أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

الاستصحاب لا يجري فيما لو كانت الطهارة السابقة ثابتة بقاعدة الطهارة الجارية في الشبهة الموضوعية ، لأنّ ما هو المستصحب هو عين ما يثبت بالطهارة الجارية في الشكّ الثاني ، انتهى.

قلت : وفيه تأمّل ، فإنّه بعد البناء على أنّ اليقين في قولهم عليهم‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » يشمل اليقين الحاصل من قاعدة الطهارة ، لم يظهر الفرق بين القاعدة المذكورة في الشبهات الحكمية وبين القاعدة في الشبهات الموضوعية في جريان الاستصحاب عند احتمال طروّ النجاسة الجديدة في خصوص القاعدة في الشبهات الحكمية دون الشبهات الموضوعية ، كما أنّ ما أُفيد من اختصاص قاعدة الحل في خصوص الشبهات الموضوعية تقدّم منه قدس‌سره المنع منه إلاّفي خصوص قولهم عليهم‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » (١) المشتمل على لفظ « فيه » فراجع ما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا (٢).

وأمّا ما يقال : من أنّ القاعدة الجارية من حيث الشبهة الحكمية لا تكون مزيلة للشكّ الحادث الناشئ عن الشبهة الموضوعية ، ففيه أوّلاً : أنّها إذا لم تكن مزيلة للشكّ بنفسها كيف يكون استصحابها مزيلاً له.

وثانياً : أنّه بعد البناء على كون كلّ من الشبهات الحكمية والموضوعية داخلاً في قوله : « كلّ شيء لك طاهر » يكون مفاد القاعدة في الشبهة الحكمية متّحداً مع مفادها في الشبهة الموضوعية ، وأنّ المعيار في ذلك هو كون الشيء الخارجي الخاص مشكوك الطهارة ، وأنّ منشأ الشكّ أجنبي عمّا هو موضوع الحكم ، أعني الشيء المشكوك الطهارة ، هذا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٦٤.

٢٤١

ولكن لا يخفى أنّ مراده قدس‌سره هو أنّ اليقين المأخوذ موضوعاً لعدم النقض في باب الاستصحاب ، ليس المراد به خصوص اليقين الوجداني حتّى لا يقوم مقامه شيء حتّى الأمارات ، بل اليقين المذكور قد أُخذ من حيث المنجّزية والمعذّرية ، فيقوم مقامه كلّ ما يكون منجّزاً للواقع ومصحّحاً للعذر في مخالفته ، سواء كان ذلك أمارة أو كان أصلاً عملياً ، إحرازياً كان أو غير إحرازي ، فيدخل فيه جميع الوظائف المقرّرة ، بل يدخل فيه العلم الاجمالي المنجّز للتكليف فيما لو فقد بعض الأطراف وبقي الآخر وقد شكّ في بقاء التكليف لو كان متحقّقاً في الطرف الباقي ، وحينئذ فلا إشكال في جميع ما ذكرناه وما سيأتي من الفروع.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من الفرق بين قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية وقاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعية ، فهو أمر آخر راجع إلى مسألة الاحراز بالتعبّد لما هو محرز بالوجدان ، من جهة أنّ التعبّد ببقاء الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة في الشبهة الموضوعية يكون لغواً ، لكون المورد فعلاً مورداً لقاعدة الطهارة الموضوعية ، فلا حاجة إلى إحراز ذلك بالتعبّد ، وهذا بخلاف ما لو كان الحكم سابقاً بالطهارة مستنداً إلى قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية ، فإنّ طروّ الشكّ الموضوعي والحكم على ذلك الشكّ بقاعدة الطهارة الموضوعية محكوم باستصحاب الطهارة الحكمية.

نعم ، يرد على هذا التوجيه : أنّ دعوى كون اليقين المأخوذ في باب الاستصحاب قد أُخذ فيه من حيث المنجّزية والمعذّرية محتاجة إلى دليل ، وأقصى ما يمكننا المساعدة عليه هو كونه مأخوذاً من حيث الاحراز ، فيقوم مقامه كلّ أصل محرز لا غير ، فتأمّل.

والميزان في هذا البحث هو أنّ الأصل السابق إن كان مزيلاً للشكّ اللاحق

٢٤٢

لم يكن محلّ لاستصحاب مؤدّاه ، بل كان المرجع في ذلك الشكّ اللاحق هو نفس ذلك الأصل السابق ، ولو باجرائه ثانياً بلحاظ الشكّ اللاحق. ولو لم يكن الأصل السابق مزيلاً للشكّ اللاحق ، كما مثّلنا له بقاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة الجارية في الغُسل أو الغَسل ، وقد طرأ بعد ذلك الشكّ في عروض الحدث أو الخبث ، كان المرجع في ذلك الشكّ اللاحق هو استصحاب مؤدّى الأصل السابق ، إمّا لما ذكرناه من كون مفاد قاعدة الفراغ أو أصالة الصحّة هو الاحراز ، أو لما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من صحّة قيام [ الأُصول غير الاحرازية ] مقام العلم الطريقي المأخوذ في الموضوع من حيث التنجيز والمعذورية ، على إشكال في ذلك في خصوص ما نحن فيه الذي هو اليقين السابق في باب الاستصحاب ، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال فيه هو أخذ اليقين من حيث الاحراز ، فلا يقوم مقامه من الأُصول إلاّ ما كان إحرازياً ، فلو لم يكن الأصل السابق إحرازياً لم يتّضح الوجه في قيامه مقام ذلك اليقين.

وحينئذ يشكل الأمر فيما قدّمناه ، أعني ما لو علم بنجاسة أحد الاناءين ثمّ فقد أحدهما وحصل بعد فقده احتمال تطهّر الباقي ، فإنّه حينئذ يلزمنا القول بعدم جريان استصحاب النجاسة في الباقي لعدم إحرازها ، ولابدّ حينئذ من الرجوع إلى قاعدة الطهارة وهو مشكل.

اللهمّ إلاّ أن نقول : إنّ العلم الاجمالي موجب لحكم العقل بلزوم الاجتناب عن كلّ من الطرفين ، إلاّ أن يعلم بعروض الطهارة عليه ، فيكون هذا الحكم العقلي بمنزلة الأصل السابق المزيل للشكّ اللاحق ، فلاحظ وتأمّل فإنّ العلم الاجمالي إنّما ينجّز النجاسة لو كانت موجودة في هذا الطرف ، فغاية ما ينفي احتمال عدم

٢٤٣

وجودها في هذا الطرف ، أمّا احتمال ارتفاعها في الطرف المذكور فالعلم الاجمالي لا يتعرّض للتنجّز من ناحيته ، بل لابدّ من جهة أُخرى تثبت لنا بقاء تلك النجاسة.

وإن شئت قلت : إنّ العلم الاجمالي إنّما ينجّز جهة الحدوث ، وأمّا جهة البقاء واحتمال أنّ النجاسة قد ارتفعت أو بقيت فإنّ العلم الاجمالي لا تعرض له لهذه الجهة ، إذ لا دخل لجهة الحدوث التي هي مركز العلم الاجمالي بجهة البقاء التي هي محل [ الكلام ].

وبالجملة : ليس العلم الاجمالي في هذا المقام بأقوى من العلم التفصيلي بأنّ هذا الطرف الباقي هو الذي كان النجس ، فإنّ هذا العلم التفصيلي بأنّ هذا الطرف هو النجس مع فرض كون بقاء نجاسته مشكوكاً لاحتمال ارتفاعها ، لا ينفع في التنجّز ما لم ينضمّ إليه الحكم بالبقاء من جهة الاستصحاب ، هذا.

ولكن الذوق لا يساعد على جواز ارتكابه ، فلابدّ إمّا من الركون إلى ما في الكفاية (١) من كون الاستصحاب حاكماً بأنّ النجاسة على تقدير ثبوتها باقية تعبّداً والعلم الاجمالي يتكفّل بتنجّزها على تقدير ثبوتها ، أو إلى ما نقلناه (٢) عن المرحوم الرشتي في شرحه الكفاية فيما نقله عنه في مجلس الدرس ، من كون المراد من اليقين في أخبار الاستصحاب هو مطلق الحجّة وإن كانت هي كون المورد أحد طرفي العلم الاجمالي ، أو الركون إلى ما ذكرناه أخيراً من الرجوع إلى أصالة عدم ملاقاته للكرّ ، وبه يتنقّح تأثير العلم الاجمالي ، فراجع ما حرّرناه فيما

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٢) في الصفحة : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٢٤٤

تقدّم ، فإنّ هذا الذي حرّرناه هنا كان من الدورة السابقة.

ثمّ لا يخفى أنّا وإن أشكلنا على استصحاب المستصحب بما تقدّم ذكره ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا محيص عنه ، فإنّ في المثال المتقدّم كان الماء عند طلوع الشمس متغيّراً بالنجاسة فكان نجساً قطعاً ، ثمّ في الآن الثاني زال تغيّره وشككنا في بقاء نجاسته وحكمنا ببقائها بمقتضى الاستصحاب ، ثمّ في الآن الثالث احتملنا اتّصاله بالكرّ ، فلأجل تعدّد الشكّ وكون الثاني غير الأوّل ، لابدّ أن يكون الجاري في الآن الثالث غير الاستصحاب الجاري في الآن الثاني ، بمعنى أنّ « لا تنقض » تجري أوّلاً في الآن الثاني لازالة الشكّ في أنّ زوال التغيّر موجب للطهارة ، ثمّ تجري ثانياً في الآن الثالث لازالة الشكّ في أنّه قد لاقى الكر.

وحينئذ نقول : إنّ المستصحب في الآن الثالث إن كان هو النجاسة المتيقّنة في الآن الأوّل ، بمعنى أنّ تلك النجاسة التي كانت متيقّنة حين التغيّر سحبناها إلى الآن الثالث من دون تعرّض لحال الآن الثاني ، لزم عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وإن كان المستصحب في الآن الثالث هو النجاسة التي حكمنا ببقائها في الآن الثاني ، كان ذلك المستصحب هو النجاسة المستصحبة وهو المطلوب.

وهذا الإشكال مختصّ بالاستصحاب ، لأنّه الجرّ في عمود الزمان الذي مقتضاه لزوم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، بخلاف ما لو كان الحكم السابق ثابتاً بمثل قاعدة الطهارة ، فإنّ الحكم في الشكّ اللاحق يكون جارياً باجراء القاعدة ثانياً فيه ، من دون حاجة إلى استصحاب الحكم الثابت بقاعدة الطهارة ، بل يكون لنا في كلّ آن شكّ في الطهارة ، ويكون ذلك الشكّ محكوماً بقاعدة الطهارة.

٢٤٥

قوله : وإن أُريد استصحاب الطهارة الظاهرية فموضوعها نفس الشكّ في الطهارة ، ولا يمكن استصحاب الأثر المترتّب على نفس الشكّ ، فإنّه لا معنى لاحراز ما هو محرز بالوجدان أو بالتعبّد ـ إلى قوله ـ فإنّ حكومة الاستصحاب فرع جريانه ، والمدّعى في المقام أنّه لا يجري ، لأنّه لا أثر له ... الخ (١).

هذه الجملة وهي أنّه لا معنى لاحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبّد ، لم أجدها في تحريراتي ولا في تحريرات السيّد ( سلّمه الله تعالى ) ، وهي العمدة في عدم جريان استصحاب الطهارة في المورد الذي جرت فيه قاعدة الطهارة ثمّ طرأ الشكّ في تنجّسه ، حيث إنّ ذلك الموضوع بعد طروّ الشكّ في تنجّسه هو مورد لقاعدة الطهارة ، وبها تكون طهارته الظاهرية محرزة بالوجدان ، فلا يكون استصحاب مفاد قاعدة الطهارة التي جرت فيه سابقاً ـ الذي هو عبارة أُخرى عن استصحاب الطهارة الظاهرية ـ إلاّمن قبيل إحراز الطهارة الظاهرية باستصحابها مع فرض كونها محرزة بالوجدان ، وعليه فلابدّ أن يكون المراد بقوله : والمدّعى في المقام أنّه لا يجري لأنّه لا أثر له ، هو ما عرفت من كونه من الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

نعم ، لو كان الجاري هو استصحاب الطهارة الواقعية لكان حاكماً على قاعدة الطهارة الجارية عند الشكّ الثاني ، لكن المفروض أنّ الجاري إنّما هو استصحاب الطهارة الظاهرية التي ثبتت فيه بجريان قاعدة الطهارة عند الشكّ الأوّل ، فلا أثر له إلاّ الاحراز التعبّدي للطهارة الظاهرية ، والمفروض أنّها في حال الشكّ محرزة بالوجدان بواسطة كونه في حال الشكّ الثاني مورداً لقاعدة الطهارة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٦.

٢٤٦

وليس المراد أنّ نفس قاعدة الطهارة التي جرت فيه في حال الشكّ الأوّل قاضية بطهارته في حال الشكّ الثاني ، كما ربما يتوهّم من عبارة السيّد ( سلّمه الله ) في تحريره وذلك قوله : فنفس الدليل الدالّ على الحلّية والطهارة في الآن الأوّل دالّ على بقائهما أيضاً إلى زمان العلم بارتفاعهما الخ (١) فإنّ جريان قاعدة الطهارة فيه في الشكّ الأوّل لا يكون قاضياً ببقائها إلى حال الشكّ الثاني ، إذ ليس ذلك إلاّ عبارة عن استصحاب تلك الطهارة الظاهرية ، بل المراد أنّه في الآن الثاني مورد لقاعدة الطهارة كما كان مورداً لها في حال الشكّ الأوّل ، فلو أردنا سحب الطهارة الظاهرية من الآن الأوّل إلى الآن الثاني بالاستصحاب ، لم يكن أثره إلاّ التعبّد ببقاء الطهارة الظاهرية في الآن الثاني ، وقد عرفت أنّ طهارته الظاهرية في الآن الثاني محرزة بالوجدان بواسطة كونه في الآن الثاني مورداً لقاعدة الطهارة ، كما أنّه في الآن الأوّل مورد لها ، وهذا معنى الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

ويمكن إبقاء عبارة تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) على ظاهرها ، بأن يقال : إنّ قاعدة الطهارة في حال الشكّ الأوّل عبارة عن الحكم على ذلك المشكوك بأنّه طاهر إلى أن يعلم نجاسته على وجه تكون الغاية قيداً للموضوع ، فيقال هذا المشكوك إلى أن يعلم نجاسته طاهر ، وحينئذ يدخل فيه حال الشكّ الثاني ، وبذلك يكون حال الشكّ الثاني داخلاً في موضوع القاعدة في الشكّ الأوّل ، وتكون النتيجة أنّه في حال الشكّ الثاني تكون طهارته الظاهرية محرزة بالوجدان ، وبه ينسدّ باب استصحاب الطهارة الظاهرية في حال الشكّ الثاني ، لكون ذلك من باب الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

وهذا المعنى ـ أعني الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ـ جارٍ أيضاً

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٨٤.

٢٤٧

فيما لو كانت الطهارة فيما سبق ثابتة بالاستصحاب ، فإنّ المرجع فيه بعد طروّ الشكّ ثانياً في عروض النجاسة له من جديد هو نفس ذلك الاستصحاب ، وجرّ الطهارة الواقعية إلى حالة عروض الشكّ الثاني في تنجّسه من جديد ، وهذا الاستصحاب محقّق لطهارته الظاهرية وجداناً ، ومعه لا مجال لاستصحاب الحكم الظاهري الثابت بالاستصحاب الأوّل إلى حين الشكّ الثاني ، لما عرفت من أنّ الطهارة الظاهرية في حال الشكّ الثاني ثابتة فيه وجداناً ، ببركة نفس استصحاب الطهارة الواقعية إلى حين الشكّ الثاني ، ومع تحقّق الطهارة الظاهرية وجداناً لا مجال لاحرازها تعبّداً باستصحاب الطهارة الظاهرية التي ولّدها استصحاب الطهارة الواقعية فيما قبل الشكّ الثاني.

نعم ربما يقال ـ كما عرفت ـ إنّ استصحاب الطهارة الواقعية لا يجري إلى حال الشكّ الثاني ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

ولكن لو تمّ هذا الإشكال ، أعني إشكال عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في استصحاب الطهارة الواقعية إلى حين الشكّ الثاني ، وسقط لأجل ذلك استصحاب الطهارة الواقعية ، فهل المرجع في الشكّ الثاني هو استصحاب الطهارة الظاهرية التي كانت حاصلة في حال الشكّ الأوّل باعتبار استصحاب الطهارة الواقعية فيه ، أو أنّ المرجع في الشكّ الثاني هو قاعدة الطهارة؟

ربما يقال : بتعيّن الثاني ، فإنّها تحرز الطهارة الظاهرية وجداناً ، فلا مورد للتعبّد ببقائها من حال الشكّ الأوّل إلى حال الشكّ الثاني. نعم لو كان الجاري في الشكّ الأوّل هو استصحاب النجاسة ، كما في مثال الماء الذي زال تغيّره ثمّ احتمل تطهيره بالاتّصال بالكرّ بعد زوال تغيّره ، لا يمكن الرجوع في الشكّ الثاني إلى قاعدة الطهارة ، لأنّها لا مورد لها مع جريان استصحاب النجاسة الظاهرية الثابتة

٢٤٨

قبل احتمال اتّصاله بالكرّ ، وهذا نظير ما حقّقناه في محلّه (١) من أنّ استصحاب عدم الحجّية لا يجري عند الشكّ في الحجّية ، لأنّ الشكّ في الحجّية يوجب القطع الوجداني بعدم الحجّية ، بخلاف استصحاب الحجّية فإنّه حاكم على مقتضى الشكّ في الحجّية ، فتأمّل فإنّ الظاهر أنّه لا مانع في الفرض الأوّل من استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة باستصحاب الطهارة الواقعية ، وهذا الاستصحاب يكون حاكماً على قاعدة الطهارة. نعم إنّ استصحاب الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة لا يجري في مورد قاعدة الطهارة كما تقدّم ، هذا.

وقد عرفت فيما سبق أنّه يمكن الرجوع حال الشكّ الثاني في الفرع الأوّل إلى أصالة العدم في ملاقاة النجس مثلاً ، وفي الفرع الثاني إلى أصالة عدم الاتّصال بالكرّ مثلاً ، وبعد جريان أصالة العدم ينفتح لنا باب إجراء استصحاب الطهارة الواقعية في الفرع الأوّل واستصحاب النجاسة الواقعية في الفرع الثاني ، وتكون أصالة العدم في حال الشكّ الثاني مزيلة للشكّ الثاني ، وموجبة لبقاء الموضوع على حاله ، أعني أنّه ماء لم تطرأه النجاسة الثانية ، أو أنّه ماء متغيّر زال تغيّره ولم يتّصل بالكرّ ، فيندرج الأوّل في موضوع استصحاب الطهارة الواقعية ، والثاني في موضوع استصحاب النجاسة الواقعية ، ويكون الجاري في حال كلا الشكّين هو الجاري في حال الشكّ الأوّل ، حتّى لو كان الجاري في الشكّ الأوّل هو قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، بأنّ شكّ في نجاسة عرق الجنب من الحرام وأجرينا قاعدة الطهارة فيه ، ثمّ طرأ الشكّ في ملاقاته للنجاسة ، فإنّ أصالة العدم الجارية في الشكّ الثاني الذي هو من قبيل الشبهة الموضوعية ينفتح به إجراء قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، فيقال : هذا العرق الذي لم يلاق النجاسة نشكّ في

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٦٦.

٢٤٩

نجاسته وطهارته من جهة الشبهة الحكمية فهو محكوم بقاعدة الطهارة ، فلاحظ وتدبّر.

قال شيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته : ثمّ إنّه قد أشرنا كراراً أنّ من نتائج تعلّق حرمة النقض بنفس اليقين بضميمة استفادة تتميم الكشف من الأمارة ، حكومتها على هذا الأصل ( يعني الاستصحاب ) بإثبات اليقين السابق ورفع الشكّ اللاحق ... (١).

فالأمارة بناءً على هذا الوجه تكون حاكمة على الاستصحاب من الجهتين ، بمعنى كونها منقّحة لموضوعه الذي هو اليقين ، لأنّ الشارع قد جعل الكشف الحاصل منها يقيناً ، فلو قامت على طهارة الشيء مثلاً وعرض الشكّ في بقاء تلك الطهارة ، كان المورد مورداً لقضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، بناءً على ظاهرها من كون موضوعه المحكوم عليه بعدم النقض هو اليقين. كما أنّ الأمارة أيضاً تحكم على الاستصحاب ، فترفع موضوعه عندما يجري استصحاب الطهارة مثلاً ثمّ تقوم الأمارة على نجاسة ذلك الشيء ، لأنّ اليقين التعبّدي الحاصل من الأمارة داخل تحت قوله عليه‌السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر ».

قوله : كما أنّه بناءً على إرجاع حرمة النقض إلى المتيقّن واقعاً بضميمة اقتضاء الأمارة تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، لا يلزم أيضاً محذور في جريان الاستصحاب عند قيام الأمارة على الحالة السابقة ، إذ مرجعه حينئذ إلى التعبّد بالمؤدّى بلحاظ آثاره التي منها حرمة نقض اليقين بالشكّ (٢).

كان الأنسب أن يقول : التي منها حرمة نقض المتيقّن بالشكّ ، لأنّ ذلك هو

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٥.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٥ ـ ٣٧٦.

٢٥٠

المفروض ، ولأنّ نقض اليقين ليس من آثار المؤدّى. وعلى أيّ حال ، فإنّ صورة الفرض أن نقول : إنّ مفاد دليل حجّية الأمارة هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، ومفاد دليل الاستصحاب هو أنّ الواقع لا ينقضه الشكّ ، وبعد ذلك يكون قيام الأمارة حاكماً على دليل الاستصحاب ، بمعنى كونها منقّحة لموضوعه الذي هو الواقع ، فالشارع لمّا نزّل الطهارة التي قامت عليها الأمارة منزلة الطهارة الواقعية في ترتيب آثار الطهارة الواقعية ، كان ذلك محقّقاً لموضوع الاستصحاب وهو الواقع ، فيجري على مؤدّاها حكمه وهو حرمة نقضه ، فإنّ من آثار الواقع هو أنّه لا ينقضه الشكّ ، لكن ذلك لا يكفي في الحكومة الثانية ، وهي كون الأمارة الطارئة على الاستصحاب رافعة لموضوعه ، فلو جرى في مورد استصحاب طهارة الشيء لم تكن الأمارة القائمة على نجاسته حاكمة عليه.

ويمكن التأمّل في هذا الأخير ، فإنّ الأمارة القائمة على النجاسة إن كانت قائمة على نجاسته سابقاً ، فليس ذلك هو مورد الحكومة المذكورة ، لأنّ ذلك حينئذ من قبيل الشكّ الساري ، أمّا الأمارة القائمة على النجاسة الجديدة فهي حاكمة بأنّ مؤدّاها وهو النجاسة الجديدة بمنزلة النجاسة الواقعية ، وأنّ طهارته الواقعية التي هي محكومة بحرمة نقضها بالشكّ قد تبدّلت إلى النجاسة الواقعية ، وبذلك يرتفع موضوع الاستصحاب الذي هو الطهارة الواقعية ، وبعبارة أُخرى أنّ حكم الشارع بأنّ هذا الشيء قد طرأته النجاسة يكون رافعاً للشكّ في بقاء طهارته الواقعية ، هذا.

ولكن العمدة في الإشكال هو أن يقال : لا محصّل لدعوى كون مفاد الاستصحاب هو مجرّد أنّ الواقع لا ينقضه الشكّ ، فلو صرفنا اليقين فيه إلى الواقع

٢٥١

المتيقّن ، لزمنا القول بمقالة الكفاية (١) من أنّ مفاد الاستصحاب هو جعل الملازمة بين وجود الشيء وبقائه ، وهو ما يأتي في الشقّ الآتي.

وبالجملة : أنّ عدم النقض بالشكّ ليس من آثار نفس الواقع ، كي يتمّ لنا أن نقول إنّ قيام الأمارة على طهارة الشيء لمّا كان مفاد دليل حجّيتها هو تنزيل الطهارة التي أدّت إليها الأمارة منزلة الطهارة الواقعية ، كان ذلك مقتضياً لأن تكون هذه الطهارة التي أدّت إليها ممّا يحرم نقضها بالشكّ ، وحينئذ لا تتمّ الحكومة الأُولى ، فلاحظ.

قال قدس‌سره : نعم ، لو كان مفاد الأمارة مجرّد جعل الحجّية بلا لسان تنزيل فيه مثبت للواقع ، إذ فيه ربما يشكل أمر الاستصحاب ، سواء تعلّق النقض بنفس اليقين أو الواقع (٢).

أمّا الأوّل ، فلأنّ مجرّد جعل حجّية الأمارة القائمة على الطهارة لا يولّد يقيناً بالطهارة كي تدخل بذلك في مفاد « لا تنقض اليقين ». وجوابه هو أنّ معنى جعل الحجّية هو جعل الوسطية في الإثبات ، وذلك عبارة أُخرى عن جعل العلم واليقين كما شرحه شيخنا قدس‌سره ، فراجعه وما علّقناه عليه (٣).

وأمّا الثاني ، فلأنّ جعل الحجّية لا يوجب تنزيل الطهارة التي هي مؤدّى الأمارة منزلة الطهارة الواقعية ، كي بذلك يترتّب عليها أثر الطهارة الواقعية وهو حرمة نقضها بالشكّ. وفيه : أنّ جعل الحجّية يوجب تنجيز آثار الواقع عند

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٥.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٦ [ لا يخفى أنّ لفظ « إذ فيه » لم يرد في الطبعة الحديثة من المقالات وإنّما هو موجود في الطبعة القديمة ].

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١٧ و ١٠٦ ، راجع أيضاً المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٨١ وما بعدها.

٢٥٢

الاصابة والمعذورية عند الخطأ ، فإذا فرضنا أنّ من آثار الطهارة الواقعية هو حرمة النقض بالشكّ كما مرّ في العبارة السابقة ، كانت حجّية الأمارة القائمة على الطهارة الواقعية منجّزة لذلك الأثر ، وهو حرمة النقض بالشكّ.

قال : وربما يجاب عن الإشكال على التقدير الثاني بأنّ شأن الاستصحاب بعد ما كان إثبات الملازمة بين ثبوت الشيء وبقائه تعبّداً ، أنّ الحجّة على الملزوم حجّة على اللازم ... الخ (١).

هذا هو محصّل ما في الكفاية ، قال في الكفاية : إنّ اعتبار اليقين إنّما هو لأجل أنّ التعبّد والتنزيل شرعاً إنّما هو في البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشكّ فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبّد به على هذا التقدير ، فيترتّب عليه الأثر فعلاً فيما كان هناك أثر ، وهذا هو الأظهر. ثمّ قال : إنّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّداً ، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعاً الخ (٢).

وبيان ذلك : هو أنّ مفاد الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت الشيء وبين بقائه تعبّداً ، والأمارة لمّا كانت مثبتة لذلك الشيء كانت بضميمة الاستصحاب دالّة بالالتزام على الحكم بالبقاء ، فالاستصحاب يجعل الملازمة والأمارة تثبت الملزوم ، وهي في ذلك ـ أعني إثباتها الملزوم ـ دالّة بالملازمة الحاكم بها الاستصحاب على ذلك اللازم التعبّدي وهو البقاء تعبّداً ، وبالجملة : هي تثبت اللازم مع تحقّق نفس الملازمة بالاستصحاب ، فهي في ذلك نظير القياس

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٦ [ لا يخفى أنّ في الطبعة القديمة والحديثة من المقالات ورد هكذا : أو الحجّة على الملزوم ... ].

(٢) كفاية الأُصول : ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

٢٥٣

الاستثنائي المتعرّض لاثبات المقدّم ، نظير قولنا : لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً ، لكن الشمس طالعة فالنهار موجود ، وهكذا نقول فيما نحن فيه : لو كانت الطهارة الواقعية موجودة لبقيت تعبّداً في مقام الشكّ في بقائها ، وهذا بدليل الاستصحاب ، لكن الطهارة الواقعية موجودة وهذا بحكم الأمارة ، فتكون النتيجة أنّ الطهارة الواقعية هنا باقية تعبّداً.

قال قدس‌سره : ولكن لا يخفى ما فيه ، من أنّ لازم ذلك وقوع المعارضة بين قاعدة الشكّ بعد الفراغ والبيّنة السابقة على الحدث السابق ، فلا وجه لتخصيص تعارضه بالاستصحاب كي يرفع اليد عن الاستصحاب بالقاعدة من جهة لزوم قلّة الموارد أو انتفائها (١).

من شكّ بعد الفراغ في أنّ صلاته كانت مع الطهارة أو الحدث ، فالاستصحاب قاض بحدثه ، لكن قاعدة الفراغ حاكمة عليه بالنسبة إلى صحّة صلاته ، وإن بقي جارياً فيما يأتي من الصلوات الآتية ، فيلزمه الوضوء لها. أمّا لو قامت عنده بيّنة بعد الفراغ بأنّ صلاته كانت مع الحدث ، كانت تلك البيّنة حاكمة على قاعدة الفراغ ، هذا حال البيّنة والاستصحاب الجاريين بعد الفراغ من الصلاة. وأمّا لو كان أحدهما جارياً قبل دخوله في الصلاة ، بأن قامت عنده البيّنة أو الاستصحاب على أنّه محدث ، فغفل وصلّى وقد علم أنّه لم يتوضّأ في حال غفلته لم يكن مورداً حينئذ لقاعدة الفراغ ، وكانت البيّنة السابقة والاستصحاب السابق قاضيين بفساد صلاته ، كما شرحناه في مسألة اعتبار الشكّ الفعلي في الاستصحاب (٢)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٦.

(٢) مرّ شرحه في الحاشيتين المتقدّمتين في الصفحة : ١٢ و ١٥.

٢٥٤

أمّا لو كانت عنده بيّنة على الحدث ثمّ غفل وصلّى ، وبعد الفراغ التفت واحتمل أنّه قد توضّأ بعد قيام تلك البيّنة ، فقد تولّد عنده بعد فراغه استصحاب الحدث الذي قامت عليه البيّنة ، وهذا الاستصحاب محكوم لقاعدة الفراغ فيحكم بصحّة صلاته ، وليس هو بأسوأ ممّن كان قد حصل له القطع بعد صلاته بأنّه قد كان محدثاً واحتمل أنّه توضّأ قبل الصلاة ، في جريان قاعدة الفراغ في حقّه.

وبالجملة : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره في هذا الفرض لا يريد أن يجعل قاعدة الفراغ حاكمة على البيّنة السابقة كي يتوجّه إليه السؤال عن الوجه في هذه الحكومة ، ولعلّ الشبهة في هذا السؤال إنّما نشأت من ذلك الذي أفاده في الكفاية وهو أنّ الحجّة على الملزوم حجّة على اللازم ، فإنّه بناءً على ذلك تكون البيّنة السابقة قاضية بمدلولها الالتزامي ببقاء الحدث تعبّداً إلى حين الصلاة ، فيكون مقتضاها فساد الصلاة ، فنحتاج في الحكم بصحّة صلاته استناداً إلى قاعدة الفراغ إلى دعوى كون قاعدة الفراغ حاكمة على البيّنة في ذلك اللازم.

وفيه : ما عرفت من أنّ البيّنة ليست بأقوى من العلم الوجداني في اقتضاء ذلك اللازم. والجواب الحقيقي هو سقوط الملازمة المذكورة ، فإنّ أساسها إنّما هو الاستصحاب ، وهو محكوم لقاعدة الفراغ.

لا يقال : إنّ البيّنة سابقة على الصلاة ، فتكون دلالتها الالتزامية متحقّقة قبل الصلاة ، والمفروض أنّ منشأ الدلالة الالتزامية هو الاستصحاب ، فيكون الاستصحاب متحقّقاً قبل الصلاة ، فلا يسقط بقاعدة الفراغ ، لما ذكرتموه من عدم حكومتها على الاستصحاب المتحقّق قبل الصلاة.

لأنّا نقول : إنّ فعلية تلك الدلالة الالتزامية إنّما تكون عند الشكّ ، والشكّ إنّما كان بعد الفراغ ، فكان الاستصحاب متحقّقاً بعد الفراغ لا قبل الصلاة ، وقد

٢٥٥

تحقّق أنّ قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ من الصلاة وهذا ـ أعني كون القاعدة حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد الفراغ ـ هو العمدة في اندفاع الإشكال على مسلكه المبني على كون مفاد دليل حجّية الأمارة هو تتميم الكشف ، وعلى المسلك الآخر المبني على تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع.

أمّا على مسلكه فإنّ أقصى ما فيه أنّ قيام الأمارة يولّد اليقين التعبّدي ، فيدخل في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » الذي هو دليل الاستصحاب ، لكن قاعدة الفراغ حاكمة على دليل الاستصحاب.

وأمّا على المسلك الآخر فلأنّ دليل الأمارة وإن كان مفاده ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها ، ومن جملة تلك الآثار الثابتة للواقع هو أنّه لا ينقضه الشكّ وهو مفاد دليل الاستصحاب ، لكن دليل قاعدة الفراغ حاكم بسقوط هذا الأثر ، فلا يبقى لمفاد دليل الأمارة إلاّباقي الآثار المترتّبة على الواقع ، ولأجل ذلك قال : ولا يرد هذا الإشكال على تقريبنا أو التقريب الآخر الموجب للحكومة ، لإمكان دعوى كون جريان القاعدة موجباً لتخصيص دليل البيّنة بلحاظ بعض آثاره الذي هو حرمة نقض يقينه بالشكّ ، فتبقى البيّنة على حجّيتها بالنسبة إلى سائر الآثار ( لكنّه قدس‌سره قال ) وذلك بخلاف فرضنا ( يعني به ما فرضه صاحب الكفاية من كون مفاد دليل الأمارة هو مجرّد جعل الحجّية ، وكون مفاد دليل الاستصحاب هو جعل الملازمة بين ثبوت الشيء واقعاً والحكم التعبّدي ببقائه ) إذ الملازمة الثابتة بالاستصحاب إنّما هي بين البقاء التعبّدي وبين الثبوت الحقيقي على الاطلاق ، ولازمها وقوع المعارضة بالفرض (١) بين دليل البيّنة حتّى بلحاظ سائر الآثار وبين تلك القاعدة ( الفراغ ) أيضاً ( وإنّما قال : حتّى بلحاظ سائر الآثار ، لأنّ المفروض

__________________

(١) في المصدر المطبوع حديثاً صحّحت العبارة هكذا : وقوع المعارضة [ بالعرض ].

٢٥٦

أنّ التعبّد بالبقاء لازم للثبوت الحقيقي الذي هو منبع سائر الآثار ، فقاعدة الفراغ المعارضة للتعبّد بالبقاء لابدّ أن تكون معارضة للبيّنة التي هي حجّة على الثبوت الواقعي ) فيدور الأمر بين رفع اليد عن ذلك العام ( الذي هو مفاد قاعدة الفراغ ) أو رفع اليد عن الاستصحاب أو البيّنة ، ولا أظنّ التزامه من أحد ( كان عليه أن يعطف البيّنة على الاستصحاب بلفظ الواو ، لأنّ الدوران إنّما هو بين عموم قاعدة الفراغ وبين الاثنين أعني الاستصحاب والبيّنة ، ولعلّ الإبدال بلفظة « أو » غلط من الناسخ. وعلى كلّ حال فإنّه قد ظهر لك أنّ أساس معارضة القاعدة للبيّنة إنّما هو من جهة الدلالة الالتزامية الآتية من ناحية الاستصحاب ، فإذا فرضنا سقوط الاستصحاب في المقام لأجل قاعدة الفراغ ، فقد فرضنا سقوط الملازمة المذكورة التي هي الأساس في الدلالة الالتزامية للأمارة على التعبّد ببقاء ما قامت عليه ، فلاحظ وتدبّر. قال قدس‌سره ) ولعمري إنّ تلك الجهة ( من الإشكال إنّما جاءت ) من ثبوت جعل مؤدّى الأمارات مجرّد جعل الحجّية ( وقد عرفت أنّ جعل الحجّية عبارة عن جعل الوسطية في الاثبات ومحرزية الواقع والعلم التعبّدي ، وهو بعينه ما بنى هو قدس‌سره عليه من تتميم الكشف الذي عرفت أنّه رافع للإشكال ، قال قدس‌سره ) ونظير الإشكال المزبور أيضاً يرد بناءً على كون مفاد الأمارة جعل حكم تكليفي بلا لسان تنزيل ، ومفاد دليل الاستصحاب أيضاً حرمة نقض الواقع بالشكّ فيه ، والجواب السابق مع دفعه جارٍ في المقام أيضاً (١).

الذي يرد على هذا التأليف ـ أعني دعوى كون مفاد دليل الأمارة هو الحكم الظاهري ، وكون مفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة بين ثبوت الشيء واقعاً

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧ [ ولا يخفى أنّ ما بين القوسين هو من توضيح المصنّف لكلام المحقّق العراقي قدس‌سرهما ].

٢٥٧

والحكم ببقائه تعبّداً ـ أنّ مجرّد الملازمة لا تنفع ما لم يكن في البين ما نحرز به الملزوم ، وهو ثبوت الشيء واقعاً ، وحينئذ يكون مراده من الإشكال هو أصل إشكال جريان الاستصحاب في موارد الأمارات ، ومراده من الجواب هو ما أفاده في الكفاية من جعل الملازمة ، ومراده بدفع ذلك الجواب هو ما عرفت من أنّ جعل الملازمة لا ينفع في هذا الفرض لعدم إحراز الملزوم ، لكن هذا الدفع لم يتقدّم له في كلامه ذكر ، وإنّما كان إيراده على الكفاية هو ما تقدّم من لزوم كون قاعدة الفراغ معارضة للبيّنة ، والظاهر أنّه لا يتأتّى في هذا التأليف ، وإنّما يتأتّى فيما تقدّم من كون مفاد دليل الأمارة هو الحجّية ، ومفاد دليل الاستصحاب هو الملازمة ، ولأجل ذلك قال هناك : ولعمري إنّ تلك الجهة من ثبوت جعل مؤدّى الأمارات مجرد جعل الحجّية.

قال قدس‌سره : نعم لو كان مفاد دليل الاستصحاب حرمة نقض اليقين ، قد يتوهّم إحراز اليقين بالوجوب المردّد بين الظاهري الزائل أو الواقعي الباقي ، كما لا يخفى على المتأمّل و [ من ] دقّق النظر ، فيستصحب الكلّي المشترك (١).

كلّما تأمّلت ودقّقت النظر القاصر لم أتوفّق لمعرفة كون المقام من قبيل التكليف المردّد بين الزائل والباقي ، مثلاً لو قامت الأمارة على وجوب الفعل الفلاني ، ثمّ شككنا في بقاء ذلك الوجوب لاحتمال طروّ رافعه فنقول : إنّ تلك الأمارة لو كانت مطابقة للواقع كان كلّ من الواقعي الواقعي (٢) والوجوب الظاهري

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٧.

(٢) [ كان في الأصل : التكليف الواقعي ، ولكنّ المصنّف قدس‌سره شطب عليه وأبدله ب : الواقعي الواقعي ].

٢٥٨

مشكوك البقاء ، وإن كانت مخالفة للواقع فلم يكن في البين إلاّ الوجوب الظاهري وهو أيضاً مشكوك البقاء مع فرض كونه معلوم الحدوث ، هذا إذا قلنا بكون الوجوب الظاهري حكماً حقيقياً إمّا مطلقاً وإمّا في صورة الخطأ ، لأنّه في صورة الاصابة يندكّ مع الوجوب الواقعي. وإن قلنا بأنّه لا حقيقة للوجوب الظاهري ، وأنّه صوري محض لحفظ الواقع ، ففي صورة الاصابة لا يكون إلاّ الوجوب الواقعي وهو مشكوك البقاء ، وفي صورة الخطأ لا يكون في البين وجوب أصلاً.

نعم ، قد يقال : إنّ طروّ الشكّ في البقاء يوجب سقوط الحكم الظاهري ، لأنّ قوامه هو الحجّية والاحراز وقد زال ذلك بالشكّ. وبعبارة أُخرى أنّ قوام الحكم الظاهري منوط بالعلم بوجوده ، وفي ظرف الشكّ ببقائه لا قطع بوجوده فينعدم الحكم الظاهري ، لكن الحكم الواقعي لو كان لا يكون معلوم البقاء ، وحينئذ يدور الأمر في المثال بين وجوب ظاهري مقطوع الزوال ووجوب واقعي مشكوك الارتفاع لا مقطوع البقاء.

لا يقال : إنّه وإن كان في حدّ نفسه مشكوك البقاء ، إلاّ أنه بالنظر إلى الاستصحاب يكون معلوم البقاء تعبّداً.

لأنّا نقول : إنّ النظر إلى الاستصحاب لا يكون نافعاً ، لأنّ الكلام إنّما هو قبل النظر إلى الاستصحاب ، بمعنى أنّ نفس الشيء المستصحب إذا كان مردّداً بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، يكون مورداً لاستصحاب الكلّي ، لا أنّه بالنظر إلى الاستصحاب يكون كذلك.

نعم ، هنا شيء آخر وهو أنّه لو تردّد الحادث بين البقّة المقطوعة الارتفاع بعد أيّام ، والفيل المحتمل البقاء لاحتمال موته في هذه الأيّام ، يمكن إجراء استصحاب الكلّي في مثل ذلك ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ الوجوب

٢٥٩

الظاهري يكون بالشكّ في بقائه مقطوع الارتفاع ، وحيث إنّه يحتمل إصابته الواقع فيكون الوجوب الواقعي الحادث مشكوك البقاء ، فيكون ما نحن فيه من قبيل المردّد بين مقطوع الارتفاع ومشكوك البقاء ، فيجري استصحاب الكلّي الجامع بينهما.

ولعلّ هذا هو المراد من الوجوب المردّد بين الظاهري الزائل والواقعي الباقي ، بأن يكون المراد بالباقي ما يمكن بقاؤه ، فإن كان هذا هو المراد توجّه عليه أنّ الحكم الظاهري لا يكون بالشكّ في بقائه مقطوع الارتفاع ، بل يكون مشكوك البقاء ، لأنّ الحكم الظاهري وإن كان متقوّماً بالعلم بوجوده ، لكن ذلك في أصل حدوثه ، أمّا بعد العلم بحدوثه وطروّ احتمال رفعه ، فلا يكون إلاّمن قبيل الشكّ في البقاء حتّى لو قلنا إنّه صوري ، فإنّ ذلك ـ أعني كونه صورياً ـ إنّما هو في قبال الواقعي الحقيقي ، لكنّه لا يخرج بذلك عن كونه أثراً شرعياً ومجعولاً من المجعولات الشرعية ، أيّاً كان ذلك الأثر المترتّب على قيام الأمارة ، وهذا المعنى الذي حدث بقيام الأمارة نشكّ في بقائه بعد طروّ الشكّ المذكور ، وعليه يكون كلّ من الظاهري والواقعي على تقدير وجوده مشكوك البقاء.

وحينئذ لا يرد عليه ما أفاد بقوله قدس‌سره : لكن فيه أوّلاً : أنّ المقام من قبيل اليقين بحكم ظاهري شخصي يشكّ في مقارنته مع فرد آخر باق ، وهو من القسم الثالث غير الجاري فيه الاستصحاب (١) ، لما عرفت من أنّ كلاً منهما مشكوك البقاء. نعم بناءً على هذا الذي ذكرناه من أنّ كلاً منهما مشكوك البقاء لا نحتاج إلى استصحاب الكلّي ، بل يكفينا استصحاب شخص الوجوب الذي كان معلوماً قبل طروّ الشكّ ،

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٧٧.

٢٦٠