أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

ذلك الشخص مستطيع ، فهذه الاستطاعة وإن كانت بوجودها العلمي داعية إلى جعل ذلك الوجوب وتوجيهه إلى ذلك الشخص ، إلاّ أن تلك الداعوية لا يكون المنشأ فيها هو ذات الاستطاعة كما كانت ذات المصلحة داعية إلى جعل ذلك الوجوب في القسم الأوّل ، بل لا يكون المنشأ في هذه الداعوية إلاّ الجعل الشرعي الحاصل بتلك القضية الحقيقية السابقة في الجعل على هذه القضية الخارجية. وما نحن فيه من القسم الثاني ، فإنّ الآمر بعد علمه بتحقّق الدلوك لو وجّه إلى شخص خاص أمراً مطلقاً بالصلاة ، لم يكن داعوية الدلوك في هذه القضية الخارجية ناشئة عن ذات الدلوك.

نعم ، إنّ صاحب الكفاية لمّا بنى على أنّ الشرط إنّما يؤثّر بوجوده العلمي ، كان لازم كلامه هو إنكار القضايا الحقيقية ، وإرجاع الكل إلى الاخبار بأنّه ينشئ الوجوب عند وجود الدلوك ، فتكون إخباراً عن قضايا خارجية ، فلا يكون عنده قضية حقيقية تكون هي المنشأ في أخذ الدلوك داعياً في هذه القضية الخارجية التي فرضناها ، فلا يكون داعوية الدلوك فيها ناشئة عن جعل الشارع ، فيتمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّه لو كانت القضية خارجية لم تكن مدخلية الدلوك بجعل من الشارع.

قوله : وكذا يقال إنّ هذه الصلاة صحيحة ، أي كونها واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون الصلاة واجدة لها من الملاك والمصلحة القائمة بها ـ إلى قوله ـ والصحّة والفساد بهذا المعنى إنّما تنتزعان عن مقام الذات قبل تعلّق الأمر بها ، وتكون تلك الخصوصية منشأ لتعلّق الأمر بالذات ... الخ (١).

ربما يتأمّل في ذلك من جهة أنّ المصلحة في ذات الصلاة متوقّفة على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٩٨.

٢٠١

الاتيان بها بداعي الأمر ، فهي قبل الأمر غير وافية بالمصلحة ، فلا يكون الاتيان بداعي الأمر في توقّف وفاء الصلاة بالمصلحة إلاّككونها مع الطهارة أو إلى القبلة ، غايته أنّ داعي الأمر لا يمكن أن يكون قيداً في متعلّق الأمر ، بخلاف باقي القيود والشرائط.

وبالجملة : أنّا لا نتعقّل في ذات الصلاة مصلحة مع قطع النظر عن الأمر بها واشتمالها على قيد داعي الأمر ، نعم يتمّ ذلك في التوصّليات وفي العبادات الذاتية مثل الخضوع والسجود والدعاء ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ ذات الصلاة بذاتها عبادة ، لكنّه لو تمّ فيها لم يتمّ في مثل الصوم والحجّ والزكاة وباقي العبادات التي يكون قوام عباديتها بالاتيان بها بداعي الأمر ، فلاحظ ، وتمام الكلام في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

قوله : هذا ، ولكن التحقيق أنّ الصحّة والفساد ليسا من الأحكام الوضعية المتأصّلة بالجعل ، بل في بعض الموارد يمكن ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الصحّة بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به واقعاً لا تدخل في الأحكام كي يتكلّم في أنّها مجعولة أصالة أو تبعاً أو أنّها منتزعة ، وقد تقدّم ما ينبغي مراجعته في بحث الجزئية والشرطية والمانعية بالنسبة إلى الصحّة والفساد في حواشي ص ١٤٣ (٢) فراجع.

وأمّا المطابقة للأمر الظاهري بلحاظ الكفاية عن الواقع ، فكذلك أيضاً لا تكون إلاّعبارة عن المطابقة للواقع الثابت بدليل الأمر الظاهري ، فما يقال في باب اقتضاء النهي للفساد من كون الصحّة في هذه المرحلة مجعولة ، لرجوعها إلى

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٠.

(٢) راجع الصفحة : ١٧٧.

٢٠٢

إجزاء المأتي به ظاهراً عن الواقعي الذي هو عبارة عن تنزيله منزلة الواقعي ، لا يدفع الإشكال ، إذ بعد ذلك التنزيل لا يثبت لنا إلاّ أن الأمر الظاهري مطابق للواقع ، ولازم ذلك هو تحقّق الواقع لدى المكلّف ، وأنّ هذا الذي أتى به مطابق للواقع.

والحاصل : أنّ التصرّف الشرعي لم يقع في المطابقة بل في نفس الواقع ، ولا تخرج الصحّة في ذلك عن كونها عبارة عن المطابقة الوجدانية ، غايته أنّها تارةً تكون عبارة عن المطابقة للواقع الحقيقي ، وأُخرى تكون عبارة عن المطابقة للواقع التنزيلي ، وفي كلّ من الصورتين لا تكون من الأحكام الشرعية ، بل هي فيهما عبارة عن تلك الاضافة بين المطابق ـ بالكسر ـ والمطابق ـ بالفتح ـ وكون المطابق ـ بالفتح ـ حكماً شرعياً لا يوجب كون نفس تلك الاضافة الانتزاعية بينهما حكماً شرعياً. وأمّا ما أُفيد من كونها منتزعة من نفس فعل المكلّف ففيه تأمّل ، لما عرفت من كونها منتزعة من لحاظه بالاضافة إلى المأمور به واقعاً أو ظاهراً. نعم إنّ هذه الاضافة الانتزاعية واقعية وليست من الأحكام الشرعية. هذا كلّه قبل انكشاف الخلاف.

وأمّا بعده فقد يقال : إنّ مرجع الحكم بالإجزاء إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد. وفيه : أنّ الأمر كذلك أيضاً ، إذ لا محصّل لذلك التنزيل إلاّ إسقاط لزوم ذلك الذي انفقد ، ومن الواضح أنّه بعد إسقاطه يكون أمره الواقعي متعلّقاً بما عداه ، ويكون ما أتى به مطابقاً للواقع. وأمّا القول بأنّ الإجزاء من باب اكتفاء الشارع بالفاقد عن الواجد ، فقد عرفت أنّه راجع إلى الأوّل وهو الاسقاط لما انفقد ، وإن كان مرجعه إلى أنّ المأتي به يكون موجباً لفوت مصلحة الواجد ، على ما تقدّم تفصيله في أواخر البراءة (١) ، فمن الواضح حينئذ أنّه ليس في البين صحّة

__________________

(١) راجع الجزء الثامن من هذا الكتاب الصفحة : ٥٥٣ وما بعدها.

٢٠٣

كي يتكلّم في أنّها مجعولة أو منتزعة أو أنّها ليست من الأحكام أصلاً.

قوله : وأمّا الثاني فهو عبارة عن المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم كمصاديق الملكية والزوجية ، غايته أنّ تطبيق المفهوم على المصداق تارةً ممّا يدركه العرف ، وأُخرى لا يدركه إلاّ العالم بالواقعيات ، كما إذا لم يدرك العرف أنّ العقد الكذائي يكون سبباً للملكية إلاّ أن الشارع يرى تحقّق الملكية عقيب العقد ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بعد البناء على أنّ الطهارة والنجاسة من قبيل الاعتبارات العرفية ، لا يكون الاختلاف بين العرف والشرع فيها راجعاً إلى التخطئة ، بل يكون راجعاً إلى الامضاء وعدمه ، ولا يصحّ القول بأنّ النجاسة في مثل الكافر لم يدركها العرف ، وإنّما أدركها العالم بالواقعيات ، لأنّ ذلك إنّما يناسب القول بأنّ الطهارة والنجاسة من الأُمور الواقعية التي يكون مرجع الاختلاف فيها بين الشرع والعرف إلى تخطئة الشارع العرف ، لاطّلاعه على الواقعيات وعدم اطّلاعهم عليها.

نعم بناءً على أنّ الطهارة والنجاسة من الأُمور الاعتبارية نظير الملكية والزوجية ، وبناءً على تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد ، يصحّ أن يقال : إنّ الشارع لم يمض حكم العرف بطهارة الكافر ، لما يراه من المصلحة أو المفسدة الموجبة للحكم بنجاسته ، لكن هذا غير راجع إلى ما أُفيد من أنّ العرف لم يطّلعوا على المصداق ، بل هو راجع إلى أنّ العرف لم يطّلعوا على ملاك الحكم ، يعني أنّ حكمهم بطهارة بعض الأشياء التي خالفهم فيها الشارع ، وكذلك حكمهم بنجاسة البعض الآخر كان بلا جهة تقتضيه ، بل كانت الجهة فيه تقتضي العكس ، وهذا نظير حكمهم بصحّة المعاملة الربوية ونكاح زوجة الأب ، وعدم حكم الشارع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٢.

٢٠٤

بذلك لأجل اطّلاعه على المفسدة في الربا ونكاح زوجة الأب ، الموجبة للحكم بالفساد.

وبالجملة : أنّ التخطئة في المصاديق وعدم اطّلاع العرف على بعضها لا يناسب الأحكام الوضعية ، وإنّما يناسب العناوين الواقعية التي يقع الخطأ في تعيين مصاديقها من العرف ، فلاحظ وتأمّل.

وتوضيح ذلك : أنّ الاختلاف في المصاديق مع الاتّفاق على المفهوم يكون على أنحاء :

الأوّل : أن يكون من باب التخطئة ، وذلك في المفاهيم الواقعية مثل مفهوم المضرّ والنافع والمصلحة والمفسدة ، فإنّه ربما يقع الخلاف في شرب اللبن للمحموم ، فترى بعض الأطباء يقول بأنّه مضر وبعضهم يقول إنّه نافع.

والثاني : أن لا يكون من باب التخطئة ، بل يكون من باب الاختلاف في الاعتبار ، وذلك في الأُمور الاعتبارية مثل التحية والتعظيم ، فبعضهم يعتبر السلام والقيام تحية وتعظيماً ، وطائفة أُخرى يعتبرون رفع ما على الرأس تحية وتعظيماً ، ولكن لا يكون في البين تخطئة من الطرفين.

ومن ذلك الاختلاف بين الشرع والعرف ، فالشرع لا يعتبر الملكية في البيع الربوي ، لكن العرف يعتبرها من دون تخطئة في البين.

نعم ، ربما ردع الشارع عمّا يعتبره العرف ، كما في المثال وكما في الحجّية فإنّ العرف يرون القياس وخبر الفاسق المأمون الكذب حجّة ، والشارع ردعهم عن ذلك ، لكن لو ورد دليل رتّب الشارع فيه حكماً على الملكية أو الحجّية ، لم يكن ذلك الدليل شاملاً لما لا يكون ملكاً أو حجّة في نظر الشارع ، إلاّ إذا فهمنا من ذلك الدليل أنّ المدار في ذلك الحكم على ما هو عند العرف ، كما ذكرناه في

٢٠٥

مسألة بيع المجهول والغرر ، فقد جوّزنا الاعتماد في رفع الجهالة ورفع الغرر على ما لا يكون حجّة شرعية كالقياس وخبر الفاسق ، لأنّا فهمنا من الدليل الدالّ على مانعية الجهل أو الغرر هو ما يكون مجهولاً وغررياً عرفاً ، ومن الواضح أنّ إحراز صفة المبيع أو مقداره بالقياس أو بخبر الفاسق يخرجه عن الجهالة العرفية والغرر العرفي.

النحو الثالث : أن يكون من باب الاختلاف بحسب الذوق أو الطبع ، كما تراه في اختلافهم في الصوت الحسن ، فبعضهم يستحسن الصوت الفلاني وبعضهم يستهجنه ، وهكذا الحال في المذوقات والمرئيات ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وأنت بعد اطّلاعك على هذا التفصيل تعرف أنّ التخطئة وكون الشارع مطّلعاً على الواقعيات إنّما تقال في الأُمور الواقعية ، دون الأُمور الاعتبارية.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا المقام من إجراء هذه الجمل في الأُمور الاعتبارية ، وكذلك ما أفاده العلاّمة الخراساني قدس‌سره في باب الصحيح والأعمّ في أسامي المعاملات بقوله : والاختلاف بين الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف بينهما في المعنى ، بل الاختلاف في المحقّقات والمصاديق وتخطئة الشرع العرف في تخيّل كون العقد بدون ما اعتبره في تأثيره محقّقاً لما هو المؤثّر ، كما لا يخفى ، فافهم (١).

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ عدم اعتبار الشارع الملكية في العقد الربوي مثلاً من باب التخطئة للعرف ، لكن ليس المراد تخطئتهم في المصداق ، بل بمعنى تخطئتهم في الاعتبار وجعل ذلك الحكم الوضعي ـ أعني الملكية ـ في مورد البيع

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٣.

٢٠٦

الربوي ، باعتبار كون الحكم بالملكية في ذلك المورد فيه مفسدة توجب عدم جعل الملكية وعدم اعتبارها في ذلك ، ولعلّ هذا [ هو ] المراد بالتعبير بأنّ الشارع مطّلع على الواقعيات على ما هي عليه ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى أي حال ، فالطهارة والنجاسة لا إشكال في أنّهما ليستا من المخترعات الشرعية ، على وجه لا يكون لهما عين ولا أثر في العرفيات ، ولا تكون هذه الألفاظ عندهم إلاّمهملة أو موضوعة لمعانٍ أُخر لا ربط لها بهذا المعنى الشرعي ، بل هما موجودان عند العرف ، غاية الأمر أنّ بين الشرع والعرف اختلافاً في بعض المصاديق ، فإن قلنا إنّ الطاهر والنجس من الأُمور الواقعية نظير النافع والضارّ ، كان ما قرّره الشارع من باب تخطئة الشارع العرف لأجل أنّه اطّلع على ما لم يطّلع عليه العرف. وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا إنّهما من الاعتبارات العرفية ، نظير اعتبارهم الملكية والزوجية والرقّية والحرّية ونحوها من الأحكام الوضعية العرفية ، لم يكن ما قرّره الشارع تخطئة للعرف ، بل كان من قبيل الاختلاف في الاعتبار. والظاهر هو الثاني ، بمعنى أنّ الطهارة والنجاسة عند العرف من الاعتبارات العقلائية ، لا أنّهما من الأُمور الواقعية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ كون ذلك من قبيل الأُمور الواقعية إنّما يمكن في خصوص الطهارة والنجاسة ، دون مثل الملكية والزوجية ، ولكن الذي يظهر من الشيخ قدس‌سره هو التسوية بين الجميع في ثاني الوجهين ، على الرغم ممّا يظهر من هذا التحرير والتحرير الآخر من أنّ الشيخ قدس‌سره فرّق بين الملكية والطهارة.

والأولى نقل عبارة الشيخ قدس‌سره على طولها ليتّضح للقارئ مراد الشيخ قدس‌سره ، فإنّه قدس‌سره في مسألة الصحّة والفساد بعد أن فرغ من البحث في الصحّة والفساد في العبادات قال ما هذا لفظه : وأمّا في المعاملات فهما ترتّب الأثر عليها وعدمه ،

٢٠٧

فمرجع ذلك إلى سببية هذه المعاملة لأثرها وعدم سببية تلك ، فإن لوحظت المعاملة سبباً لحكم تكليفي كالبيع لإباحة التصرّفات والنكاح لإباحة الاستمتاعات ، فالكلام فيها يعرف ممّا سبق في السببية وأخواتها ، وإن لوحظت سبباً لأمر آخر كسببية البيع للملكية والنكاح للزوجية والعتق للحرّية وسببية الغسل للطهارة ، فهذه الأُمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية.

نعم ، الحكم بثبوتها شرعي ، وحقائقها إمّا أُمور اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية ، كما يقال : الملكية كون الشيء بحيث يجوز الانتفاع به وبعوضه ، والطهارة كون الشيء بحيث يجوز استعماله في الأكل والشرب والصلاة نقيض النجاسة ، وإمّا أُمور واقعية كشف عنها الشارع.

فأسبابها على الأوّل في الحقيقة أسباب للتكاليف ، فتصير سببية تلك الأسباب في العادة كمسبّباتها أُموراً انتزاعية.

وعلى الثاني يكون أسبابها كنفس المسبّبات أُموراً واقعية مكشوفاً عنها ببيان الشارع (١).

وظاهر العبارة أنّ الترديد بين كونها أُموراً اعتبارية منتزعة من الأحكام التكليفية وبين كونها أُموراً واقعية كشف عنها الشارع إنّما هو في الجميع ، لا أنّ الشقّ الأوّل منحصر بما هو مثل الملكية ، والشقّ الثاني منحصر بالطهارة والنجاسة كيف وقد صرّح في الشقّ الأوّل بدخولهما ، ولم أتوفّق لمعرفة المراد بقوله قدس‌سره : فهذه الأُمور بنفسها ليست أحكاماً شرعية ، نعم الحكم بثبوتها شرعي. أمّا عدم كونها أحكاماً شرعية لأنّها إمّا أن تكون منتزعة من التكليف في موردها ، وإمّا أن تكون من الأُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، وعلى أيّ حال ، فهي بذاتها

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

٢٠٨

ليست حكماً شرعياً ، لكن لم أتوفّق لمعرفة المراد بقوله : نعم الحكم بثبوتها شرعي ، لكن أفاد الآشتياني قدس‌سره أنّ المراد من الحكم في المقام هو الإخبار والتصديق ، لا الجعل الشرعي المقابل له ، فراجع (١).

وقال المرحوم الميرزا موسى في حاشيته على قول الشيخ قدس‌سره : نعم الحكم بثبوتها شرعي الخ : لا يقال : إنّ بعض الأُمور المذكورة إذا كان اعتبارياً كما صرّح به فكيف يكون ثبوته شرعياً ، إذ الأمر الاعتباري لا يكون ثبوته شرعياً ، بل يكون بحسب اعتبار العقل لا محالة. لأنّا نقول : إنّ المراد بثبوته ليس ثبوت نفس الأمر الاعتباري ، بل ما انتزع منه الأمر الاعتباري ، أعني الحكم التكليفي الذي هو شرعي (٢)

__________________

(١) بحر الفوائد ٣ : ٧٠.

(٢) أوثق الوسائل : ٤٧٧.

٢٠٩

[ تنبيهات الاستصحاب ]

قوله : فإنّ المراد من « اليقين » في أخبار الاستصحاب ليس هو اليقين الوجداني ، بل كلّ ما يكون محرزاً للمستصحب بأحد وجوه الاحراز من اليقين الوجداني أو ما هو بمنزلته ، بناءً على ما هو الحقّ عندنا من قيام الطرق والأُصول المحرزة مقام القطع الطريقي ... الخ (١).

الخلاصة : هي أنّ الشارع لو أوجب الاجتناب عن الخمر فهذا أثر تابع للخمر الواقعي ، فلا يكون القطع بالخمرية إلاّطريقاً صرفاً بالنسبة إلى هذا الأثر. ولو قال : إذا قطعت بأنّ هذا خمر وجب عليك إراقته ، بحيث كان موضوع وجوب الاراقة هو الخمر الواقعي المقطوع ، كان القطع في مثل ذلك جزء الموضوع. ولو قال : إذا قطعت بأنّ هذا خمر وجب عليك التصدّق بدرهم ، بحيث كان موضوع وجوب التصدّق هو نفس القطع سواء أصاب الواقع أو أخطأ ، كان القطع في مثل ذلك تمام الموضوع ، وقد تقدّم لشيخنا قدس‌سره (٢) تشكيك في تصوّر ذلك ، أعني أخذ العلم الطريقي تمام الموضوع.

وعلى كلّ حال ، فقد تقدّم أنّ الأمارات والأُصول تقوم مقام القسم الأوّل من القطع ، وأنّ في قيامها مقام القسم الثاني والثالث خلافاً ، فصاحب الكفاية قدس‌سره (٣)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١١ ، وراجع أيضاً الصفحة : ٢٠ وما بعدها من المجلّدالسادس من هذا الكتاب.

(٣) كفاية الأُصول : ٢٦٣.

٢١٠

منع من ذلك ، وأجازه شيخنا قدس‌سره (١) ، هذه خلاصة ما تقدّم في مباحث القطع.

ولكن حدثت هنا عندنا مسألة لعلّها راجعة إلى ذلك المبحث ، وهي أنّ الشارع قد قال : إذا قطعت بوجود شيء وحصل لك الشكّ في بقائه فلا تنقض يقينك بالشكّ المذكور ، بل يلزمك الجري على طبق يقينك السابق إلى أن يحصل لك القطع بارتفاع ذلك الشيء الذي قطعت بوجوده ، فاليقين في هذه القضية قد أُخذ موضوعاً للحكم المذكور ، أعني لزوم البقاء عليه وعدم نقضه بالشكّ ، فلو لم يكن عندنا يقين بوجود ذلك الشيء ، لكن كان لدينا أمارة قائمة على وجوده ، أو كان لنا أصل يحكم بوجوده ، فلا شبهة في حجّية تلك الأمارة أو ذلك الأصل ، وأنّ ذلك يكون قائماً مقام القطع بوجود ذلك الشيء إمّا في خصوص النحو الأوّل من الآثار السابقة الذكر كما يدّعيه صاحب الكفاية ، أو في جميع الآثار حتّى الثاني والثالث كما يدّعيه غيره ، وليس هذا التعميم من باب أنّ موضوع تلك الآثار هو الأعمّ من اليقين الوجداني واليقين التعبّدي ، بل هو من باب حكومة دليل اعتبار الأمارة والأصل على الأدلّة المتكفّلة لتلك الآثار. والظاهر أنّ هذه الحكومة ظاهرية بالنسبة إلى الأثر الأوّل ، وواقعية بالنسبة إلى الأثر الثاني والثالث ، نظير « الطواف بالبيت صلاة » (٢).

ولكن لو شككنا في بقاء ذلك الشيء الذي ثبت وجوده بالأمارة أو بالأصل ، فهل نكون بذلك داخلين في القضية المشار إليها ، أعني مفاد « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، بدعوى أنّ مفاد حجّية الأمارة أو الأصل المذكور هو كون الاحراز الحاصل منهما بمنزلة اليقين ، حتّى في هذا الأثر وهو عدم جواز نقضه بالشكّ ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢١.

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

٢١١

على وجه يكون اليقين في قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » شاملاً لليقين التعبّدي بوجود الشيء الحاصل من الأمارة أو الأصل ، أو أنّ قوله : « لا تنقض اليقين » مختصّ باليقين الوجداني ، ودليل التعبّد بحجّية الأمارة والأصل إنّما يوجب ترتّب آثار اليقين عليها الراجعة إلى أحد الآثار الثلاثة السابقة ، دون هذا الأثر وهو عدم جواز نقضه بالشكّ ، فالأمارة والأصل وإن قاما بدليل حجّيتهما مقام القطع المأخوذ في ترتّب الأثر إمّا على نحو تمام الموضوع أو على نحو جزء الموضوع ، إلاّ أنّه لا دليل على قيامهما مقام القطع المأخوذ موضوعاً لهذه القضية أعني « لا تنقض اليقين بالشكّ » إذ ليس لدليل حجّيتهما إطلاق يقضي بذلك.

والظاهر أنّ اليقين في هذه القضية هو اليقين الوجداني ، ودليل تنزيلهما منزلة اليقين الوجداني إنّما هو بالنسبة إلى أحد تلك الآثار الثلاثة. وليس ذلك راجعاً إلى دعوى كون اليقين في باب الاستصحاب مأخوذاً بنحو الصفتية ، بل إلى دعوى كون الظاهر هو القطع واليقين الوجداني ، فلم يبق بأيدينا إلاّحكومة دليل حجّية الأمارة ، وقد عرفت قصورها عن الشمول لهذا الأثر.

نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ الظاهر من اليقين في قوله : « لا تنقض اليقين » مطلق الاحراز العقلائي ولو من الأمارة أو الأصل الاحرازي ، فالحجر الأساسي لدعوى جريان الاستصحاب فيما شكّ في بقائه ممّا قام الطريق أو الأصل على وجوده هو هذه الجهة ، وهي أنّ اليقين في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » شامل لليقين التعبّدي الحاصل من قيام الطريق أو الأصل على وجود الشيء. أمّا ما تقدّم في باب جعل الطرق وفي باب مبحث القطع من قيام الطرق والأُصول الاحرازية مقام القطع الطريقي المأخوذ في الحكم على نحو الموضوعية من حيث

٢١٢

المحرزية أو من حيث التنجيز والمعذّرية ، فهو بمجرّده لا ينفع في تمامية الجهة المطلوبة فيما نحن فيه من شمول اليقين لليقين التعبّدي.

والحاصل : أنّ جريان هذا الحكم لليقين ـ وهو أنّه لا ينقضه الشكّ ـ على الاحراز الحاصل من الأمارة أو الأصل يتوقّف على أحد أمرين :

الأوّل : كون المراد من اليقين في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » هو الاحراز العقلائي ، سواء كان هو اليقين الوجداني ، أو كان هو الاحراز العقلائي الحاصل من قيام الأمارة أو الأصل الاحرازي.

الثاني : أنّ اليقين في الجملة المذكورة وإن كان هو اليقين الوجداني ، إلاّ أن دليل حجّية الأمارة والأصل الموجب لجعل الاحراز في مواردهما يكون حاكماً على دليل « لا تنقض » ، وموجباً لتوسعة الموضوع الذي هو اليقين إلى ما هو أعمّ من اليقين الوجداني ، نظير « الطواف بالبيت صلاة » بالنظر إلى الدليل القائل بأنّه تجب الطهارة في الصلاة ، ولو استبعدنا الوجه الثاني فالوجه الأوّل غير بعيد ، بالنظر إلى أنّ قوله عليه‌السلام : « لا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » قضية عقلائية إمضاءً لما عليه الطريقة العقلائية من عدم اعتنائهم بالشكّ في قبال ما هو يقين عندهم ، ولا ريب في أنّهم يعتبرون الاحراز من الأمارة والأصل يقيناً.

نعم ، على هذا ينبغي التعميم لكلّ ما هو محرز للواقع عندهم حتّى مثل القياس ، لكن الشارع بعد أن ردعهم عن ذلك يكون هذا الردع قرينة على خروجه عن عموم « لا تنقض اليقين ». وهكذا الحال فيما لو قلنا إنّ قضية « لا تنقض اليقين » قضية تأسيسية ، لا لمجرّد الجري على الطريقة العقلائية ، بل هي قضية شرعية تأسيسية أو إمضائية ، فإنّه لا مانع من دعوى شمولها لكلّ ما هو يقين عند

٢١٣

الشارع وإن لم يكن يقيناً وجدانياً ، فلاحظ وتأمّل.

والنتيجة : أنّ هذا الحكم المجعول لليقين وهو عدم نقض الشكّ له ، كسائر الأحكام المجعولة لليقين ممّا يكون اليقين فيه تمام الموضوع أو جزء الموضوع في عدم جريانه في غير اليقين من سائر الاحرازات ، إلاّبدعوى كون الظاهر من الدليل المتكفّل لذلك الحكم المجعول لليقين هو الأعمّ من اليقين الوجداني ، فلا نحتاج إلى ارتكاب طريقة الحكومة ، ولا إلى دعوى كون الأمارة والأصل قائمة مقام القطع الوجداني. بل بناءً عليه تكون هي موضوعاً لذلك الحكم في عرض القطع الوجداني ، أو بدعوى أنّ الظاهر من ذلك الدليل وإن كان هو اليقين الوجداني إلاّ أن أدلّة حجّية الأمارة والأصل الاحرازي حاكمة عليه ، وموجبة لتوسعة موضوع ذلك الحكم إلى ما هو الأعمّ من اليقين الوجداني ، نظير « الطواف بالبيت صلاة ». والإنصاف اختلاف الموارد ، ولا يبعد أنّ ما نحن فيه من قبيل الأوّل.

ولا يخفى أنّ ظاهر قول شيخنا قدس‌سره : إنّ المراد باليقين كلّ ما هو محرز (١) هو الوجه الأوّل ، لكن ظاهر قوله : بناءً على ما هو الحقّ عندنا من قيام الطرق والأُصول المحرزة مقام القطع (٢) هو الثاني ، إذ بناءً على الوجه الأوّل لا يصحّ قولنا إنّ الأمارة والأصل المحرز قائمة مقام القطع ، بل بناءً عليه تكون هي موضوعاً للحكم في عرض القطع الوجداني ، إلاّبنحو من التوسّع والتساهل في التعبير فلاحظ.

والذي يظهر من الشيخ قدس‌سره هو الوجه الأوّل ، حيث إنّه في الأمر الخامس

__________________

(١) تقدّم مصدرها آنفاً.

(٢) تقدّم مصدرها آنفاً.

٢١٤

من الأُمور التي ذكرها في أوائل الاستصحاب [ قال ] ما هذا لفظه : إنّ المستفاد من تعريفنا السابق الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرّد الوجود السابق أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين : أحدهما وجود الشيء في زمان ، سواء علم به في زمان وجوده أم لا ، نعم لابدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم أو الظنّ المعتبر الخ (١) لكن الآشتياني قدس‌سره حملها على الوجه الثاني فقال : ويلحق باحراز الوجود السابق باليقين إحرازه بالظنّ المعتبر ، من باب تحكيم دليل اعتباره ، لا من جهة دخوله موضوعاً حقيقة كما ربما يستظهر من الكتاب (٢).

ولا يخفى أنّ قوله في هذا التحرير : بناءً على ما هو الحقّ عندنا من قيام الطرق والأُصول المحرزة مقام القطع الطريقي ... الخ (٣) محتاج إلى زيادة مثل قولنا : المأخوذ في الموضوع ، إذ لا نزاع في قيامهما مقام القطع الطريقي الصرف ، وإنّما النزاع بينه وبين صاحب الكفاية قدس‌سرهما في القطع الطريقي المأخوذ في موضوع الحكم ، وكأنّه إنّما ترك هذا القيد اعتماداً على وضوح المراد ، وهكذا الحال في العبارات الآتية ، مثل قوله : فإنّ منشأ الإشكال هو تخيّل عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي (٤). وقوله : نعم ، بناءً على مسلكه من عدم قيام الطرق والأمارات مقام القطع الطريقي (٥)

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ٢٤.

(٢) بحر الفوائد ٣ : ١١ مبحث الاستصحاب.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٤.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٩.

(٥) فوائد الأُصول ٤ : ٤١٠.

٢١٥

قوله : فلا مانع من استصحاب بقاء مؤدّى الأمارة والطريق ، لأنّ المستصحب قد أُحرز بقيام الأمارة عليه ، خصوصاً بناءً على ما هو الحقّ عندنا من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الطريقية والاحراز ... الخ (١).

لا يخفى أنّه تقدّم منه قدس‌سره (٢) في أوائل القطع تقسيمه إلى الطريق الصرف وما أُخذ في الموضوع ، وأنّ ما أخذ في الموضوع من القطع الطريقي لابدّ أن يكون على نحو جزء الموضوع ، ولا يعقل كونه تمام الموضوع ، لأنّه موجب للجمع في لحاظ ذلك القطع بين الآلية والاستقلالية ، وتقدّم منّا التأمّل في ذلك ، ولكن مع قطع النظر عن ذلك التأمّل نقول : إنّ الموضوع المحكوم عليه في مثل قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » هو اليقين المأخوذ موضوعاً لهذا الحكم ـ أعني الحجّية وعدم نقضه بالشكّ ـ على نحو الطريقية ، وقد تقرّر أنّه لا يصلح أن يكون موضوعاً إلاّبنحو يكون جزء الموضوع لا تمامه ، ولازم ذلك أنّه لو حصل اليقين بالطهارة مثلاً ثمّ تعقّبها الشكّ في بقائها ، وعمل المكلّف على طبق الاستصحاب في ذلك ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف وأنّ ذلك الشيء كان قد عرضت له النجاسة ، أن لا يكون من قبيل الأمر الظاهري ، بل يكون من باب تخيّل الحكم الظاهري ، لأنّ الحكم الظاهري منوط باليقين والواقع ، والمفروض تخلّف الواقع.

والحاصل : أنّ اليقين السابق المحكوم عليه بالحجّية وعدم نقضه بالشكّ هو اليقين المطابق للواقع ، ومع فرض انكشاف الخلاف يتّضح أنّه في وقت عمله

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٠٤.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١١ ، وراجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : ٢٠ وما بعدها.

٢١٦

على طبق ذلك اليقين السابق لم يكن لديه حجّة أصلاً ، وكان من قبيل تخيّل الحجّية ، لا أنّه [ من ] قبيل انكشاف الخطأ في تلك الحجّية مع فرض كونها حجّة واقعاً في ظرفها.

وبالجملة : أنّ اليقين السابق كغيره من الحجج الشرعية المجعولة للمكلّف في مقام الجهل بالواقع ، لا تكون مقيّدة بإصابة الواقع كي يكون انكشاف الخلاف فيها من قبيل انكشاف عدم الحجّية ، لا من قبيل انكشاف الخطأ في تلك الحجّة مع فرض كونها حجّة في الواقع.

والحاصل : أنّ انكشاف الخلاف في الواقع لا يكون كاشفاً عن عدم الحجّية ، بل يكون من قبيل تحقّق ما هو رافع للحجّية وقاطع لها من حينه ، وبناءً على أخذ الواقع في هذه الطرق ، أعني خبر الواحد واليقين السابق ونحوهما ، بحيث يكون الحجّة هو الخبر أو اليقين السابق مع قيد كونه مطابقاً للواقع ، يكون انكشاف الخلاف كاشفاً عن عدم الحجّية رأساً ، فلابدّ من القول بأنّ المجعول حجّة هو نفس هذه الطرق وإن لم تكن مصيبة للواقع ، غايته أنّ حجّيتها مقصورة على صورة عدم العلم بالواقع ، فتكون هي تمام الموضوع للحجّية المزبورة ، ومن ذلك اليقينُ السابق المأخوذ موضوعاً للحجّية وعدم نقضه بالشكّ ، فإنّه لابدّ أن يكون تمام الموضوع.

وتوضيح هذه المسألة ودفع الإشكال فيها يتوقّف على تمهيد مقدّمات :

الأُولى : أنّ الحجّة العقلية كالقطع وكذلك الحجّة الشرعية كالطرق والأمارات ليست حجّيتها لدى العقل أو الشرع مقيّدة بالواقع ، يعني أنّ العقل يحكم بحجّية القطع من دون تقييد له بإصابة الواقع ، غايته أنّه عند انكشاف الخلاف تنقطع هذه الحجّية ويرتفع موضوعها.

٢١٧

وهكذا الحال في الحجّة الشرعية ، مثلاً لو كان هناك مائع قطعنا بأنّه خل ، أو قامت الأمارة كالبيّنة على أنّه خل ، وعملنا على طبق ذلك مدّة ثمّ انكشف أنّه خمر فنحن من حين انكشاف الخلاف تنقطع عنّا تلك الحجّية ويرتفع موضوعها ، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الحكم الواقعي من قبيل انكشاف الخلاف ، فيكون ذلك الطارئ ـ أعني انكشاف أنّ ذلك المائع خمر ـ بالنسبة إلى أصل الحجّية من قبيل تبدّل الموضوع ، وبالنسبة إلى الواقع نفسه من قبيل انكشاف الخلاف.

المقدّمة الثانية : أنّه لو أُخذ القطع بخلّية ذلك المائع في حلّية شربه وطهارته ، وإن شئت فقل أُخذ القطع بخلّية هذا المائع موضوعاً لوجوب التصدّق بدرهم مثلاً على نحو الطريقية ، وعلى نحو يكون القطع المذكور هو تمام الموضوع من دون تقييد له بإصابة الواقع ، وحصل لنا القطع بذلك وعملنا عليه مدّة ثمّ تبيّن أنّه خمر ، كان ذلك من قبيل تبدّل الموضوع بالنسبة إلى كلّ من الحكم الواقعي وحجّية ذلك القطع. وهكذا الحال فيما لو قامت البيّنة على خلّية ذلك المائع ، ودلّ الدليل الشرعي على حجّية تلك الأمارة ، وتنزيلها منزلة القطع الطريقي المأخوذ في موضوع ذلك الحكم الذي هو وجوب التصدّق على نحو تمام الموضوع ، فإنّا عند تبيّن أنّه خمر يحصل لنا التبدّل من حينه بالنسبة إلى كلّ من الحجّية وموضوعية ذلك الحكم.

المقدّمة الثالثة : أنّه لو أُخذ القطع الطريقي في الحكم المذكور على نحو يكون جزء الموضوع ، بحيث كان وجوب التصدّق مرتّباً على المجموع من كون هذا المائع خلاً والقطع به ، بأن يكون موضوع وجوب التصدّق هو خصوص القطع بالخلّية المصيب للواقع ، وحصل لنا القطع بأنّ هذا المائع خل ، فقد وجب علينا التصدّق لاحرازنا جزأي موضوعه وهما الخلّية الواقعية والقطع بها ، أمّا

٢١٨

الثاني فبالوجدان ، وأمّا الأوّل وهو الخلّية الواقعية فبالقطع نفسه ، لأنّ من قطع بأنّ هذا المائع خل فقد أحرز خلّيته وجداناً. وبعبارة أُخرى : أنّ من قطع بأنّ هذا المائع خل فقد قطع بالخلّية الواقعية ، وبكونه قاطعاً بأنّه خلّ واقعي. ثمّ لو تبيّن لنا بعد ذلك أنّ ذلك المائع كان خمراً ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى حجّية ذلك القطع من قبيل التبدّل ، لكنّه بالنسبة إلى الحكم الواقعي المترتّب على الخل الواقعي المقطوع كونه خلاً يكون من قبيل انكشاف الخلاف ، لأنّه قد تبيّن بذلك فقدان أحد جزأي ذلك الموضوع وهو الخلّية الواقعية.

ولو قامت الأمارة كالبيّنة على كون ذلك المائع خلاً ، وقد دلّ الدليل على قيام تلك الأمارة مقام القطع الطريقي المأخوذ في موضوع ذلك الحكم الواقعي أعني وجوب التصدّق على نحو جزء الموضوع ، لزمنا العمل على طبقها من وجوب التصدّق ، لأنّا بواسطة دليل حجّيتها قد أحرزنا كلا جزأي ذلك الموضوع بالنحو الذي ذكرناه في القطع المذكور ، حسبما شرحناه في مبحث حجّية القطع (١) من توجيه لزوم العمل على طبق تلك الأمارة المفروض قيامها مقام القطع الطريقي المأخوذ جزءاً من موضوع الحكم ، لكونها محرزة لكلا جزأي الموضوع ، فراجع.

ثمّ إنّه لو تبيّن بعد ذلك أنّ ذلك المائع لم يكن خلاً بل كان خمراً ، فذلك التبيّن يكون بالنسبة إلى حجّية تلك الأمارة من قبيل التبدّل ، وبالنسبة إلى الحكم الواقعي المترتّب على الموضوع المركّب المذكور من قبيل انكشاف الخلاف.

إذا عرفت هذه المقدّمات فاعلم أنّا لو كنّا عالمين بالأمس بأنّ هذا المائع خل ، وفي هذا اليوم شككنا في بقاء خلّيته واحتملنا انقلابه خمراً ، وحكم الشارع

__________________

(١) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٨٥ ـ ٨٩.

٢١٩

علينا بعدم نقض ذلك اليقين السابق بذلك الشكّ اللاحق ، وكان محصّل ذلك هو حجّية ذلك اليقين السابق ، بمعنى أنّ الشارع نزّل حالتنا تلك التي حالة الشكّ في بقاء الخلّية منزلة اليقين الحالي ببقاء الخلّية ، فصرنا بواسطة ذلك الحكم الشرعي بمنزلة القاطع ببقاء الخلّية ، وعملنا على طبق الحكم الشرعي وأخذنا بمقتضى ذلك التنزيل ، ثمّ بعد ذلك تبيّن الخلاف ، وأنّ ذلك الذي كان خلاً قد انقلب من الخلّية إلى الخمرية.

فإن قلنا بأنّ مفاد ذلك الدليل الشرعي الذي سمّيناه حجّية الاستصحاب مقصور على قيامه مقام القطع الطريقي في الأثر المترتّب على الواقع الذي هو بقاء الخلّية ، أعني الأثر المذكور في المقدّمة الأُولى ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى ذلك الأثر الواقعي من قبيل انكشاف الخلاف ، وبالنسبة إلى حجّية الاستصحاب من قبيل التبدّل وارتفاع الموضوع.

وإن توسّعنا في مفاد ذلك الدليل وسريناه إلى الأثر الثاني من آثار القطع المذكور في المقدّمة الثانية ، بأن قلنا بقيامه بمقتضى ذلك الدليل مقام القطع الطريقي الذي هو تمام الموضوع ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى كلا الجهتين من قبيل التبدّل.

وإن وسّعنا المنطقة إلى أزيد من ذلك ، وسرينا ذلك الدليل إلى الأثر الثالث المذكور في المقدّمة الثالثة ، وقلنا بأنّه يستفاد من ذلك الدليل قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي المأخوذ في الحكم على نحو جزء الموضوع ، كان ذلك التبيّن بالنسبة إلى حجّية الاستصحاب من قبيل التبدّل وانقطاع الحجّية ، وكان بالنسبة إلى ذلك الأثر من قبيل انكشاف الخلاف ، ولا ضير في الالتزام بذلك ، كما التزمنا به في الأمارة القائمة مقام القطع الطريقي المأخوذ في الحكم على نحو جزء

٢٢٠