أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

مدخلية تلك القيود ، ولا في كيفية دخله فيها من حيث العلّة المحدثة والعلّة المبقية ، وحيث لا يتصوّر الشكّ فيها في تلك الجهات لم يعقل أن تكون تلك الأحكام قابلة للشكّ في البقاء ، فلا يعقل أن يجري الاستصحاب فيها.

لا يقال : إنّ العقل وإن حكم بقبح الكذب الضارّ وأدرك أنّ للضرر مدخلية في حكمه بالقبح المذكور ، إلاّ أنه يحتمل أنّ الكذب عند انتفاء الضرر يكون قبيحاً أيضاً بملاك آخر غير ملاك الضرر ، فينشأ عن ذلك احتمال كونه حراماً أيضاً ، إذ معنى إدراك العقل واطّلاعه على ملاك حكمه أنّه حيث يحكم بالقبح لابدّ أن يكون مطّلعاً على ملاك حكمه ، أمّا بعد ارتفاعه فلا يلزم أن يكون العقل قاطعاً بعدم القبح ، وأقصى ما فيه هو أن لا يكون حاكماً بالقبح المجتمع مع احتمال القبح ، لا أن يكون حاكماً بعدم القبح غير المجتمع مع احتمال القبح ، وحينئذ يتولّد احتمال حرمة الكذب مع عدم الضرر.

لأنّا نقول أوّلاً : قد عرفت في المقدّمة الأُولى من مقدّمات حاصل كلام الشيخ قدس‌سره أنّ العقل لا يعقل أن يكون شاكّاً في حكمه ، فبعد ارتفاع الضرر لا يعقل أن يكون العقل شاكّاً في قبح الكذب.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّه يكون حينئذ شاكّاً لأجل احتماله ملاكاً آخر في القبح غير ذلك الملاك المرتفع وهو الضرر ، فنقول : إنّ ذلك الملاك المحتمل الموجب لقبح الكذب مع فرض عدم الضرر إن كان حادثاً عند ارتفاع الضرر ، كان الحكم الشرعي بحرمته حكماً آخر غير ذلك الحكم الشرعي الناشئ عن ملاك الضرر ، فلا يمكن الاستصحاب ، لأنّ المفروض أنّ ذلك الحكم بالحرمة على تقدير وجوده واقعاً هو حكم آخر غير الحكم السابق ، ولا تنفع المسامحة العرفية ، لأنّ تلك إنّما تؤثّر في ناحية الموضوع لا في ناحية اختلاف الحكم.

٢١

وإن كان ذلك الملاك الآخر موجوداً في حال وجود الضرر ، كان ذلك منافياً لما فرضناه من اطّلاعه على ملاك حكمه ، وأنّ ملاكه هو الضرر ، لأنّه لو كان هناك ملاك آخر يكون مقتضياً للقبح ، لم يكن العقل قد أدرك ملاك حكمه ، لأنّ ملاكه حينئذ هو الضرر مع ذلك الملاك الآخر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في صدق كونه مدركاً للملاك هو إدراك أنّ الضرر له المدخلية في القبح ، وإن كان من المحتمل أن يكون هناك ملاك آخر مع الضرر يكون موجباً للحكم بالقبح ، فعند ارتفاع الضرر يحتمل بقاء القبح ، فيكون موجباً لاحتمال بقاء الحكم الشرعي بالحرمة ، غاية الأمر أنّه في حال وجود الضرر يكون القبح بملاكين ، كما تكون الحرمة بملاكين ، وبعد ارتفاع الضرر يكون كلّ من القبح والحرمة بملاك واحد ، فيكون ذلك من قبيل الاختلاف في الشدّة والضعف ، وبه يتمّ الاستصحاب ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا كلّه مبني على أنّ ما أُفيد ثانياً راجع إلى دعوى أنّه مع فرض اطّلاع العقل على ملاك حكمه ، نحتمل بقاء الحرمة بملاك آخر غير الملاك الأوّل المحتمل ، كما هو الظاهر من هذا التقرير ومن التقرير المطبوع في صيدا (١) وممّا حرّرته عنه قدس‌سره في التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب (٢) وكما يظهر ذلك من الكفاية أيضاً (٣).

ولكن الذي يظهر ممّا حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام ، هو أنّ المراد ممّا أُفيد ثانياً هو أنّ العقل وإن أحرز أنّ ملاك حكمه هو الضرر ، وأنّ للضرر دخلاً في

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) مخطوط لم يطبع بعدُ.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٨٦.

٢٢

حكمه بالقبح ، ولكن العقل يحتمل أنّ مدخلية الضرر في الحكم بالقبح نظير مدخلية التغيير بالنجاسة في كونه بالنسبة إلى الحكم بالنجاسة من قبيل العلّة المُبقية ، فبعد ارتفاع الضرر يحتمل بقاء القبح ، فيكون محصّل الفرق بين ما أُفيد أوّلاً وما أُفيد ثانياً هو أنّ ما أُفيد أوّلاً راجع إلى عدم اطّلاع العقل على مدخلية الضرر في القبح ، غايته أنّ حكمه بقبح الكذب الضارّ من باب القدر المتيقّن ، وأنّ ما أُفيد ثانياً راجع إلى تسليم اطّلاع العقل على مدخلية الضرر في حكمه بالقبح ، لكنّه لا يعلم أنّ مدخليته فيه هي على نحو مدخلية التغيير في الحكم بالنجاسة ، أو هي على نحو العدالة في جواز الاقتداء ، وحينئذ يتمّ الاستصحاب ، ونحتاج إلى ما أُفيد من التسامح العرفي ، فتأمّل لأنّ هذا يرد عليه أيضاً إشكال عدم معقولية الشكّ في موضوع الحكم العقلي ، والأمر سهل لعدم الأثر العملي لهذه المسألة ، فأين الحكم العقلي المستقل ، وأين الحكم الشرعي الذي ينحصر دليله بذلك الحكم العقلي ، ثمّ بعد هذا كلّه أين الفرع الذي يحصل فيه الشكّ في البقاء ، كلّ ذلك لا وجود له في الفقه على الظاهر ، فلاحظ وتتبّع وتأمّل. هذا ما كنت حرّرته سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّا وإن كنّا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وقلنا بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، إلاّ أنا لم نلتزم باطّلاع العقل على جميع جهات الحسن والقبح ، إذ كثيراً ما حكم الشرع بوجوب شيء ولم يدرك العقل حسنه ابتداءً منه ، كما أنّه كثيراً ما حكم العقل بحرمة شيء ولم يدرك العقل قبحه ابتداءً منه.

وحينئذ فيمكن أن يدرك العقل قبح شيء في حال القيد الفلاني في حين أنّ فيه جهة أُخرى توجب قبحه لم يطّلع العقل عليها ، وفي هذه الصورة يجوز بقاء الحكم الشرعي بعد زوال ذلك القيد ، لأنّ زواله يوجب زوال القبح الناشئ من

٢٣

جهته ، دون القبح الناشئ عن الجهة التي لم يدركها العقل ، وعدم إدراك العقل القبح من تلك الجهة مع زوال ذلك القيد ليس معناه الحكم العقلي بعدم القبح ، بل ليس في البين إلاّعدم حكم العقل بالقبح ، فمع تمامية الاستصحاب من ناحية وحدة الموضوع عرفاً لا مانع من جريانه في الصورة المفروضة ، بأن يكون ذلك القيد بالنظر العرفي من قبيل علّة الحكم ، وإن كان بحسب النظر العقلي هو عنوان الحكم ومركبه وموضوعه ، إلاّ أنه قد تحقّق أنّ النظر العقلي غير معتبر في الاتّحاد المذكور.

ثمّ إنّ الشكّ في البقاء ليس من جهة أنّ تلك العلّة علّة محدثة أو علّة مبقية كي يقال إنّ العقل لا يشكّ في ذلك ، بل إنّما كان الشكّ في البقاء من جهة ما عرفت من احتمال وجود جهة موجبة للقبح الذي اطّلع عليه الشارع ولم يطّلع عليه العقل ، وأنّ تلك الجهة باقية بعد زوال ذلك القيد الذي أدرك العقل قبحه ، غايته أنّ الحكم الشرعي مع وجود ذلك القيد يكون بملاك أقوى منه مع انتفائه ، مع وحدة الحكم والموضوع عرفاً. أمّا احتمال تجدّد جهة توجب القبح بعد زوال ذلك القيد الذي أدركه العقل فلعلّه لا يصحّح الاستصحاب ، إذ الحكم حينئذ لا يصدق عليه البقاء ، بل هو من قبيل حدوث حكم جديد بعد زوال الحكم الأوّل ، إلاّ أن يدّعى الاتّحاد عرفاً ، وهو قابل للمنع ، فتأمّل.

وهذه الجهة ـ أعني احتمال كون ملاك الحكم الشرعي أعمّ ، وأنّ تلك الخصوصية التي قد ارتفعت كانت زائدة على أصل الملاك وإن كانت موجبة للقبح ، إلاّ أن الذي أدركه العقل من القبح هو الناشئ من تلك الجهة المرتفعة ـ هي الحجر الأساسي في جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، وهي التي أشار إليها في الكفاية بقوله : أو احتمال أن يكون معه

٢٤

ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً ، وإن كان لها دخل فيما اطّلع عليه من الملاك (١) ولعلّها هي المراد ممّا أفاده شيخنا قدس‌سره فيما حرّره في هذا التحرير بقوله : إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي الخ (٢) وأمّا باقي الجهات ممّا عبّر عنه في الكفاية بقوله : لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه (٣) ونحو ذلك ممّا ظاهره أنّ العقل يشكّ في ملاك حكمه ، وأنّ القدر المتيقّن هو الواجد لتلك الجهة التي ارتفعت ونحو ذلك ، فقد عرفت المنع منها ، وأنّ العقل لا يعقل أن يشكّ في موضوع ما حكم به.

ولكن مع ذلك كلّه فالاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل محل تأمّل ، لأنّ الحكم الشرعي وإن كان واحداً وإنّما يختلف بالشدّة والضعف لو كان له في البين ملاك آخر غير ذلك الملاك الذي أدركه العقل ، إلاّ أن المتيقّن الوجود منه هو بمقدار كاشفه ، وأمّا ما هو زائد عليه فلم يكن متيقّناً وذلك المقدار المتيقّن منه قد زال قطعاً.

وبعبارة أُخرى : أنّ المتيقّن من الحكم الشرعي المنكشف وجوده بالحكم العقلي إنّما هو حرمة الضرر أو الكذب المضرّ ، أعني الحرمة بلحاظ إضافتها إلى عنوان الكذب المضرّ أو عنوان نفس الضرر ، أمّا الحرمة بلحاظ إضافتها إلى نفس الكذب وإن لم يكن مضرّاً ، فهذه الجهة من الحرمة لم تكن متيقّنة ، وتلك الجهة المتيقّنة قد ارتفعت يقيناً.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بعد فرض كون الحكم واحداً ، وأنّه يختلف شدّة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٨٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٢٢.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٨٦.

٢٥

وضعفاً ، وقد علم بوجود مرتبة منه مردّدة بين الضعيفة والقوية ، فلو كانت هي الضعيفة المستندة إلى نفس الضرر فقد زال الحكم من أصله ، وإن كانت هي القوية المستندة إلى نفس الضرر وإلى نفس الكذب ، فقد بقي الحكم ولكن بالمرتبة الضعيفة المستندة إلى نفس الكذب (١) ، وحينئذ يمكن استصحاب نفس ذلك الحكم ، فلاحظ وتأمّل.

وينبغي أن يعلم أنّ الكلام في هذه المسألة إشكالاً وجواباً ليس منحصراً بدعوى الاختلاف في الشدّة والضعف ، بل يجري ذلك كلّه حتّى لو قلنا بعدم كون الاختلاف في الشدّة ، بل قلنا إنّ الحكم الناشئ عن ملاكه واحد من جميع الجهات وأنّه لا يختلف شدّة وضعفاً ، وأقصى ما في البين هو الاختلاف بالملاك ، وأنّه إن كان مقصوراً على الملاك الذي أدركه العقل وهو الضرر يكون ذلك الحكم ناشئاً عن ملاك واحد ، وإن كان له ملاك آخر وهو مجرّد الكذب كان الحكم ناشئاً عن ملاكين ، وعلى الأوّل يرتفع الحكم عند انتفاء الضرر ، بخلافه على الثاني ، ولعلّ هذا أسهل في جريان الاستصحاب من الاختلاف بالشدّة والضعف ، لكون الحكم بناءً على ذلك لا تعدّد فيه حتّى من ناحية الشدّة والضعف كي يقال إنّ المرتبة الشديدة لم تكن معلومة ، بخلاف ما لو قلنا بكونه بسيطاً فإنّه ينحصر التمسّك لعدم جريان الاستصحاب بدعوى التعدّد الاضافي ، فيقال : إنّ الحكم باضافته إلى ملاك الضرر هو المعلوم ، بخلاف جهة إضافته إلى نفس الكذب ، والحكم العقلي إنّما يكشف من ناحيته ، دون ما لم يكن من ناحيته ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكرناه من عدم قابلية الأحكام العقلية للشكّ في البقاء مبني على أنّه لا واقعية للحسن والقبح إلاّميل العقل ونفرته ، ومن الواضح أنّ هذا

__________________

(١) [ في الأصل نفس الضرر ، والصحيح ما أثبتناه ].

٢٦

المعنى لا يتصوّر الشكّ في بقائه من جهة ضرورة العلم بما هو منشؤه ، فإن كان موجوداً كان ذلك الميل أو تلك النفرة باقياً ، وإن ارتفع ارتفع ذلك الميل أو تلك النفرة ، ويكون حال الأحكام العقلية حينئذ حال التصويب الصرف ، فلا معنى لتخطئة بعض العقلاء بعضاً في تقبيح شيء أو تحسينه.

أمّا لو قلنا بأنّ قبح الفعل من الأُمور الواقعية كسائر الصفات اللاحقة للذوات ، غايته أنّ العقل يدرك ذلك القبح ويعبّر عن ذلك الإدراك العقلي بالحكم العقلي ، يكون حال هذه الأحكام حال التخطئة يصحّ لبعض العقلاء أن يخطّئ البعض فيه ، فذلك وإن كان في غاية البعد ، إلاّ أنه بناءً عليه يمكن أن يقال : بأنّ العقل ربما أدرك قبح الفعل الموصوف بالصفة الكذائية ولكنّه لم يدرك أنّ لتلك الصفة مدخلية في قبحه ، فهو يحتمل أنّ لها المدخلية ، ويكون حكمه بالقبح في حال تحقّق الصفة من قبيل القدر المتيقّن ، فحينئذ يمكن أن يطرأ الشكّ في البقاء على ذلك الحكم العقلي بعد ارتفاع تلك الصفة.

لكن مع ذلك أنّ الأمر يحتاج إلى التأمّل ، فإنّ المستصحب ليس هو نفس القبح الواقعي ، بل هو الحكم العقلي أعني إدراك العقل قبح الفعل ، وحينئذ يكون الإشكال بعدم قابلية الأحكام العقلية للشك باقياً بحاله.

وإن شئت قلت : إنّ القبح لون وصفة لاحقة لبعض الأفعال ، غايته أنّها تدرك بالعقل لا بالبصر ، وكما أنّه لا يمكن أن يتردّد البصر فيما هو معروض اللون الذي يحسّ به ، فكذلك العقل لا يمكن أن يتردّد في معروض تلك الصفة التي أدركها لاحقة للفعل الذي أدرك قبحه.

قوله : وتوضيح ذلك ... الخ (١).

إنّ ما أُفيد من محدودية العمر لعلّه لا وجه [ له ] لما حقّقناه في محلّه من أنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٢٦.

٢٧

مقتضى التركيب والأخذ في التنمية من الخارج والاعطاء بالفضلات [ أنّه ] قابل للبقاء ما دام الانتظام في الحياة ، وأنّ الموت لا يكون إلاّبطار وعارض دفعي أو تدريجي يكلّل بعض الأعضاء من تحميلها فوق ما تطيق ، فيحصل الخلل فيها ، ويسري الخلل إلى باقي الأعضاء إلى أن تنعدم حياة الجميع ، فلا يكون الموت إلاّ لعارض طار على الحياة ، لا أنّه مثل انتهاء النفط في السراج ، وبذلك دفعنا الإشكال عن استمرار حياة الخضر وحياة الحجّة ( عج ). وبذلك يتّضح أنّ استصحاب الحياة لا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي حتّى عند انتهاء العمر الذي نعيش إليه عادة ، بل هو دائماً من قبيل الشكّ في الطارئ الذي يهدم هذه الحياة ، فيكون من قبيل الشكّ في الرافع ، واختلاف الحيوانات في الأعمار إنّما هو من جهة اختلافها في التعرّض لتلك الطوارئ التي تقضي على الحياة تدريجاً.

وأمّا ما أفاده في الحكم الشرعي وأنّه محدود ، ففيه أنّه ليس جميع الأحكام كذلك ، بل لعلّ الغالب منها غير محدود ، غايته أنّه إذا حصل أمد مصلحتها يرفعها الشارع ، وعليه أوضحنا أنّ النسخ من قبيل الرفع ، فيكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في الرافع ، وإن أمكن كونه من قبيل الدفع ويكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المقتضي.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم المحدود أو المرفوع لابدّ أن تكون مصلحته إلى ذلك الحدّ ، لكن الشارع ربما يجعل الحكم محدوداً على طبق مصلحته ، وربما يكتفي بجعل الحكم ، وهو بطبعه يبقى لكنّه يرفعه عند انتهاء مصلحته ، فإن كان على النحو الأوّل كان النسخ من قبيل الدفع ، وإن كان الثاني كان النسخ من قبيل الرفع ، ويكون الشكّ في الأوّل من قبيل الشكّ في المقتضي ، وفي الثاني من قبيل الشكّ في الرافع.

٢٨

وهذان الوجهان جاريان في عقد التزويج ، إذ ربما كانت المصلحة وهي احتياج الزوج إلى الزوجة بمقدار سنة مثلاً ، لأنّه جاء إلى هذه البلدة ليبقى سنة فيها ، فهو تارةً يتزوّجها منقطعاً إلى مدّة سنة ، وأُخرى يتزوّجها دواماً ولكن يطلّقها عند انتهاء السنة ، وعلى الأوّل يكون الانتهاء من قبيل الدفع ، وعلى الثاني يكون من قبيل الرفع ، ويكون الشكّ في البقاء في الأوّل لاحتمال أنّه عقدها لأزيد من سنة مثلاً من قبيل الشكّ في المقتضي ، وعلى الثاني يكون الشكّ من قبيل الشكّ في الرافع عندما يشكّ في وقوع الطلاق منه عليها.

قوله : كما يشهد له التمثيل بالشكّ في بقاء البلد المبني على ساحل البحر ... الخ (١).

كون المثال من باب الشكّ في الرافع واضح ، ولعلّ من منع إجراء الاستصحاب فيه يستند في حجّية الاستصحاب إلى الظنّ ، وهو غير حاصل في البلد المذكور ، أو لعلّه يستند إلى عمل العقلاء ، ولم يثبت عملهم في أمثال هذه الموارد على البناء على البقاء.

قوله : وعلى الثاني فإمّا أن يعلم إرسال الحكم في الزمان بحيث يعمّ جميع الأزمنة ولو بمعونة مقدّمات الحكمة ، وإمّا أن لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون امتداد الحكم إلى زمان خاصّ وينقطع بعده ... الخ (٢).

يمكن أن يقال : إنّ استمرار الحكم في الزمان لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، بل إنّ طبع الحكم يقتضي البقاء حتّى يوجد له رافع كالنسخ أو تتحقّق له غاية مجعولة ، غايته أنّ الشكّ في الأوّل يكون من قبيل الشكّ في الرافع ، وفي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٢٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٢٨.

٢٩

الثاني من قبيل الشكّ في المقتضي ، نعم إذا ثبت عمومه الأزماني ينحصر الشكّ في زواله بالشكّ في الرافع ، دون الشكّ في الغاية.

ثمّ إنّ الغاية إذا كانت زماناً كان الحكم في مقام الثبوت ممّا يستحيل عليه الاهمال بالقياس إليها ، بل هو إمّا أن يكون مغيىً بها أو يكون مطلقاً بالقياس إليها ، ولأجل ذلك لا يكون الشكّ في مقام الغاية التي هي من قبيل الزمان إلاّشكّاً في المقتضي ، من دون فرق في ذلك بين كون المجعول الشرعي أحد الأحكام التكليفية ، أو كونه أحد الأحكام الوضعية المعبّر عنها بالمسبّبات. أمّا إذا كانت الغاية غير الزمان ففيها إشكال.

والذي يظهر من قوله فيما بعد : فإنّ الأمر الزماني الذي أُخذ غاية للحكم كما يكون غاية له يكون رافعاً أيضاً الخ (١) هو أنّ الشكّ فيها من قبيل الشكّ في الرافع.

ولكن يظهر ممّا حرّرته عنه قدس‌سره إجراء حكم الزمان عليها في كون الشكّ من قبيل الشكّ في المقتضي ، ببرهان استحالة الاهمال عليها في مقام الثبوت ، فإنّ الحكم إذا قيس إليها ، فإمّا أن يكون مقيّداً بها أو يكون مطلقاً بالقياس إليها ، فإذن يدور الأمر في الشكّ فيهما بين كون الحكم مطلقاً [ بالقياس ] إليها أو كونه مقيّداً بعدمها ، وحينئذ ينحلّ الشكّ فيها إلى الشكّ في المقتضي ، لكنّه قدس‌سره أفاد على ما حرّرته عنه أنّ ذلك ـ أعني استحالة الاهمال بالقياس إليها ـ إنّما هو في خصوص الأحكام التكليفية ، دون الأحكام الوضعية التي هي المسبّبات ، لإمكان كون المسبّب بالنسبة إلى ما هو غير الزمان مهملاً في مقام الثبوت ، بحيث إنّه لا يكون مقيّداً بعدمها ولا مطلقاً بالقياس إليها ، وحينئذ فينحصر اعتبارها بصورة الرافعية ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٠.

٣٠

فلا يكون الشكّ فيها إلاّمن قبيل الشكّ في الرافع ، كما في المذي بالنسبة إلى الطهارة من الحدث.

والأولى أن يقال : إنّ غير الزمان لمّا كان صالحاً لأن يؤخذ على نحو الرافع ، ولأن يؤخذ على نحو التقييد بعدمه ، فعلى الأوّل يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ في الرافع ، وعلى الثاني يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، من دون فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية. نعم في الأحكام الوضعية يكون احتمال الرافعية أقرب منه في الأحكام التكليفية.

ثمّ إنّ ما حرّر عنه قدس‌سره في ملاك خروج الشكّ في المقتضي عن أخبار الاستصحاب لعلّه لا يخلو عن غموض واختلاف فيما حرّر عنه قدس‌سره ، فالذي يظهر ممّا في التقريرات المطبوعة في صيدا (١) هو أنّ الملاك في ذلك هو كون المتيقّن مقتضياً للجري العملي على طبقه لولا الشكّ ، بحيث يكون رفع اليد عن ذلك المتيقّن لأجل الشكّ المزبور نقضاً لليقين بالشكّ ، فلو كان الشكّ في المقتضي لم يكن المتيقّن السابق في حدّ نفسه مقتضياً للجري العملي على طبقه لولا الشكّ ، فلا يكون رفع اليد عنه من قبيل نقض اليقين بالشكّ ، بل يكون هو ـ يعني المتيقّن ـ منتقضاً بنفسه مع قطع النظر عن الشكّ ، وبناءً على ذلك تكون الغاية التي هي غير الزمان كالغاية التي هي من الزمان ، في كون الشكّ فيها من قبيل الشكّ في المقتضي.

لكن يظهر من التحريرات الأُخر أنّ الملاك والميزان في ذلك على بقاء المتيقّن في عمود الزمان ، بحيث إنّه لو لم يحدث حادث ولم يكن في البين إلاّ استمرار الزمان لكان المتيقّن السابق باقياً ، وبناءً عليه تكون الغاية التي ليست من

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٦٧ ـ ٦٩.

٣١

مقولة الزمان داخلة في الرافع ، ويكون الشكّ فيها من قبيل الشكّ في الرافع ، وعلى هذين الملاكين تترتّب مسألة الشبهة المصداقية في الغاية التي هي من مقولة الزمان.

ويمكن أن يقال : بدخولها في الشكّ في المقتضي على كلا الوجهين. لكنّه لا يخلو عن تأمّل وإشكال ، ولعلّ أن يأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على الاستدلال على هذا التفصيل ما يوضّح هذه الجهات.

وحاصل ما نحن متوقّفون فيه فعلاً هو الشبهة المصداقية فيما لو كانت الغاية من مقولة الزمان ، والغاية الزمانية مثل الحكم المغيّى بمجيء زيد ، والقيد اللاحق للموضوع إذا حصل انتفاؤه ، بل يجري هذا التوقّف في استصحاب نفس الزمان أيضاً ، فإنّ الحكم في جميع هذه الأمثلة ممّا لا يمكن بقاؤه في عمود الزمان ، ومجرّد أنّ عدم بقائه لأجل عروض مجيء زيد في الثاني أو لمجرّد انتفاء قيده كما في الثالث ، وأنّ ذلك من قبيل الشكّ في البقاء لأجل بعض الطوارئ ، غير نافع بعد فرض قصور ذات الحكم عن إمكان الاستمرار في عمود الزمان بعد تحقّق غايته وانتهاء أمده أو انتفاء قيده.

ولعلّ الأولى في التخلّص هو إنكار دعوى اختصاص دليل الاستصحاب في الشكّ في الرافع ، إذ لا أساس لهذه الدعوى إلاّ الأخذ من مادّة النقض في قولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض اليقين » من جهة أنّها تعطي الاستحكام المختصّ بصورة الشكّ في الرافع لعدم تحقّقه في الشكّ في المقتضي. ويمكن منع هذه الدعوى بأنّ استعمال النقض كان بلحاظ أنّ الجري العملي الذي كان عليه المكلّف لا ينبغي له هدمه ونقضه بما طرأ عليه من حالة الشكّ ، من دون فرق في ذلك بين كون الشكّ من جهة الرافع أو كونه من جهة المقتضي.

٣٢

قوله : وليس عملهم على ذلك لأجل حصول الاطمئنان لهم بالبقاء أو لمحض الرجاء ... الخ (١).

قال في الكفاية في الردّ على الاستدلال بالسيرة العقلائية : وفيه أوّلاً : منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّداً ، بل إمّا رجاءً واحتياطاً ، أو اطمئناناً بالبقاء ، أو ظنّاً ولو نوعاً ، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً وفي الإنسان أحياناً الخ (٢).

أمّا الاحتياط فقد أجاب عنه شيخنا قدس‌سره بما حاصله : أنّه ربما كان العمل على البقاء مخالفاً للاحتياط ، لكون عدم البقاء هو مورد الأثر الالزامي ، لكن لعلّ مراد الكفاية هو إنكار جريان السيرة على الأخذ بالحالة السابقة إلاّفيما وافق الاحتياط ، وحينئذ ينحصر الجواب عنه بإثبات جريانها حتّى فيما خالف الاحتياط.

وأمّا الغفلة فالجواب عنها واضح ، إذ لا وجه لدعوى كون جميع ما جرت به السيرة العقلائية على البقاء ناشئاً عن الغفلة وعدم الالتفات إلى احتمال عدم البقاء وإلاّ لم تكن سيرة عقلائية.

وأمّا الاطمئنان والظنّ النوعي بالبقاء فهو إنّما يضرّ لو قلنا بحجّية الاستصحاب تعبّداً صرفاً من دون جهة تقتضيه ، أمّا لو قلنا بحجّيته من باب الاطمئنان والظنّ فلا يكون ذلك مضرّاً بالاستدلال ، لكن لا يلزم ذلك أن يكون كلّ ظنّ نوعي حجّة ، بل هو خصوص ما جرت الطريقة العقلائية على الاعتناء به وترتيب الأثر عليه ، ما لم يكن هناك ما يوجب الردع عنه شرعاً ، سواء كان من موارد الاستصحاب ، أو غيره ممّا جرت السيرة على العمل به من موارد الاطمئنان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٢.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٨٧.

٣٣

أو الظنّ النوعي.

ثمّ لا يخفى أنّ الاستناد إلى السيرة العقلائية الناشئة عن الظنّ النوعي لا يلزمه القول بكون حجّية الاستصحاب من باب الأمارة ، على وجه يكون مثبته حجّة ، لما سيأتي في محلّه (١) إن شاء الله تعالى من أنّ ذلك ليس بلازم ، لإمكان أن يكون بناؤهم على حجّيته من ذلك الباب أي الظنّ النوعي ، ولكنّه بمقدار ما قامت به السيرة وجرى عليه العقلاء ، وهم إنّما يأخذون في ذلك بآثار خصوص المستصحب دون لوازمه العقلية أو العادية ، ومعه لا يحتاج إلى دعوى أنّ الشارع قد ألغى الكاشفية إن قلنا بأنّ بناءهم على حجّيته من باب الظنّ النوعي ، أو دعوى أنّ ذلك من باب الالهام الإلهي إن قلنا بأنّ بناءهم عليه من باب التعبّد الصرف ، كما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه الله ، فراجع قوله : ولا يخفى ـ إلى قوله ـ وعلى كل حال (٢) وتأمّل.

وأمّا ما أُفيد هنا بقوله : إنّه لا وجه لحصول الاطمئنان مع فرض الشكّ في البقاء ، وكذا ما أُفيد في تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) بقوله : كما أنّه يبعّد الثاني عدم وجود شيء في المقام يكون كاشفاً عن الواقع الخ (٣) فيمكن الجواب عنه بأنّ مجرّد حصول الشيء يوجب الظنّ النوعي ببقائه ، وهو كاف في الاحراز والكاشفية ، وهذا الظنّ النوعي بالبقاء يجتمع مع الشكّ الفعلي ، على أنّه لا داعي إلى الالتزام بوجود الشكّ في البقاء ، بل هو على وتيرة الظنّ النوعي الحاصل بالبقاء.

__________________

(١) لاحظ المجلّد العاشر من هذا الكتاب مبحث الأصل المثبت.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٣٠.

٣٤

قوله : فما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره في المقام من أنّ الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم تصلح لكونها رادعة عن السيرة العقلائية فيما نحن فيه ، ينافي ما تقدّم منه في حجّية الخبر الواحد من أنّ تلك الآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن الطريقة العقلائية ... الخ (١).

لا يخفى أنّه في مسألة حجّية خبر الواحد (٢) استدلّ بالسيرة العقلائية ، ومنع من كون الآيات رادعة عنها ، أوّلاً : من جهة كون الآيات الناهية واردة إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في أُصول الدين.

وثانياً : بأنّ المتيقّن منها ـ لولا أنّه المنصرف من إطلاقها ـ هو خصوص الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة.

وثالثاً : أنّ الردع بها مستلزم للدور ، لأنّ الردع بها يتوقّف على عدم تخصيصها بالسيرة ، وعدم تخصيصها بها يتوقّف على الردع عنها بتلك الآيات ، إذ لولا الردع لكانت السيرة مخصّصة لتلك الآيات أو مقيّدة لها.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ إثبات حجّية خبر الواحد بالسيرة موجب للدور ، من جهة أنّ حجّية الخبر بالسيرة يتوقّف على عدم الردع ، وعدم الردع يتوقّف على التخصيص ، والتخصيص يتوقّف على عدم الردع.

وأجاب بما ظاهره الاعتراف بالدور من هذه الناحية ، لكنّه أقصى ما فيه أنّه لم يثبت الردع ولا عدمه ، فيكون الحاصل أنّ هذه السيرة لم يثبت الردع عنها ، وهو ـ أعني مجرّد عدم الثبوت ـ كافٍ في الحجّية وفي مخصّصية الآيات الناهية ، هذا حاصل مطلبه في مسألة حجّية خبر الواحد.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٣٥

ولا يخفى أنّه بعينه يتأتّى في السيرة على الاستصحاب ، نعم لو قلنا بعدم كفاية عدم ثبوت الردع ، بل قلنا بالاحتياج إلى أصالة عدم الردع ، أمكن الفرق بين المسألتين ، فإنّه إذا وصلت النوبة إلى أصالة عدم الردع أمكن إتمام المطلب بها في حجّية خبر الواحد ، لكنّه لا يتمّ في باب الاستصحاب ، لأنّ أصالة عدم الردع هي من جملة الاستصحاب الذي هو المدّعى.

ثمّ لا يخفى أنّ نسبة السيرة على العمل بخبر الواحد أو الاستصحاب إلى الآيات المذكورة ، إمّا أن تكون من قبيل التخصيص ، بأن يكون ما دلّ على حجّية السيرة مخصّصاً لتلك العمومات ، وإمّا أن تكون من قبيل الحكومة ، بأن يكون ما دلّ على حجّية السيرة حاكماً على تلك العمومات ، لكون ذلك الدليل موجباً لخروج العمل بخبر الواحد أو الاستصحاب عن كونه عملاً بغير حجّة وعلم.

وعلى كلّ من هذين التقريرين ـ أعني تقرير التخصيص أو الحكومة ـ يتوجّه الدور المذكور من الطرفين ، ويكون الأمر بالأخرة راجعاً إلى التمسّك بأصالة عدم الردع ، الذي عرفت أنّه لا يتمّ في الاستصحاب لكونه من الدور الواضح ، ضرورة توقّف المدّعى على نفسه.

أمّا لو قلنا بالتخصّص بأن نقول : إنّ ظاهر تلك الآيات هو المنع عن العمل بغير حجّة عقلائية ، لكونها مسوقة للتقبيح العقلائي ، فيكون ما جرى عليه العقلاء في عملهم خارجاً عن ذلك خروجاً موضوعياً تكوينياً ، وحينئذ فلا محل للدور المذكور ، ولا يكون لتلك العمومات دخل في الردع عن تلك السيرة ، بل لابدّ في الردع عنها من قيام الدليل الخاصّ ، نظير الظنّ القياسي.

لكن يبقى إشكال الاحتياج إلى أصالة عدم الردع ، لأنّ مجرّد جريان السيرة العقلائية على العمل بالاستصحاب مثلاً ، لا يسوّغ لنا معاشر المتشرّعة العمل به

٣٦

في أُمور الشريعة ما لم يكن ممضى من جانب الشارع ، ولو بواسطة كون تلك السيرة بمرأى من الحجّة عليه‌السلام ومسمع وعدم ردعه عنها ، فلا محالة تنتهي النوبة إلى لزوم إجراء أصالة عدم الردع ، الذي عرفت أنّ الرجوع إليه في باب الاستصحاب موجب للدور ، فلابدّ لنا حينئذ إمّا من دعوى القطع بعدم الردع ، ولو بواسطة معروفية تلك السيرة وعدم معروفية الردع عنها على وجه لو كان لبان ، أو دعوى الاكتفاء بجواز الركون إلى تلك السيرة بمجرّد عدم العلم بالردع وإن لم يكن عدمه محرزاً. وعهدة الأوّل على المدّعي ، وأمّا الثاني فقد التزم به في الكفاية كما هو ظاهر قوله : يكفي في حجّيته بها عدم ثبوت الردع عنها لعدم نهوض ما يصلح لردعها ـ إلى قوله ـ فافهم (١). ولا يخفى أنّه بناءً على ذلك لا يكون مانع من الاستدلال بالسيرة على حجّية الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّ لنا إشكالاً في أصالة عدم الردع في جميع موارد السيرة ، حيث إنّه بعد إحراز التمكّن من الردع تكون أصالة عدم الردع مثبتاً لما هو المطلوب من إمضاء السيرة ، أمّا إذا لم يكن [ إحراز ] التمكّن من الردع ممكناً فالأمر فيه أشكل ، إذ لا يكون أصالة عدم الردع ملازماً للامضاء ، فراجع ما علّقناه في مبحث حجّية خبر الواحد عند الاستدلال عليه بالسيرة (٢).

قوله : ولكن القدر المتيقّن من بناء العقلاء هو الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في الرافع ... الخ (٣).

يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ الظاهر بناء العقلاء على الأخذ باستصحاب

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ / مبحث حجّية خبر الواحد.

(٢) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٥٤ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٣٣.

٣٧

الحياة في معاملاتهم وإرسالياتهم التجارية وغيرها ، من دون فحص عن حال من يستصحبون حياته من حيث بلوغ سنّه إلى حدّ يشكّ في اقتضاء حياته للبقاء ، ولو كان بناء العقلاء مختصّاً بالشكّ في الرافع ، لكان استصحاب الحياة مختصّاً عندهم بخصوص ما لو كان الشكّ في بقاء الحياة ناشئاً عن الشكّ في طروّ طارٍ يوجب إعدام الحياة ، مع إحراز قابلية الشخص الذي يستصحبون حياته للبقاء من حيث العمر الطبيعي ، بل يمكن أن يقال : إنّ العمر الطبيعي للنوع لا يكفي ، لاختلاف الأشخاص من حيث الاستعداد الطبيعي للبقاء بحسب التركيب والبُنية الطبيعية.

والحاصل : أنّ الشكّ في بقاء حياة الإنسان يكون على صور :

الأُولى : أن يكون منشأ الشكّ هو احتمال عارض يوجب إعدام الحياة ، وهذا من قبيل الشكّ في الرافع.

الثانية : أن يكون منشأ الشكّ هو عدم إحراز مقدار استعداد ذلك الشخص بحسب بنيته الطبيعية ، بحيث إنّه لو لم يكن في البين احتمال وجود عارض من العوارض لكان الشكّ في بقاء الحياة متحقّقاً ، وهذا من قبيل الشكّ في المقتضي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه يكفي إحراز المقتضي بالنسبة إلى مقدار عمر نوع الإنسان الطبيعي ، وإن لم يحرز ذلك بالنسبة إلى ذلك الشخص الخاصّ ، فبالنسبة إلى ذلك الشخص لا يكون الشكّ في بقاء حياته إلاّمن قبيل الشكّ في الرافع بعد فرض عدم وصوله إلى حدّ العمر الطبيعي لنوع الإنسان.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ إحراز المقتضي بالنسبة إلى النوع لا يكفي بالنسبة إلى الأشخاص ، لما نشاهده من اختلاف الأشخاص بحسب الاستعداد الطبيعي الخاصّ بكلّ واحد منهم.

على أنّ ضبط المقدار الطبيعي بالنسبة إلى النوع أو إلى الشخص فهو إنّما

٣٨

يكون بمثل السنين ، أمّا مثل الشهور والأسابيع والأيّام بل الساعات ، فلايخرج الشكّ في بقاء الحياة بالنسبة إليها بعد فرض إحراز عدم الوصول إلى منتهى العمر الطبيعي (١) فإنّا لو قلنا إنّ أمد العمر الطبيعي هو مائة سنة مثلاً ، فبالنسبة إلى قبل المائة بأيّام أو بعدها بأيّام أو ساعات ، لا يكون الشكّ إلاّمن قبيل الشكّ في المقتضي.

الثالثة : أن يكون منشأ الشكّ هو عدم الاطّلاع على حال ذلك الشخص لعدم مشاهدته ، فيحتمل أنّه بسنّ الشباب ويحتمل أنّه بسنّ الشيخوخة ، وهذا من قبيل الشكّ في المقتضي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه من قبيل الشبهة الموضوعية في تحقّق الغاية ، مثل ما لو علم أنّ أمد الحكم هو الزوال وقد شكّ في تحقّقه.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه ليس من هذا القبيل ، إذ ليس الشكّ في تحقّق أمد الحياة ، بل الشكّ إنّما هو في أنّ ذلك الشخص هل هو بسنّ الشباب فيكون الباقي من أمد حياته ولو بحسب نوع الإنسان هو أربعين سنة ، أو أنّه بسنّ الشيخوخة فيكون قد انتهى أمد حياته ، ففي الحقيقة يكون الشكّ في استعداد ذلك الشخص للبقاء في تلك الأربعين سنة ، فلا يكون إلاّمن قبيل الشكّ في المقتضي.

وقد يقال : إنّ ذلك من قبيل [ الشكّ ] في وصول المرأة إلى سنّ اليأس ، فينحلّ إلى الأصل العدمي.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ استصحاب الحياة ليس من الأُصول العدمية ، ولو كان من هذا القبيل لكان مثبتاً ، إذ لا يترتّب على عدم بلوغ الإنسان سنّ الشيخوخة التامّة أثر شرعي إلاّباعتبار لازمه ، وهو بقاء حياته.

نعم ، قد يقال في الجواب عن أصل الإشكال : بأنّ العرف يرى أنّ الموت

__________________

(١) [ كذا في الأصل ، والمقصود واضح ].

٣٩

بجميع أنحائه من قبيل هادم الحياة ورافعها ، وإن كان بعضه بالدقّة راجعاً إلى انتهاء أمد الحياة باعتبار انتهاء الاستعداد الطبيعي. ولا يخفى أنّ ذلك لو سلّم في الحياة فلا نسلّمه في نضارة الورد والنبات وعدم انتهاء أمد زهرته ونضارته. وعلى الظاهر أنّه لا إشكال في استصحاب بقاء تلك الزهرة والنضارة ولو مع الشكّ في انتهاء أمدها الطبيعي ، وهكذا الحال في نضارة الشباب وزهرته.

لا يقال : لا ريب في عدم الأخذ بالاستصحاب فيما لو تردّد النفط الموضوع في الضياء بين كونه ربع أو نصف أوقية.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن من جهة أنّ الربع الثاني مشكوك الوجود منفي بالأصل ، وهذا بخلاف ما لو كان معلوم المقدار ولكن لم نعلم مقدار مدّة إضائته ، أو كان مردّداً بين النفط وما هو أبقى منه ، فإنّه في مثل ذلك يكون الشكّ في المقتضي والظاهر جريان الاستصحاب فيه.

فتلخّص : أنّ استصحاب حياة الإنسان أو الحيوان لا يكون من قبيل الشكّ في المقتضي ، إمّا لما يراه العقلاء أو العرف من كون الموت هادماً للحياة وإن كانت في آخر أدوارها من الشيخوخة ، وإمّا لدعوى كونه هادماً لها حقيقة ، باعتبار أنّ الحياة عبارة عن كون النفس الناطقة حالّة في تلك المادّة المتبادلة المستمرّة في أخذ ودفع.

وإن شئت فقل : إنّ الحياة بمنزلة شعلة النار على أرض من الحطب تسير أينما وجد ذلك الحطب ، بل إنّها أوضح بقاء من النار ، فإنّ ما تأخذه النار تعدمه وتجعله رماداً ، بخلاف الحياة فإنّ ما تأخذه من المادّة وتفرزه يعود إلى حالته الأصلية من المادّة التي هي قوام هذه الحياة ، فيوشك أن تعود إليها ، ومن الواضح أنّ ما هذا شأنه يكون قابلاً للبقاء ، غير أنّ المشيئة الإلهية اقتضت انعدام تلك

٤٠