أصول الفقه - ج ٨

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٨

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-73-7
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٦١٢

الأُوليين منها ، وكذلك لو علم بأنّه قد خالف الترتيب إمّا بين ظهره وعصره وإمّا بين مغربه وعشاه ، سواء كان ذلك بعد خروج الوقتين ، أو كان بعد خروج وقت الظهرين فقط.

والخلاصة : هي أنّه لو كان الجزء أو الشرط ممّا لا يترتّب الأثر على نسيانه ، ولا يكون للعلم التفصيلي بنسيانه أثر ، لم يكن وقوعه طرفاً للعلم الاجمالي منجّزاً لشيء ، سواء كان طرفه في ذلك العلم الاجمالي من سنخه ، أو كان ممّا له أثر كالقضاء وسجود السهو ، بل حتّى لو كان طرفه ممّا يوجب الاعادة ، كما لو علم إجمالاً بأنّه إمّا قد خالف الترتيب بين المغرب والعشاء أو أنّه قد نقص من إحداهما ركوعاً ، أو علم إجمالاً بأنّه إمّا قد أخفت في مغربه أو أنّه نقص منها ركوعاً.

ولا يخفى أنّ هذا الذي ذكرناه من أنّ ما جرى فيه حديث « لا تعاد » لا تجب الاعادة بعد تذكّره ، لا فرق فيه بين القول بسقوط جزئيته أو شرطيته في حال النسيان ، والقول بأنّه وإن كان جزءاً أو شرطاً ، إلاّ أنه لا يمكن تداركه باعادة الصلاة لفوات المصلحة ، أو لاحتمال أنّ الفاقد يكون في حال النسيان مشتملاً على صلاح يتدارك به صلاح الواجد ، فإنّ هذه الاحتمالات لا تضرّ بما كنّا بصدده من كون مفاد « لا تعاد » هو سقوط الاعادة ، ولازم ذلك أنّه لو كان طرفاً للعلم الاجمالي لم يكن ذلك العلم الاجمالي مؤثّراً فيما لو كان لا أثر لنسيانه من قضاء أو سجود سهو. نعم هو على الوجه الأوّل يكون جزءاً أو شرطاً علمياً ، بخلافه على الاحتمالين الأخيرين.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه بناءً على الوجه الثاني تكون المسألة من قبيل الشكّ في السقوط ، لأنّه قد تكلّف بالصلاة ، وعند إتيانه بها كانت مقرونة بذلك العلم

٤٠١

الاجمالي الراجع إلى التردّد بين سقوطها لأجل عدم قابلية التلافي وبين بقاء وجوبها مع إمكان التلافي بالاعادة ، كما لو تردّد بين أن يكون قد خالف الترتيب بين الصلاتين أو أنّه قد نقص ركوعاً ، ومقتضى أصالة الاشتغال والشكّ في السقوط هو الاعادة ، ولعلّ هذا آت فيما لو كان الطرف ممّا يقضى.

ولكن الذي يهوّن الخطب أنّ ذلك الأصل ـ أعني أصالة الاشتغال ـ محكوم بقاعدة الفراغ في جانب الركوع ، مع عدم جريانها في ناحية مخالفة الترتيب.

لا يقال : إنّ قاعدة الفراغ وإن لم تجر في ناحية مخالفة الترتيب ، إلاّ أن أصالة الاشتغال جارية في ناحية الشكّ المزبور.

لأنّا نقول : لا مورد في هذه الناحية من الشكّ لأصالة الاشتغال ، لأنّه مع الشكّ في مخالفة الترتيب يكون الأمر معلوم السقوط ، إمّا بالامتثال بأن قد جاء بها على وفق الترتيب ، وإمّا بارتفاع الموضوع بأن جاء بها على خلاف الترتيب ، وأيّاً منهما كان يكون الأمر ساقطاً.

ثمّ إنّ هذا الاحتمال ـ أعني الاحتمال الثاني ـ احتمال صرف ، وهو خلاف ظاهر الأدلّة ، فإنّ ظاهرها هو مجرّد عدم الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، كما يشهد بذلك وجوب قضاء بعض المنسيات ووجوب سجود السهو للبعض الآخر ، وهو ممّا يدلّ على سقوط الجزئية في ذلك الحال ، كما يستفاد ذلك من قوله عليه‌السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّمن الركوع » (١) مثلاً ، فإنّ ظاهره إعطاء الأهمية للركوع دون باقي الأجزاء ، وأنّ الشارع يتسامح فيها عند تركها نسياناً ، ولو نزّلناها على الاحتمال الثاني كانت هي أعظم من الركوع تأثيراً ، والله العالم (٢)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ : ٣١٣ / أبواب الركوع ب ١٠ ح ٥ ( مع اختلاف ).

(٢) ٢١ / رمضان / ١٣٧٤ [ منه قدس‌سره ].

٤٠٢

قوله : الأمر الثاني : لو تعذّر أحد القيود الوجودية أو العدمية ـ إلى قوله ـ إنّما الإشكال فيما هو الصحيح من الوجهين ... الخ (١).

ملخّص هذا التحرير هو الاشارة إلى أنّ الجزئية والشرطية والمانعية وبعبارة أُخرى القيدية ، هل لا تسقط بالتعذّر بناءً على كونها مطلقة وشاملة للتعذّر ومقتضاه سقوط الأمر بالمقيّد ، أو أنّها تسقط بذلك بناءً على اختصاصها بحال التمكّن ، ومقتضاه بقاء الأمر بالمقيّد. هذا فيما لا يكون التقييد مأخوذاً من التكليف بالقيد ، وأمّا لو كان مأخوذاً منه ، فقد قيل بخروجه عن محلّ النزاع ، إذ لا ريب في سقوط التكليف بذلك القيد بمجرّد تعذّره ، وبسقوط التكليف به تسقط قيديته ، فلابدّ من القول بوجوب الباقي. وعمدة همّ شيخنا قدس‌سره هو مقابلة هذا القول ، ببيان أنّ الأجزاء والشرائط لا يعقل انتزاعها من الأمر النفسي ، وإلاّ كانت واجباً مستقلاً في واجب ، بل لابدّ أن تكون منتزعة من الأمر الغيري وهو عين الجزئية والشرطية ، فيكون داخلاً في محلّ النزاع.

وأمّا المانعية فتارةً تكون منتزعة عن النهي الغيري بحيث لا يكون في البين حرمة نفسية ، فهي أيضاً عين المانعية التي هي عبارة عن اعتبار العدم في الصلاة ، وبذلك تكون داخلة في محلّ النزاع ، وأُخرى يكون في البين حرمة نفسية ، فإن كانت تلك المانعية وتلك الحرمة النفسية معاً معلولين للمفسدة الواقعية ، لم يكن سقوط الحرمة النفسية بالتعذّر موجباً لسقوط المانعية ، بل بقيت تلك المانعية داخلة في محلّ النزاع. نعم لو كانت المانعية معلولة لنفس تلك الحرمة النفسية ، سقطت بسقوطها ، وخرجت تلك المسألة عن محلّ النزاع. هذا لو كان النهي بمثل لا تصلّ في الحرير.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٤٣ ـ ٢٤٥.

٤٠٣

وأمّا لو كان بمثل « لا تلبس الحرير في الصلاة » ، فإن كان النهي غيرياً مثل : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » ، كان داخلاً في محلّ النزاع ، وإن كان النهي نفسياً كان من قبيل الأمر النفسي في ضمن الصلاة ، فيكون من قبيل الحرام في ضمن الواجب ، وهو لا يوجب المانعية إلاّبنحو مانعية مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى والامتناع من الجهة الثانية ، أعني عدم إمكان التقرّب بما قارن الحرام وإن كان من مجرّد كونه ظرفاً له.

قوله : وتوضيح ذلك : هو أنّ النهي النفسي الذي يقتضي المانعية إمّا أن يكون هو النهي في باب النهي عن العبادة ، كالنهي عن الصلاة في الحرير بناءً على أن تكون مانعية الحرير لمكان حرمة لبسه ، وإمّا أن يكون هو النهي في باب اجتماع الأمر والنهي ... الخ (١).

لا يخفى أنّ مجرّد حرمة لبس الحرير لا يوجب المانعية ، ولذا لم يلتزموا بالمانعية في حرمة لباس الشهرة ، وحرمة لبس الرجال لباس النساء وبالعكس. أمّا حرمة نفس الصلاة مع لباس الحرير ، فإن حملنا النهي عن الصلاة مع الحرير على النهي الغيري ، كان ذلك النهي الغيري عبارة أُخرى عن المانعية ، لا أنّ لنا في البين حكماً آخر يكون في عرض ذلك النهي ، أو يكون معلولاً للنهي المذكور ، وحينئذ ففي مورد الاضطرار في مثل ذلك ، يكون داخلاً في محلّ البحث من أنّ تعذّر القيد هل يوجب سقوط المقيّد أو لا يوجب سقوطه.

وإن حملنا النهي المذكور على النهي النفسي ، لم يكن في البين إلاّحرمة الصلاة بلباس الحرير ، نظير حرمة الصلاة مع الحيض ، من دون أن يكون في البين مانعية شرعية ، بل لا يكون في البين إلاّتلك الحرمة النفسية المتعلّقة بنفس

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٤٤.

٤٠٤

الصلاة ، الموجبة لخروجها عن مدلول الأمر بنحو التخصيص خروجاً واقعياً ، ولو تصوّرنا الاضطرار إلى مخالفة ذلك النهي كانت تلك الصلاة خارجة عن دليل النهي ، وذلك (١) لا يوجب دخولها في عموم الأمر ، لأنّها حينئذ كسائر الأفعال المحرّمة التي اضطرّ إليها.

والحاصل : أنّ الخارج هو الصلاة مع الحرير غير المضطرّ إليها ، ولا يكون في البين مانعية ولا ممنوعية ، ولا يلزم منه كون وجود أحد الضدّين علّة لعدم الآخر ، ولا كون عدم أحدهما مقدّمة لوجود الآخر ، إلاّ إذا كان المدّعى هو كون عدم الأمر معلولاً لوجود النهي ، وكون عدم النهي علّة لوجود الأمر ، وذلك مبني على كون وجود أحد الضدّين علّة في عدم الآخر ، وكون عدمه علّة في وجود الآخر ، وهو خلاف ما حقّقوه في مسألة الضدّ.

نعم ، في المقام شيء آخر ، وهو أنّ إخراج الصلاة مع الحرير عن عمومات الصلاة يوجب قهراً تقيّد العام بما عداه ، كما حقّق في محلّه في باب العموم ، وإذا كان مركب الأمر بالصلاة هو الصلاة المقيّدة بعدم الحرير ، كان ذلك عبارة أُخرى عن المانعية ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إخراج الصلاة مع الحرير لا يوجب تقيّد الصلاة بعدم الحرير ، بل إنّما يوجب تقيّدها بعدم الصلاة مع الحرير ، بمعنى أنّ الباقي تحت العام هو كلّ صلاة غير الصلاة مع الحرير ، فيكون القيد هو عدم الصلاة مع الحرير لا عدم الحرير ، وذلك لا يولّد المانعية ، وفيه تأمّل ، فتأمّل.

ولو قال : لا تلبس الحرير في الصلاة ، فإن كان النهي غيرياً كان داخلاً في

__________________

(١) [ في الأصل كانت العبارة هكذا : وذلك عبارة أُخرى عن بقائها تحت عموم الأمر. والحاصل أنّ الخارج إلخ ، ولكنّ المصنّف قدس‌سره شطب عليها وأبدلها بالعبارة المذكورة أعلاه ، فلاحظ ].

٤٠٥

محلّ النزاع ، وإن كان النهي نفسياً كان من المحرّم في أثناء الصلاة ، ولم يتولّد منه المانعية إلاّبنحو مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الثانية ، بدعوى أنّه لا يمكنه التقرّب بما كان مقروناً بالمحرّم وإن كان خارجاً عنه. وقد حرّرنا تفصيل هذه المباحث في مبحث النهي عن العبادة ، فراجعه (١).

ومن ذلك يتّضح لك الحال في مسألة الاجتماع على القول بالامتناع من الجهة الأُولى ، فإنّ نتيجته هي التعارض وتقديم جانب النهي ، لكون العموم فيه شمولياً ، ومقتضاه خروج مورد الاجتماع عن حيّز الأمر خروجاً واقعياً. وأمّا بناءً على الجواز من الجهة الأُولى فقد حقّق في محلّه (٢) أنّ المسألة تدخل حينئذ في باب التزاحم ، ومقتضاه انحصار البطلان بصورة تنجّز النهي ، دون موارد عدم تنجّزه من الجهل والنسيان والاضطرار ، ولا معنى لعدم المندوحة إلاّ الاضطرار إلى الغصب الموجب لسقوط حرمته.

ومن ذلك يعلم أنّه بناءً على الامتناع من الجهة الثانية لا يكون المقام من قبيل التخصيص ، أعني خروج مورد الاجتماع عن دليل الوجوب ، بل لا يكون في البين إلاّمجرّد تقديم أحد المتزاحمين على الآخر.

ومن ذلك كلّه تعرف الخلل فيما أُفيد من قوله : أو أنّ وجود المندوحة لا يقتضي ذلك ، بل لابدّ من تقييد أحد الاطلاقين كما هو المختار الخ (٣) ، إذ ليس ذلك

__________________

(١) راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحة : ٣٠١ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحة : ٨٩ ومابعدها ، وكذا الحواشي السابقة عليها واللاحقة لها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٤٨.

٤٠٦

ـ أعني التقييد والتخصيص الواقعي ـ هو المختار لشيخنا الأُستاذ قدس‌سره ، بل هو قدس‌سره يقول ببقاء الاطلاق في كلّ منهما ، غايته أنّه يقع بين التكليفين تزاحم في مقام الامتثال ، فيلزم تقديم ما هو المقدّم في باب التزاحم ، وهو النهي فيما نحن فيه لعدم البدل له ، بخلاف الأمر فإنّه له البدل.

اللهمّ إلاّ أن يراد من التقييد في هذا المقام التقييد العقلي الناشئ عن عدم القدرة ، باعتبار كون كلّ من التكليفين سالباً لقدرة المكلّف على الآخر ، في قبال قول المحقّق الثاني قدس‌سره بالصحّة في مورد الاجتماع من جهة الانطباق القهري ، فراجع المسألة في محلّها (١).

وبالجملة : أنّ هذا التحرير لا يخلو عن إجمال أو قصور ، وتمام توضيحها في محلّها أعني باب اجتماع الأمر والنهي ، فراجعه وتأمّل ، هذا ما كنّا نورد به سابقاً.

ولكن لا يخلو عن تأمّل وبحث ، والخلاصة : هي أنّه لا يتصوّر كون المانعية منتزعة عن النهي النفسي مع فرض كونهما عن ملاك واحد ، بل حينئذ يكون كلّ منهما في عرض الآخر ، ولا يكون سقوط أحدهما موجباً لسقوط الآخر ، ويكون الحال في ذلك كما هو الحال في مانعية ما لا يؤكل بالقياس إلى حرمة الأكل.

ثمّ إنّ مثل قوله : لا تصلّ في الحرير ، يكون نسبته إلى قوله : صلّ ، نسبة المخصّص ، فيكون الخروج واقعياً ولا يؤثّر فيه الجهل والاضطرار ، فما معنى قولهم بالصحّة عند الجهل والاضطرار ، إلاّ أن يدّعى أنّ خروج الصلاة مع الحرير

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الرابع من هذا الكتاب في الصفحة : ٧٥ وما بعدها ، وكذا راجع الحاشيتين المتقدّمتين في المجلّد الثالث في الصفحة : ١٣٦ وما بعدها والصفحة : ١٤٤ وما بعدها.

٤٠٧

عن عموم قوله صلّ ، ليس بالخروج الملاكي ، أعني أنّها لم تخرج إلاّمن جهة النهي عنها ، وحيث يسقط النهي بالاضطرار أو الجهل ، لا تكون الصلاة المذكورة خارجة عن العموم المذكور. نعم لو كان خروجها خروجاً ملاكياً نظير أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم ، لم يمكن الحكم بالصحّة عند الجهل والاضطرار. وبعبارة أُخرى : هل الخروج من باب التزاحم أو أنّه من باب التخصيص الواقعي ، وعبّر شيخنا قدس‌سره عن الأوّل بكون المانعية منتزعة وناشئة عن النهي النفسي ، وعن الثاني بكونهما معاً ناشئين عن ملاك واحد ، فلاحظ وتدبّر.

ولا يخفى أنّ مثل قوله : « لا تصلّ في الحرير » لابدّ أن يكون النهي فيه ناشئاً عن مفسدة في الصلاة في الحرير ، فتكون تلك المفسدة موجبة لعدم تأثير الصلاح في أصل الصلاة ، ويكون الخروج خروجاً ملاكياً وخطابياً لا خطابياً فقط ، فإنّ ذلك ـ أعني الخروج الخطابي فقط ـ إنّما يكون في التزاحم في مقام الامتثال ، كما في الأمر بالازالة مع الأمر بالصلاة ، وكما في مسألة الاجتماع على القول بالجواز من الجهة الأُولى ، بخلاف مثل لا تصلّ في الحرير ونحوه بالقياس إلى عموم الأمر بالصلاة ، فإنّ التزاحم تزاحم ملاكي ، ويكون في مقام الجعل والتشريع لا في مقام الامتثال.

وهذا الإشكال هو الذي ينبغي التشبّث به في قبال ما أفاده في الكفاية (١) في تصحيح العبادة في مسألة الاجتماع عند الجهل والنسيان والاضطرار مع قوله بالامتناع من الجهة الأُولى ، وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره (٢) من أنّ لازمه كون عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر ، فيمكن القول بعدم الالتزام بالمقدّمية ، بل

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٧٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

٤٠٨

يكفي فيه مجرّد المقارنة مع فرض كونهما معلولين لعلّتين ، فلاحظ.

قوله : إلاّ أن يثبت وجوبه بأمر آخر من أصل أو قاعدة على ما سيأتي بيانه ... الخ (١).

لا يخفى أنّه مع فرض كون دليل التقييد مطلقاً شاملاً لصورة تعذّر القيد الذي يكون مقتضاه سقوط الأمر بالمقيّد عند تعذّر القيد ، يشكل الأمر في الحكم بوجوب الباقي استناداً إلى مثل الاستصحاب أو قاعدة الميسور ، فإنّ إطلاق دليل التقييد يكون دليلاً اجتهادياً على ثبوت التقييد في حال تعذّر القيد ، فيكون مقدّماً على الاستصحاب بلا شبهة ، بل يكون مقدّماً على مفاد قاعدة الميسور ، لأنّ مفادها هو أنّ كلّ قيد أو جزء هو ليس بجزء أو قيد في حال تعذّره ، فيكون إطلاق دليل التقييد في مثل « لا صلاة إلاّبطهور » أخصّ منه ، لاختصاصه بخصوص الطهور فيقدّم على مفاد القاعدة لكونه أخصّ منه.

وقد يقال : إنّه لا منافاة بين إطلاق دليل الجزئية وبين ما يكون مثبتاً لوجوب الباقي ، كالاستصحاب أو قاعدة الميسور ، فإنّ أقصى ما يدلّ عليه إطلاق دليل الجزئية هو سقوط الأمر المتعلّق بالمجموع المركّب من الجزء المتعذّر وباقي الأجزاء ، أمّا سقوط الأمر بالباقي فلا يقتضيه إطلاق دليل الجزئية ، إذ لا ملازمة بين سقوط الأمر بالمجموع وبين سقوط الأمر بالباقي.

وفيه : ما لا يخفى ، لوضوح الملازمة بين إطلاق الجزئية لحال تعذّر الجزء وبين سقوط الأمر بالباقي ، لأنّ مقتضى الجزئية في حال تعذّر الجزء هو عدم كون الباقي مأموراً به.

والحاصل : أنّ سقوط الأمر بالمجموع إنّما هو لعدم القدرة عليه بعد فرض

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٠.

٤٠٩

تعذّر جزئه ، وأمّا سقوط الأمر بالباقي فإنّما هو لكون ذلك الجزء في ذلك الحال جزءاً للمأمور به ، فإنّ مقتضاه هو أنّ الفاقد ليس بمأمور به. والحاصل أنّ منطوق إطلاق الجزئية لحال تعذّر الجزء هو ثبوت الجزئية في ذلك الحال ، ولازمه هو سقوط الأمر بالباقي ، ومنطوق قاعدة الميسور هو عدم سقوط الأمر بالباقي ، ولازمه عدم تحقّق الجزئية في ذلك الحال ، وبذلك يحصل التنافي ، لكن حيث كان مفاد لازم القاعدة أعمّ من مفاد منطوق إطلاق دليل الجزئية ، كان اللازم تخصيص لازم القاعدة بما هو مورد منطوق إطلاق جزئية مثل الركوع مثلاً.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مفاد القاعدة وإن كان أعمّ ، وكان مفاد إطلاق دليل الجزئية أخصّ ، إلاّ أن مفاد القاعدة مقدّم على مفاد الاطلاق لكونه حاكماً عليه.

وإن شئت قلت : إنّ مقتضى إطلاق الجزئية وإن كان هو ثبوت الجزئية في حال تعذّر الجزء ، إلاّ أن قاعدة الميسور تقول إنّ هذا المأمور به المقيّد بذلك الجزء لا يسقط عند تعذّر جزئه ، فهي لا تنفي الجزئية ، بل تعترف بها ، لكنّها تقول حيث إنّ الباقي هو ميسور من ذلك المركّب التامّ ، فلا يسقط بسقوط ذلك المركّب هذا حال لسان القاعدة ، وإن كان مرجعه في اللب والواقع إلى إسقاط الجزئية ، إلاّ أنّه لمّا كان بلسان الاعتراف بها في ذلك الحال كانت مقدّمة عليه.

والحاصل : أنّ مفاد القاعدة هو أنّه بعد فرض ثبوت الجزئية وتحقّق مفاد إطلاق الجزئية تقول إنّه لا يكون سقوط الأمر بالمجموع موجباً لسقوط الأمر بالباقي.

ولكن لا يخفى ما في هذا المضمون من التناقض ، وسيأتي إن شاء الله تعالى التفصيل في كيفية تحكيم قاعدة الميسور في مورد إطلاق دليل القيد عند

٤١٠

تعرّضه له (١) ص ٨٩ فلاحظه ولاحظ ما علّقناه هناك (٢).

قوله : وهذا بخلاف الخطابات الغيرية المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ الأمر المتعلّق بالجزء مثل قوله اركع في الصلاة ، إمّا أن نحمله على الواجب في ضمن واجب فيخرج عن محلّ الكلام ، وإمّا أن نحمله على الأمر الغيري ، فلا يكون إلاّ إرشاداً لمدخلية متعلّقه في المأمور به ، فإنّا وإن قلنا بكون الجزئية منتزعة إلاّ أنها لا تنتزع من الأمر الغيري ، بل إنّما تنتزع من الأمر الضمني الحاصل في ضمن الأمر بالكل ، وهذا الأمر الضمني لا يبرز في نفسه إلى الانشاء بقالب مخصوص ، بل يكون متحقّقاً في ضمن الأمر بالكل ، غايته أنّ ذلك الأمر المتعلّق بالكل ينحلّ إلى أوامر متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء ، وبذلك صحّ لشيخنا الأُستاذ أن يقول إنّ الأمر الغيري المتعلّق بالجزء لا يكون إلاّ إرشاداً إلى مدخليته في المركّب ، لكن بعد البناء على أنّ الجزئية منتزعة عن ذلك الأمر الضمني ولو في ضمن الأمر بالكل ، يقع الكلام في ذلك الأمر الضمني المفروض تعلّقه بالجزء في ضمن تعلّق الأمر بالكل ، فيتوجّه الإشكال بأنّه كيف يمكن أن يكون مطلقاً شاملاً لحال عدم القدرة على متعلّقه.

ولابدّ من الجواب حينئذ بما أُفيد بقوله : فالقدرة إنّما تكون معتبرة في المجموع لا في الآحاد (٤) ، على ما تقدّم تفصيله من أنّ القدرة ليست مأخوذة في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٢) راجع الحاشية الآتية صفحة : ٤٥٥.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٢.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٣ ( مع اختلاف يسير ).

٤١١

كلّ واحد من تلك الأوامر الضمنية أخذاً مستقلاً ، بل ليس في البين إلاّ الأمر بالمجموع ، وكون القدرة شرطاً عقلياً في ذلك الأمر المتعلّق بالمجموع ، ويكون معنى إطلاق الجزئية هو أنّ منشأ انتزاعها الذي هو ذلك الأمر الضمني غير مقيّد شرعاً بالقدرة ، في قبال ما تكون جزئيته بحسب الجعل الشرعي منحصرة بصورة التمكّن منه ، أو يكون المراد من الاطلاق هو إطلاق الملاك وإن سقط الخطاب بواسطة عدم القدرة (١) ، إلى آخر ما تقدّم في مسألة النسيان (٢) فراجع.

ولكن (٣) قد يقال : إنّه قدس‌سره بعد أن بنى على [ أنّ ] الجزئية ليست مجعولة ابتداءً ، وإنّما تكون منتزعة من تعلّق الأمر النفسي بالمجموع ، وأنّ هذا الأمر النفسي وإنّ انحلّ إلى أوامر نفسية ضمنية متعدّدة حسب تعدّد الأجزاء ، إلاّ أنه ليس لكلّ من تلك الأوامر النفسية اشتراط بالقدرة على حدة ، وإنّما يكون المشروط بالقدرة هو الوجوب النفسي المنبسط على الجميع ، فبتعذّره أو تعذّر بعض أجزائه يكون ذلك المجموع غير مقدور ، فيسقط الأمر به ، وحينئذ لو ثبت وجوب الباقي كان ذلك من قبيل المرتبة الثانية لذلك الوجوب.

وهكذا الحال لو دلّ دليل على أنّ ذلك الأمر بالمجموع مشروط بالقدرة على الركوع مثلاً ، وأنّه عند تعذّره يسقط الأمر بالمجموع المؤلّف من الركوع وغيره ، لكن مع ذلك يكون الأمر بالباقي بحاله ، على وجه يكون ذلك الدليل دالاً على أنّ الأمر بالباقي يبقى بحاله ، كان لازمه سقوط جزئية الركوع ، فلا يكون

__________________

(١) وفي الأوّل تأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) في الصفحة : ٣٤٩ وما بعدها.

(٣) [ هذه المطالب إلى آخر الحاشية كتبها المصنّف قدس‌سره في أوراق منفصلة وأمربالحاقها بهذه الحاشية ].

٤١٢

الساقط إلاّ المرتبة الأُولى من ذلك الوجوب ، وذلك كما لو ورد الأمر بالباقي عند تعذّر الركوع مثلاً.

وعلى كلّ حال ، لا يكون سقوط المرتبة الأُولى من ذلك الطلب دالاً على سقوط المرتبة الثانية ، ويكون الحاصل أنّ ما يدلّ على كون الركوع جزءاً حتّى في حال تعذّره ، كاشف عن أنّ الأمر المتعلّق بالمجموع منه ومن غيره ليس مقيّداً شرعاً بالقدرة ، وإن كان العقل حاكماً بذلك التقييد ، بمعنى أنّه يحكم بسقوط الأمر خطاباً لا ملاكاً ، فلا يكون الاطلاق المذكور دالاً إلاّعلى سقوط المرتبة الأُولى ، في قبال ما لو دلّ دليل على كون ذلك الأمر بالمجموع مقيّداً بالقدرة على الركوع فإنّه لو وجد لنا مثل ذلك الدليل كان مقتضاه وجود مرتبة ثانية من ذلك الطلب ، وهي الوجوب المتعلّق بما عدا الركوع في مورد تعذّر الركوع ، ولو لم يوجد لنا مثل ذلك الدليل الخاصّ لم يكن دالاً على نفي تلك المرتبة الثانية ، بل كان من قبيل عدم الدليل عليها ، وحينئذ يكون باب الرجوع إلى القاعدة أو الاستصحاب منفتحاً ، فلا يكون ذلك الاطلاق مانعاً منها.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المرتبة الثانية تعدّ مغايرة للمرتبة الأُولى ، فلا يمكن إثباتها بقاعدة الميسور فضلاً عن الاستصحاب فتأمّل ، وحينئذ يكون المرجع هو أصالة البراءة لا أصالة الاشتغال.

وهنا إشكال ، وهو أنّه كيف يتصوّر الاطلاق في الجزئية ، وقد ذكرنا في باب النسيان (١) وجوهاً ثلاثة :

الأوّل : إطلاق الأمر الضمني. لكن قلنا إنّه لا يعقل أن يكون الأمر بالركوع الذي هو الأمر النفسي الضمني شاملاً لحال تعذّره ، ويزيده إشكالاً ما أفاده قدس‌سره من

__________________

(١) في الصفحة : ٣٤٩ وما بعدها.

٤١٣

أنّه ليس للأمر الضمني قدرة على حدة حتّى يكون مطلقاً أو مقيّداً بالقياس إليها.

الثاني : إطلاق نفس الجزئية ، بدعوى أنّها وإن كانت انتزاعية إلاّ أنها لا تخرج بذلك عن كونها حكماً شرعياً قابلاً للاطلاق والتقييد. وفيه تأمّل ، لأنّها وإن سلّمنا أنّها من الأحكام الوضعية الشرعية ، إلاّ أنها لمّا كانت منتزعة عن التكليف فهي تابعة في الاطلاق والتقييد لمنشأ انتزاعها ، فلا يعقل سقوط منشأ انتزاعها مع بقائها بحالها.

الثالث : إطلاق الأمر بالمجموع إطلاقاً ملاكياً ، وإن سقط خطاباً بواسطة عدم القدرة على بعض أجزائه ، وهذا الاطلاق الملاكي كاشف عن عدم اشتمال الفاقد على الملاك ، فيكشف عن عدم وجوب الباقي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه لمّا كان مشتملاً على الملاك في الجملة ولو بعضه ، كان ذلك الملاك كافياً في وجوبه وإن لم يكن وافياً بتمام الملاك ، لكن فيه تأمّل ، فراجع ما حرّرناه في باب اقتضاء الأوامر الاضطرارية للإجزاء (١).

هذا كلّه لو لم يكن في البين مثل قولهم عليهم‌السلام : « لا صلاة إلاّبطهور » (٢) ممّا يدلّ على توقّف الملاك على وجود ذلك القيد أو ذلك الجزء ، وإلاّ كان مثل هذا الدليل دليلاً اجتهادياً على أنّ الأمر بالصلاة ليس له إلاّمرتبة واحدة ، وأنّ الصلاة عند تعذّر ذلك القيد ساقطة ، فلا يبقى مجال للرجوع إلى أصل البراءة ولا الاشتغال ولا لقاعدة الميسور أو الاستصحاب.

ومع هذا كلّه فالمسألة غير خالية من الإشكال ، فإنّا في باب الجزئية

__________________

(١) راجع الحاشية المفصّلة المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب في الصفحة : ٣٥٦ وما بعدها ، وكذا راجع الصفحة : ٣٩٥ وما بعدها من المجلّد نفسه.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ / أبواب الوضوء ب ١ ح ١.

٤١٤

والشرطية لا نقول إلاّبجعل الأمر متعلّقاً بالمجموع ، فلا جزئية ولا شرطية إلاّ عبارة عمّا ينتزعه العقل من تعلّق الأمر بالمجموع المركّب من الأجزاء والشرائط ، ومقتضى تعلّق الأمر بذلك المجموع هو سقوطه بتعذّر بعضها ، ولا يثبت وجوب الباقي إلاّبدليل خاصّ ، وعلى تقديره لا يكون ذلك الوجوب المتعلّق بالباقي إلاّ مرتبة ثانية ، فلا يمكن إثباتها بالاستصحاب ، نعم يمكن إثباتها بقاعدة الميسور ، أمّا إطلاق دليل الجزئية أو تقييده ، فلا يكون له أساس أصلاً بناءً على ما ذكرناه من أنّه ليس المجعول إلاّ الأمر المتعلّق بالمجموع. هذا ما حرّرناه سابقاً على ما علّقناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ قوله : فلا إشكال في أنّه ليس في آحاد الخطابات الغيرية ملاك البعث المولوي وإلاّ خرجت عن كونها غيرية ، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع ، فالقدرة إنّما تعتبر أيضاً في المجموع لا في الآحاد ، وتعذّر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع الخ (١) ، صريح في سدّ باب تقييد وجوب الجزء في نفسه مع قطع النظر عن وجوب الكل بالقدرة ، وحينئذ فلو قلنا إنّه لا معنى للجزئية إلاّما ينتزع عن التكليف الوارد على الكل ، كما هو رأيه ورأي صاحب الكفاية قدس‌سرهما (٢) من أنّها ـ أعني الجزئية ـ ليست بمجعولة ، وإنّما المجعول منشأ انتزاعها الذي هو في الحقيقة عبارة عن الأمر النفسي الضمني الحاصل في ضمن الأمر بالمجموع ، لأشكل علينا تصوّر ما تقدّم من الأقسام المتقدّمة ، أعني كون القيدية المستفادة من الدليل المنفصل مطلقة تارةً ، ومقيّدة بحال القدرة أُخرى ، ومجملة ثالثة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٥٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٠١ ـ ٤٠٢.

٤١٥

نعم ، لو قلنا إنّ الجزئية والشرطية مجعولة بنفسها ، صحّ انقسامها إلى هذه الأقسام ، أمّا بعد أن قلنا إنّها غير مجعولة ، وأنّ المجعول هو منشأ انتزاعها وهو ذلك التكليف النفسي الضمني ، فلا محيص من القول بأنّ القابل للاطلاق والتقييد هو منشأ انتزاعها ، في قبال إطلاق نفس الأمر بالأصل وإهماله على ما مرّ من الأقسام الأربعة (١)

__________________

(١) [ وجدنا هنا ورقة منفصلة لم يتّضح لنا موضعها بالدقّة ، ارتأينا إدراجها في الهامش ].

قال في الكفاية ] : ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ] : الرابع أنّه لو علم بجزئية شيء ، أو شرطيته في الجملة ، ودار الأمر بين أن يكون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز عنه ، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً في خصوص حال التمكّن منه ، فيسقط الأمر بالعجز عنه على الأوّل ، لعدم القدرة حينئذ على المأمور به ، لا على الثاني ، فيبقى متعلّقاً بالباقي ، ولم يكن هناك ما يعيّن أحد الأمرين من إطلاق دليل اعتباره جزءاً أو شرطاً ، أو إطلاق دليل المأمور به ، مع إجمال دليل اعتباره أو إهماله ، لاستقلّ العقل بالبراءة عن الباقي ، فإنّ العقاب على تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان ـ إلى أن قال ـ نعم ربما يقال بأنّ قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي ـ إلى أن قال ـ كما أنّ وجوب الباقي في الجملة ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أمرتكم الخ [ عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ٢٠٦ ( مع اختلاف يسير ) ، بحار الأنوار ٢٢ : ٣١ ].

فجعل مورد الاستصحاب وقاعدة الميسور بعد البراءة منحصراً بصورة الاجمال ، وقال شيخنا قدس‌سره في هذه الصورة بالبراءة ، إلاّ إذا قلنا بجريان الاستصحاب. وقال شيخنا قدس‌سره في صورة إطلاق دليل التقييد إنّ مقتضاها سقوط الباقي ، إلاّ أن يثبت وجوبه بأمر آخر من أصل أو قاعدة على ما سيأتي ، وزاد على هذه الصور الأربع ما إذا كانت الجزئية مستفادة من تعلّق الأمر بالمركّب ، وأنّ حكمها هو السقوط عند تعذّر بعض الأجزاء ، إلاّ إذا كان هناك أمر آخر يتعلّق بالباقي بعد سقوط الأمر الأوّل ، وسيأتي البحث عنه في

٤١٦

ولابدّ حينئذ في دفع الإشكال من أن يقال : إنّ كلّ ما هو من الأدلّة المنفصلة المتضمّنة لأنّ الركوع مثلاً معتبر في الصلاة ، أو أنّه جزء منها ، أو قوله : اركع في صلاتك ، أو قوله : لا صلاة إلاّبركوع ، كلّ هذه الألسنة تومئ إلى مفاد واحد ، وهو كون الركوع مأموراً به نفسياً ضمنياً في ضمن الأمر بالصلاة ، وحينئذ فلو قلنا إنّ الركوع جزء في الصلاة إذا تمكّنت منه وقدرت عليه ، كان محصّله هو أنّ كون الركوع مأموراً به في ضمن الأمر بالصلاة مشروط بالقدرة عليه ، فلو لم يكن الركوع مقدوراً لم يكن مأموراً به في ضمن الأمر بالصلاة ، وكان الأمر بها منبسطاً على ما عداه من أجزائها ، على وجه أنّ ملاك الأمر النفسي الضمني الذي هو كونه في حدّ نفسه ذا صلاح ، وأنّ صلاح باقي الأجزاء متوقّف على إيجاده في ضمنها ، لا يكون موجوداً عند عدم القدرة ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون من التكاليف مشروطاً شرعاً بالقدرة ، من أنّه عند عدم القدرة عليه يكون ملاكه وخطابه ساقطاً ، وإذا تحقّق سقوط الأمر الضمني بالركوع خطاباً وملاكاً عند عدم القدرة عليه ، كان

__________________

المقام الثاني الذي هو بحث عن الاستصحاب وقاعدة الميسور.

قال في الكفاية في مبحث الواجب الموقت : ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت ، وكان لدليل الواجب إطلاق ، لكان قضية إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله. وبالجملة : التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب ، كذلك ربما يكون بنحو تعدّد المطلوب ، بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب ، إلاّ أنه لابدّ في إثبات أنّه بهذا النحو من دلالة ، ولا يكفي الدليل على الوقت إلاّفيما عرفت [ كفاية الأُصول : ١٤٤ ].

٤١٧

محصّله وجوب الباقي وعدم توقّف ملاكها على حصوله ، وحينئذ فتكون الصلاة صحيحة عند عدم الركوع الناشئ عن عدم القدرة عليه.

ويقابل هذا التقييد إطلاق ذلك الدليل الدالّ على جزئية الركوع ، الكاشف عن أنّ منشأ انتزاع تلك الجزئية للركوع وهو التكليف الضمني لا يكون مقيّداً بالقدرة ، بل يكون شاملاً لمورد القدرة عليه وعدم القدرة عليه ، وليس ذلك عبارة عن شمول الخطاب بالركوع في ضمن الأمر بالصلاة لمن هو غير قادر عليه ، لعدم إمكان خطاب غير القادر ، بل إنّه عبارة عن كون ملاك ذلك الأمر الضمني بالركوع الذي هو صلاحه وتوقّف صلاح البواقي على وجوده مطلقاً شاملاً لمورد القدرة عليه وعدم القدرة ، ويكون حال الأمر بالمجموع المنبسط على الركوع وغيره حال بقية الأوامر في كونها غير مقيّدة شرعاً بالقدرة على متعلّقها ، وكونها من حيث الملاك مطلقة شاملة للمقدور وغيره ، وأنّه لم يسقط بواسطة عدم القدرة إلاّ الخطاب ، ويكون تقييد ذلك الخطاب بمورد القدرة على متعلّقه تقييداً عقلياً لا شرعياً ، وإذا ثبت إطلاق ملاك الأمر الضمني بالركوع ، أعني أنّه كان توقّف مصلحة الأجزاء الباقية على وجود الركوع توقّفاً مطلقاً ، سواء كان الركوع مقدوراً أو غير مقدور ، كان ذلك عبارة أُخرى عن عدم صحّة الصلاة عند عدم الركوع ، ولو كان انعدامه لأجل عدم القدرة عليه.

وحينئذ لا تكون تلك البواقي مأموراً بها في ذلك الحال ، أعني حال عدم القدرة على الركوع ، لعدم الصلاح فيها في ذلك الحال ، فلا وجه حينئذ لتصوّر أمر جديد متعلّق بها ، سواء كان من دليل مستقل أو من قاعدة الميسور.

وبالجملة : أنّه مع قيام الدليل على أنّه لا مصلحة في البواقي عند تعذّر الركوع لا يعقل أن تكون مأموراً بها ، سواء كان ذلك بأمر جديد لأجل دليل

٤١٨

خاصّ ، أو كان بابقاء الأمر السابق المتعلّق بها في ضمن تعلّق الأمر بالمجموع منها ومن الركوع استناداً إلى استصحاب ذلك الأمر ، أو كان بابقاء الأمر بالكل استناداً إلى استصحابه أو إلى قاعدة الميسور بنحو من التسامح ، فإنّ هذه الوجوه كلّها إنّما تتصوّر فيما لو كان دليل الجزئية مجملاً مردّداً بين التقييد والاطلاق المذكورين ، أمّا لو كان مطلقاً فقد عرفت حكمها.

ومنه يظهر لك الحال فيما لو كان دليل التقييد مقيّداً بحال التمكّن ، فإنّه يكون كدليل اجتهادي على وجوب الباقي عند تعذّر القيد ، سواء كان دليل المقيّد مطلقاً أو كان مجملاً.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم الصورة [ الثانية ] وهي كون الأمر الضمني بالركوع مطلقاً بالنسبة إلى كونه مقدوراً وكونه غير مقدور ، هو كون الأمر المتعلّق بالمجموع مطلقاً من حيث القدرة على الركوع وعدمها ، وذلك واضح.

كما أنّ لازم الصورة الأُولى ، وهي صورة تقييد الأمر الضمني بالركوع بالقدرة عليه ، هو تقييد الأمر بالمجموع منه ومن الباقي بتلك القدرة ، ولازم ذلك هو سقوط الأمر بذلك المجموع عند عدم القدرة على الركوع ، إلاّ أن ذلك لا ينافي الأمر بما عدا الركوع من ذلك المجموع ، بالنظر إلى أنّ صلاحها لا يتوقّف في حال عدم القدرة على الركوع على وجود الركوع ، فإنّ كون انتفاء الأمر بالمجموع لأجل انتفاء قيده لا يدلّ على وجوب الباقي ، إنّما هو فيما يكون من قيود الأمر بالمجموع الراجعة ابتداءً إلى نفس الأمر بالمجموع ، أمّا قيوده الناشئة عن تقيّد انبساطه على الركوع ، بأن كان المقيّد هو انبساط الأمر بالمجموع على الركوع ، فلا يكون موجباً إلاّلانتفاء انبساطه على الركوع ، وإن صحّ لنا أن نقول إنّه قد انتفى الأمر بالمجموع ، فإنّه بمعنى أن قد انتفى المجموع من حيث المجموع. وبعبارة

٤١٩

أوضح : أنّ المنتفي هو الانبساط على الركوع لا ذات الأمر ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ خلاصة التقييد المذكور هو أنّ صلاح الأمر بالمجموع إنّما يتوقّف على وجود الركوع على وجه يقتضي كون الركوع مأموراً به في ضمن الأمر بالمجموع منحصر بصورة التمكّن من إيجاد الركوع ، أمّا مع عدم التمكّن منه فلا تكون المصلحة في ذلك المجموع موقوفة على وجود الركوع ، بل يكون ذلك المجموع ذا مصلحة في ذلك الحال ، أعني حال عدم الركوع الناشئ عن عدم القدرة عليه ، فيكون المجموع مأموراً به مع فرض عدم الركوع في ضمنه ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الباقي مأموراً به ، وذلك نظير وجوب الركعتين الأخيرتين في ضمن وجوب صلاة الظهر على الحاضر ، مع عدم وجوبهما في ضمن ذلك الوجوب على المسافر. ومن ذلك يظهر لك أنّ هذه الطريقة لو تمّت فليست هي من قبيل تعدّد المطلوب ، بل هي من قبيل تنويع المكلّفين.

ولا يخفى أنّ طريقة تعدّد المطلوب وإن كانت أسهل من هذه الطريقة ، إلاّ أنّها تتمّ فيما لو كان في البين واجب أصلي يكون هو المطلوب الأوّلي ، ويكون باقي الأجزاء وتقيّده بها مطلوباً ثانوياً مقيّداً بالقدرة عليه ، دون ما لو كان وجوب كلّ واحد من الأجزاء مقيّداً بالقدرة عليه.

اللهمّ إلاّ أن نجعل ما هو المطلوب الأصلي هو آخر درجات صلاة المضطرين ، وهي مجرّد النيّة والتوجّه إليه تعالى ، وباقي الأجزاء والشرائط مطلوباً ثانوياً مقيّداً بالقدرة عليه.

ثمّ لا يخفى أنّ لازم طريقة التقييد المزبورة ، بل لازم طريقة تعدّد المطلوب أيضاً ، هو كون وجوب جميع الأجزاء والشرائط التي دلّ الدليل على سقوطها بالتعذّر من قبيل ما هو المشروط بالقدرة الشرعية ، وحينئذ يشكل الأمر فيما لو

٤٢٠