أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

بالشكّ » لو خلّيت ونفسها لم تكن منطبقة إلاّعلى مورد قاعدة اليقين ، لما عرفت من حصول النقض الوجداني فيها الذي هو مورد التعبّد بعدم النقض ، لكن لمّا طبّقها الإمام عليه‌السلام على موارد الاستصحاب ، وكان ذلك التطبيق قاضياً بتجريد المتعلّق عن الزمان ، لم يكن ذلك المورد الذي طبّقها عليه‌السلام عليه مساوياً لموارد قاعدة اليقين ، فإنّ مورد قاعدة اليقين لو جرّدناه عن الزمان لم يكن قد اجتمع فيه الشكّ واليقين ، بل كان مورداً للشكّ الصرف ، بخلاف مورد الاستصحاب فإنّه قد اجتمع فيه الشكّ واليقين حتّى بعد تجريده عن الزمان أو عن جهة الحدوث والبقاء ، من دون أن يكون أحدهما ناقضاً وجداناً للآخر.

وحينئذ يدور أمر المكلّف بين أن يطبّق عمله على اليقين ويطرح الشكّ ، أو أن يعمل على طبق الشكّ ويطرح اليقين ، وأيّاً منهما قد جرى على طبقه يكون قد نقض الآخر ، من دون أن يكون في البين انتقاض وجداني من أحدهما للآخر ، والإمام عليه‌السلام بقوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » وبقوله عليه‌السلام : « ولكنّه ينقض الشكّ باليقين » قد عيّن له التكليف في ذلك ، وأمره بأن يجعل اليقين هادماً وناقضاً للشكّ ونهاه عن العكس.

وبهذا البيان يتّضح لك خروج قاعدة اليقين عن مفاد الأخبار الشريفة ، لما عرفت من أنّها حينئذ مسوقة لمورد اجتماع الشكّ واليقين ، بل لو لم يكن إلاّهذه الجملة الشريفة من دون تطبيق منه عليه‌السلام على مورد الاستصحاب لقلنا باختصاصها به ، لما هو معلوم من ظهورها في اجتماع الشكّ واليقين فعلاً مع وحدة المتعلّق ، وذلك لا يكون إلاّفي موارد الاستصحاب فلاحظ (١)

__________________

(١) هذه القطعة ينبغي إلغاؤها والاعتماد على السابق ، وقد حرّرنا ذلك جديداً في ورقة

١٠١

ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا قدس‌سره قد تعرّض مفصّلاً لعدم شمول قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لكلّ من الاستصحاب وقاعدة اليقين في خاتمة الاستصحاب (١) ، وينبغي إلحاق هذا الذي حرّرناه هنا بما علّقناه هناك في مبحث الخاتمة إن شاء الله تعالى.

قوله : فإنّه ليس في الرواية ما يستفاد منه وحدة زمان متعلّق الشكّ واليقين ... الخ (٢).

عرفت الفرق بين مورد الاستصحاب ومورد قاعدة اليقين ، وأنّ الأوّل مورده اختلاف المتعلّق بحسب الزمان مع وحدة زمان اليقين والشكّ ، وأنّ سبق اليقين فيه لا يضرّ مع فرض بقائه واجتماعه مع الشكّ ، بخلاف مورد الثاني فإنّ مورده اتّحاد المتعلّق بحسب الزمان مع اختلاف زمان اليقين والشكّ ، وأنّ زمان الشكّ فيه يكون بعد انقضاء زمان اليقين.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ ما تقدّم من روايات الباب قد ذكر فيها المتعلّق مثل قوله : « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال عليه‌السلام : لا » الخ (٣) فكان متعلّق اليقين فيها هو وجود الطهارة ومتعلّق الشكّ فيها هو بقاءها ، وأنّ تلك الحالة التي حدثت لا توجب إلاّ الشكّ في البقاء ، فكان لزاماً علينا القول بأنّها

__________________

مستقلّة بتاريخ ١٥ / ع ٢ سنة ٨٠ [ منه قدس‌سره. ولا يخفى أنّ المقصود بالقطعة التي ينبغي إلغاؤها هو قوله قدس‌سره : هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً ... الخ. والظاهر أنّ المقصود بما حرّره قدس‌سره جديداً في ورقة مستقلّة هي الحاشية اللاحقة ، فإنّه قدس‌سره كتبها في أوراق مستقلّة ألحقها بالمتن ].

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٨٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٥.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

١٠٢

مسوقة للاستصحاب دون قاعدة اليقين.

أمّا هذه الرواية فلم تتعرّض لذكر المتعلّق لنتعرّف حاله وأنّه واحد بحسب الزمان أو مختلف ، وأقصى ما في عدم التعرّض هو أنّا لا نقدر على إثبات كونه واحداً بحسب الزمان ، لكن ذلك لا يوجب الالتزام بالتعدّد كي نقول إنّها مسوقة للاستصحاب ، بل لابدّ لنا في ذلك من النظر فيها إلى اليقين والشكّ ، وهل هما في زمان واحد كي تكون منزّلة على الاستصحاب ، أو أنّ زمانهما مختلف لتكون منزّلة على قاعدة اليقين.

فنظراً إلى لفظة « الفاء » ربما نقول إنّها تعطي انقضاء اليقين ، نظير قولك : كان قائماً فقعد ، ولازمه كونها مسوقة لقاعدة اليقين ، لكن قوله عليه‌السلام : « فليمض على يقينه » (١) يعطي اليقين الفعلي ، فلابدّ من تأويله بكون صدق اليقين باعتبار ما كان ، وهو بعيد بل لا وجه له ، لأنّ ذلك إنّما هو في المشتقّات دون الجوامد فضلاً عن المصادر ، ولأجل قوّة هذا الظهور في فعلية اليقين لابدّ لنا من رفع اليد عن ظهور « الفاء » في الانقضاء لو سلّمنا أنّ لها ظهوراً في ذلك في حدّ نفسها ، بأن نقول إنّها وإن كانت صالحة لقاعدة اليقين إن زال اليقين ليكون نظير من كان قائماً فقعد ، ولقاعدة الاستصحاب إن بقي اليقين بحاله ليكون نظير قولك من كان محدثاً فصلّى كانت صلاته باطلة ، لكن قوله : « فليمض على يقينه » يعيّن الوجه الثاني ، فلا يكون مفادها إلاّ الاستصحاب ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ ظهور قوله : « فليمض على يقينه » في اليقين الفعلي قابل للمنع ، فإنّ إضافته إلى الضمير لا تقتضي ذلك ، فكأنّه قال : فليمض على اليقين ، وحينئذ لا ظهور فيه في اليقين الفعلي بل يكون للعهد ، والمراد هو اليقين السابق.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦.

١٠٣

نعم ، إنّ ظهور قوله : « فشكّ » في الانقضاء أيضاً ممنوع ، فإنّه في مثل كان على قيام فقعد ، إنّما كان لأجل التضادّ بين الفعلين ، واليقين والشكّ وإن كانا كذلك إلاّ أنّ التضادّ بينهما إنّما يتمّ مع وحدة المتعلّق ، أمّا مع إمكان تعدّده فلا تضادّ بينهما ، وحينئذ تكون الرواية صالحة لأحد الأمرين ـ أعني قاعدة اليقين والاستصحاب ـ ولا جامع ، لأنّ الاستصحاب محتاج إلى عناية في النقض كما سيأتي بيانه من التوقّف على النقض الوجداني ، وعليه تكون الرواية مجملة مردّدة بين الأمرين ، وإن كان الحمل على قاعدة اليقين (١) لعدم احتياجه إلى تلك العناية ، بخلاف الاستصحاب فإنّه محتاج إليها ، لكن بقرينة تطبيق هذه القضية في باقي الروايات على موارد الشكّ في البقاء بعد اليقين بأصل الحدوث المحتاج إلى العناية الآتي ذكرها ، يلزمنا القول بأنّ المراد بالكبرى في هذه الرواية هو المراد بها في باقي الروايات من موارد اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، ويؤيّد ذلك أنّها ظاهرة في أمر عقلائي ، وهو إنّما يجري في موارد الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث.

أمّا العناية المشار إليها فحاصلها : هو أنّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ إنّما يحسن بعد فرض كونه منهدماً به وجداناً ، وهذا إنّما يتمّ في قاعدة اليقين دون الاستصحاب ، لكن لمّا طبّق الإمام عليه‌السلام هذه القضية على موارد الاستصحاب التي يكون اليقين فيها متعلّقاً بالحدوث ، ويكون الشكّ فيها متعلّقاً بالبقاء ، فلا هدم ولا انهدام ، فكيف تمّ التعبّد في موارد تلك الروايات.

وعلاجه في ذلك هو أن يقال : إنّ اليقين بالحدوث يلازم اليقين بالبقاء ولو ادّعاءً لا حقيقة ، وهذا ممّا يؤيّد مسلك الشيخ قدس‌سره (٢) من اختصاص الاستصحاب

__________________

(١) [ لا يخفى أنّ العبارة ناقصة ولكن المقصود واضح ].

(٢) فرائد الأُصول ٣ : ٥١ وما بعدها.

١٠٤

بموارد الشكّ في الرافع ولا يشمل الشكّ في المقتضي ، لضعف الملازمة الادّعائية فيه ، وهذه الملازمة الادّعائية تخلق لنا يقيناً ادّعائياً بالبقاء ، فكان هذا الشكّ ناقضاً وجداناً لذلك اليقين الادّعائي ، وإن شئت فقل : إنّه ناقض لليقين بأصل الحدوث ولو باعتبار نقضه للازمه الادّعائي ، فالمكلّف لو أخذ بطرف الشكّ لكان هادماً لذلك اليقين ولو بالاعتبار المذكور ، بخلاف ما لو أخذ بطرف ذلك اليقين فإنّه يكون قد هدم الشكّ باليقين بالاعتبار المذكور ، فالشارع قد أمره بجعل اليقين هادماً للشكّ ، ونهاه عن جعل الشكّ ناقضاً وهادماً لليقين المذكور ولو بالاعتبار المذكور ، أعني هدمه باعتبار هدم لازمه الادّعائي الذي هو اليقين بالبقاء.

فإن شئت فخرّجه على المجاز في الكلمة ، بجعل اليقين بالحدوث مجازاً في لازمه الادّعائي الذي هو اليقين بالبقاء. وإن شئت فخرّجه على الاستعارة ، أعني استعارة اليقين بالحدوث لليقين بالبقاء ، بعلاقة الملازمة الادّعائية ونسبة شيء من لوازم الأصل وهو النقض إلى فرعه. وإن شئت جعلت ذلك من باب الكناية ، بجعل اليقين الذي هو اليقين بالحدوث كناية عن لازمه الادّعائي الذي هو اليقين بالبقاء مع ذكر شيء من لوازم المكنّى عنه وهو النقض. وإن شئت جعلته من قبيل التجريد بأن نقول جرّد من اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء ، نظير قوله :

وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرجل

وإن شئت فاجعل مركز التجوّز لفظ النقض ، بجعل رفع اليد عن اليقين بالحدوث نقضاً له باعتبار عدم الالتزام بلازمه الادّعائي ، إمّا من قبيل المجاز في الكلمة ، أو من قبيل التجوّز في الاسناد ، ونحو ذلك من الطرق العنائية.

وعلى أيّ حال ، تلك أبحاث لفظية ، والغرض منها هو صحّة جعل اليقين

١٠٥

بالحدوث يقيناً بالبقاء ، وهذا كلّه بعد فرض الحاجة إلى هذه العناية من جهة أنّه عليه‌السلام طبّقها على ما يحتاج تطبيقها عليه إلى هذه العناية ، أمّا إذا لم يكن في البين هذا التطبيق ، ولم يكن في البين إلاّقوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ (١) فقد عرفت أنّ انطباقه على قاعدة اليقين لا يحتاج إلى ارتكاب هذه العناية ، لكن بقرينة تطبيق عين هذه الكبرى على تلك الموارد المحتاجة إلى العناية ، يمكننا القول بأنّ المراد بها ما لو بقي اليقين بعد عروض [ الشكّ ] ليكون حالها حال باقي تلك الكبريات. مضافاً إلى أنّ المستفاد منها هو الإيكال إلى أمر عقلائي قد جرى عليه العقلاء ، وهم إنّما يجرون على طبق الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

ويمكن أن يقال : إنّ العناية التي سوّغت إطلاق النقض في مثل قوله عليه‌السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ » (٢) هي تجريد الطهارة ـ التي هي متعلّق اليقين باعتبار حدوثها ومتعلّق الشكّ باعتبار بقائها ـ عن كلّ من الحدوث والبقاء ، بدعوى أنّ العرف يفهم من أمثال ذلك أنّ متعلّق اليقين ومتعلّق الشكّ هو نفس الطهارة ، غير أنّه بحسب الدقّة يكون الأوّل هو حدوث الطهارة والثاني هو بقاءها ، لكنّها بحسب النظر العرفي واحدة ، وبهذا الاعتبار العرفي صحّ أن يقال : إنّ اليقين بالطهارة منتقض بالشكّ فيها ، وبهذا الاعتبار العرفي صحّ للشارع أن ينهاه عن نقض اليقين بالطهارة بالشكّ فيها ، وأمره أن يجعل اليقين بالطهارة ناقضاً للشكّ فيها.

وبالجملة : أنّ صحّة كون الشكّ ناقضاً لليقين في الاستصحاب متوقّف على هذه العناية ، أعني عناية تجريد المتعلّق عن الحدوث والبقاء ، وهذا بخلاف

__________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في الهامش من صفحة : ١٠٣.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في الهامش (٣) من صفحة : ١٠٢.

١٠٦

قاعدة اليقين ، فإنّ كون الشكّ فيها ناقضاً لليقين لا يتوقّف على عناية أصلاً ، ولأجل ذلك لا يمكن أن يكون كلّ من الموردين مشمولاً لهذه القضية ، لعدم الجامع بينهما.

وحينئذ نقول : إنّ هذه [ القضية ] بعد تطبيقها على موارد الاستصحاب المحتاج إلى العناية تكون مختصّة بالاستصحاب ، أمّا [ لو ] لم يكن قد طبّق على مورد من الموارد مثل هذه الرواية الشريفة ، أعني قوله عليه‌السلام : « من كان على يقين فشكّ » الخ ، فلا يمكن أن يكون للقدر الجامع ، إذ لا جامع بين ما يحتاج إلى العناية وما لا يحتاج إليها.

مضافاً إلى أنّه لابدّ أن يكون قوله : « فشكّ » مسوقاً للانقطاع فيتعيّن كونه للقاعدة ، أو لمجرّد السبق مع البقاء مع الشكّ فيتعيّن كونه للاستصحاب ، وحينئذ يكون مردّداً بين القاعدتين ، لكن احتياج الثانية ـ وهي الاستصحاب ـ إلى العناية يعيّن كون المراد هو الأوّل أعني قاعدة اليقين ، فيكون مفاد « الفاء » هو الانقطاع ، لكن بقرينة تلك الروايات المطبّقة على موارد الاستصحاب ، وبقرينة أنّها إشارة إلى ما عليه العقلاء المفروض اختصاصه بالاستصحاب ، يتعيّن حملها على الاستصحاب وارتكاب تلك العناية ، وحمل « الفاء » على مجرّد تأخّر الشكّ عن اليقين مع فرض بقائه بحاله بعد الشكّ ، فيكون ذلك عبارة أُخرى عن الاستصحاب.

نعم ، إنّه القسم الغالب منه وهو ما تقدّم اليقين ولحقه الشكّ واستمرّ ذلك اليقين معه ، بخلاف ما لو حصلا معاً ، أعني اليقين بالطهارة والشكّ في بقائها ، ولا دلالة فيها على الانحصار في الأوّل ، بل يمكن أن يقال بالحاق الثاني غير الغالب بالأوّل الذي هو الغالب ودخوله في كبراه ، لأنّ محصّله أنّ من كان على يقين

١٠٧

فشكّ مع فرض استمرار يقينه مع الشكّ ، فكان شكّه ناقضاً ليقينه المجامع مع شكّه ، لا يجوز له أن ينقضه به ، بل يجب عليه جعل ذلك اليقين المجامع مع الشكّ ناقضاً للشكّ استناداً إلى الكبرى المطوية ، فهذا الفرد غير الغالب وإن لم يكن داخلاً في الصغرى إلاّ أنه مشمول للكبرى المطوية ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : ومنها مكاتبة علي بن محمّد القاساني (١) ، قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (٢).

المتحصّل : أنّ قوله عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » يحتمل انطباقه على الاستصحاب ، بمعنى أنّ الشكّ لا يدخل على اليقين ليكون هادماً له وناقضاً ، فمحصّله حينئذ لا تنقض اليقين بالشكّ ، كما أنّه يحتمل انطباقه على ما ادّعي استفادته من الأخبار ممّا حاصله : أنّ ما يجب صومه وهو رمضان وما يجب إفطاره وهو العيد لا يدخله الشكّ ، بمعنى أنّه لابدّ في ذاك وهذا من العلم واليقين ، وحينئذ فيوم الشكّ من الأوّل لا يدخل في رمضان ، ويوم الشكّ من الآخر لا يكون عيداً ، ويكون وزان ذلك وزان أنّ الركعتين الأُوليين لا يدخلهما الشكّ لأنّهما فرض الله (٣).

وهل هذه الجهة حكم واقعي ، على وجه لو صامه بعنوان أنّه مشكوك لا يحسب من رمضان ولو تبيّن بعد ذلك أنّه منه ، كما أنّه لو أفطر في الآخر مع كونه مشكوكاً ثمّ تبيّن بعد ذلك أنّه عيد لم يكن إفطاره صحيحاً ، بل كان يجب قضاؤه

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٦.

(٣) وسائل الشيعة ٨ : ١٨٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ١ ح ١ ، ٤ ، وغيرهما.

١٠٨

ثمّ إنّه يبقى المكلّف في تمام الحيرة في يوم الشكّ من الآخر لأنّه لا يمكنه إدراجه في رمضان ، لأنّه يعتبر فيه اليقين ولا يجوز إدخال المشكوك فيه ، ولا يمكنه جعله عيداً لأنّه لابدّ فيه أيضاً من اليقين ، فهل يرى القائل بذلك أنّه يفطره ولكن لا يجعله عيداً ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اعتبار اليقين في رمضان إنّما هو في أوّله لا في آخره.

أو أنّها حكم ظاهري ، بمعنى أنّه ما دام مشكوكاً لا يمكن أن يحسب من رمضان ، بأن يصام على أنّه من رمضان ، وحينئذ يكون من أوضح الواضحات لا يحتاج إلى جعل وتشريع ، فإنّه من التشريع الواضح لو كان من الأوّل ، ومن الافطار بلا مسوّغ لو كان من الثاني ، فلابدّ أن يكون أساس هذه الجهة هو الاستصحاب ، وأنّ يوم الشكّ الأوّل محكوم بأنّه من شعبان ، ويوم الشكّ الآخر محكوم بأنّه من رمضان ، فلا يجب صيام الأوّل بل يحرم لو كان بنيّة رمضان ، كما أنّه لا يجوز الافطار في الثاني لكونه محكوماً بكونه من رمضان.

وحينئذ ننقل الكلام إلى قوله عليه‌السلام : « صم للرؤية وأفطر للرؤية » بعد الفراغ عن أنّ مفاد قوله عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » هو الاستصحاب ، فنقول : إنّ اللام تارةً نجعلها بمعنى « عند » أو للتعليل نظير قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(١) ويكون مفاد انحصاره وجوب الصوم عند الرؤية من الأوّل ووجوب الافطار عند الرؤية من الآخر ، ويكون هذا الانحصار حكماً ظاهرياً ناشئاً عن الحكم السابق ، وهو الاستصحاب في كلّ من الموردين.

ويمكن أن تكون اللام بمعنى « إلى » نظير قوله تعالى : ( سُقْناهُ لِبَلَدٍ

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٧٨.

١٠٩

مَيِّتٍ )(١) وحينئذ يكون عين الاستصحاب السابق ، ومحصّله وجوب الصوم واستمراره إلى الرؤية ، وهكذا الحال في الافطار ، ويكون مفاد « صم للرؤية » استصحاب الصوم أو الشهر إلى روية هلال شوّال ، ومفاد « وأفطر للرؤية » هو استصحاب جواز الافطار إلى رؤية هلال رمضان ، ولا ضير فيه سوى اختلاف مفاد الصيغة في صم وأفطر ، ففي الأوّل هي للوجوب وفي الثاني هي للجواز والاباحة.

والذي يظهر من شيخنا قدس‌سره (٢) هو أخذ اليقين بمعنى المتيقّن ، وكون ذلك من قبيل شرط الصحّة في الواجب.

ولكن الذي يظهر من الكفاية هو أخذ اليقين شرطاً في الوجوب فإنّه قال : إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشكّ يشرف القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، وأنّه لابدّ في وجوب الصوم أو وجوب الافطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب ، فراجع ما عقده في الوسائل (٣) لذلك من الباب تجده شاهداً عليه (٤) فإن كان ذلك الاشتراط واقعياً كان لازمه هو أنّ المشكوك لا يجب صومه وإن كان في الواقع من رمضان ، حتّى أنّه لو تبيّن ذلك لم يجب القضاء ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه عند الانكشاف يتبدّل حكمه من عدم الوجوب إلى وجوب الصوم ولو قضاء. وإن كان حكماً ظاهرياً كان محصّله هو أنّ ما شكّ في كونه رمضاناً لا يجب صومه على أنّه من

__________________

(١) الأعراف ٧ : ٥٧.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٢ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣.

(٤) كفاية الأُصول : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

١١٠

رمضان ، وهو من أوضح الواضحات فلابدّ أن يرجع إلى مفاد الاستصحاب.

وممّا يؤيد حمل اليقين في قوله عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » على اليقين الاستصحابي دون الواجب الذي يعتبر فيه اليقين ويمنع من دخول المشكوك فيه ، أنّ ظاهر اليقين هو كون اليقين موجوداً وأنّه لا يدخل عليه الشكّ فيهدمه ، وأنّه مطلب واضح يعرفه المخاطب وجميع العقلاء ، ولا يحتاج إلى تشريع جديد أو إخبار بتشريع سابق ، وذلك ـ أعني أخذ فرض وجود اليقين وكون القضية واضحة ـ إنّما يلائم الحمل على الاستصحاب ، بخلاف ما لو حملناه على المعنى الثاني ، فإنّه بناءً عليه تكون الرواية مسوقة لبيان تشريع جديد ، وهو أنّ رمضان مبدأً ومنتهى يعتبر فيه اليقين ، ولا يجوز للمكلّفين إدخال المشكوك من الأيّام فيه ، وليس في البين إلاّقوله عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » فلابدّ حينئذ من جعل ذلك إشارة إلى بيان كبرى مسلّمة مشرّعة سابقة أو نشرّعها الآن ، وهي أنّ رمضان يعتبر فيه اليقين أن (١) يتمّ اعتبار اليقين في صحّته لا يجوز إدخال المشكوك فيه ، وهذا بعيد للغاية ، بل يكاد ذو الذوق يقطع بعدم كون الرواية مسوقة لبيانه ، هذا. مضافاً إلى ما عرفت ممّا فيه.

أمّا الأخبار التي أُشير إليها في الكفاية (٢) فلا دلالة فيها على تقييد وجوب الصوم واقعاً باليقين أو الرؤية ، ولا على تقييد صحّة الواجب بذلك ، مثل قوله عليه‌السلام في رواية الخزاز : « إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي » وهذه الرواية عن الخزاز ذكرها في الوسائل في باب علامة شهر رمضان وغيره رؤية الهلال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : « إنّ شهر رمضان فريضة من

__________________

(١) [ كذا في الأصل فلاحظ ].

(٢) كفاية الأُصول : ٣٩٧.

١١١

فرائض الله فلا تؤدّوا بالتظنّي » (١) وقوله : في حديث ، إشارة إلى رواية الخزاز الآتية فيما نقلناه عن باب إنّه يثبت بشهادة رجلين عدلين. وقوله عليه‌السلام في رواية إسحاق ابن عمّار : « صم لرؤيته وأفطر لرؤيته ، وإيّاك والشكّ والظن ، فإن خفي عليكم فأتمّوا الشهر الأوّل ثلاثين » (٢) وقوله عليه‌السلام في رواية محمّد بن مسلم : « إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ولكن بالرؤية » (٣).

فإنّ الظاهر أنّ مساقها الردّ على إثبات الهلال بما لا يوجب العلم ، وأقصى ما فيه هو الشكّ والظنّ ، وأنّه لا يجوز الاعتماد في ذلك على تلك الأُمور ، وإنّما يجوز الاعتماد على الرؤية وإكمال العدّة.

ولو سلّمنا أنّ فيها دلالة على التقييد المزبور ، فهو غير مناف لجريان الاستصحاب في شعبان ، إذ لا منافاة بين كون وجوب الصوم مشروطاً باليقين وكون ما لم يتيقّن أنّه منه مورد لاستصحاب شعبان. نعم لو قلنا بجريان التقييد المزبور في الآخر ، أمكن أن يكون ذلك سادّاً لاستصحاب رمضان ، وإن أمكن القول بجريانه أيضاً لكونه محصّلاً لليقين العقلائي ، فلاحظ وتدبّر.

وممّا يشهد بأنّ مساق تلك الروايات هو الردّ على ما لا يوجب العلم : ما عن محمّد بن الفضيل ، قال : « سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن اليوم الذي يشكّ فيه ولا يدرى أهو من شهر رمضان أو من شعبان؟ فقال : شهر رمضان شهر من الشهور ، يصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان ، فصوموا للرؤية وأفطروا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٥ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١١.

(٣) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٥٢ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ٢.

١١٢

للرؤية ، ولا يعجبني أن يتقدّمه أحد بصيام » الحديث (١) ومثله ما عن رفاعة أو سماعة قال : « صيام شهر رمضان بالرؤية وليس بالظنّ ، وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين ، ويصيبه ما يصيب الشهور من التمام والنقصان » (٢) ذكرهما في باب جواز كون رمضان تسعة وعشرين يوماً ، وهذه ونحوها ردّ على أخذ الميزان عدم نقصان شهر رمضان.

وما في باب إنّه يثبت بشهادة رجلين عدلين ، عن الخزاز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « قلت له : كم يجزئ في رؤية الهلال؟ فقال عليه‌السلام : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله ، فلا تؤدّوا بالتظنّي ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد قد رأيته ويقول الآخرون لم نره ، إذا رآه واحد رآه مائة » الخ (٣) وعن محمّد ابن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : « إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولا بالتظنّي ، ولكن بالرؤية ( قال ) والرؤية ليس أن يقوم عشرة فينظروا فيقول واحد هو ذا هو وينظر تسعة فلا يرونه ، إذا رآه واحد رآه عشرة آلاف » الخ (٤) وعن أبي العبّاس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الصوم للرؤية والفطر للرؤية ، وليس الرؤية أن يراه واحد ولا اثنان ولا خمسون » (٥).

وجميع روايات هذا الباب ناظرة إلى بيان الرؤية التي يثبت بها الهلال ، ولا دخل لهذه الروايات في هذا الباب ولا في الباب السابق لكون اليقين شرطاً في

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٣ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٣ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٥ ح ٦.

(٣) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٨٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٨٩ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١١.

(٥) وسائل الشيعة ١٠ : ٢٩٠ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ١١ ح ١٢.

١١٣

التكليف ، أو شرطاً في المكلّف به.

ثمّ إنّ لشيخنا الأُستاذ العراقي قدس‌سره كلاماً في درسه حسبما حرّرته عنه ، محصّله الميل إلى كون مفاد الرواية هو الاستصحاب ، لكنّه استشكل من ناحية عدم الأثر له وحاصله : هو الإشكال في الأُمور غير القارة ، فإنّ ما نحن فيه عين مسألة الشكّ في حصول المغرب وطلوع الفجر بالنسبة إلى بقاء وجوب الصوم ، وبقاء جواز الأكل والشرب وعدم وجوب الصوم ، كما تعرّض لذلك في التنبيه الخامس من تنبيهات الاستصحاب ، وأنّ موضوع الأثر هو كون هذا الآن ليلاً أو نهاراً بمفاد كان الناقصة ، فلا يثبت باستصحاب وجود النهار أو وجود الليل بمفاد كان التامّة.

ولكنّه أخيراً أفاد ما حرّرته عنه وهذا نصّ العبارة : ويمكن دفع هذا الإشكال بأنّه بعد الفراغ عن تطبيق الاستصحاب من الإمام عليه‌السلام على هذا المورد فدفعاً للزوم اللغوية يحكم بلزوم ترتيب خصوص هذا الأثر تعبّداً ، ولا يتسرّى إلى غيره من هذا القبيل.

لكن في مقالته المطبوعة عقّب الإشكال المزبور بقوله : وعليه فلا مجال لتطبيق مثل هذا المقام على مفاد الاستصحاب ، بل من الممكن كونه ضرب قاعدة مستقلّة دالّة على [ ترتّب ] وجوب الصوم على اليقين بالرمضانية لا عدمه على بقية الشعبانية ، وإلى ذلك أيضاً نظر الطوسي في الكفاية (١).

ولا يخفى أنّ نظر صاحب الكفاية قدس‌سره لم يكن من جهة الفرار عن إشكال مفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة ، بل كان ما أفاده فيها من صرف هذه الرواية عن الاستصحاب إلى تقييد وجوب الصوم والافطار باليقين ناشئاً عن ملاحظة الأخبار

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

١١٤

الواردة في يوم الشكّ ممّا يدلّ على اعتبار اليقين في كلّ من وجوب الصوم والافطار ، وقد عرفت ما في ذلك من التأمّل ، وأنّ تلك الأخبار ليست واردة ذلك المورد ، وإنّما كان موردها هو التعرّض لما يثبت الهلال ، وأنّه منحصر بالرؤية ، وأنّه لا يفيد في إثباته الشكّ والظنّ ، وأنّ الميزان في الرؤية أنّه إذا رأته عين فقد رأته عيون.

وعلى أيّ حال ، فإنّ ما أفاده في الكفاية راجع إلى دعوى اعتبار اليقين بالهلال في وجوب الصوم ، وظاهره أنّ ذلك حكم واقعي ، لا أنّه حكم ظاهري مفاده عدم الاعتناء بالشكّ بالدخول في الحكم بوجوب الصوم ، على وجه يكون مفاده قاعدة ظاهرية خاصّة بالمقام ، كما هو ظاهر قول المقالة : بل من الممكن كونه ضرب قاعدة مستقلّة دالّة على [ ترتّب ] وجوب الصوم على اليقين بالرمضانية لا عدمه على بقية الشعبانية الخ ، فإنّ الشقّ الثاني عبارة عن الاستصحاب ، والشقّ الأوّل عبارة عن القاعدة الخاصّة بوجوب الصوم غير راجعة إلى البراءة ، ولا إلى استصحاب عدم الدخول أو عدم الوجوب.

وعلى أيّ حال ، فبناءً على ما ذكره شيخنا قدس‌سره يكون المراد باليقين في قوله عليه‌السلام : « اليقين لا يدخله الشكّ » هو المتيقّن ، أعني الصيام في شهر رمضان والافطار في العيد ، وبناءً على ما ذكره في الكفاية يكون المراد باليقين هو اليقين الذي هو شرط وجوب الصوم واقعاً. وأمّا بناءً على ما أفاده في المقالة فهل يكون المراد به اليقين الذي هو شرط للوجوب ظاهراً ، أو أنّ المراد به معنى آخر ، لأنّ محصّل ما أفاده هو براءة خاصّة في مقام الشكّ في دخول رمضان ، وليس في البين يقين حينئذ يدخل فيه الشكّ. نعم إنّ هذه البراءة الخاصّة كالبراءة العامّة موضوعها الشكّ بدخول الشهر ، ويرفعها اليقين بالدخول ، فلا معنى لأن يقول إنّ

١١٥

ذلك اليقين الرافع للبراءة لا يدخله الشكّ ، فتأمّل.

وأمّا قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(١) فقد أعربوا الشهر مفعولاً فيه ، وحينئذ [ يكون ] خارجاً عمّا نحن فيه. قال الجزائري في آيات الأحكام : وربما يدلّ على ذلك ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله عزّوجلّ : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )؟ قال عليه‌السلام : ما أبينها ، من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه » (٢) إذ الظاهر أنّه عليه‌السلام قصد بيان جزء الآية. وقيل : نصب الشهر على أنّه مفعول به ، ويكون ذكر المريض والمسافر من قبيل المستثنى من عموم من شهد ، ولعلّ في ذلك دلالة على اعتبار قيد الصحّة في وجوبه على من شهد الخ (٣).

ولو بنينا على كون الشهر مفعولاً به كان من المشاهدة بالرؤية ، فيكون مساقه مساق « صم للرؤية » الذي عرفت أنّه في مقام أنّه لا يثبت إلاّبالرؤية. ولكنّه بعيد ، بل الظاهر هو الكناية عن الحضور كما هو صريح الرواية ، ويكون عدم الوجوب على المريض لأنّه مريض وإن كان حاضراً ، وعلى المسافر لأنّه غير حاضر ، ولا يكون المقام مقام استثناء ، بل هو بيان أحكام استقلالية ، غايته أنّه بالنسبة إلى الأوّل ـ أعني المريض ـ يكون من قبيل التخصيص بالمتّصل بالنسبة إلى عموم من كان حاضراً يجب عليه الصوم.

ومن ذلك يظهر لك الخدشة فيما قاله أبو البقاء ، فإنّه قال : ومفعول شهد محذوف أي شهد المصر ، والشهر ظرف أو مفعول به على السعة ، ولا يجوز أن

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٠ : ١٧٦ / أبواب من يصحّ منه الصوم ب ١ ح ٨.

(٣) قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر ١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

١١٦

يكون التقدير فمن شهد هلال الشهر ، لأنّ ذلك يكون في حقّ المريض والمسافر والمقيم الصحيح ، والذي يلزمه الصوم الحاضر بالمصر إذا كان صحيحاً. وقيل :

التقدير هلال الشهر ، فعلى هذا يكون الشهر مفعولاً به صحيحاً لقيامه مقام الهلال. وهذا ضعيف لوجهين : أحدهما : ما قدّمنا من لزوم الصوم على العموم ، وليس كذلك ، والثاني : أنّ شهد بمعنى حضر ، ولا يقال : حضرت هلال الشهر ، وإنّما يقال : شاهدت الهلال (١).

فإنّك قد عرفت أنّه يمكن أن يكون قوله : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) ، بمعنى [ من ] رأى الهلال يجب عليه الصوم ، فيشمل المريض والمسافر والحاضر الصحيح ، ويكون قوله : ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً ) الخ ، بمنزلة التخصيص بالمخصّص المتّصل ، فيخرج عن ذلك العموم المريض والمسافر.

أمّا إيراده الثاني وهو أنّ شهد بمعنى حضر ، ولا يقال حضرت الهلال ، ففيه : أنّ شهد ربما تتضمّن معنى الرؤية ، لا لأنّها بمعنى المشاهدة ، بل إنّ المشاهدة منها ، ومن ذلك قولهم : شهدت فلاناً يوم كذا وقد فعل كذا وكذا ، فإنّه بمعنى رأيت ، قال في المصباح : وشهدت الشيء اطّلعت عليه وعاينته (٢) وقال في تاج العروس مازجاً عبارته بعبارة القاموس : ( وشاهده ) مشاهدة ( عاينه ) كشهده (٣).

والشهادة أيضاً مأخوذة من ذلك على نحو التوسعة من المنظور إلى مطلق المحسوس ولو سماعاً ، بل ولو علماً بواسطة الاحساس بالسبب مثل الشهادة

__________________

(١) التبيان في إعراب القرآن ١ : ١٥٢.

(٢) المصباح المنير ١ ـ ٢ : ٣٢٤ / مادّة الشهد.

(٣) تاج العروس ٢ : ٣٩٣ / مادّة شهد.

١١٧

بالأعلمية والعدالة.

وقال الطبرسي قدس‌سره في جامع الجوامع : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي فمن كان حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر ، والشهر منصوب على الظرف ، وكذا الهاء في ( فَلْيَصُمْهُ ) ولا يكون مفعولاً به ، لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر الخ (١) وبنحوه صرّح في مجمع البيان (٢) فراجع. وقد عرفت التأمّل في ذلك.

وقال البيضاوي : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافراً فليصم فيه ، والأصل : فمن شهد فيه فليصم فيه ، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأوّل للتعظيم ، ونصب على الظرف وحذف الجار ، ونصب الضمير الثاني على الاتّساع. وقيل : فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه على أنّه مفعول به ، كقولك : شهدت الجمعة أي صلاتها ، فيكون ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) مخصّصاً له ، لأنّ المسافر والمريض ممّن شهد الشهر ، ولعلّ تكراره لذلك ، أو لئلاّ يتوهّم نسخه كما نسخ قرينه (٣).

وقال في الكشّاف : فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر ، والشهر منصوب على الظرف ، وكذا الهاء في ( فَلْيَصُمْهُ ) ، ولا يكون مفعولاً به كقولك : شهدت الجمعة ، لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر (٤)

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) مجمع البيان ٢ : ١٣ ، ١٥ ـ ١٦.

(٣) تفسير البيضاوي ١ : ١٦٨.

(٤) الكشّاف ١ : ٣٣٦.

١١٨

وفي تفسير المنار : قال بعض المفسّرين : إنّ المراد بالشهر هنا الهلال وكانت العرب تعبّر عن الهلال بالشهر. ويردّه : أنّهم لا يقولون شهد الهلال ، وإنّما يقولون رآه ، ومعنى شهد حضر. وقال بعضهم : إنّ المعنى فمن كان حاضراً منكم حلول الشهر فليصمه (١).

قوله : ولا يمكن أن يكون المراد منه الأعمّ من المرسل والمشكوك ـ إلى قوله ـ فإنّ الشيء المشكوك متأخّر في الرتبة عن الشيء المرسل ... الخ (٢).

من دون فرق في ذلك بين ما هو معلوم العنوان مشكوك الحكم أو ما هو مشكوك العنوان ، فإنّ ما هو مشكوك العنوان متأخّر عن نفس العنوان برتبة واحدة وما هو مشكوك الحكم متأخّر عن العنوان برتبتين ، فإنّ الشكّ في الحكم متأخّر عنه والحكم نفسه متأخّر عن العنوان.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد من التأخّر الرتبي في هذا المقام ليس هو التأخّر الخارجي كما في العلّة والمعلول ، ضرورة إمكان الجامع بين هذين الترتّبين مثل عنوان الموجود والشيء مثلاً ، بل المراد به التأخّر اللحاظي ، يعني أنّ الحاكم بقوله : كلّ شيء طاهر مثلاً ، يلزمه أن يلاحظ الشيء أوّلاً بعنوانه وثانياً بعنوان كونه مشكوك العنوان أو مشكوك الحكم.

ثمّ إنّي حرّرت عنه قدس‌سره أنّ في البين مانعاً آخر غير ما تقدّم ، وهو أنّ لفظ الشيء وإن كان هو جامعاً بين جميع الموجودات ، إلاّ أنه إذا أُخذ موضوعاً لحكم لابدّ أن يكون دخول الفرد تحته بعنوان كونه شيئاً ، لا بعنوان آخر مثل كونه

__________________

(١) تفسير المنار ٢ : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٨.

١١٩

مشكوك الحكم ، وذلك نظير ما لو أُخذ الإنسان موضوعاً لحكم فإنّه وإن كان شاملاً للانسان العالم وغيره ، إلاّ أنه لا مدخلية لكونه عالماً في ذلك الحكم ، بل يكون دخوله في ذلك الحكم بعنوان كونه إنساناً لا بعنوان كونه عالماً.

والحاصل : أنّ دعوى كون مثل « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) مسوقاً لبيان الحكم الواقعي والظاهري يأباه الموضوع وهو « كلّ شيء » ، والمحمول وهو « طاهر » ، وأداة الغاية وهي لفظ « حتّى » ، ونفس الغاية وهو ما بعد حتّى.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت الوجه فيه.

وأمّا الثاني فلعدم إمكان الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في لفظ « طاهر » ، لأنّ الطهارة الظاهرية متأخّرة رتبة عن الواقعية ، لأخذ الشكّ بالطهارة الواقعية موضوعاً للطهارة الظاهرية ، فتكون الثانية متأخّرة في مقام اللحاظ عن الأُولى ، فكيف يعقل أن يجمعهما لفظ واحد.

وأمّا الثالث ، فلأنّ لفظ « حتّى » تكون قيداً للموضوع في الطهارة الواقعية وللحكم في الطهارة الظاهرية ، كذا أُفيد. وفيه تأمّل ، لإمكان كونها غاية للحكم أو للموضوع في كلّ من الطهارتين.

وأمّا الرابع ، فلأنّ الغاية في الطهارة الواقعية هو نفس القذارة لا العلم بها ، فلا يكون العلم مأخوذاً في ذلك إلاّبنحو الطريقية والكاشفية الصرفة ، بمعنى أنّه لا دخل له ولا وجه لذكره إلاّلكونه كاشفاً عمّا هو الغاية الحقيقية ، وفي الطهارة الظاهرية يكون للعلم الكاشف عن القذارة مدخلية في ارتفاع الطهارة الظاهرية ، فيكون العلم بالقذارة هو الغاية الحقيقية ، وحيث إنّ الثاني هو الظاهر ، يتعيّن

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤ وفيه : « كلّ شيء نظيف ... ».

١٢٠