الله تعالى فرجه ) ، نعم الكثرة والغلبة حاصلة في ذلك الجانب ، على وجه توجب العلم العادي بعدم بقاء الحياة إذا تجاوزت المدّة ما هو الأكثر من المقدار العادي الغالب بالنسبة إلى نوعه ، لكن تلك الكثرة لا توجب كون الموت من قبيل انتهاء قوّة الحياة.

وحينئذ نقول : إنّ أفراد الإنسان مثلاً متفاوتة ، فبعضهم نراه يعيش إلى ما فوق المائة ، وبعض يعيش إلى ما دون المائة ، فلو غاب شخص ونحن نعلم أنّه حتّى الآن قد بلغ المائة أو لم يزد على المائة من عمره ، فلا شبهة في جريان استصحاب حياته ، مع أنّا لو قلنا بأنّ الموت العادي من قبيل انتهاء أمد الحياة وانتهاء العمر والاستعداد الطبيعي له نظير النفط بالنسبة إلى السراج ، لكان الشكّ في حياته في [ هذه ] الصورة من قبيل الشكّ في المقتضي. نعم لو بقي إلى مدّة طويلة تزيد على المائة يحصل لنا العلم العادي بموته ، يعني بحدوث ما أوجب

٣١٢

انعدام حياته ، فتأمّل.

وبناءً على ذلك نقول : إنّه في مثال البقّة والفيل وإن كنّا نعلم عادة بأنّه لو كان بقّة لكان منعدم الحياة بعد الثلاثة ، نظراً إلى العلم العادي المذكور ، لكن لمّا لم يكن انعدام حياته بانتهاء القوّة والأمد بل بالعوارض الطارئة حتّى على مثل البقّة بعد الثلاثة ، لم يخرج عن كون انعدام حياته بالطوارئ الرافعة للحياة حتّى في مثل البقّة ، فلا يكون الشكّ في بقاء الكلّي المشترك بينهما من قبيل الشكّ في المقتضي فتأمّل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الذي يظهر من الشيخ قدس‌سره (١) تسليم كون مثال البقّة والفيل من قبيل الشكّ في المقتضي ، وفي كلامه الاشارة إلى أنّ إدخاله في مسألة استصحاب الكلّي المردّد فرده بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع إنّما هو على مسلك المشهور كما تقدّم نقل كلامه قدس‌سره فراجع ، وراجع ما حرّرناه أخيراً في أوائل الاستصحاب (٢) في ضابط الشكّ في المقتضي.

قوله : لأنّ المتيقّن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنّما الترديد في المحل والموضوع ، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، وليس من استصحاب الكلّي ، ومنه يظهر ... الخ (٣).

الإنصاف أنّه لم يظهر الجواب عن المسألة (٤) ، بل إنّ ما أُفيد بقوله : لأنّ

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ١٩٢.

(٢) في الصفحة : ٢٧ فما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٢.

(٤) ينبغي التأمّل في من رأى على ثوبه منياً وتردّد بين كونه من الجنابة السابقة التي

٣١٣

المتيقّن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه وإنّما الترديد في المحل ، تقريب قوي لإجراء الاستصحاب ، فإنّ المستصحب حينئذ هو نفس ذات زيد ، وكونها في الجانب الشرقي أو الجانب الغربي أجنبي عن حقيقة الذات ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه مثير للشكّ في بقاء تلك الذات ، وما أُفيد من قوله : فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع ... ، لم نعرف وجه الشبه فيه ، مع أنّ المشابهة لا تقتضي الالحاق في الحكم إلاّبعد تأتّي نفس الملاك ، ومن الواضح أنّ ملاك المنع في الفرد المردّد لا ينطبق على الذات المتيقّنة ، أو النجاسة المتيقّنة في الثوب المردّدة بين كونها في الأعلى وكونها في الأسفل.

وقد نقلنا عنه قدس‌سره في مسألة العباءة ما هذا نصّه : وهو أنّ المتيقّن في هذه المسألة من قبيل الكلّي في المعيّن المردّد بين تلك الأطراف ، ومن الواضح أنّ قوام الكلّي في المعيّن إنّما هو بحفظ الأفراد التي كان ذلك الكلّي مردّداً بينها ، فإذا زال أحد تلك الأطراف فقد زال ذلك الكلّي ، فمن علم أنّ درهماً من تلك الدراهم العشرة التي هي عنده مثلاً مغصوب ، ثمّ تلف أحد تلك الدراهم ، لم يمكنه استصحاب وجود ذلك الدرهم في الباقي ، حيث إنّ المتيقّن إنّما هو الفرد المردّد بين العشرة دون التسعة ، فإنّ هذه التسعة من أوّل الأمر لم يتيقّن بوجود

__________________

اغتسل لها ، أو أنّه من جنابة جديدة ، فهل هو من هذا القبيل أعني التردّد في المحل ، أو أنّه من قبيل الشكّ في المقدّم والمؤخّر من الحادثين ، أو أنّه من قبيل الدم المردّد بين كونه من الدم المسفوح أو الباقي في الذبيحة ، راجع العروة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٥٠١ / غسل الجنابة مسألة ١. ] وطهارة المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره [ مصباح الفقيه ( الطهارة ) ٣ : ١٦٨ وما بعدها. ] وما حرّرناه بعنوان تنبيه في مبحث الحادثين المجهولي التاريخ أو المعلوم أحدهما [ منه قدس‌سره راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٢٤ وما بعدها ].

٣١٤

المغصوب بينها ، انتهى.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ الفرد المردّد بين الأفراد غير مسألة الكلّي في المعيّن ، وسواء كان من قبيل الكلّي في المعيّن أو كان من قبيل الفرد المردّد بين الأفراد ، لا مانع من جريان الاستصحاب لذلك الفرد الموجود بين تلك الأفراد ، أو لذلك الكلّي في المعيّن ، وليس الغرض من الاستصحاب هو استصحاب المغصوب في التسعة كي يتوجّه عليه أنّ وجوده في التسعة مشكوك من أوّل الأمر ، بل الغرض هو مجرّد الحكم ببقاء ما كان من تلك الأفراد مغصوباً أو كان نجساً منها ، وبناءً عليه فلا مانع من استصحاب كلّي النجاسة التي كانت موجودة في العباءة بعد تطهير أحد طرفيها.

لكنّه يلزم منه ما لا يخلو من الغرابة ، فإنّ ملاقي ما لم يجر عليه التطهير من أطرافها لا إشكال في عدم نجاسته ، لأنّ ملاقاة أحد أطراف الشبهة لا يوجب نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ وحينئذ فلو لاقى بعد ذلك الطرف الذي جرى عليه التطهير [ فلابدّ ] أن يحكم بنجاسته ، فتكون ملاقاة الطاهر موجبة للحكم بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ. وأغرب منه ما لو كان العلم الاجمالي قد حصل بعد تطهير الطرف الأسفل ، فإن ضمّ ملاقاة ما هو مقطوع الطهارة إلى ملاقاة ما هو مجرى القاعدة كيف يكون موجباً للنجاسة.

ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إنّما هو كلّي النجاسة في العباءة ، وأمّا نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ فإنّما هي من آثار كون الملاقى ـ بالفتح ـ نجساً ، وهذه الجهة أعني كون الملاقى ـ بالفتح ـ نجساً لا تترتّب على استصحاب كلّي النجاسة في العباءة إلاّبالأصل المثبت.

والحاصل : أنّ نجاسة هذه العباءة ليست من آثار كلّي النجاسة ، فلا يترتّب

٣١٥

على استصحاب كلّي النجاسة في العباءة كي يثبت بذلك الحكم بنجاسة ملاقي العباءة إلاّبالأصل المثبت.

وبالجملة : أنّ ثبوت كلّي النجاسة في العباءة بالاستصحاب يلزمه ما هو موضوع نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أعني اتّصاف العباءة بكونها نجسة ، لا أنّ اتّصاف العباءة بالنجاسة هو عين المستصحب الذي هو كلّي النجاسة في العباءة.

وبتقريب آخر : أنّ تنجّس الملاقي ـ بالكسر ـ تابع للنجاسة الشخصية في الملاقى ـ بالفتح ـ الذي هو العباءة ، دون كلّي النجاسة ، لأنّ الملاقاة إنّما تكون في الشخص لا في نفس الكلّي. نعم يلزم الحكم ببقاء الكلّي كون الشخص نجساً لا أنّه عينه ، ولعلّ هذا هو المراد ممّا حكاه عنه قدس‌سره في التقرير المطبوع في صيدا بقوله : وأمّا نجاسة الملاقي فهي مترتّبة على أمرين : أحدهما إحراز الملاقاة.

وثانيهما : إحراز نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، ومن المعلوم أنّ استصحاب النجاسة الكلّية المردّدة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقّق ملاقاة النجاسة الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي ، والمفروض أنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما (١).

وأمّا ما أفاده قبيل هذه العبارة بقوله : لعدم أثر شرعي مترتّب عليها ، إذ عدم جواز الدخول في الصلاة وأمثاله إنّما يترتّب على نفس الشكّ بقاعدة الاشتغال ، ولا يمكن التمسّك بالاستصحاب في موردها (٢). ففيه تأمّل ، لأنّ هذا إنّما يتمّ لو كان العلم الاجمالي قد حصل قبل تطهّر الأسفل ، فإنّ قاعدة الطهارة حينئذ في الأعلى تكون ساقطة ، ومقتضى عدم العلم بالطهارة هو المنع من دخوله في

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٩٥.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٩٤.

٣١٦

الصلاة لعدم إحراز الشرط ، فعدم إحراز الشرط موجب وجداناً لعدم جواز الدخول في الصلاة ، فيكون استصحاب النجاسة الذي لا يترتّب عليه في المقام إلاّ مجرّد المنع من الدخول في الصلاة من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. أمّا لو كان هذا العلم الاجمالي قد حصل له بعد غسله الطرف الأسفل من باب الاتّفاق ، فلا إشكال في ترتّب الأثر على استصحاب كلّي النجاسة ، فإنّه لولا استصحاب النجاسة في العباءة المذكورة لكانت قاعدة الطهارة جارية فيها ، وهي مسوغة للدخول في الصلاة فيها ، وحينئذ فيكون أثر استصحاب النجاسة هو المنع من الدخول في الصلاة ، وهو كاف في جريان الاستصحاب المذكور ، وإنّما يكون الاستصحاب المذكور ممنوعاً إذا لم يكن في البين ما يسوّغ الدخول في العمل ، كما في الصورة الأُولى ، وكما في موارد الشكّ في إطلاق الماء وإضافته بالنسبة إلى الوضوء فيما لو كان الماء مستصحب الاضافة ، لأنّ هذا الاستصحاب لو لم يكن موجوداً لكان الوضوء من ذلك المائع ممنوعاً منه ، لعدم إحراز الشرط فيه الذي هو إطلاقه. على أنّ المنع من الاستصحاب المذكور ممنوع ، لأنّ أثره هو ترك الوضوء استناداً إلى إحراز عدم الشرط ، وهو غير تركه لعدم إحراز الشرط ، وإنّما يمنع من إجراء الاستصحاب في موارد أصالة الاشتغال إذا لم يترتّب عليه إلاّ نفس ما يجري عليه المكلّف عند الركون إلى أصالة الاشتغال ، وهو العمل الاحتياطي ، فراجع المسألة في باب الاشتغال.

والذي تلخّص : أنّ مثال الحيوان الشخصي الذي دخل الدار وتردّد مكانه بين الغرفتين ، وكذلك الدرهم الواحد المغصوب الموجود بين الدراهم ، ليس من قبيل استصحاب الكلّي ، ولا من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، بل إنّ المستصحب فرد واحد شخصي قد وجد ونشكّ في انعدامه ، فلا ينبغي الإشكال

٣١٧

في استصحاب بقاء ذلك الدرهم المغصوب بين الدراهم ، مع قطع [ النظر ] عن كون الخلط موجباً للاشاعة ، ومع قطع النظر عن معارضة استصحاب بقاء ذلك الدرهم باستصحاب بقاء الواحد من الدراهم التي انضمّ إليها. وهكذا الحال في استصحاب بقاء ذلك الحيوان الشخصي الذي دخل تلك الدار ، وقد شكّ في أنّ محلّه في تلك الدار كان هو الغرفة التي انهدمت أو أنّه هو الغرفة التي لم تنهدم ، وما ذلك إلاّمن قبيل ما لو علمنا بأنّ زيداً لو كان قد دخل ميدان الحرب فقد قتل ، ولو لم يدخله فهو حي باق ، ولا شكّ في مثل ذلك في استصحاب حياة ذلك الشخص المعيّن أعني زيداً المذكور.

أمّا النجاسة الواقعة على أحد طرفي العباءة فتارة يكون المنظور إليه في ذلك هو نفس تلك القطرة من الدم التي رأيناها قد وقعت على العباءة وتردّدنا في محلّها ، وأُخرى يكون المنظور إليه أنّ أحد طرفي العباءة قد تنجّس بتلك القطرة.

فإن كان المنظور إليه هو الجهة الأُولى ، كان حالها حال الأمثلة السابقة في جريان استصحاب وجود عين تلك القطرة في العباءة ، فبعد غسل الطرف الأسفل من العباءة نشكّ في بقاء عين تلك القطرة ، فنستصحب بقاءها ، وأثر ذلك هو عدم جواز الصلاة فيها ، ويكون ذلك نظير ما لو علمنا بوقوع شعرة ممّا لا يؤكل لحمه على أحد طرفي العباءة وقد نقّينا الطرف الأسفل ، فإنّ استصحاب وجود تلك الشعرة قاض بعدم جواز الصلاة بتلك العباءة ، لكن في مسألتنا لو لاقت يدي الطرف الأعلى ثمّ لاقت الطرف الأسفل بعد تطهّره ، لم نحكم بنجاسة اليد ، إذ لم يثبت باستصحاب وجود تلك القطرة من الدم في العباءة أنّ يدي لاقت تلك القطرة إلاّبالأصل المثبت ، من جهة أنّ بقاء القطرة في العباءة بعد غسل الطرف الأسفل يلزمه بقاؤها في الأعلى وقد لاقت يدي الأعلى ، ولو قلنا بحجّية هذا

٣١٨

الأصل المثبت حكمنا بنجاسة اليد بمجرّد ملاقاة الأعلى ، ولا يتوقّف ذلك على ملاقاتها للطرف الأسفل الذي قد طهّرناه ، هذا كلّه لو كان المنظور إليه هو الجهة الأُولى.

وأمّا لو كان المنظور إليه هو الجهة الثانية ، فلا إشكال في أنّه لا يكون الاستصحاب حينئذ من قبيل استصحاب الشخص المعيّن ، بل لابدّ أن يكون المستصحب هو الكلّي ، أو الفرد من المتنجّس المردّد بين الأعلى والأسفل ، وأثر الكلّي هنا هو عدم جواز الصلاة في تلك العباءة لوجود كلّي المتنجّس فيها ، لكن لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة اليد المذكورة ، لعين ما ذكرناه في استصحاب وجود نفس تلك القطرة من الدم ، إذ بعد غسل الطرف الأسفل لا يترتّب على استصحاب كلّي المتنجّس كون المتنجّس هو الأعلى كي يثبت بذلك تنجّس اليد إلاّبالأصل المثبت. وكذلك الحال لو قلنا بصحّة استصحاب الفرد المردّد ، فإنّه لا يترتّب عليه الحكم بنجاسة اليد إلاّبالأصل المثبت.

وأمّا استصحاب كلّي النجاسة فيما نحن فيه فلا واقعية له ، إذ ليس في البين إلاّ نجاسة شخصية قد تردّدت بين الطرف الأعلى والأسفل ، من دون اختلاف في هوية الذات ، فلا قدر جامع في البين إلاّمطلق الجامع بين المكانين وهو لا أثر له ، فهذه المسألة ـ أعني مسألة التردّد في المتنجّس من العباءة بين الطرف الأعلى والطرف الأسفل ـ ليست من قبيل الأمثلة الأُولى في كون المعلوم شخصاً معيّناً ـ أعني ما هو مثل زيد ـ الذي دخل الدار وتردّدنا في مكانه فيها ليجري فيها استصحاب ذلك الشخص الموجود ، لأنّ ذلك ـ أعني زيداً المذكور ـ لم يكن الترديد فيه بين شخصين ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ المتنجّس فيه مردّد بين شخصين الطرف الأعلى والطرف الأسفل ، ومنشأ التشخّص فيهما ليس براجع إلى

٣١٩

نحو من التنجّس بحيث كان نحو هذا التنجّس مغايراً للنحو الآخر ، ليكون الجامع بينهما كلّي النجاسة ، بل إنّما كان منشأ التشخّص خصوصيات أُخر خارجة ، والجامع بين هذه الخصوصيات الخارجة لا أثر له كي يكون ذلك الجامع مورداً للاستصحاب.

وهذا البحث جار في جميع أطراف الشبهة المحصورة ، فلا يجري فيها استصحاب الكلّي لو حصل التطهير لبعض الأطراف ، سواء كان العلم الاجمالي سابقاً أو لاحقاً لذلك التطهّر. نعم فيما لو كان العلم الاجمالي سابقاً على التطهير ، منع فيما نحن فيه من الصلاة في تلك العباءة بعد تطهّر طرفها الأسفل ، فتأمّل.

لا يقال : لابدّ في كلّ علم إجمالي من قدر جامع بين الطرفين ليكون العلم بذلك القدر الجامع هو المنجّز ، ولأجل ذلك نقول : إنّ كلّ علم إجمالي يرجع إلى علم تفصيلي متعلّق بالقدر الجامع وشكّ يتعلّق بكلّ واحد من الأطراف ، وحينئذ نقول إنّ ذلك القدر [ الجامع ] يقع مورداً للاستصحاب بعد ارتفاع أحد الأطراف ، سواء كان العلم حادثاً قبل الارتفاع أو كان حادثاً بعده.

لأنّا نقول : فرق واضح بين القدر الجامع في باب العلم الاجمالي الذي ادّعينا أنّه معلوم بالتفصيل ، وبين القدر الجامع الذي نروم أن نجري الاستصحاب فيه ، فإنّ القدر الجامع في باب العلم الاجمالي يكتفى فيه بالجامع الانتزاعي من الطرفين ، وإن لم [ يكن ] في حدّ نفسه موضوعاً لحكم شرعي ، مثل القدر الجامع المنتزع من العلم الاجمالي المردّد بين كون هذا الاناء خمراً أو كون ذلك الاناء مغصوباً ، أو العلم الاجمالي المردّد بين كون المكلّف نفسه جنباً أو أنّه قد فاته صوم يوم من رمضان ، فإنّ العقل ينتزع منهما قدراً جامعاً يكون هو المتنجّز ، ولكن لو اتّفق أنّه قد اغتسل مثلاً ثمّ طرأ العلم المذكور ، لم يكن القدر الجامع

٣٢٠