أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

يعبّر عن رفع اليد عنه لأجل الشكّ بالنقض وهدم ذلك المستحكم ، فليست هذه الخصوصيات إلاّجهات راجعة إلى البلاغة والفصاحة البيانية ، من دون أن يكون لها خصوصية في أصل الحكم فتأمّل ، هذا.

ولكن المسألة بعدُ محلّ تأمّل وإشكال ، أمّا نقض السيرة بمسألة استصحاب الحياة ، ودعوى كون جملة من موارد الشكّ فيها لم يحرز فيها المقتضي ، لعدم إحراز مقدار استعداد الشخص بحسب تركّب البنية الطبيعية فيمكن الجواب عنه بأنّ العرف لا يرى الموت إلاّمعدماً ورافعاً للحياة ، وإن كان بالدقّة في بعض الموارد من قبيل انتهاء الاستعداد الطبيعي ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في محلّه التحقيق في ذلك عند الكلام على القسم الثاني من الكلّي (١).

وأمّا الأخبار ودعوى عمومها للشكّ في المقتضي ففيه تأمّل ، وإن قدّمنا تلك المناقشة ، إلاّ أن ها لا توجب لنا الجزم بصحّة إسناد النقض إلى الشكّ في موارد الشكّ في المقتضي ، لقوّة احتمال كون اليقين من أوّل الأمر محدوداً بمقدار ما يحصل به الجزم من البقاء ، على وجه يكون ما زاد على ذلك المقدار من أوّل الحدوث مشكوكاً ، بحيث يكون لنا من أوّل الأمر يقين بالبقاء إلى المقدار المتيقّن من الاستعداد مقرون بالشكّ فيما زاد على ذلك ، بخلاف موارد الشكّ في الرافع فإنّ البقاء عند احتمال وجود الرافع وإن كان مشكوكاً من أوّل الأمر ، إلاّ أنه تعليقي بمعنى أنّ الشكّ في البقاء يكون معلّقاً على تحقّق احتمال وجود الرافع ، وهذا لا يصير فعلياً إلاّعند تحقّق المتيقّن ثمّ طروّ ذلك الاحتمال في أثناء عمود الزمان فتأمّل جيّداً.

والإنصاف : أنّه لم يحصل الجزم بشيء من ذلك ، وهو كاف في الحكم

__________________

(١) في الصفحة : ٣١١ ـ ٣١٢.

١٤١

بعدم حجّية الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، لعدم نهوض حجّة على ذلك في تلك الموارد.

وفي هذه الدورة سنة ٧٣ تقدّم لنا كلام مفصّل في كيفية تصحيح استعمال [ النقض ] وخروج قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي وصورة الشكّ في المقتضي عند الكلام على بعض روايات الاستصحاب ، فراجع.

وخلاصة ما قدّمناه في التعليق على بعض روايات الباب : هو أنّه بعد تطبيق قضية « لا تنقض اليقين بالشكّ » على مثل الوضوء والطهارة السابقة وعدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، ممّا يكون مورده اجتماع اليقين والشكّ بحسب الزمان ، وأنّ الاختلاف بحسب الزمان إنّما كان في المتيقّن والمشكوك ، نقول : ليس المراد هو كون المتيقّن هو الموجود في الزمان الأوّل والمشكوك هو الموجود في الزمان الثاني ، كي يكون تجريدهما من الزمان هو المصحّح لاستعمال النقض ، لأنّ الوجود في الزمان الثاني لم يؤخذ في عرض الوجود في الزمان الأوّل مع فرض تخلّل العدم ، بل إنّ المشكوك في الزمان الثاني هو نفس الموجود في الزمان الأوّل.

فلابدّ أن يكون متعلّق اليقين هو أصل الوجود ومتعلّق الشكّ هو البقاء ، ولأجل عناية تصحيح استعمال النقض نقول : إنّ الملحوظ في هذه العناية إن كان هو اليقين اللولائي ، كانت القاعدة ـ أعني قاعدة لا تنقض ـ مختصّة بموارد الشكّ في الرافع. وإن كانت العناية هي التجريد عن جهة الحدوث والبقاء ، كانت شاملة لموارد الشكّ في المقتضي كموارد الشكّ في الرافع. ولكن لو كانت هذه الروايات مسوقة لبيان أو إمضاء الطريقة العقلائية ، كان اللازم هو النظر فيما جرت به السيرة العقلائية ، وهي مختصّة بموارد الشكّ في الرافع ، ولا أقل من الشكّ في

١٤٢

جريان طريقتهم على التعميم لموارد الشكّ في المقتضي ، وذلك كافٍ في الحكم بعدم الحجّية.

وأمّا ما أُفيد من قوله في هذا التحرير : وبتقريب آخر ... إلخ (١) وكذلك ما أشار إليه في تحرير السيّد سلّمه الله بقوله : وأمّا إذا كان مهملاً من حيث عمود الزمان لتردّد متعلّقه بين أن يكون محدوداً أو مرسلاً ، فالزائد على ( ذلك ) المقدار المحدود لم يتعلّق به يقين في زمان كي يكون رفع اليد عنه نقضاً لليقين بالشكّ الخ (٢) فراجعه وما قبله ، فكأنّه هو العمدة في دعوى اختصاص الأخبار بخصوص الشكّ في الرافع وعدم شمولها للشكّ في المقتضي ، لأنّ المستصحب فيها في زمان الشكّ لم يكن قد تعلّق اليقين به أصلاً ، بل هو من أوّل الحدوث مشكوك ، فكيف [ يصحّ ] أن نقول إنّ الشكّ ناقض لليقين ، بخلاف صورة الشكّ في الرافع ، ومقتضى هذه الجملة هو أنّ المستصحب بعد فرض طروّ ما يثير الشكّ فيه في رافعه يكون من أوّل الأمر متيقّناً ، فيصحّ كون الشكّ فيه ناقضاً لليقين.

ولكن قد عرفت التأمّل في ذلك ، وأنّ المستصحب في تلك القطعة من الشكّ لم يتعلّق به اليقين أصلاً ، سواء كان الشكّ في المقتضي أو كان في الرافع أو كان في رافعية الموجود ، ويزيده تأمّلاً ما عرفت من أنّ المستصحب ليس فيه اختلاف بحسب الزمان ، ففي الزمان الأوّل متيقّن وفي الزمان الثاني مشكوك ، وليس الاختلاف فيه إلاّمن ناحية أنّ متعلّق اليقين هو جهة الحدوث ومتعلّق الشكّ هو جهة البقاء ، وهذه الجهة ـ أعني جهة البقاء ـ مشكوكة من أوّل اليقين بالحدوث في كلّ واحد من هذه الموارد الثلاثة ، وأنّ العمدة في تصحيح التعبير

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٧٦.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٦٩.

١٤٣

بالنقض هل هو اليقين التقديري ، أو هو تجريد المستصحب من كلّ من جهة الحدوث والبقاء.

قوله في الحاشية : لا يخفى ... الخ (١).

لا يخفى أنّ شيخنا الأُستاذ قدس‌سره قد تعرّض لهذا الإشكال وأجاب عنه. أمّا عن رواية محمّد بن مسلم فقد أجاب عنها بما أُفيد في هذه الحاشية أخيراً ، من أنّ المضي يقتضي استعداد البقاء ، وحاصله أنّ المضي كالنقض لا يصحّ التعبير به إلاّ مع كون الشكّ في الرافع ، على ما حرّرته عنه قدس‌سره في الدورة الأخيرة.

وقال في التحريرات المطبوعة في صيدا : أمّا رواية محمّد بن مسلم فإحدى روايتيه وإن لم تكن مشتملة على لفظ النقض ، إلاّ أن ها مشتملة على لفظ المضي ، وهو عبارة عن الجري على طبق اليقين ، وقد عرفت أنّ الجري على طبق اليقين لا يكون إلاّفي موارد الشكّ في الرافع (٢).

قلت : لا يخفى أنّه قد ذكر في هذا التقرير عند التعرّض لذكر روايات الباب ما نصّه : ومنها رواية محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قال أمير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه ) : من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين » (٣) وفي معناها رواية أُخرى عنه عليه‌السلام : « من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » (٤) ـ (٥)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ ( الهامش ) : ٣٧٧.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٧١ [ المنقول هنا موافق مع الطبعة القديمة للأجود ، وأمّا في الطبعة الحديثة فقد ورد هكذا : أمّا رواية محمّد بن مسلم فهي وإن ... ].

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

(٤) مستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٤.

(٥) أجود التقريرات ٤ : ٥٤.

١٤٤

ولا يخفى أنّ الرواية الثانية وإن لم تشتمل على لفظ النقض ، إلاّ أن ها مشتملة على لفظ الدفع ، وهو كالنقض في استدعائه اقتضاء البقاء وعدم الشمول للشكّ في المقتضي ، وحينئذ فلا حاجة إلى ما أُفيد من التكلّف بجعل المضي مثل النقض في الاقتضاء المذكور ، فتأمّل.

قوله : فما ينسب إلى المحقّق السبزواري رحمه‌الله من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشكّ في رافعية الموجود ، بتوهّم أنّ اليقين بوجود ما يشكّ في رافعيته يكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشكّ ... الخ (١).

قد حرّرت عنه قدس‌سره في هذا المقام ما نصّه : فصّل المحقّق السبزواري (٢) بين الشكّ في الرافع والشكّ في رافعية الموجود ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، فقال بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، مستدلاً على عدم جريانه في الثاني بأنّه ليس من قبيل نقض اليقين بالشك ، بل من قبيل نقض اليقين باليقين بوجود ما يشكّ في رافعيته ، وأنّ هذا الشكّ لا أثر له في انتقاض اليقين السابق ، لكون الشكّ في كون المذي ناقضاً للوضوء موجوداً من أوّل الأمر ، فلا يصلح لأن يكون ناقضاً لليقين ، وإنّما ناقضه هو اليقين بوجود ذلك المشكوك الحال ، فلا يكون مشمولاً لأخبار الاستصحاب.

وفيه أوّلاً : أنّ هذا إنّما يتمّ في خصوص الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية ، فيكون دليله أخصّ من المدّعى.

وثانياً : أنّ الشكّ الموجود من أوّل الأمر إنّما هو الشكّ في الحكم الكلّي ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٧٨.

(٢) راجع ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

١٤٥

أعني كون المذي ناقضاً أو ليس بناقض ، والمستصحب إنّما هو الطهارة الخاصّة ، والمدّعى كونه ناقضاً لليقين بتلك الطهارة السابقة إنّما هو الشكّ في ناقضية هذا الحادث الخاصّ الذي هو المذي ، وإنّما يكون اليقين بوجوده مقدّمة لتحقّق ارتباط ذلك الشكّ الكبروي بالمورد الخاص ، أعني ما وجد من الطهارة الخارجية ، إذ بدون العلم بوجود ذلك المشكوك لا يكون لذلك الشكّ الكبروي ارتباط بما هو المطلوب بقاؤه من تلك الطهارة الخاصّة.

قوله : لأنّه يلزم على هذا أن تكون الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة كلّها إخباراً عن الصلاح والفساد ، من دون أن يكون فيها شائبة الانشاء ، وهذا ممّا لا يرضى به المنصف ... الخ (١).

إنّ هذا القائل يمكنه أن يلتزم بكون الأوامر والنواهي الواردة في الشريعة إرشادية إلى ما يحكم به العقل لو اطّلع عليه من ملاك الحسن والقبح من الإقدام على الأوّل والفرار عن الثاني.

ثمّ لا يبعد أن تكون الأحكام الخمسة التكليفية ـ وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والاباحة ـ من الاعتبارات القابلة للجعل ابتداء ، أو انتزاعاً ، أو تبعاً لجعل نفس البعث والزجر مولوياً وما يتبعهما من البعث الاستحبابي والزجر الكراهتي والبعث الترخيصي.

وعلى الأوّل ـ أعني على تقدير كون هذه الأحكام الخمسة مجعولة ابتداء ـ يتبعها البعث والزجر المولوي ، ولا يبعد وقوع كلّ من الطريقتين. وعلى كلّ حال ، فإنّ نفس البعث والزجر المولويين من الأحكام الشرعية المتكوّنة بمجرّد البعث والزجر بالصيغة المخصوصة بهما ، التي لا يكون مفادها إلاّمجرّد البعث

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

١٤٦

إلى المادّة والزجر عنها ، فتكون الصيغة آلة لإيجاد ذلك البعث والزجر ، كما في الدفع والزجر باليد ، غاية الأمر أنّ ذلك البعث والزجر لابدّ أن يكون صادراً عن داعي الانبعاث والانزجار ، فإنّ الانبعاث والانزجار اللذين هما بوجودهما الخارجي بمنزلة المعلول لذلك البعث والزجر ، يكونان بوجودهما العلمي بمنزلة العلّة لذلك البعث والزجر ، كما هو الشأن في العلل الغائية ، فيخرج بذلك البعث والزجر الصادران لا بداعي الانبعاث والانزجار ، بل بداعي التهكّم أو بداعي التهديد أو بداعي التعجيز أو غير ذلك من الدواعي الموجبة لكون البعث والزجر صورياً لا حقيقياً.

وعلى أيّ حال ، فليست الصيغة إلاّ آلة البعث والزجر بأيّ داع كان ، لا أنّ الصيغة تكون آلة لانشاء المادّة ادّعاء كما في « بعت » في كونها آلة لانشاء مادّة البيع حقيقة وإيجاده في الصقع الانشائي أو الصقع الاعتباري ، حتّى لو فسّرنا قولنا اضرب بقولنا كن ضارباً ، فإنّه لا يكون لانشاء وجود الضرب ادّعاء ، بل ليس المفسَّر والمفسّر إلاّ آلة لإيجاد البعث إلى الضرب في الأوّل ، وإلى الكون ضارباً في الثاني ، فلاحظ وتأمّل.

وما أبعد ما بين ذلك ، أعني الالتزام بكون « اضرب » خلقاً لمادّة الضرب ادّعاءً ، وبين التزام من التزم بأنّ مثل « بعت » لا خلق فيه ولا تكوين ، وإنّما يكون تكوين ذلك في النفس ولفظ « بعت » حاك عن البيع الواقع في النفس ، وما أدري هل النفس تخلق البيع قبل قوله : بعت ، ليكون اللفظ حاكياً ، أو أنّها تخلقه في حال قوله : بعت ، فكيف صار اللفظ حاكياً ، وكيف توجّهت النفس في عرض واحد إلى خلق البيع وحكايته.

ثمّ إنّ الذي يظهر من هذا التحرير أنّ الأساس في كون الأحكام التكليفية

١٤٧

مجعولة هو تحقّق الارادة التشريعية في المبدأ الأعلى ، أو لا أقل من تحقّقها في بعض المبادئ العالية كالنفس النبوية صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الولوية عليه‌السلام ، وأنّ قوام مجعولية تلك الأحكام هو تلك الارادة.

لكنّك قد عرفت أنّ جعل الأحكام التكليفية لا يتوقّف على الالتزام بتلك الارادة ، لا في نفس الوجوب والتحريم وأخواتهما ، ولا في البعث والزجر الشرعيين المولويين ، غايته أنّ الجعل الابتدائي تارةً يكون للأوّل ويتبعه الثاني أو ينتزع منه وأُخرى يكون الأمر بالعكس.

ولا يبعد أن يكون قوله في تحريرات السيّد ( سلمه الله تعالى ) : ولا ريب في صدور الجعل من ( جانب ) الشارع ، وأنّ الأحكام مجعولات تشريعية ، ولا يهمّنا التكلّم في إثبات الارادة التشريعية للمبدأ تعالى أو للمبادئ النازلة بناءً على عدمها في المبدأ الأعلى الخ (١) إشارة إلى ذلك ، وأنّ كون الأحكام مجعولة لا يتوقّف على ثبوت الارادة في المبدأ الأعلى ، ولا على ثبوتها في المبادئ العالية ، وكان مقتضى ذلك أن يعقّبه بالتصريح بالوجه في عدم هذا التوقّف ، لكنّه عقّبه بالتصريح في ثبوت الارادة في المبدأ الأعلى فضلاً عن ثبوتها في المبادئ العالية ، فكأنّه يرى أنّ مجعولية الأحكام تتوقّف على ذلك ، فلاحظ وتدبّر.

وربما يتوهّم أنّ لازم ما في الكفاية (٢) إنكار كون مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) من كلامه تعالى ، ولا أظنّه قدس‌سره يقول بذلك ، ولعلّ دفع هذا التوهّم يحتاج إلى فن آخر ، وما أدري ما الباعث لهذه الالتزامات.

ويتلخّص ما حرّرناه في أُمور :

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٧١ ـ ٧٢.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٧٧.

١٤٨

الأوّل : أنّ القائل بأنّه ليس في باب الأحكام الشرعية إلاّ العلم بالصلاح ، لا يلزمه القول بكون الجمل الانشائية مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) جملاً خبرية حاكية عن المصالح والمفاسد النفس الأمرية ، بل يمكنه القول بأنّها على حالها إنشاءات ، ولكنّها ليست مولوية ، بل هي إرشادات إلى ملاكات الأحكام العقلية ، التي لو اطّلع العقل عليها لكان ملزماً بالإقدام عليها وبالتنفّر منها ، أو مدركاً حسنها وقبحها.

الثاني : أنّ كون الأحكام التكليفية مجعولة لا يتوقّف على ثبوت الارادة في المبدأ الأعلى ، ولا في بعض المبادئ العالية ، بل إنّ نفس الأحكام الخمسة مجعولة ابتداء كالأحكام الوضعية ، ويتبعها البعث والزجر ، أو أنّ الأمر بالعكس.

الثالث : أنّ باب الانشاء قاطبة من بعث وزجر واستفهام وتمنّ وترجّ وبيع وتمليك ، كلّها من قبيل الجعل بالآلة والخلق والتكوين لما هو المجعول والمنشأ بإيجاده في عالم الاعتبار ، نظير إيجاد الفعل الخارجي كالقطع بالآلة القاطعة ، لا أنّ جميع ذلك من أفعال النفس ، وأنّ هذه الانشاءات حاكية عمّا في النفس أو أنّها إظهار لذلك ، وإلاّ لكانت إخباراً عمّا في النفس لا إنشاءً وإيجاداً ، وكيف توجد النفس البيع أم كيف ينوجد فيها ، ومتى تفعله وينوجد فيها ، هل ذلك قبل قوله بعت ، فيكون البيع متحقّقاً قبل قوله بعت ، ويكون قوله بعت إخباراً عمّا مضى ، أو أنّ ذلك حين قوله بعت ، وحينئذ تكون النفس في مرتبة قوله بعت قد عملت عملين في عرض واحد : عمل البيع وعمل الحكاية عنه ، فتكون ناظرة إلى البيع نظرين ، نظر الايجاد ونظر الحكاية.

الرابع : أنّ ما عن الكفاية (١) من أنّه ليس في المبدأ الأعلى إلاّ العلم

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

١٤٩

بالصلاح ، وأنّ عالم الارادة والكراهة إنّما تكون في بعض المبادئ العالية ، ربما يتوهّم المتوهّم منه أنّه ليس في المبدأ الأعلى عالم إنشاء وبعث وزجر ، وأنّ هذه العوالم ـ أعني عالم الانشاء وعالم البعث والزجر ـ لا تكون إلاّفي بعض المبادئ العالية ، ولازم ذلك أن لا تكون الجمل الانشائية مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) من كلامه تعالى ، فلابدّ أن نقول : إنّ هذا العالم ـ أعني عالم الانشاء وعالم البعث والزجر ـ لا يتوقّف على إرادة وكراهة ، أو نقول : إنّ الانشاء يتحقّق في المبدأ الأعلى ، لكنّه مجرّد عن عالم البعث والزجر بناءً على توقّفهما على الارادة والكراهة. وعلى أيّ حال ، تكون الانشاءات والجمل الانشائية من كلامه تعالى ، ويكفي في تحقّق الحكم وجعله خلقه وإنشاؤه وإن كان مجرّداً عن الارادة والكراهة ، بل وإن كان مجرّداً عن البعث والزجر إن قلنا بتوقّفهما على الارادة [ والكراهة ] ، ولكن هذا الأخير بعيد.

قوله : والثاني كانتزاع السببية من العقد الذي صار ... الخ (١).

في باب السببية كما في سببية العقد للملكية وكما في سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، هل المجعول هو المسبب عند حصول السبب ولا تكون السببية إلاّ انتزاعية ، أو أنّه كما جعل المسبب عند السبب فكذلك جعل السببية؟

أمّا ما ينسب إلى الشيخ (٢) من أنّ الوضع منتزع من التكليف وفي قباله أنّ التكليف منتزع من الوضع ، فليس كما ينبغي ، وفي الحقيقة أنّ النزاع بينه وبين غيره واقع في أنّ المجعول ابتداءً والمجعول تبعاً هل هو الوضع أو التكليف ، فليس شيء منهما انتزاعياً ، بل إنّ كلاً منهما متأصّل بالجعل ، إلاّ أن الخلاف قد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨١.

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ١٢٦ وما بعدها.

١٥٠

وقع في أنّ المجعول ابتداءً هل هو التكليف وعنه ينشأ اعتبار الملكية قهراً ، أو أنّ المجعول هو الوضع وعنه يتولّد موضوع التكليف ، فيكون التكليف في مرحلة الجعل تابعاً للوضع لكونه خالقاً لموضوعه.

قوله : فإنّ الولاية والقضاوة الخاصّة حكمها حكم النيابة والوكالة ، لا ينبغي عدّها من الأحكام الوضعية ... الخ (١).

يمكن المنع من كونها من قبيل الوكالة والنيابة ، بل هي منصب خاصّ ينجعل بالجعل بأسبابه ولو بمثل قوله عليه‌السلام : جعلتك قاضياً أو والياً ، وحينئذ تكون من سنخ الأحكام الوضعية ، ولعلّ الإمامة والنبوّة من المناصب الإلهية من هذا القبيل ، نعم لا تسمّى اصطلاحاً بالأحكام الوضعية. ثمّ لو سلّمنا كونها من قبيل الوكالة والنيابة ، لكان ذلك ممّا يؤيّد كونها أحكاماً وضعية ومجعولات شرعية ، لأنّ الوكالة بنفسها من هذا القبيل أيضاً تنجعل بالجعل بأسبابها المقرّرة مثل قوله أنت وكيلي.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما حرّره عنه قدس‌سره في التقريرات طبعة صيدا بقوله : ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه من أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة لابدّ وأن تكون من قبيل القضايا الحقيقية المجعولة على موضوعاتها المقدّرة وجوداتها ، أنّ الماهيات الجعلية لا تكون من الأحكام الوضعية ، كما أنّه ليس منها الولاية والقضاوة لشخص خاصّ في زمان الحضور ، إذ الجعل فيه ليس بنحو القضية الحقيقية كما هو ظاهر الخ (٢) وذلك فإنّ كون القضية حقيقية أو خارجية لا يؤثّر في الناحية التي نحن بصددها ، من أنّ المجعول فيها حكم شرعي من مقولة الأحكام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٥.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٧٥.

١٥١

الوضعية ، هذا.

مضافاً إلى أنّ قوله عليه‌السلام : أنت قاض ، نظير قول القائل لعبده : « أنت حرّ » في تكفّله لجعل الحرّية وأنّها من الأحكام الوضعية ، وأنّ صدوره من جعل خاصّ لا يوجب كون ذلك الحكم الكلّي كبروياً (١) ، وهو ما يتضمّن أنّ السيّد إذا قال لعبده : أنت حر ، كان حرّاً وخرج بذلك عن الرقية.

ولقد حرّرت عنه قدس‌سره في هذا المقام ما لعلّه هو غير هذين ، وهذا نصّ ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره : ومنها : ما هو راجع إلى المناصب كالولاية والوكالة والقضاوة ونحو ذلك ، والظاهر أنّ مثل هذه الأُمور أجنبية عن الجعل الشرعي ، فإنّها من وظائف السلطنة الدنيوية ، حيث إنّ الشارعية سلطنة عامّة على الدنيا والدين ، ومن الوظائف الدينية جعل الأحكام الشرعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين التي هي من وظائف الشارع بما أنّ له السلطنة الدينية ، ومن وظائف سلطنته العامّة على الدنيا كونه مالكاً لها مسلّطاً على نظامها ، ومن ذلك جعل الولاية لأحد والقضاوة لآخر ونحو ذلك ، فإنّها من وظائف تلك السلطنة ومن شؤونها ، فكما أنّ أحدنا مسلّط على التصرّف فيما يملكه بأن يبيعه أو يرهنه أو يؤجره إلى غير ذلك من التصرّفات ، فكذلك الشارع مقتضى مالكيته لما في العالم وسلطنته العامّة عليه هو نفوذ تصرّفاته التي يتوقّف عليها نظامه ، من جعل ولاية وقضاوة وغير ذلك ممّا يرجع إلى الشؤون العامّة ، ولا يرتبط بما يخصّ آحاد المكلّفين من الأفعال ، فإنّ جميع هذه التصرّفات ناشئة عن ملكيته العامّة ، كما أنّه لو كان له ملك خاصّ لكانت تصرّفاته فيه نافذة ، فهذه التصرّفات المتعلّقة بما يملكه بالسلطنة العامّة تكون نافذة ، ولكن لا بما أنّه شارع ، بل بما أنّه مالك وله تلك السلطنة العامّة الدنيوية ، انتهى.

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

١٥٢

وحاصله : أنّ المناصب المذكورة من مقولة تصرّف الملاّك في أملاكهم ، وليست من قبيل الجعل الشرعي ، فإنّ المجعول فيها وإن كان نحواً من الاعتبارات العقلائية ، إلاّ أنه ليس من المجعولات الشرعية لا إمضاءً ولا تأسيساً ، بل إنّ النبوّة والإمامة من هذا القبيل ، فإنّ الشارع إنّما يجعلها بما أنّه مالك لا بما أنّه شارع ، ونفوذ جعله إنّما هو باعتبار كونه مالكاً لا باعتبار كونه مشرّعاً ، فلا يكون المجعول فيها من الأحكام الشرعية بل هو من التصرّفات المالكية ، والتصرّفات المالكية وإن كانت محتاجة إلى إمضاء شرعي أو تأسيس شرعي ، إلاّ أن ذلك إنّما هو بالنسبة إلى الملاّك الذين تكون إرادة الشارع فوق إرادتهم ، لا بالنسبة إلى ذلك المالك المطلق الذي لا تكون إرادة فوق إرادته ، وجملة من هذه التصرّفات وإن كانت قد جرت بها الطريقة العقلائية في السلاطين بالنسبة إلى رعاياهم ، وكان نفوذ تلك التصرّفات منهم محتاجاً إلى إمضاء من الشارع ، إلاّ أن إرادة ذلك السلطان المطلق تكون فوق إرادة السلاطين.

ثمّ إنّه قدس‌سره قال فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : إنّ مسألة الولاية والقضاوة ونحوهما بمعنى أنّ له عليه‌السلام السلطنة على نصب الوالي والقاضي وأنّه إذا نصبه كان كذلك ، أمر مجعول ، بمعنى أنّ الشارع جعل هذا الأمر الكبروي الكلّي ، أعني أنّ للإمام عليه‌السلام نصب هؤلاء وأنّ نصبه يكون نافذاً ، غاية الأمر أنّ هذا الموضوع الكلّي ـ أعني الإمام عليه‌السلام ـ منحصر في فرد. ولا يخفى أنّ الولاية الخاصّة التي جعلها مثلاً لمالك أو لمحمّد بن أبي بكر ، والقضاوة الخاصّة التي جعلها لشريح ، لا ربط لها بهذا الأمر الكلّي ، فإنّها صغريات لذلك الأمر الكلّي ، نظير الملكية الخاصّة التي هي مسبّبة عن العقد الفلاني. نعم في مقبولة ابن حنظلة المتضمّنة

١٥٣

لقوله عليه‌السلام : « فقد جعلته قاضياً » (١) إشكال منشؤه أنّ هذا نصب خاصّ ، ومقتضى النصب الخاصّ أنّه يبطل بموت من نصبه ، والمفروض أنّ هذا النصب لا يبطل بموته عليه‌السلام. وقد أجبنا عن هذا الإشكال في محلّه بما ملخّصه : أنّ النصب في هذه الرواية متوسّط بين الصغرى والكبرى ، فمن حيث إنّه نصب صدر من سبب خاصّ يكون نصباً خاصّاً ، ومن حيث إنّ موضوعه أمر كلّي ، وهو كلّي من نظر في حلالهم وحرامهم وعرف أحكامهم ، يكون المجعول فيه هو النصب الكلّي ، انتهى.

قوله : بل ينبغي أن يقال : إنّ المجعولات الشرعية التي هي من القضايا الكلّية الحقيقية على أنحاء ثلاثة : منها ما يكون من الحكم التكليفي ، ومنها ما يكون من الحكم الوضعي ، ومنها ما يكون من الماهيات المخترعة ... الخ (٢).

وبذلك يريد إخراج المناصب الخاصّة مثل الولاية والقضاوة ، فإنّ الجعل فيها ليس براجع إلى القضية الكلّية الحقيقية. نعم جعل المنصب العام مثل جعل القضاء والحكومة لكلّ مجتهد عادل يكون من قبيل الأحكام الوضعية. لكن مع ذلك لم يتّضح الضابط للأحكام الوضعية ، إلاّ أن يقال : إنّه ما لم يتعلّق بأفعال المكلّفين وليس من الماهيات المخترعة وكان جعله على نحو القضية الكلّية الحقيقية ، لكنّك قد عرفت الإشكال في قصر الحكم الوضعي بما يكون على نحو

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٣٧ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٦.

١٥٤

الحكم الكلّي فيما تقدّم (١) ممّا علّقناه على مسألة القضاوة والولاية.

قوله : إمّا أن تكون تأسيسية ، وهي التي لا يكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء ، كالأحكام التكليفية الخمسة ... الخ (٢).

كون هذه الأحكام معدومة الوجود عند العرف والعقلاء بالمرّة قابل للمنع لأنّ لديهم واجبات ومحرّمات وغيرها ، غايته أنّها ليست هي الواجبات في الشريعة ، بل ربما كانت هي لكن بزيادة بعض القيود وبنحو من التصرّف ، مثل وجوب إطاعة العبد لسيّده بل والزوجة والولد ، ومثل حرمة الظلم ونحو ذلك.

قوله : وقد خالف الشيخ قدس‌سره في ذلك والتزم بأنّ هذه الأُمور كلّها منتزعة من التكليف ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ ما تقدّم إنّما هو دعوى كون هذه الأحكام إمضائية لا تأسيسية ، ومسلك الشيخ قدس‌سره [ و ] هو كونها منتزعة من التكليف لا يكون مقابلاً للدعوى السابقة ، بل حتّى لو قلنا إنّها إمضائية لما عليه العرف يمكننا أن نتكلّم في أنّ ذلك الذي عليه العرف هل هو متأصّل بالجعل ، أو هو منتزع من تكليف عرفي عندهم بناءً على ما عرفت من وجود التكليف عندهم.

نعم ، إنّ تحرير السيّد سلّمه الله سالم من توجّه هذا الإشكال ، فإنّه جعل مطلب الشيخ مطلباً مستقلاً غير دخيل في دعوى الامضاء والتأسيس ، فراجع قوله : كما لا وجه للالتزام بأنّ الوضعيات كلّها انتزاعية من أحكام تكليفية في

__________________

(١) في الصفحة : ١٥١ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٦.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٦.

١٥٥

مواردها كما ذهب إليه العلاّمة الأنصاري قدس‌سره ـ ثمّ قال : ـ نعم بينهما فرق من جهة ، وهي أنّ الأحكام التكليفية تكون مجعولات استقلالية ( والأولى أن يقول تأسيسية ) ـ ثمّ قال ـ ولم نعثر على حكم وضعي مجعول ابتدائي (١) ( يعني تأسيساً ).

وفيه تأمّل ، فإنّ كثيراً من الملكيات تأسيسية مثل ملكية الفقراء للزكاة ، إذ ليس المراد من التأسيس أنّ نوع هذا الحكم لم يكن موجوداً عند العرف ، وأنّ الشارع اخترع نوعه.

قوله : مع أنّ هذا أيضاً في بعض المقامات لا يمكن ، فإنّ الحجّية والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجّية ... الخ (٢).

هناك حكم تكليفي وهو وجوب العمل على طبقها ، لكن منعه من القول به منافاته للحكم الواقعي الموجود في مواردها ، فراجع ما علّقناه في مبحث جعل الحجّية.

قوله : ولذلك التزم في بعض الوضعيات بأنّها من الأُمور الواقعية التي كشف عنها الشارع كالطهارة والنجاسة ... الخ (٣).

هناك أيضاً حكم تكليفي وهو حرمة الاستعمال وجوازه ، لكن المانع من الاكتفاء به للانتزاع هو كون الطهارة والنجاسة من قبيل الموضوع بالنسبة إلى ذلك الحكم التكليفي ، فيكون هذا الحكم التكليفي متأخّراً عن موضوعه الذي هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٧.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٧.

١٥٦

الطهارة والنجاسة ، وهذا المانع جارٍ أيضاً في الملكية ونحوها بالنسبة إلى حرمة تصرّف الغير ونحوها ، وهذا (١) أعني كون نسبة هذه الأحكام الوضعية إلى هاتيك الأحكام التكليفية نسبة الحكم إلى موضوعه المتأخّر عنه رتبة ، فلا يصحّ كونه منتزعاً منه لأنّه موجب لتقدّمه عليه رتبة ، وهكذا الحال في الحجّية ووجوب العمل فتأمّل.

وتوضيح ذلك : أنّ الحكم بالقياس إلى حكم آخر إمّا أن يكون كلّ منهما أجنبياً عن الآخر ، مثل وجوب الصوم مثلاً وكون الحيازة موجبة للملكية.

وإمّا أن يكون أحدهما هو المجعول بالأصالة والآخر هو المجعول بالتبع ، مثل وجوب ذي المقدّمة ووجوب نفس المقدّمة ، فإنّ المجعول بالأصالة هو وجوب ذي المقدّمة ، وأمّا وجوب نفس المقدّمة بناءً على أنّه وجوب شرعي فهو مجعول بالتبع.

وإمّا أن يكون المجعول هو أحدهما ويكون الآخر منتزعاً منه ، مثل الجزئية بناءً على أنّها منتزعة من كون الشيء واجباً ضمنياً في ضمن الوجوب الوارد على الكل ، وفي الحقيقة أنّ هذا النحو ليس من قبيل الأحكام الشرعية ، وإنّما هو أمر انتزاعي لا واقعية له أصلاً إلاّمحض الانتزاع ، فهو غير متحقّق حتّى في عالم الاعتبار ، بل هو منتزع من الاعتبار الذي هو الوجوب الضمني الوارد عليه في ضمن الوجوب الوارد على الكلّ.

وإمّا أن يكون كلّ منهما مجعولاً مستقلاًّ غير أنّ أحدهما يكون هو المجعول أوّلاً ويكون الآخر مجعولاً ثانياً بعد جعل الأوّل ، وذلك مثل وجوب الانفاق على الزوجة ، فإنّه مجعول ثانياً بعد جعل الزوجية ، فالزوجية بالنسبة إلى

__________________

(١) [ كذا في الأصل فلاحظ ].

١٥٧

وجوب الانفاق تكون من قبيل موضوع الحكم بالنسبة إلى نفس الحكم ، وهذا النحو من الأحكام هي محلّ الكلام مع الشيخ قدس‌سره ، فينبغي النظر في أنّ مثل الملكية وحرمة التصرّف والزوجية وجواز الوطء ونحو ذلك من الأحكام الوضعية بالقياس إلى التكاليف الموجودة في مواردها ، هل الموضوع هو نفس الحكم الوضعي وحكمه هو ذلك الحكم التكليفي ، ليكون المجعول أوّلاً هو الحكم الوضعي ، أو أنّ الموضوع هو الحكم التكليفي ويكون حكمه هو ذلك الحكم الوضعي ، ليكون المجعول أوّلاً هو الحكم التكليفي ويكون المجعول ثانياً هو الحكم الوضعي ، بحيث إنّ الشارع عند إيجاد المكلّف عقد الزوجية يجعل جواز الوطء ووجوب الإنفاق ، وبعد جعله ذلك الحكم التكليفي يجعل الزوجية لمن جاز وطئها ووجب الإنفاق عليها ، فكأنّ ذلك العقد لا معنى له أصلاً سوى أنّه سبب لأن يتوجّه إليه جواز الوطء ووجوب الإنفاق ، وبعد أن يتوجّه إليه ذلك التكليف ، يجعله الشارع زوجاً ويجعل تلك المرأة زوجة له.

والظاهر بل المتعيّن هو الأوّل ، ولكن بأيّهما قلنا لا يكون أحدهما مجعولاً والآخر منتزعاً ، بل يكون كلّ منهما مجعولاً استقلالياً ، غير أنّ نسبة أحدهما إلى الآخر كنسبة الموضوع إلى الحكم ، وإنّما وقع هذا النزاع الخيالي في أنّ أيّهما هو الموضوع للآخر ، والمتعيّن هو كون الحكم الوضعي هو الموضوع والتكليفي هو الحكم.

ومن ذلك يتّضح لك أنّ ما نسب إلى الشيخ قدس‌سره من كون الحكم الوضعي في مثل هذه الأحكام منتزعاً من الحكم التكليفي الموجود في مواردها لا محصّل له.

كما أنّ ما يظهر من شيخنا قدس‌سره من أنّ الأمر بالعكس ، وأنّ الحكم الوضعي هو المجعول ، وأنّ الحكم التكليفي منتزع منه ، وذلك قوله : فالتحقيق أنّ الاعتباريات

١٥٨

العرفية ليست من المنتزعات ، بل هي متأصّلة بالجعل قد أمضاها الشارع والتكليف إنّما ينتزع منها الخ (١) ، لا يخلو عن تأمّل ، اللهمّ إلاّ أن يريد بالمنتزع ما يكون مجعولاً ثانياً وإن كان متأصّلاً بالجعل ، وإلاّ فبعد أن كان الحكم الوضعي موجوداً لدى العقلاء وأنّ الشارع قد أمضاه ، كيف يمكن القول بأنّ ذلك الحكم الشرعي التكليفي المجعول في مورده يكون منتزعاً صرفاً على حذو الجزئية المنتزعة من التكليف بالكل.

نعم ، إنّ هذه الجملة وهي كون الحكم التكليفي منتزعاً من الحكم الوضعي ليست موجودة في تحرير السيّد سلّمه الله ، بل اقتصر فيه على مجرّد أنّ الحكم الوضعي مجعول ، وأنّه لا داعي إلى الالتزام بكونه منتزعاً من الحكم التكليفي فراجعه في أواخر ص ٣٨٢ وأوائل ص ٣٨٣ (٢) ، كما أنّها غير موجودة في تحريراتي عنه قدس‌سره.

كما أنّ قوله قبيل هذه العبارة : والذي يدلّ على ذلك هو أنّ مثل هذه الاعتباريات متداولة عند من لم يلتزم بشرع وشريعة كالدهري والطبيعي ، مع أنّه ليس عنده إلزام وتكليف يصحّ انتزاع هذه الأُمور منه (٣) لا يخلو عن تأمّل ، لما تقدّمت الاشارة إليه من أنّ العرف والعقلاء لديهم تكاليف ، وإن لم يكونوا متديّنين بدين ، فهم يحكمون بأنّ للزوج أن يطأ زوجته بخلاف الأجنبية ، ويرون أنّ عليه الإنفاق عليها ، وأنّ من ملك شيئاً يجوز له بحسب قوانينهم العقلائية أن يتصرّف فيه ولا يجوز لغيره أن يتصرّف. نعم هناك قوانين وأحكام مخالفة للشرع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٨.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٨٧.

١٥٩

أو مخالفة للقوانين العقلائية الأُخرى في الوضعيات وفيما يجوز وما لا يجوز ، حتّى أنّ الإباحيين لهم حدود وقوانين وضعية ونواميس يجرون عليها فيما يجوز من الأفعال وما لا يجوز.

وبالجملة : أنّ هذا السنخ من الوضعيات موجود لدى العقلاء وإن لم يكونوا أصحاب شريعة ، ولهذا السنخ عندهم جهات تكليفية ، ولكن ليس الأوّل عندهم منتزعاً من الثاني ، بل ولا أنّ الثاني عندهم منتزع من الأوّل ، بل كلّ منهما معتبر عندهم في نفسه استقلالاً ، غير أنّ الأوّل منهما بالنسبة إلى الثاني عندهم من قبيل موضوع الحكم بالنسبة إلى الحكم دون العكس. وقس على ذلك حال الطاهر والنجس ، فإنّ عندهم ما هو نقي وما هو قذر ، ويجوّزون مباشرة الأوّل ويمنعون من مباشرة الثاني ، ويرون أنّ الطهارة والقذارة بالنسبة إلى جواز المباشرة والمنع منها من قبيل الموضوع بالنسبة إلى الحكم ، وليس مرادنا من المنع الذي ننسبه إليهم هو ما يستحقّ عليه العقاب الأُخروي ، بل مرادنا هو عبارة عن زجر بعضهم بعضاً عن الارتكاب زجراً عقلائياً ، وربما كان في البين عقاب لكنّه دنيوي حسبما يجعلونه من الجزاء للجرائم التي يكون في البين قانون دولي أو عشائري يمنع من ارتكابها.

والخلاصة : أنّ الذي يظهر من هذه العبارة وممّا تقدّم في صدر هذا الأمر الرابع هو أنّ العقلاء ليس لديهم تكاليف فيما بينهم ، وأنّ كلّ ما عندهم هو من سنخ الوضعيات ، وقد عرفت التأمّل في ذلك. كما أنّه يظهر من صدر هذا الأمر الرابع حصر المجعولات الشرعية بالتأسيسية وهي التكاليف والامضائية وهي الوضعيات ، وصرّح بذلك السيّد سلّمه الله في تحريره بقوله : ولم نعثر على حكم

١٦٠