أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

فتكون الملاقاة من المقدّمات العقلية لحصول نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه ، كالثمرة الحادثة بالنسبة إلى الشجرة المغصوبة ، فلا يكون تأخّر الحكم المذكور منافياً لكون الملاقى تمام الموضوع. كما أنّ الغرض من كونها بالملاقاة أنّها ـ أي الملاقاة ـ تكون جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو النجس الملاقى ، فلا يكون ذلك منافياً لكون ذلك من قبيل السببي والمسبّبي وكون الأصل في الملاقى حاكماً على الأصل الجاري في الملاقي ، إذ يكفي في ذلك كون نجاسة الملاقى جزء الموضوع لنجاسة الملاقي ، ولا تتوقّف الحكومة المذكورة على كون مجرى الأصل الأوّل تمام الموضوع لمجرى الأصل الثاني.

ثمّ قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : ثمّ إنّا قد حقّقنا في محلّه أنّه لا يعقل تأخّر الشرط عن وجود مشروطه ، وأبطلنا الشرط المتأخّر ، وبسبب ذلك ربما يشكل علينا بأنّه بعد البناء على عدم معقولية تقدّم الحكم على موضوعه وشرطه ، كيف قلتم إنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس يثبت للنجس قبل حصول متعلّقه وهو ملاقي النجس.

والجواب : أنّ وجوب الاجتناب الثابت للنجس لم يكن مقيّداً ومشروطاً شرعاً بملاقي النجس. نعم لمّا كان محصّل وجوب الاجتناب عن النجس بناءً على السراية والاتّساع هو الاجتناب عنه وعن فروعه ، لم يتحقّق الخطاب بالاجتناب عن ذلك الملاقي إلاّبعد وجود الملاقي ، من جهة حكم العقل بتوقّف تحقّق ذلك الخطاب على تحقّق موضوعه ، لا بمعنى أنّ هناك حكمين أحدهما للنجس والآخر لملاقيه ، بل بمعنى أنّه ليس لنا إلاّحكم واحد وارد على النجس ، وهذا النجس تتّسع دائرته بواسطة تعدّد ملاقيه ، والحكم في محلّه على وحدته لم يحصل له تعدّد وكثرة.

٤١

قلت : وإن شئت فقل : إنّ اتّساع الموضوع ليس من قبيل تجدّد الموضوع ، فحرمة التصرّف الواردة على الشجرة في أوّل نشوئها تكون بعينها واردة على تلك الشجرة في حال كبرها وزيادتها جسماً بمقدار أزيد من أصلها بل أضعافه ، ومع ذلك ليست تلك الزيادة من قبيل حدوث موضوع جديد. وهكذا الحال في زيادة سلسلة الأُمّ الرضاعية التي كان الرضاع منها موجباً لحرمة تلك السلسلة ، سواء كانت من العمودين أو كانت من الحواشي ، وهكذا الحال في ثمرة الشجرة. والمدّعى أنّ ملاقي النجس من هذا القبيل ، أعني السعة في موضوع النجس بكثرة ملاقياته ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته المطبوعة قد أفاد نحو ما أفاده شيخنا قدس‌سره في العرضية المذكورة ، غير أنّه جعل ما يقابله من السراية على نحوين : الأوّل : أنّه من قبيل العدوى وترشّح النجاسة من الملاقى ـ بالفتح ـ إلى الملاقي ـ بالكسر ـ ، مع الالتزام بكونه موضوعاً جديداً ، غايته أنّه في طول نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ. والثاني : من قبيل الاتّساع في الموضوع ، فقال : أحدها : أنّ وجه نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ هل هو من جهة صرف التعبّد به ، غاية الأمر مشروطاً بملاقاته مع النجس بلا التزام بالسراية من الملاقى ـ بالفتح ـ إليه بوجه من الوجهين الآتيين ، أم ليس إلاّمن جهة سرايتها ممّا لاقاه إليه ، وعلى الأخير هل معنى سرايته كون نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ سبباً لنجاسة ملاقيه ـ بالكسر ـ ، نظير سراية الحركة من اليد إلى المفتاح ، أو أنّ معناه انبساط نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ بحيث شملت الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً ، فتكون نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ من مراتب وجود نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، لا أنّه مسبّب عنه وفي طوله (١)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٧ [ لا يخفى أنّ المذكور في الطبعة القديمة : « لأنّه مسبّب عنه » وفي الطبعة الحديثة : « لأنّها مسبّبة عنه » والصحيح ما أثبته المصنّف قدس‌سره ].

٤٢

ثمّ أفاد : أنّ هذه الوجوه الثلاثة جارية في اعتبار الملكية في المنافع والنماءات بالنسبة إلى ملكية الأعيان.

قلت : ومقتضاه جريانها في غصبية المنافع والنماءات ، بل جريانها أيضاً في حرمة البنت على الشخص بالنسبة إلى أُمّها لو كانت الأُمّ مرضعة للشخص المذكور.

ثمّ قال : ثانيها : أنّ كلّ مورد يكون للمعلوم بالاجمال أثران ـ إلى أن قال : ـ وإنّما الكلام في طولية الأثر المترتّب على نفس المعلوم مع الأثر المترتّب على الغير الذي هو من تبعات وجود المعلوم ، كنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو ملكية النماء مثلاً التابعين لنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو ملكية العين ، أو كونهما عرضيين على التصوّرات السابقة ، فإنّه على الطولية يصير الأثر في أحدهما مسبّباً عن الآخر ، وعلى العرضية يكون الأثران في عرض واحد بلا سببية ومسبّبية في البين (١).

ثمّ إنّه ذكر في ثالثها ما مفاده راجع إلى إشكال العلم الاجمالي وجوابه ، وذكر الإشكال على ما أفاده الشيخ قدس‌سره.

ثمّ قال : هذا كلّه في فرض طولية المعلومين بذاتهما ، وأمّا لو كانا عرضيين ـ كما بيّنا وجهه في الأمثلة السابقة ـ فنقول (٢). وتعرّض لدفع توهّم كون العلم الاجمالي بأثر الملزوم كافياً في تنجّز لازمه ، وأنّه لا يحتاج إلى علم آخر بما حاصله : أنّه لابدّ من العلم الاجمالي بالنسبة إلى اللازم وأنّ العلم بالملزوم غير مرتبط بالعلم باللازم ، إذ هما تكليفان غير مرتبط أحدهما بالآخر ، غاية الأمر

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٨.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥١.

٤٣

عرضيان ، ومجرّد عرضيتهما في الوجود لا يقتضي وحدة العلم بهما كي يكفي في تنجيز اللازم مجرّد العلم بالملزوم (١).

ثمّ قال : وبعد ذلك لا محيص أيضاً بهذا المناط من تعدّد العلم بهما وجوداً ، لأنّ وحدة العلم وتعدّده أيضاً متقوّم بوحدة معلومه وتعدّده ، ثمّ أفاد أنّه لو سلّمنا وحدة العلم لكان قابلاً للتحليل بقطعة فقطعة ، وكانت كلّ قطعة منجّزة لما تعلّقت به ، إلى أن قال : نعم الذي يسهّل الخطب في المقام ( عدم ) صحّة العرضية في التكليفين أو انبساطه ، سواء في باب نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ مع نجاسة ما لاقاه ، أو في ملكية النماء والمنافع لملكية العين ، وأنّ التحقيق فيهما كون كلّ واحد من الملزومين ناشئين عن الآخر ، كنشوء حركة المفتاح عن حركة اليد ، وبهذا المعنى نلتزم بالبراءة (٢) في المقامين ، لا بمعنى انبساط الأثر من الملزوم إلى اللازم بحيث كأنّهما وجود واحد منبسط على الجميع ، وعليه فمقتضى التحقيق في التشقيقات السابقة هو الالتزام بالمعنى الوسط لا الأوّل ولا الأخير ، ولازمه ليس إلاّطولية الأثرين ، وفي مثله لا محيص من إجراء الأصل في المسبّب عند سبق العلم بالسبب ، وإلاّ فلابدّ من الاجتناب في المسبّب وطرفه وإجراء الأصل في السبب ، كما أنّه لابدّ من الاجتناب عن كليهما عند عرضية علمهما ، كما تصوّرنا كلّ ذلك بملاحظة جريان التفصيل في طولية العلمين أو عرضيتهما ، ولازمه عدم كون المدار في أمثال الباب على جريان الأصل في المسبّب بلا معارض كما لا يخفى ، فتأمّل في أطراف الكلام فإنّه من مزال أقدام الأعلام (٣)

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥١.

(٢) [ أُبدلت كلمة « البراءة » في الطبعة الحديثة بكلمة « السراية » ].

(٣) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٤٤

والذي ينبغي هو التعرّض لكلّ واحدة من هذه الجمل ، فنقول بعونه تعالى :

قوله في المقالة : غاية الأمر مشروطاً بملاقاته مع النجس ... الخ (١).

قد عرفت أنّ هذا المقدار كافٍ في الطولية على وجه يكون الحكم في الملاقي ـ بالكسر ـ في طول نجاسة الملاقى ، على وجه يكون الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ حاكماً على الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ ، حتّى لو فرضنا أنّ حكم الثوب الملاقي للنجس وجوب حرقه أو التصدّق به أو التصدّق بدرهم مثلاً ، بأن يقول الآمر إذا لاقى ثوبك النجس فتصدّق بدرهم ، فإنّ هذا الحكم لا يخرج عن كونه في طول نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ على وجه لو جرت قاعدة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ كانت حاكمة على الأصل الجاري في هذا الحكم ، وهو وجوب التصدّق بدرهم مثلاً.

قوله : وعلى الأخير هل معنى سرايته كون نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ سبباً ـ إلى قوله : ـ أو أنّ معناه انبساط نجاسة الملاقى بالفتح (٢).

الأولى أن يقال : إنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ هل هي بالتعبّد أو بالسراية من العلّة إلى المعلول ، أو هي بالاتّساع وانبساط النجاسة ، وهو الذي نعبّر عنه باتّساع الموضوع ، ولا فرق بين الأوّل والثاني من حيث الطولية ، سوى أنّ القسم الأوّل لا يلزم فيه أن يكون الحكم في الفرع من سنخ حكم الأصل ، لأنّه حكم تعبّدي ثابت لملاقي النجس ، بخلاف القسم الثاني ، فإنّ الحكم فيه يلزم أن يكون من سنخ الحكم في الأصل ، لكونه بسرايته وعدواه ، أمّا السببية والطولية فعلى الظاهر أنّها مشتركة بينهما ، فإنّ الحكم في الفرع الذي هو الملاقي ـ بالكسر ـ في

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٧.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٧.

٤٥

القسم الأوّل وإن لم يكن من سنخ حكم الأصل ، بل كان مثل وجوب الاحراق أو وجوب التصدّق ، إلاّ أن نجاسة الأصل من أجزاء موضوعه ، فتكون سبباً شرعياً في ذلك الحكم ، كما هو الحال في القسم الثاني ، اللهمّ إلاّ أن يكون المراد هو السببية التكوينية ، فتأمّل.

قوله : ثالثها : في أنّ العلم الحاصل بمعلول شيء ... الخ (١).

محصّله : أنّ الانتقال تارةً يكون من العلّة إلى المعلول ، وأُخرى بالعكس ، وثالثة يكون العلم بكلّ من المعلول والعلّة حاصلاً دفعة واحدة من سبب ثالث أوجب العلم كإخبار معصوم ، وحينئذ فأيّ العلمين سبق كان المؤثّر ، ولو اجتمعا أثّرا معاً.

ولا يخفى أنّ هذا التقسيم لا يختصّ بكون أحد المعلومين معلولاً للآخر وفي طوله ، بل يجري في العرضيين ، كما إذا كانا معلولين لعلّة ثالثة ولو كانت العلّية اتّفاقية ، فإنّه تارةً يكون الانتقال من أحد المعلولين إلى الآخر ، وتارةً يكون الانتقال من العلّة إليهما معاً ، كما لو كان إناء زيد بجنب إناء خالد ، وكان إناء عمرو بعيداً عنهما في الجملة ، على وجه لو وقعت نجاسة على إناء زيد كانت واقعة عليهما معاً ، فهو تارةً يعلم بوقوع النجاسة في إناء زيد وينتقل من ذلك إلى العلم بنجاسة إناء خالد أيضاً ، وتارةً بالعكس ، وثالثة يحصل له العلم الدفعي بنجاستهما معاً ، بل يكون الانتقال من أحد المعلولين إلى الآخر أبعد مسافة من الانتقال عن العلّة إلى المعلول أو بالعكس ، لأنّ العلم بأحد المعلولين ينتقل إلى العلم بالعلّة ، وعن العلم بها يحصل الانتقال إلى المعلول الآخر ، ويكون المدار في ذلك كلّه على التقدّم الرتبي لا الزماني حتّى في العلّة والمعلول ، فإنّ محصّل الانتقال من

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٨.

٤٦

العلم بالعلّة إلى العلم بالمعلول أنّ الذي حصل له أوّلاً هو العلم بالعلّة ، ثمّ بعد حصول العلم بالعلّة يحصل له العلم بالمعلول ، ويكون العلم بالعلّة علّة للعلم بالمعلول ، فلا يكون بين العلمين تأخّر زماني ، لاستحالة ذلك في العلّة والمعلول.

نعم ، ربما حصل التأخّر الزماني ، كما لو علم بالعلّة ولكن حينما علم بها لم يعلم بكونها علّة للشيء الفلاني ، وبعد مدّة علم بذلك وانتقل من علمه بها إلى العلم به. وهكذا الحال فيما لو علم بوجود المعلول ولم يكن حينئذ عالماً بأنّه معلول للعلّة الفلانية ، ثمّ بعد مدّة علم بذلك فانتقل من العلم به إلى العلم بها. وهكذا الحال في الانتقال من أحد المعلولين إلى المعلول الآخر. بل يكون المدار هو ذلك ـ أعني التقدّم الرتبي لأحد العلمين على الآخر ـ حتّى في غير المتلازمين اللذين لا يكون بينهما طولية ، لكن كانت الطولية فيهما بين العلمين ، وذلك كما إذا علم بنجاسة مردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، ثمّ علم بنجاسة مردّدة بين إناء عمرو وإناء خالد من تلازم ولو اتّفاقي بين نجاسة إناء زيد وإناء خالد ، وحينئذ لا اختصاص للانحلال بما إذا كان بين المعلومين طولية.

فما يظهر منه من الاختصاص لا وجه له على الظاهر ، كما يظهر ذلك من قوله : هذا كلّه في فرض طولية المعلومين بذاتهما ، وأمّا لو كانا عرضيين ـ إلى قوله : ـ نعم الذي يسهّل الخطب في المقام ( عدم ) صحّة العرضية في التكليفين أو انبساطه ، سواء في باب نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ مع نجاسة ما لاقاه ، أو في ملكية النماء والمنافع لملكية العين ، وأنّ التحقيق فيهما كون كلّ واحد من الملزومين ناشئين عن الآخر ، كنشوء حركة المفتاح عن حركة اليد ، وبهذا المعنى نلتزم بالبراءة في المقامين ، لا بمعنى انبساط الأثر من الملزوم إلى اللازم بحيث

٤٧

كأنّهما وجود واحد منبسط على الجميع الخ (١).

ولا يخفى غرابة الالتزام بالبراءة (٢) في مسألة المنافع والنماء فيما لو علم إجمالاً غصبية إحدى العينين اللتين يكون لإحداهما منافع أو ثمرة ، فإنّ التحقيق فيه أنّه من قبيل الاتّساع والانبساط.

وأغرب من ذلك دعوى التمحّل في تقطيع العلم على تقدير كون ذلك من قبيل الاتّساع وجعل العلم المنبسط على الكل بمنزلة علمين ، تعلّق أحدهما بأحد الجزأين والآخر بالجزء الآخر ، وإلحاقه من هذه الجهة بالعلم المردّد بين تكليف واحد وتكليفين.

ولا يخفى أنّ جميع ما ذكره في قوله ثالثها إلى آخر هذا المبحث إنّما هو مسوق لردّ اعتراض شيخنا قدس‌سره (٣) على ما أفاده في الكفاية (٤) من الفرق بين الصور الثلاثة.

ولكن يمكن أن لا يكون الوجه في اعتراض شيخنا قدس‌سره هو مجرّد تقدّم المعلوم رتبة ، بل إنّ الوجه فيه هو عدم كون العلم المردّد بين نجاسة الفرع وطرف أصله علماً حقيقياً ، إذ لا مقابلة بين نجاسة الفرع وطرف أصله ، وإنّما هو علم صوري حقيقته هو العلم بين الأصلين ، فعند حصول العلم أوّلاً بين الفرع وطرف أصله ، ثمّ حصول العلم بين الأصلين ، ينكشف صورية العلم الأوّل كما شرحناه ،

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥١ ـ ٢٥٣.

(٢) [ لا يخفى أنّ كلمة « البراءة » أُبدلت في الطبعة الحديثة من المقالات بـ « السراية » فلاحظ ].

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٨٦.

(٤) كفاية الأُصول : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٤٨

فلاحظ وتأمّل.

قوله : فلو فرض سبق وجوده على المعلوم الآخر ـ مع تأخّر علمه عن علمه ـ موجباً لسبق تنجّزه يلزم انفكاك ... الخ (١).

أشار بهذه الجملة إلى الصورة الثانية ممّا ذكره في الكفاية ، وهي ما لو علم أوّلاً بنجاسة مردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، ثمّ علم بنجاسة إناء زيد أو إناء عمرو ، وأنّ نجاسة الثوب لو كان هو النجس في العلم الاجمالي الأوّل فإنّما هي من جهة ملاقاته لإناء زيد ، فكان المعلوم بالعلم الثاني وهو النجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو سابقاً في الرتبة على المعلوم بالعلم الأوّل المردّد بين نجاسة الثوب أو إناء عمرو ، فلو كان تقدّم ذلك المعلوم وهو النجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو موجباً لتقدّم تنجّزه ، لكان العلم بين الثوب وإناء عمرو منفكّاً عن التنجّز ، لأنّه مسبوق بتنجّز أحد طرفيه وهو إناء عمرو ، فيلزم انفكاك العلّة التي هي العلم بين الثوب وإناء عمرو عن معلولها الذي هو التنجّز. وهذا تطويل.

فالأولى أن يقال : إنّ العلم الثاني وهو المردّد بين إناء زيد وإناء عمرو ، لا يعقل أن يكون أثره وهو التنجّز سابقاً عليه وعلى العلم الأوّل المردّد بين الثوب وإناء عمرو ، ليكون ذلك التنجّز السابق موجباً لانحلال العلم الأوّل. وكأنّه يريد بذلك الاعتراض على شيخنا قدس‌سره في دعواه انحلال العلم السابق المذكورة ، وقد عرفت أنّه يمكن أن يقال : إنّ دعوى شيخنا قدس‌سره ليست مبنية على سبق التنجّز ، بل على انكشاف كون العلم السابق صورياً لا واقعية له ، وحينئذ لا يكون جريان الأصل في الثوب مربوطاً بكون الموجب لسقوط الأصل النافي هو نفس العلم ، أو كونه هو تعارض الأُصول.

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٩.

٤٩

قوله في المقالة : ومقتضاه حينئذ اختصاص التنجّز بالمعلوم بالعلم السابق ولو كان المعلوم في الرتبة اللاحقة ، ولا يصلح المعلوم بالعلم اللاحق للتنجّز ولو كان المعلوم بذاته في الرتبة السابقة ، لقيام علمه بطرفيه المنجّز أحدهما بعلمه السابق (١).

وذلك كما في الصورة الثانية ، أعني العلم أوّلاً بالنجاسة بين الثوب وإناء عمرو ، ثمّ العلم ثانياً بالنجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو ، مع العلم بأنّه لا مستند لنجاسة الثوب لو كانت إلاّملاقاته لإناء زيد ، وحينئذ يكون العلم الثاني غير مؤثّر ، لأنّ أحد طرفيه وهو نجاسة إناء عمرو قد تنجّزت بعلمه السابق بين الثوب وإناء عمرو ، ويكون الأصل النافي جارياً في السبب وهو نجاسة إناء زيد ، ويكون ذلك على العكس من الصورة الأُولى وهي ما أشار إليها ب :

قوله : نعم ، لو كان الأمر بعكس هذا الفرض ... الخ (٢).

بأن علم أوّلاً بالنجاسة المردّدة بين الاناءين ، ثمّ لأجل ملاقاة الثوب لإناء زيد حصل له العلم ثانياً بالنجاسة المردّدة بين الثوب وإناء عمرو ، فإنّ العلم الثاني فيها لا يكون منجّزاً ، لأنّ أحد طرفيه وهو نجاسة إناء عمرو قد تنجّز بالعلم السابق بين الاناءين ، وحينئذ يكون الأصل النافي جارياً في المسبّب وهو نجاسة الثوب.

وعلى أيّ ، لا يكون المصحّح لجريان الأصل النافي في الموردين المذكورين هو مجرّد كونه بلا معارض ، لأنّ ذلك غير نافع بناءً على كون العلم الاجمالي علّة في المنع من جريان الأُصول النافية في الأطراف لا مجرّد التعارض ،

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٤٩.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥٠.

٥٠

بل يكون المصحّح لذلك هو كون العلم الاجمالي اللاحق غير مؤثّر في التنجيز.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان العلمان قد حصلا دفعة واحدة بلا أن يكون في البين طولية بين نفس العلمين ، فإنّهما منجّزان حينئذ ، ويكون اللازم هو الاجتناب عن الثلاثة ، هذا.

ولكن قد عرفت أنّ شيخنا قدس‌سره يرى أنّه لا يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ في الصور الثلاثة ، وأنّه يمكن أن يوجّه ما أفاده بما ربما يظهر من مطاوي الكلمات المنقولة عنه في هذا التحرير وغيره ، وهو دعوى كون العلم المردّد بين الثوب وإناء عمرو ليس بعلم حقيقة ، وإنّما هو صوري لا واقعية له ، وإنّما حقيقة الأمر هو التردّد بين نجاسة إناء زيد ونجاسة إناء عمرو ، ومنشأ هذه الدعوى هو الطولية بين المعلومين ، الموجبة لعدم صلاحية نجاسة الثوب لأن تكون طرفاً للترديد بينها وبين نجاسة إناء عمرو (١).

ونظير هذه الطولية ما التزم به فيما لو علم بوقوع نجاسة مردّدة بين إناء خالد وإناء عمرو ، ثمّ بعد ذلك علم بأنّه قد وقعت قبلها نجاسة مردّدة بين إناء عمرو وإناء زيد ، فإنّ هذا العلم الثاني وإن كان متأخّراً ، لكن يستكشف منه أنّ العلم السابق ليس بعلم بحدوث تكليف بين إناء خالد وإناء عمرو ، بل لا يكون إلاّمن قبيل احتمال حدوث تكليف بالنسبة إلى إناء خالد ، أمّا بالنسبة إلى إناء عمرو فعلى تقدير أن تكون النجاسة الثانية واقعة فيه لا يعلم بتأثيرها.

__________________

(١) نعم لو تلف إناء زيد وبعد تلفه حصل العلم الاجمالي ، يكون الثوب واقعاً في عرض نجاسة إناء عمرو ، ويكون الترديد بينهما ترديداً حقيقياً لا صورياً ، ولكنّه لا يخلو عن تأمّل ، لأنّ التلف لا يقلب العلم الصوري إلى العلم الحقيقي ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٥١

وحاصله أنّ هذه النجاسة التي علمها أوّلاً مردّدة بين إناء خالد وإناء عمرو ، ينكشف أنّها دائرة بين حدوث وجوب اجتناب في إناء خالد وبين تحقّق وجوب الاجتناب في إناء عمرو بالأعمّ من الحدوث والبقاء ، فلو كان السابق هو العلم بين إناء زيد وإناء عمرو ، ولحقه العلم بين إناء خالد وإناء عمرو ، فلا إشكال في عدم تأثير اللاحق بالنسبة إلى إناء خالد ، لكن لو كان الأمر بالعكس ، فالعلم السابق وهو بين إناء خالد وإناء عمرو وإن حكم العقل بتأثيره في وقته بالتنجيز بينهما ، إلاّ أنه بعد أن لحقه العلم اللاحق بالنجاسة السابقة المردّدة بين إناء عمرو وإناء زيد يسري الخلل إلى العلم السابق ، ويكون ذلك من قبيل الشكّ الساري الموجب لبطلان أثر العلم التفصيلي فضلاً عن العلم الاجمالي.

وإلى ذلك يشير شيخنا قدس‌سره بقوله : إنّ العلم لا يكون منجّزاً إلى الأبد ، بل يكون حدوث التنجّز تابعاً لحدوثه وبقاؤه تابعاً لبقائه (١) ، وحينئذ يكون أثر العلم الأوّل الذي وقع مردّداً بين إناء خالد وإناء عمرو ساقطاً بالنسبة إلى إناء خالد ، ويكون المدار في التنجّز على العلم الثاني بالنجاسة السابقة على النجاسة الأُولى ، أعني المردّدة بين إناء زيد وإناء عمرو ، لأنّ هذا المكلّف لو سألته الآن بأنّك فعلاً هل تعلم بأنّ تلك النجاسة التي علمتها أوّلاً بين إناء خالد وإناء عمرو قد أثّرت تكليفاً على كلّ حال ، لقال إنّي فعلاً غير عالم بذلك ، لكنّي كنت معتقداً بذلك ، والآن قد زال اعتقادي ، لأنّي فعلاً أحتمل أنّ تلك النجاسة وقعت فيما هو نجس في الواقع ، فأنا لا أعلم أنّ تلك النجاسة التي كنت علمت أنّها وقعت بين إناء خالد وإناء عمرو قد أثّرت على كلّ حال ، فأنا كنت معتقداً أنّها قد أثّرت على كلّ حال ،

__________________

(١) الظاهر أنّه نقل بالمعنى ، راجع فوائد الأُصول ٤ : ٨٦ ـ ٨٧.

٥٢

والآن زال اعتقادي بذلك ، لأنّي أحتمل فعلاً أنّها لم تؤثّر ، هذا.

ولكن هناك جهة أُخرى ، وهي أنّ هذا المكلّف وإن حصل له الشكّ فعلاً في أنّ تلك النجاسة الثانية التي علمها أوّلاً بين إناء خالد وإناء عمرو قد أثّرت على كلّ حال ، لكنّه فعلاً إذا قابل بين إناء خالد وإناء عمرو يرى ويعتقد أنّه إمّا أن يجب عليه الاجتناب عن إناء خالد أو عن إناء عمرو ، غايته أنّه لو كان الأوّل يكون حدوثاً قطعاً ، ولو كان الثاني يكون الوجوب أعمّ من الحدوث والبقاء ، فإنّ تلك النجاسة التي وقعت ثانية إن كانت في إناء خالد فقد حدث وجوب الاجتناب عنه ، وإن كانت في إناء عمرو فهو أيضاً يجب الاجتناب عنه حدوثاً إن لم تكن السابقة واقعة فيه ، أو بقاء إن كانت السابقة واقعة فيه ، فيلزمه الاجتناب عنهما. وإذا تأمّل بين إناء زيد وإناء عمرو يرى أنّه بالأمس توجّه إليه وجوب الاجتناب عن أحدهما ، وهذا العلم ـ أعني علمه الآن بأنّه قد توجّه إليه بالأمس وجوب الاجتناب عن أحدهما ـ باقٍ بحاله لم يتغيّر ، غايته أنّه يحتمل أنّ إناء عمرو قد زاد على ذلك ، بأن وقعت فيه نجاسة أُخرى ، وهذا الاحتمال لا يضرّ بتنجيز ذلك العلم ، بل إنّه يزيد في الطين بلّة ، وحينئذ يلزمه الاجتناب عن الثلاثة.

لكن هذا التقريب جارٍ فيما لو وقعت نجاسة بين إناء زيد وإناء عمرو وعلم بها المكلّف ، ثمّ علم بأنّ نجاسة ثانية وقعت بعد الأُولى إمّا في إناء خالد أو في إناء عمرو ، وهذه الثانية وإن لم يعلم بأنّها مؤثّرة على كلّ حال ، إلاّ أنه تجري فيه المقابلة المذكورة ، ومقتضاها حينئذ الاجتناب عن الثلاثة.

والجواب عن هذه الجهة من الإشكال هو أن يقال : إنّ الانحلال تارةً يكون حقيقياً بأن يكون إناء عمرو معلوم النجاسة تفصيلاً ، ويحصل العلم بوقوع نجاسة

٥٣

مردّدة بينه وبين إناء زيد ، وقد يكون حكمياً بأن يحكم العقل بلزوم الاجتناب عن إناء عمرو ، لكونه طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بينه وبين إناء زيد ، ثمّ يحصل العلم الاجمالي بين إناء عمرو وإناء خالد ، فذلك الحكم العقلي بوجوب الاجتناب عن إناء عمرو يكون موجباً لعدم تأثير العلم الاجمالي الثاني ، فيكون بحكم الانحلال ، وفي صورة العكس ينكشف أنّه بحكم الانحلال.

والشاهد على ذلك أنّه لو كان المتأخّر هو العلم التفصيلي بأنّ إناء عمرو كان متنجّساً قبل حصول العلم الاجمالي بالنجاسة المردّدة بينه وبين إناء زيد ، وهكذا الحال فيما لو كانت البيّنة قائمة مقام العلم التفصيلي المذكور ، فإنّه لا ينبغي الريب في انحلال العلم الاجمالي السابق بذلك ، غايته أنّه في صورة العلم التفصيلي يكون الانحلال حقيقياً كما شرحناه ، وفي صورة قيام البيّنة يكون الانحلال حكمياً ، لكونه بواسطة حكم الشارع بحجّية البيّنة ، وفي صورة تأخّر العلم الاجمالي يكون الانحلال بحكم العقل.

لا يقال : إنّ الفرق بين قيام البيّنة وبين العلم الاجمالي واضح ، لأنّ البيّنة تكشف عن أنّ العلم المردّد بين الإناءين لم يكن علماً بتكليف على كلّ حال ، بخلاف العلم الاجمالي اللاحق ، فإنّه لا يكشف عن أنّ إناء عمرو لم يكن قد تنجّز وجوب الاجتناب فيه ، لأنّه قد تنجّز بالوجدان بواسطة العلم الاجمالي السابق.

لأنّا نقول : بالعلم الثاني ينكشف أنّ العلم الاجمالي السابق لم يكن علماً بحدوث وجوب الاجتناب على كلّ تقدير ، وبذلك يكون العلم الاجمالي الثاني موجباً لتبدّل العلم الاجمالي الأوّل من كونه علماً بتوجّه وجوب الاجتناب على كلّ تقدير إلى احتمال توجّه وجوب جديد ، فلاحظ وتأمّل.

٥٤

قوله في المقالة : وحينئذ فما عن شيخنا العلاّمة من جعل المدار على الأصل المسبّبي بقول مطلق ، لا يناسب مع علّية العلم للتنجّز حتّى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، اللهمّ [ إلاّ ] أن يجعل مبنى كلامه هذا على اقتضاء العلم اللاحق للتنجّز ولو في المعلوم السابق ذاتاً ، ولو بخيال أنّ العلم الطريقي الملحوظ بالنظر المرآتي عين معلومه ، فقهراً سبق معلومه يسري إليه حسب سراية صفات المرئي إلى المرآة ، فيصير علمه بهذا النظر أيضاً سابقاً على المعلوم الآخر ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره لم ينصّ إلاّعلى الصورة الأُولى ، وهي ما لو علم النجاسة بين الاناءين ثمّ علم بملاقاة الثوب لإناء زيد ، فأفاد أنّ قاعدة الطهارة في الثوب بلا معارض. وقال في أواخر المبحث بعد أن أفاد وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ فيما لو لاقى الآخر ثوب آخر لتعارض قاعدة الطهارة في الثوبين ، وأنّه لو فقد الملاقى ـ بالفتح ـ ثمّ حصل العلم بالملاقاة ، سقطت قاعدة الطهارة في الثوب بالمعارضة مع الاناء الباقي : فمحصّل ما ذكرنا أنّ العبرة في حكم الملاقي بكون أصالة طهارته سليمة أو معارضة (٢) ، ثمّ ذكر أنّه لو كان فقد الملاقى ـ بالفتح ـ بعد العلم الاجمالي ، فالظاهر طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ ووجوب الاجتناب عن الإناء الآخر الباقي.

ومن ذلك يظهر أنّ كلامه ناظر إلى أنّ المانع هو تعارض الأُصول ، لا إلى أنّ العلم الطريقي المتقدّم معلومه يكون تنجّزه متقدّماً عليه ، فإنّ ذلك إنّما نحتاج إليه في الصورة الثانية أو الثالثة ، وهو قدس‌سره لم يتعرّض لهاتين الصورتين ، وإنّما تعرّض

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥٠.

(٢) فرائد الأُصول ٢ : ٢٤٤.

٥٥

للصورة الأُولى فقط ، وعدم وجوب الاجتناب فيها عن الثوب يلتئم مع القول بكون العلم الاجمالي علّة تامّة حتّى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وإن علّله هو قدس‌سره بعدم المعارض لأصالة الطهارة فيه ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في المقالة : فهذا الكلام إنّما يتمّ في الأُصول غير التنزيلية مثل قاعدة الحلّية على وجه ، بضميمة كون حلّية اللازم أيضاً من آثار حلّية الملزوم ولو ظاهرياً ـ إلى قوله : ـ فإنّه لا مجال لجريان الأصل في التالف ، لعدم صلاحية التالف لجعل الحلّية الظاهرية ـ إلى قوله : ـ وأمّا لو كان الأصل تنزيلياً كالاستصحاب مثلاً ، فلا شبهة في جريانه حتّى في التالف أو الخارج عن محلّ الابتلاء بلحاظ ما له من الآثار التي كانت مورد ابتلاء المكلّف ... الخ (١).

يتوجّه هنا سؤال عن الوجه في عدوله عن التمثيل للأُصول غير التنزيلية بقاعدة الطهارة إلى قاعدة الحلّية مع أنّها مثلها في لسان الدليل ، وهو قولهم عليهم‌السلام : « كلّ شيء لك طاهر » (٢) وقولهم عليهم‌السلام : « كلّ شيء لك حلال » (٣) مع أنّ الأنسب بالمقام هو التمثيل بقاعدة الطهارة ، لأنّ الكلام في طهارة الملاقى وطهارة الملاقي.

ثمّ إنّه بعد الاعتراف بكون حلّية اللازم من آثار حلّية الملزوم ، وإن شئت فقل : بعد الاعتراف بأنّ طهارة الثوب الملاقي للاناء من آثار طهارة الاناء ، ولذلك كانت قاعدة الطهارة في الاناء حاكمة عليها في الثوب الملاقي له ، يكون حالها

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٥٤.

(٢) ورد مضمونه في وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

٥٦

حال استصحاب الطهارة في التالف بلحاظ ما له من الآثار التي كانت مورد ابتلاء المكلّف ، إذ ليس المراد من الآثار الفعلية لاستصحاب الطهارة في الاناء التالف إلاّ طهارة ملاقيه ، وحينئذ فكما تتحقّق المعارضة بين استصحاب طهارة الاناء التالف واستصحاب طهارة طرفه ، فكذلك تتحقّق المعارضة بين قاعدة الطهارة في الاناءين.

وإن شئت فقل : إنّ الحكم بطهارة الثوب المستند إلى طهارة الاناء التالف ، يكون معارضاً بقاعدة الطهارة في الاناء الموجود ، وبعد التعارض والتساقط نحكم بطهارة الثوب المستندة إلى قاعدة الطهارة فيه في نفسه ، وهي في هذه المرحلة لا معارض لها ، وإن كانت طهارته في المرحلة الثانية ـ أعني بذلك طهارته الحاصلة من إجراء قاعدة الطهارة في الاناء التالف ـ مورداً للمعارضة. ولا فرق في ذلك بين القاعدة والاستصحاب.

وما أُفيد من عدم صلاحية التالف لجعل الحلّية الظاهرية ، إنّما يتمّ إذا كان المراد إجراءها فيه لمحض إثبات حلّية نفسه ، أمّا لو أُريد بها إثبات آثارها من حلّية ما يتفرّع عليه ، فلا مانع من جعلها للتالف بالقياس إلى هذا الأثر الفعلي المترتّب على حلّيته الظاهرية ، كما أفاده في الاستصحاب حرفاً بحرف ، ولأجل ذلك عدل في المستمسك (١) عن هذا التخصيص ، وأفاد أنّه لا مانع من جريان قاعدة الطهارة في التالف باعتبار الأثر في ملاقيه ، فتقع المعارضة بينها فيه وفي طرفه.

ويمكن أن يكون نظر المقالة إلى شرح مطلب الكفاية في مبحث اقتضاء الأمر الظاهري الاجزاء من قوله : والتحقيق أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢٦٠.

٥٧

شرط التكليف أو شطره (١) فراجع. وحاصل ذلك : هو أنّ بعض الأُصول يكون مفاد لسانه جعل الحكم على المشكوك ، فكما يجعل الشارع الطهارة للماء بعنوانه الأوّلي مثلاً ، فكذلك يجعلها للشيء بعنوان كونه مشكوكاً ، وفي الحقيقة تكون حكماً واقعياً ثانوياً لاحقاً للشيء بعنوان كونه مشكوكاً ، ولذلك يقول في الكفاية إنّه لا يتصوّر فيه انكشاف الخلاف ، بل يكون من قبيل التبدّل من حينه. وبعض الأُصول يكون مفاده التنزيل ، بأن يكون مفاده نزّل هذا المشكوك منزلة الطاهر في ترتيب آثار الطاهر عليه ، فيكون حال قوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك طاهر أو حلال ، حال قوله عليه‌السلام : « الطواف بالبيت صلاة » (٢) والمعنى الأوّل لا يتأتّى في التالف ، لعدم قابليته لجعل الحكم ، بخلاف المعنى الثاني.

ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل لا ينافي الحكومة ، لأنّ جعل الطهارة للشيء المشكوك يوجب الحكم بطهارة ملاقيه ، فيكون هذا الجعل في الملاقى ـ بالفتح ـ حاكماً على قاعدة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ ، ومع ذلك لا يكون مفاده إلاّ جعل الطهارة للملاقى ـ بالفتح ـ المفروض كونه مشكوك الطهارة ، ولأجل ذلك ينحصر مورده بالموجود ولا يجري في التالف. وهذا المعنى من الجعل هو الذي أشار إليه بقوله في المقالة : مثل قاعدة الحلّية على وجه.

وأمّا وجه العدول عن التمثيل بقاعدة الطهارة إلى التمثيل بقاعدة الحل ، فلعلّه هو كون قاعدة الحل في نظره أقرب إلى هذا اللسان من قاعدة الطهارة ، وأنّ لسان قاعدة الطهارة أقرب إلى التنزيل من كونه جعلاً للحكم في مورد الشكّ ، ولكن الفرق لا يخلو عن تأمّل مع فرض كون لسان الدليل فيهما واحداً.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٨٦ ( نقل بالمضمون ).

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

٥٨

بقي الكلام في الايراد المتقدّم (١) على ما أفاده الشيخ قدس‌سره من قيام الملاقي ـ بالكسر ـ مقام التالف الملاقى فيما لو حصلت الملاقاة والتلف ثمّ حصل العلم الاجمالي (٢).

ويمكن الجواب عنه : بأنّك قد عرفت أنّ الحكم بطهارة الثوب الملاقي للاناء المستند إلى قاعدة الطهارة في الاناء يكون من آثار قاعدة الطهارة في الاناء ، بمعنى أنّه يحكم بطهارة الاناء ، وحيث إنّ طهارته موضوع لطهارة الثوب ، يكون الثوب بهذه الواسطة محكوماً بالطهارة ، فيكون الثابت أوّلاً بواسطة قاعدة الطهارة في الاناء هو طهارة الاناء ، وبواسطة ذلك وعنه يتفرّع الحكم بطهارة الثوب ، فتكون طهارته المذكورة واقعة في الدرجة الثانية من طهارة الاناء ومتأخّرة عنها تأخّر الحكم عن موضوعه ، وهذا التأخّر هو الذي ولّد حكومة قاعدة الطهارة في الاناء على قاعدة الطهارة في الثوب ، بحيث إنّه بعد جريان قاعدة الطهارة في الاناء يزول الشكّ في طهارة الثوب ، ويكون حكمه الطهارة الناشئة عن طهارة الاناء لا الطهارة الناشئة عن كونه ـ أعني الثوب ـ مشكوك الطهارة ، وعندما يكون الاناء موجوداً تكون قاعدة الطهارة فيه معارضة بمثلها في الاناء الآخر فتسقط ،

__________________

(١) في الصفحة : ٥٥.

(٢) وهذا الايراد إنّما وجّهه على الشيخ قدس‌سره باعتبار اعتماده في التنجيز على تعارض الأُصول ، أمّا بناءً على مسلك المورد ـ أعني صاحب المقالة قدس‌سره ـ فلا إشكال عنده في قيام الملاقي ـ بالكسر ـ مقام الملاقى ، باعتبار العلم الاجمالي بالنجاسة بينه وبين طرف أصله مع فرض كون أصله خارجاً عن محل الابتلاء قبل العلم الاجمالي ، وبناءً على ذلك لو عاد الأصل إلى محلّ الابتلاء لا يجب الاجتناب عنه ، من جهة كون طرفه في العلم الاجمالي الحادث برجوعه إلى محلّ الابتلاء قد تنجّز فيه التكليف بالعلم الاجمالي السابق عندما كان هو ـ أعني الأصل ـ خارجاً عن محلّ الابتلاء [ منه قدس‌سره ].

٥٩

وبسقوطها ينعدم أثرها في الثوب ، لا أنّ أثرها في الثوب كان هو مع طهارة نفس أصله مورد المعارضة مع قاعدة الطهارة في طرف أصله ، بل إنّ مورد المعارضة مقصور على طهارة أصله.

وإن شئت فقل : إنّ مورد المعارضة هو الحكم الأوّل من قاعدة الطهارة في الأصل ، وأنّ الحكم الثاني لها وهو الطهارة في الفرع خارج عن مورد المعارضة وإنّما سقط لسقوط أصله ، وبعد سقوط الفرع ـ أعني الطهارة في الثوب الناشئة عن الطهارة في الاناء ـ يكون الثوب مشكوكاً ، فيكون هو بنفسه مورداً لقاعدة الطهارة ، وهي فيه بلا معارض. هذا كلّه لو كان الاناء الملاقى ـ بالفتح ـ موجوداً.

وأمّا لو كان قد تلف ، فلا إشكال في أنّه لا مورد فيه لقاعدة الطهارة من حيث أثرها الأوّل ، بل يبقى جريانها فيه باعتبار أثرها الثاني وهو طهارة الثوب المستندة إلى طهارة الاناء ، وهي أعني طهارة الاناء بهذا الأثر الثاني مورد المعارضة بها في الطرف الآخر فتسقط ، ولكن بسقوطها يسقط الحكم بطهارة الثوب بقول مطلق حتّى الطهارة التي هي من ناحية كونه مشكوكاً وكونه بنفسه مورداً لقاعدة الطهارة ، فإنّ الحكم بطهارة الثوب من أيّ مدرك كان يكون معارضاً للحكم بطهارة الطرف الآخر.

ولعلّ هذا أهون ممّا التزم به شيخنا قدس‌سره (١) من سقوط استصحاب الطهارة وقاعدتها في قبال قاعدة الطهارة في الطرف الآخر مع الطولية بينهما فيما لو كان أحد طرفي العلم الاجمالي مورداً لاستصحاب الطهارة وكان الطرف الآخر مورداً لقاعدة الطهارة ، لإمكان منع الطولية فيما نحن فيه ، فإنّ طهارة الثوب المستندة إلى قاعدة الطهارة في الاناء وإن كانت في طول طهارة الاناء ، إلاّ أن طهارة الثوب

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٧ ـ ٤٩.

٦٠