أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

وما ذلك إلاّمن قبيل التردّد بين كون الموجود زيداً أو كونه عمراً ، مع فرض كون كلّ منهما مشكوك البقاء في صلاحيته لاستصحاب الشخص واستصحاب الكلّي ، فهو من القسم الأوّل من استصحاب الكلّي.

كما أنّه لا يرد عليه ما أفاده قدس‌سره ثانياً بقوله : مع أنّ اليقين بالوجوب الحقيقي الجامع إنّما يتمّ لو بنينا على موضوعية الأمارات ، وإلاّ فبناءً على طريقيتها فلا نقطع بالجامع ـ إلى قوله ـ والجامع بين الحقيقي والصوري لا أثر له الخ (١) لما عرفت من أنّ الحكم الظاهري ولو على الطريقية لا يخرج عن كونه مجعولاً شرعياً ، وقد حصل الشكّ في بقائه ، فيجري فيه استصحاب الشخص والكلّي.

قال : نعم لا بأس حينئذ بجريان الاستصحاب [ في ] الترخيص المردّد بين ما هو في ضمن الالتزام وغيره ، وهذا المقدار إنّما يثمر لرفع شبهة (٢) المخالفة ، لا إثبات الوجوب المزبور الملزم للطاعة كما هو ظاهر (٣).

لو قلنا بأنّه لا أثر للوجوب الظاهري الصوري ، فأين الترخيص الذي جعله قدس‌سره مجرى الاستصحاب ، فإنّه لا معنى للترخيص في المقام إلاّ القدر الجامع بين الوجوب الواقعي والوجوب الظاهري الصوري (٤)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٧. [ في المصدر المطبوع قديماً وحديثاً هكذا العبارة : والجامع بين الوجود الحقيقي والصوري ... ].

(٢) في المقالات المطبوعة قديماً هنا فراغ ، وفي الطبعة الحديثة العبارة هكذا : شبهة [ حرمة ] المخالفة.

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٧.

(٤) ينبغي مراجعة المستمسك في شرح م ٨ من مسائل طريق ثبوت النجاسة [ منه قدس‌سره. مستمسك العروة الوثقى ١ : ٤٥٩ وما بعدها ].

٢٦١

قوله : وقد أثبتنا في محلّه أنّه لا يعقل جعل التنجيز والمعذورية ، بل التنجيز والمعذورية تدور مدار وصول التكاليف وعدمها ... الخ (١).

لا يخفى أنّ القدر الثابت هو أنّ التنجيز والمعذورية من لوازم وصول التكليف ، فإذا حصل إحراز التكليف ولو بالتعبّد بواسطة جعل الحجّية لزمه عقلاً التنجيز والمعذورية ، وأمّا أنّه لا يعقل التنجيز والمعذورية بدون الإحراز الوجداني أو التعبّدي فهو ممنوع ، لما عرفت من إمكان الحكم الشرعي بالتنجيز من دون الإحراز ، كما في موارد الاحتياط الشرعي. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الاحتياط من قبيل ما يكون واصلاً بطريقه ، فيكون التنجيز غير محكوم به شرعاً ، بل هو لازم لجعل الاحتياط ، فتأمّل. كما أنّه يمكن المعذورية مع عدم إحراز عدم التكليف ، كما في موارد البراءة العقلية والشرعية ، ولأجل ذلك أفاد قدس‌سره في بعض المباحث السابقة (٢) أنّه يمكن قيام الأُصول غير الاحرازية مقام العلم من حيث التنجيز والمعذورية. وبالجملة : أنّ التنجيز والمعذورية لازم أعمّ للاحراز التعبّدي والوجداني ، فمتى تحقّق الاحراز تبعه التنجيز والمعذورية ، ويمكن تحقّق التنجيز والمعذورية بدون الاحراز الوجداني والتعبّدي.

قوله : ولا يخفى أنّه على هذا لا يمكن الذبّ عن الإشكال ... الخ (٣).

قد حرّرت عنه قدس‌سره ما محصّله : أنّه إذا قلنا بما هو المختار من قيام الطرق والأُصول مقام القطع الطريقي ، سواء قلنا بكون المجعول ابتداءً هو الحجّية كما هو المختار ، أو قلنا بكون المجعول ابتداءً هو وجوب العمل على طبقها وتكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٩.

(٢) كما مرّ في المضمرة الثانية لزرارة ص ١٢٣ [ منه قدس‌سره فوائد الأُصول ٤ : ٣٤٣ ].

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٠.

٢٦٢

الحجّية مجعولة بالتبع ، أو أنّها تكون انتزاعية ، فإنّه لا إشكال على هذه الأقوال في الاستصحاب في موارد الشكّ في بقاء ما قامت عليه الأمارة.

وأمّا بناءً على عدم قيامها مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية ، فيشكل الاستصحاب في تلك الموارد ، بل لا يمكن إجراؤه ، لأنّ المأخوذ فيه هو عدم نقض اليقين الطريقي ، فيختصّ مورده حينئذ بخصوص ما كان اليقين وجدانياً.

ولو بنينا مع ذلك على كون المجعول في باب الحجّية هو التنجّز فيما أصاب والعذر فيما أخطأ ، كان الأمر في إجراء الاستصحاب في تلك الموارد أشكل ، فإنّه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّه إذا قلنا بعدم قيام تلك الأمارات مقام القطع المأخوذ على نحو الطريقية ، يكون ذلك موجباً لانحصار الاستصحاب في موارد القطع الوجداني ـ يكون المانع من جريان الاستصحاب في تلك الموارد أمراً آخر ، وهو كون المجعول هو التنجّز والعذر ، وهذا ممّا لا ربط له بما هو مفاد الاستصحاب من عدم نقض اليقين بالشكّ.

وحيث إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) قد بنى على هذا الوجه ، فقد وقع في توجيه الاستصحاب في تلك الموارد في تمحل ، فإنّه قدس‌سره قد التزم بأنّ محصّل الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت الشيء واقعاً وبين بقائه ، ففي مثل قيام البيّنة على أنّ هذا نجس مثلاً ثمّ الشكّ في حصول ما أوجب طهارته ، يقول إنّ النجاسة على تقدير ثبوتها وتحقّقها واقعاً هي باقية إلى الآن بحكم الاستصحاب ، ثمّ نثبت الجزء الأوّل من هذه القضية الشرطية بالبيّنة ، فكأنّه يجري الاستصحاب أوّلاً ثمّ يجري البيّنة ثانياً.

ولا يخفى ما في ذلك من التمحّل والغرابة ، ومخالفته لما هو صريح أدلّة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٢٦٣

الاستصحاب من أنّه عدم نقض اليقين بالشكّ ، وأين هذا من الملازمة بين تحقّق الشيء واقعاً وبقائه تعبّداً. ولقد أورد على نفسه بهذا الإيراد وأجاب عنه : بأنّ اليقين المأخوذ في دليل الاستصحاب مأخوذ على نحو الطريقية ، وليس مراده من الجواب المذكور أنّ اليقين لمّا كان مأخوذاً على نحو الطريقية صحّ أن يقوم مقامه كلّ ما هو مجعول الطريقية والحجّية ، فإنّه هدم لما بنى عليه من عدم قيام تلك الأُمور مقام القطع الطريقي ، ومن أنّه ليس المجعول هو الحجّية وإنّما المجعول هو التنجّز والمعذورية ، كما أنّه بناءً عليه لا حاجة إلى دعوى كون مفاد الاستصحاب هو الملازمة المذكورة.

بل مراده من الجواب المذكور أنّ اليقين لمّا أُخذ على نحو الطريقية كان عبارة عن المتيقّن ، فيكون محصّل الاستصحاب هو المنع عن نقض الأمر الواقعي الذي هو المتيقّن ، ومرجعه إلى أنّ الواقع لا ينقض بالشكّ ، بل يلزم الحكم ببقائه على تقدير تحقّقه ، وهو ما ذكره من الملازمة.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الجواب بعد تفسيره بهذا التفسير يكون مناقضاً لما أفاده في مقام الاستدلال على عدم الفرق بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع ، من أنّ الملحوظ في عدم النقض هو اليقين لا نفس الأمر الواقعي الذي تعلّق به اليقين.

قلت : ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده في الكفاية من كون مفاد الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت [ شيء ] وبقائه ، لا ينفع في تصحيح الاستصحاب في موارد قيام الأمارة بناءً على ما أفاده من كون مفاد حجّيتها هو مجرّد التنجيز والمعذورية ، فإنّ ذلك ـ أعني التنجيز والمعذورية ـ لا يثبت الواقع كي يتحقّق بذلك أحد طرفي الملازمة أعني ثبوت الشيء ، وحينئذ فلا يتمّ ما أفاده بقوله : ووجه الذبّ بذلك أنّ

٢٦٤

الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّداً ، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً الخ (١). وليت شعري إذا كان مفاد الحجّية هو مجرّد التنجيز كيف يكون حجّة على ثبوت الواقع.

والإنصاف : أنّه لم يتحقّق لنا بعدُ ما هو المراد له قدس‌سره وما هو مسلكه في جعل الحجّية ، فهل المجعول ابتداءً هو الحجّية والتنجيز والمعذورية تتبعها ، أو أنّ الأمر بالعكس ، أو أنّ المجعول ابتداءً هو التنزيل والحجّية تابعة كما لعلّه يظهر ممّا ذكره في وجه عدم قيامها مقام القطع الطريقي المأخوذ في الموضوع ، فإنّه ذكر هناك (٢) أنّ المانع منه هو الجمع بين اللحاظين في التنزيل الواحد ، وحينئذ يكون ذلك ـ أعني عدم قيامها مقام القطع المذكور ـ هو الموجب له قدس‌سره أن يدّعي أنّ مفاد الاستصحاب هو الملازمة المذكورة ، وأنّ الأمارة لا تكون قائمة مقام اليقين الذي هو الموضوع لحرمة النقض ، حيث إنّه بناءً على أنّ مفاده هو الملازمة لا يكون القطع موضوعاً بل يكون الموضوع هو الواقع ، ويكون ذكر اليقين في دليله من باب الطريقية الصرفة ، ولا يكون فائدة الأمارة إلاّمجرّد تنجيز ذلك الواقع الذي يكون محكوماً بالبقاء على تقدير ثبوته عند الشكّ في بقائه.

ولكن حرّرت عن شيخنا الأُستاذ قدس‌سره ما هذا نصّه : ولقد كان قدس‌سره ( يعني صاحب الكفاية ) قبل أن يكتب الكفاية لا يقول بجعل الحجّية ، ولمّا ظهر منه القول بجعلها تخيّلنا أنّه يقول بجعلها على نحو ما كان يقول به سيّدنا الأُستاذ الشيرازي قدس‌سره ، ولكنّه ( يعني صاحب الكفاية قدس‌سره ) صرّح بخلافه وأنّ المجعول هو ذلك اللازم أعني التنجيز والمعذورية ، وحيث إنّه التزم بذلك كان اللازم له ما ذكره من عدم صحّة قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

٢٦٥

وما ذكره في هذا التنبيه ، انتهى.

قلت : لكن الظاهر أنّ المانع له من جعلها قائمة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية هو ما أفاده في ذلك المبحث من عدم إمكان الجمع بين التنزيلين ، ومقتضى ذلك هو كون مفاد الحجّية عنده هو التنزيل ، لا أنّ المجعول بها هو التنجيز والمعذورية ، وأمّا ما ذكره في هذا التنبيه فقد عرفت أنّ الظاهر منه هو إخراج المسألة عن قيام الأمارة مقام القطع الطريقي الموضوعي ، وذلك بجعل مفاد الاستصحاب هو الملازمة المذكورة ، وجعل مفاد الأمارة تنجيز الواقع المفروض أنّه محكوم بالبقاء عند الشكّ في بقائه ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا ما نقله قدس‌سره عن السيّد العلاّمة الشيرازي قدس‌سره في جعل الحجّية فهو ما اختاره هو قدس‌سره في جعل الحجّية من كون المجعول هو نفس الحجّية بلا تنزيل في البين ، لكن قد أشكلنا في محلّه على قيامها مقام العلم الموضوعي الطريقي بأنّ مجرّد جعل الحجّية لا يفي إلاّبقيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، إلاّ إذا كانت في البين قرينة تدلّ على أنّ الموضوع هو الأعمّ من الاحراز الوجداني والتعبّدي ، ولا يبعد أن يكون ذلك التعميم مستفاداً من قولهم : « لا تنقض اليقين بالشكّ » خصوصاً إذا جعلناه إمضاءً للسيرة العقلائية ، بعد فرض كون السيرة جارية على الأخذ بما قام عليه الطريق ، وعدم الاعتناء باحتمال الرافع له.

وينبغي مراجعة الكفاية في مسألة البقاء في باب التقليد وذلك قوله : فلا مجال لاستصحاب ما قلّده لعدم القطع به سابقاً ، إلاّعلى ما تكلّفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب الخ (١) فإنّ الشكّ في تلك المسألة لم يكن فعلاً في الحكم الواقعي ، إذ لا إشكال في بقاء الحكم الواقعي في تلك المسألة لو كان موجوداً ، وإنّما كان الشكّ فيها ممحّضاً للشكّ في بقاء الحكم الظاهري ، فراجع وتأمّل.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٧٨.

٢٦٦

[ استصحاب الكلّي ]

قوله : وإمّا أن يكون ( فرداً ) مردّداً بين فردين أو أفراد من طبيعة واحدة أو من طبيعتين أو طبائع ... الخ (١).

لابدّ في تلك الأفراد من كون كلّ واحد منها بخصوصه ذا أثر خاصّ به ، إذ لو اشتركت الأفراد في أثر واحد ، كان المستصحب هو القدر الجامع بينها لا الأفراد أنفسها ، ثمّ لابدّ في ذلك أيضاً من كون كلّ واحد من الأفراد في حدّ نفسه مشكوك البقاء ، إذ لو كان بعضها معلوم البقاء وبعضها معلوم الارتفاع ، لم يمكن استصحاب الفرد ، بل تعيّن استصحاب القدر الجامع بينها ، وكان من قبيل القسم الثاني من الكلّي.

قوله : فإنّ استصحاب الفرد المردّد معناه بقاء الفرد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو ترتيب آثار بقاء كلّ من الفردين ، وهذا ينافي العلم بارتفاع أحد الفردين ، وقد تقدّم تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ... الخ (٢).

وقال في مبحث الاشتغال : وإلاّ ( يعني لو جرى استصحاب الفرد المردّد بعد العلم بارتفاع أحد الفردين ) لزم ترتيب آثار بقاء الفرد المردّد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بكلّ من الظهر والجمعة ، لأنّ هذا هو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤١١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤١١ ـ ٤١٢.

٢٦٧

أثر بقاء الوجوب المردّد ، مع أنّ المفروض تحقّق فعل الجمعة أو الظهر ، فلا يبقى موقع لفعل المأتي به ثانياً ، فالاستصحاب الشخصي لا يجري (١).

وقد علّقنا عليه هناك ما نصّه : الأولى أن يقال : إنّه إن أُريد من استصحاب شخص التكليف بقاء نفس وجوب صلاة الظهر ، بحيث إنّه يترتّب عليه الاتيان بها بداعي وجوبها المحرز بالاستصحاب ، ففيه أنّ الشكّ إنّما هو في حدوث وجوبها لا في بقائه. وإن أُريد منه استصحاب الشخص المردّد بين الوجوبين ، ففيه : أنّ الشخص لم يكن متيقّناً ، لأنّ الخصوصية خارجة عن حيّز اليقين ، وإنّما المتيقّن هو عنوان أحدهما ، وإن كان لا ينفكّ عن الخصوصية ، لكن لمّا لم تكن الخصوصية البدلية داخلة في حيّز اليقين ، لم تكن داخلة في المنع عن نقض اليقين. ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّه إن أُريد من استصحاب بقاء الفرد المردّد إثبات وجوب الباقي كان الأصل المذكور مثبتاً ، وإن أُريد من الحكم ببقاء ذلك الفرد المردّد هو لزوم الاتيان بالباقي لأنّه أحد الفردين ، كان من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالأصل ، لكن هذا الطريق لا ينفع فيما لو كان العلم الاجمالي حاصلاً بعد الاتيان بأحدهما ، فالجواب الحاسم هو الأوّل.

وأمّا ما أُفيد من الايراد عليه بأنّ لازمه الاتيان بكلا الفردين ، فيمكن دفعه بأنّه وإن كان الأثر المترتّب على بقاء الفرد المردّد هو الاتيان بكلا الفردين ، إلاّ أنه لمّا كان قد أتى بالفرد السابق كان له الاكتفاء بالاتيان بالفرد الباقي.

قوله : فيصحّ استصحاب كلّ من الفرد والكلّي ، ويترتّب عليه آثار كلّ منهما إن كان لكلّ منهما أثر خاصّ ... الخ (٢).

لكن لا يترتّب آثار الشخص على استصحاب الكلّي ، وإنّما يترتّب على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ١٣١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٢.

٢٦٨

استصحابه آثار نفس الكلّي. نعم في استصحاب الشخص يترتّب آثار الشخص ، لكن هل يترتّب على استصحاب الشخص آثار نفس الكلّي؟ فيه تأمّل وإشكال ، لكنّه لا أهميّة له ، إذ الاستصحاب يجري في كلّ من الطرفين يعني الشخص والكلّي ، وبجريانه فيهما يترتّب آثار كلّ منهما ، هذا إذا كان الفرد معيّناً.

ولو كان مردّداً بين فردين مختلفين في الأثر ، وقد حصل الشكّ في ارتفاعه على ما هو عليه من التردّد لا من جهة العلم بارتفاع أحدهما ، فقد تقدّم منه أنّه يجري الاستصحاب فيه ، إذ لا إشكال في استصحاب الفرد المردّد في هذه الصورة ، وبعد الحكم ببقاء الفرد المردّد يلزم ترتيب أثر كل من الفردين كما في صورة العلم الوجداني ، لكن لو كان الفرد المردّد من قبيل الوجوب المردّد بين وجوب الجمعة أو وجوب الظهر ، وقد حصل الشكّ في الاتيان بهما جرياً على الاحتياط ، هل يكون المرجع هو أصالة الاشتغال أو استصحاب الوجوب المردّد أو الكلّي ، تقدّم الكلام فيه مفصّلاً فيما علّقناه في مبحث الاشتغال على ما أُفيد في ص ٤٣ (١) فراجع وتأمّل.

قوله : الأوّل استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمن الفرد المعيّن أو الفرد المردّد ... الخ (٢).

المراد من الفرد المردّد هو ما تقدّم من كون كلّ منهما مشكوك البقاء ، أمّا الأثر فإن كان للأفراد تعيّن فيه استصحاب الأفراد ، وإن كان للقدر الجامع فلا إشكال في استصحاب الكلّي ، وأمّا استصحاب الأفراد فهل يجدي في ترتيب أثر

__________________

(١) راجع المجلّد الثامن من هذا الكتاب الصفحة : ٢٣٩ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٢.

٢٦٩

الكلّي ، فيه تأمّل ، سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

قوله : فيصحّ استصحاب كلّ من الفرد والكلّي ، ويترتّب عليه آثار كل منهما إن كان لكلّ منهما أثر خاصّ ... الخ (١).

ونحو ذلك عبّر الشيخ قدس‌سره فقال : أمّا الأوّل فلا إشكال في جواز استصحاب الكلّي ونفس الفرد ، وترتيب أحكام كلّ منهما عليه (٢).

وقال في الكفاية : فإن كان الشكّ في بقاء ذاك العام من جهة الشكّ في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه وارتفاعه ، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام (٣).

ففي الأثر المترتّب على الخاص الذي هو الفرد الخاصّ لا ينفع إلاّ استصحاب ذلك الفرد ، ولا يجدي فيه استصحاب الكلّي ، فإنّ ذلك لا يثبت بقاء ذلك الفرد إلاّبالأصل المثبت ، بعد العلم بأنّه لم يوجد ذلك الكلّي إلاّفي ضمن ذلك الفرد ، أمّا الأثر المترتّب على الكلّي فلا إشكال في ترتّبه باستصحاب وجود الكلّي ، وهل يترتّب أثر الكلّي باستصحاب الفرد؟ فيه تأمّل ، من جهة أنّ بقاء نفس الفرد الخاصّ ليس هو عين بقاء موضوع ذلك الأثر ، إلاّباعتبار أنّ بقاء الفرد يلزمه بقاء الكلّي ، فاحراز بقاء الفرد لا يكون إحرازاً لبقاء الكلّي ، وبناءً على ذلك يشكل الأمر في استصحاب نفس الكلّي لأنّه لا يقين بوجوده ، وإنّما المتعلّق لليقين هو الفرد ، واليقين بوجود الفرد لا يكون يقيناً بوجود الكلّي ، وربما يسري الإشكال إلى كون نفس الكلّي موضوعاً للأثر ، إذ لا وجود للكلّي.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٢.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ١٩١.

(٣) كفاية الأُصول : ٤٠٦.

٢٧٠

ولكن يدفع هذه التأمّلات أنّ استصحاب الفرد تارةً يكون المنظور فيه هو الخصوصية الخاصّة ، وفي هذه الصورة لا يترتّب عليه أثر الكلّي ، وأُخرى يكون المنظور إليه في الاستصحاب المذكور هو الفرد بما أنّه فرد لذلك الكلّي ، بما اشتمل عليه من كونه حصّة من ذلك الطبيعي بما أنّه حصّة له ، وبعبارة أُخرى يؤخذ الفرد في هذا الاستصحاب بما أنّه فرد لذلك الكلّي ، فيكون حينئذ عين وجود الكلّي ، بمعنى أنّه وجود لذلك الكلّي لا بما أنّه حصّة خاصّة ، فضلاً عن خصوصية الفردية مثل الطول والقصر ونحو ذلك ممّا يدخله تحت كلّي آخر ، وحينئذ يترتّب على استصحاب الفرد بهذا المعنى آثار نفس الكلّي ، إذ لا أثر لنفس الكلّي بما أنّه كلّي مجرّد ، فإنّ الآثار اللاحقة للكلّي إنّما تلحقه باعتبار وجوده ، ومن الواضح أنّ الفرد عين وجود الكلّي عرفاً حتّى لو قلنا إنّه منتزع من الفرد ، أو قلنا بأنّه لا وجود له أصلاً وإنّما الفرد محقّق لعنوان كلّي ، فإنّ هذه أبحاث عقلية لا دخل لها بما هو موضوع الاستصحاب من كون المنظور فيه هو المتفاهم العرفي.

وإن شئت التوضيح فراجع ما أفاده شيخنا قدس‌سره فيما حرّره عنه السيّد سلّمه الله ص ٣٩١ وذلك قوله : ثمّ إنّ استصحاب الكلّي على القول الخ (١) ، وذلك المحرّر هناك هو المشار إليه في هذا التحرير بقوله : وتوهّم أنّ اليقين لم يتعلّق الخ (٢) فلاحظ.

وعلى كلّ حال ، فإنّ التحقيق هو أنّ استصحاب الفرد بما أنّه فرد لذلك الكلّي هو عين استصحاب الكلّي ، واستصحاب الفرد بما أنّه فرد مخصوص لا يترتّب عليه إلاّ أثره الخاصّ ، واستصحابه بجميع شؤونه من كونه فرداً لذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٨٨.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٣.

٢٧١

الكلّي وكونه خاصّاً عبارة أُخرى عن الاستصحابين. وعلى كلّ حال ، أنّ استصحاب الخاصّ بما أنّه خاصّ لا يترتّب عليه إلاّ أثره الخاص ، كما أفاده شيخنا قدس‌سره في تحرير السيّد سلّمه الله أوّل ص ٣٩٢ وما قبلها ، وكما أفاده المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم في غرره (١) فراجع.

والذي تلخّص : أنّ استصحاب الفرد بما أنّه فرد للكلّي وأنّه صرف وجود ذلك الكلّي عبارة أُخرى عن استصحاب الكلّي ، إذ ليس المقصود من استصحاب الكلّي هو استصحاب ذاته ، بل المقصود هو استصحاب وجوده وهو عين الفرد ، إذ ليس فرد الطبيعي إلاّوجود ذلك الطبيعي ، ولا يترتّب على هذا الاستصحاب إلاّ أثر ذلك الكلّي ، فإنّه إنّما يلحق وجوده لا ذاته مجرّداً عن لحاظ الوجود والعدم ، واستصحاب الفرد الخاصّ بما أنّه خاصّ لا يترتّب عليه إلاّ أثره الخاصّ دون أثر الكلّي ، فلا يكون لنا استصحاب واحد كافٍ في ترتيب كلا الأثرين ، فلا يكفي استصحاب الجنابة في عدم جواز مسّ المصحف الذي هو حكم مطلق المحدث مع عدم جواز المكث في المسجد الذي هو أثر خصوص الجنابة ، إلاّ إذا [ كان ] راجعاً إلى استصحاب الحدث الكلّي في ضمن استصحاب حدث الجنابة.

قوله : وتوهّم أنّ اليقين لم يتعلّق بحدوث الكلّي من حيث هو ، وإنّما تعلّق اليقين بحدوث حصّة من الكلّي ... الخ (٢).

قال الشيخ قدس‌سره : وتوهّم عدم جريان الأصل في القدر المشترك ، من حيث دورانه بين ما هو مقطوع الانتفاء وما هو مشكوك الحدوث ، وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل ، مدفوع بأنّه لا يقدح ذلك في استصحابه بعد فرض الشكّ في بقائه

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٣٣ ـ ٥٣٤.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٣.

٢٧٢

وارتفاعه ، كتوهّم كون الشكّ في بقائه مسبّباً عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث ، فإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزمه ارتفاع القدر المشترك ، لأنّه من آثاره ، فإنّ ارتفاع القدر المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح ، ولذا ذكرنا أنّه يترتّب عليه أحكام عدم وجود الجنابة في المثال المتقدّم (١).

فقد ذكر قدس‌سره توهّمين وأجاب عن كلّ منهما ، غير أنّ قوله قدس‌سره في بيان التوهّم الأوّل : وهو محكوم بالانتفاء بحكم الأصل ، أجنبي عن بيان التوهّم الأوّل ، وهو من أجزاء التوهّم الثاني. وعلى كلّ حال ، فإنّ قول شيخنا قدس‌سره : وتوهّم أنّ اليقين لم يتعلّق بحدوث الكلّي من حيث هو الخ ، هو بيان للتوهّم الأوّل الموجود في كلام الشيخ قدس‌سره وجوابه ، غايته أنّه بنحو أوضح. كما أنّ ما أفاده في الكفاية بقوله : وتردّد ذاك الخاصّ الذي يكون الكلّي موجوداً في ضمنه ويكون وجوده بعين وجوده ، بين متيقّن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم حدوثه ، غير ضائر باستصحاب الكلّي المتحقّق في ضمنه الخ (٢) هو بيان لذلك التوهّم الأوّل الموجود في كلام الشيخ قدس‌سره وجوابه ، فلاحظ.

وأمّا التوهّم الثاني الموجود في كلام الشيخ قدس‌سره أعني ما أشار إليه بقوله : كتوهّم كون الشكّ في بقائه مسبّباً عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث الخ ، فقد أشار إليه شيخنا قدس‌سره بقوله : فلأنّ المانع الذي يمكن توهّمه ليس إلاّ أن

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣ ( مع اختلاف بين النُسخ ).

(٢) كفاية الأُصول : ٤٠٦.

٢٧٣

وجود القدر المشترك إنّما يكون مسبّباً الخ (١) وقد أشار إليه في الكفاية بقوله : وتوهّم كون الشكّ في بقاء الكلّي الذي في ضمن ذاك المردّد مسبّباً عن الشكّ في حدوث الخاصّ المشكوك حدوثه الخ (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ في استصحاب الكلّي في القسم الثاني شبهة أُخرى ، وهي شبهة التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، لاحتمال انتقاض اليقين السابق باليقين بارتفاع ما يعلم بارتفاعه ، وهذه الشبهة لم يتعرّض لها الشيخ قدس‌سره ولا شيخنا ولا صاحب الكفاية قدس‌سرهم لوضوح الجواب عنها ، حيث إنّ اليقين السابق إنّما كان متعلّقاً بوجود الكلّي ، وهذا اليقين لم يحصل اليقين بانتقاضه ، وإنّما حصل لنا اليقين بارتفاع الفرد الثاني ، واليقين بارتفاع الفرد الثاني إنّما يوجب اليقين بارتفاع الكلّي الذي هو ناقض لليقين بوجود الكلّي إذا حصل لنا اليقين بأنّه هو الذي كان موجوداً ، أمّا مع عدم حصول اليقين بأنّ الموجود كان هو الفرد الثاني ، فنحن فعلاً لم يحصل لنا القطع بارتفاع الكلّي ، فيكون الاستصحاب فيه ، وأقصى ما فيه أنّا نحتمل أنّه قد ارتفع الكلّي لاحتمال كون الحادث هو الفرد الثاني ، وهذا موجب لتحقّق أركان الاستصحاب فيه ، ولا محصّل للقول بأنّا نحتمل أنّ يقيننا السابق قد انتقض باليقين بارتفاع الفرد الثاني لو كان هو الموجود ، فإنّ احتمال اليقين لا يكون إلاّشكّاً ، فلا يكون التمسّك بقوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (٣)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٥.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٠٦.

(٣) [ هكذا في الأصل ، ولعلّ في العبارة سقطاً ، والساقط هو : تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ].

٢٧٤

وهذه الشبهة هي عين الشبهة في جريان الأُصول في أطراف العلم الاجمالي بالخلاف ، بدعوى لزوم التناقض التي تولّد منها كون التمسّك بعموم دليل الاستصحاب في كلّ واحد من الأطراف تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية. ونظيرها شبهة المنع من جريان الاستصحاب في تعاقب الحالتين ، بدعوى عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين الراجعة إلى دعوى التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، كما أوضحناه في محلّه في مسألة الحادثين في مورد الشكّ في المتقدّم منهما (١).

لكن أُستاذنا المحقّق العراقي قدس‌سره في مقالته قد اهتمّ بهذه الشبهة بقوله : نعم في القسم الثاني من الكلّي شبهة أُخرى في جريانه الخ (٢) وأجاب عنها بما حاصله : أنّ اليقين بانعدام الفرد الثاني لو كان هو الموجود لا يوجب اليقين بانعدام الكلّي ، لجواز وجوده في ضمن فرده الآخر ، فإنّ انعدام الفرد لا يوجب انعدام الكلّي ، فلا يكون اليقين بانعدام الفرد يقيناً بارتفاع الكلّي وانعدامه ، إلاّ إذا كان يقيناً بعدم جميع الأفراد.

وهذا الجواب وإن كان واضحاً إلاّ أنه تنشأ منه شبهة أُخرى ، وهي أن يقال : إنّا نقطع بأنّ الكلّي لم يكن موجوداً في ضمن فرد ثالث ، وأحد هذين الفردين وهو البقّة لو كان هو الموجود لكان قد ارتفع يقيناً ، فنحن فعلاً قاطعون بأنّ الكلّي لا وجود له في ضمن فرد ثالث ، كما أنّه لا وجود له فعلاً في ضمن البقّة ، وإنّما نحتمل وجوده في ضمن الفيل ، فإذا أجرينا أصالة العدم في الفيل كنّا محرزين لعدم وجود الكلّي فعلاً ، بعضه بالوجدان وهو وجوده في ضمن الفرد الثالث

__________________

(١) راجع المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٧٨ وما بعدها.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨٠.

٢٧٥

ووجوده في ضمن البقّة ، وبعضه بالأصل وهو وجوده في ضمن الفيل ، فيلزمنا فعلاً أن نرتّب آثار عدم الكلّي.

وهذه الشبهة قد ذكرها قدس‌سره في درسه حسبما حرّرته عنه ، وأوضحها بما لا مزيد عليه ، وأجاب عنها بما هذا لفظه حسبما حرّرته عنه (١) : والجواب عن هذا الإشكال : أنّ ما هو مورد الأثر إنّما هو صرف عدم وجود الطبيعة ، وهو أمر وحداني بسيط غير مقيّد بكونه عدم هذا الفرد وذاك الفرد. نعم يلزم ذلك الأمر الوحداني كونه محدوداً بعدم هذا الفرد وعدم ذلك الفرد ، وحينئذ فعدم كلّ واحد من تلك الأفراد لا أثر له ، وإنّما هو ملازم لما هو ذو الأثر وهو عدم صرف الطبيعة ، فيكون أصالة العدم غير نافعة إلاّعلى تقدير الأصل المثبت ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

والجواب الحاسم هو ما أشار إليه بقوله : مع أنّه على فرض التسليم (٢) وذلك ما عرفت من عدم جريان أصالة العدم في الفيل ، إذ ليس بقاء الكلّي من آثارها الشرعية ، فلا يندفع بها استصحاب بقاء الكلّي ، ولو كان بقاء الكلّي من آثار وجود الفيل شرعاً ، لكان أصالة عدم وجوده بضميمة القطع بعدم البواقي قاضية بالحكم بارتفاع الكلّي وعدم وجوده فعلاً ، فلاحظ.

ولكن هذا كلّه فيما لم يكن الكلّي حكماً شرعياً ، أمّا لو كان الكلّي حكماً شرعياً مثل الحدث ، فلا إشكال فيه في أصالة عدم الجنابة ، لكنّها لا تنفع في الحكم بعدم وجود الكلّي ، فإنّ انتفاء أحد فردي الكلّي وإن كان شرعياً لا يوجب الحكم بانتفاء نفس الكلّي ، إلاّمن جهة كون الفرد الآخر مقطوع العدم أو مقطوع

__________________

(١) في درس ليلة الاثنين ٢٠ ج ١ / ١٣٤١ [ منه قدس‌سره ].

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٨١.

٢٧٦

الزوال ، فلا يكون الأصل المذكور إلاّمثبتاً ، ولا يبقى إلاّدعوى ضمّ الوجدان إلى الأصل ، وجوابه هو ما أفاده قدس‌سره من بساطة عدم الكلّي ، لا أنّه مركّب من أعدام كي يقال إنّ بعضها محرز بالأصل وبعضها محرز بالوجدان ، نعم إنّ الأعدام المتكثّرة يتولّد منها عدم واحد وهو عدم نفس الكلّي لا أنّه عينها ، فلا يكون الأصل حينئذ إلاّ مثبتاً ، وسيأتي إن شاء الله تعالى (١) توضيح ذلك في المناقشة فيما أفاده السيّد قدس‌سره في حاشيته على المكاسب.

وحاصله : أنّ الأثر لمّا كان مترتّباً على صرف وجود الكلّي ، فكما أنّه لا يترتّب على استصحاب الفرد ولا ينفع فيه إلاّ استصحاب نفس الكلّي ، فكذلك هذا الأثر لا ينتفي إلاّبنفي ذلك الكلّي ، ونفي الفرد لا ينفيه ، وإن اقترن بانتفاء الباقي وجداناً ، إلاّفيما كنّا قاطعين بعدم الكلّي وشككنا بحدوثه ولو في ضمن فرد واحد ، فحينئذ نقول الأصل عدم وجود الكلّي لا عدم وجود ذلك الفرد المحتمل ، فتأمّل فإنّ هذا التقريب ربما كان غير راجع إلى ما أفاده الأُستاذ العراقي فيما نقلته عن درسه ، ولا أقل من أن يكون أوضح ، فراجع وتأمّل. بل لو كان الأثر مترتّباً على عدم جميع الأفراد لا عدم صرف الطبيعة ، لم يكن أصلنا المذكور ـ أعني أصالة عدم الفرد الفلاني ـ نافعاً وإن انضمّ إليه انعدام باقي الأفراد وجداناً ، إذ لا يكون انعدام الفرد الواحد ولو بانضمام انعدام باقي الأفراد انعداماً لجميع الأفراد إلاّ بالملازمة.

وبالجملة : لا يكون لأصالة انعدام الفرد الخاصّ أثر أصلاً ، انضمّ إليه انعدام الباقي أو لم ينضمّ ، كان الأثر مترتّباً على انعدام صرف الطبيعة أو كان مترتّباً على انعدام جميع الأفراد ، وإنّما يترتّب الأثر على أصالة انعدام هذا الفرد فيما لو كان

__________________

(١) يأتي في الصفحة : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٢٧٧

نفس الفرد موضوعاً للأثر ، أو كان نفس عدمه موضوعاً للأثر ، أو كان عدمه جزءاً من موضوع الأثر وقد أُحرز الباقي بالوجدان ، سواء كان الباقي أمراً وجودياً أو كان أمراً عدمياً ، ومنها ما لو تركّب الموضوع من أعدام متعدّدة متعلّقة بأفراد متعدّدة.

قوله : نعم بناءً على انتزاعية الكلّي يتوجّه الإشكال المذكور ... الخ (١).

فيه تأمّل ، أمّا أوّلاً : فلأنّ عدم وجود الكلّي الطبيعي وكونه انتزاعياً لا يؤثّر على النظر العرفي الذي عليه المدار في باب الاستصحاب ، بعد فرض أنّ العرف يرون أنّ الكلّي موجود بوجود أفراده. وأمّا ثانياً : فلأنّ الكلّي وإن لم يكن موجوداً حتّى بالنظر العرفي ، إلاّ أنه ممّا يتعلّق به اليقين ولو تبعاً لمنشأ انتزاعه ، فإذا فرضنا كونه ممّا يترتّب عليه الأثر ، تمّت أركان الاستصحاب فيه من اليقين والشكّ وكون ذلك المتيقّن ممّا يترتّب عليه الأثر. والحاصل أنّا لو سلّمنا كون الكلّي الطبيعي انتزاعياً لا وجود له في الخارج ، إلاّ أنه ممّا يتعلّق به اليقين قطعاً ولو تبعاً لمنشأ انتزاعه ، فإن كان في البين أثر شرعي مترتّب على ذلك الكلّي ، كانت أركان الاستصحاب فيه تامّة. وبالجملة أنّ الانتزاعيات لها تقرّر في وعائها ولو تبعاً لمنشأ انتزاعها ، فتقع متعلّقاً لكل من العلم والشكّ ، وليست هي من الخياليات الصرفة مثل أنياب الأغوال كي لا يمكن أن تتمّ فيها أركان الاستصحاب.

قوله قدس‌سره : ولكنّه ضعيف ، لما فيه أوّلاً : أنّ ارتفاع القدر المشترك ليس مسبّباً عن عدم حدوث الفرد الباقي ، بل هو مسبّب عن ارتفاع الفرد الزائل ... الخ (٢).

مراده أنّ الغرض من إجراء أصالة العدم في الفيل مثلاً هو إثبات ارتفاع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٥ ـ ٤١٦.

٢٧٨

الكلّي بعد القطع بموت البقة ، ومن الواضح أنّ ارتفاع الكلّي ليس مسبّباً ومعلولاً لعدم حدوث الفيل ، بل هو معلول لكون الحادث هو البقة التي علم بارتفاعها. ثمّ إنّه لو سلّمت هذه السببية فهي غير شرعية. ولو سلّمنا كونها شرعية فليس كلّ أصل جرى في السبب الشرعي يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب ، بل لابدّ في ذلك من كون ذلك الأصل الحاكم مزيلاً للشكّ فيما هو مجرى الأصل المحكوم على ما يأتي تفصيله.

والأولى أن يقال : إنّ الشكّ والتردّد في بقاء الكلّي وارتفاعه مسبّب عن الشكّ والتردّد بين كون الحادث هو الفيل فيترتّب عليه بقاء الكلّي ، وكون الحادث هو البقة فيترتّب عليه ارتفاع الكلّي ، وحينئذ يكون أصالة عدم حدوث الفيل قاضياً بارتفاعه وعدم بقائه ، كما أنّ أصالة عدم حدوث البقة يكون قاضياً ببقائه وعدم ارتفاعه ، لكن الأصل الأوّل معارض بالأصل الثاني ، ومقتضاه الرجوع إلى الأصل في المسبّب القاضي بالبقاء وعدم الارتفاع ، لكن يبقى الإشكال بأنّ السببية ليست بشرعية ، مضافاً إلى الإشكال بأنّ الأصل في هذا السبب لا يزيل الشكّ في المسبّب.

قوله : والسرّ في ذلك : هو أنّ أصالة الحل لا تثبت كون الحيوان المتّخذ منه اللباس من الأنواع التي خلقها الله تعالى مأكولة اللحم ... الخ (١).

لا يخفى أنّه قدس‌سره قد أشكل في مسألة اللباس المشكوك (٢) على التمسّك بأصالة حلّ أكل لحم الحيوان لجواز الصلاة فيما يؤخذ منه أوّلاً : بأنّ عدم جواز الصلاة في شعره وحرمة أكل لحمه ، وكذا جواز الصلاة في شعره وحلّية أكل لحمه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٧.

(٢) رسالة الصلاة في المشكوك : ٣٢٠ وما بعدها.

٢٧٩

حكمان كلّ منهما في عرض الآخر ، واردان على الحيوان الكذائي كالأرنب ، وهما معاً ناشئان عن علّة ثالثة ، لا أنّ أحدهما مسبّب عن الآخر كي يكون الأصل في أحدهما حاكماً على الأصل في الآخر.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّ جواز الصلاة مشروط بحلّية الأكل ، بحيث كانت حلّية الأكل بمنزلة الموضوع لجواز الصلاة ، فكانت سببية جواز الأكل لجواز الصلاة سببية شرعية ، لم تكن قاعدة الحل في الحيوان مسوّغة للصلاة في شعره ، من جهة أنّ جواز الصلاة مرتّب على الحلّية الواقعية الثابتة للشيء بعنوانه الأوّلي ، وهذا لا يمكن إحرازه بقاعدة الحل. نعم لو كان الجاري هو الاستصحاب لأمكن الاعتماد عليه في جواز الصلاة من جهة كونه من الأُصول الاحرازية ، فأصالة الحل لا تنفع في جواز الصلاة إلاّ إذا قلنا بأنّ جواز الصلاة مرتّب على الأعمّ من الحلّية الذاتية الواقعية أو الحلّية الترخيصية الظاهرية ، بحيث كان دليل الشرط يشمل الحلّية الثابتة بقاعدة [ الحل ] فإنّه حينئذ يمكن الاعتماد عليها في جواز الصلاة ، ويكون المكلّف حينئذ ببركة قاعدة الحل واجداً لما هو الشرط واقعاً.

ولا يخفى أنّ هذا الذي أفاده إنّما يصحّ مثالاً لما نحن بصدده بما أُفيد ثانياً لا بما أُفيد أوّلاً ، فإنّ ما أُفيد أوّلاً لا يكون فيه سببية ولا مسبّبية ، بل يكون كلّ من الحكمين المذكورين واقعاً في عرض الآخر ، ويكونان معاً ناشئين عن ملاك واحد وهو المفسدة الموجبة لحرمة الأكل ولعدم جواز الصلاة فيما يؤخذ منه الذي هو عبارة عن المانعية ، فلا يكون الأصل الجاري في حرمة الأكل نافعاً في ناحية جواز الصلاة في شعره ، حتّى لو كان ذلك الأصل هو الاستصحاب. نعم بناءً على الوجه الثاني يكون استصحاب الحرمة أو استصحاب حلّ الأكل نافعاً في الناحية المذكورة.

٢٨٠