أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

وهذه الجهة وإن كانت قابلة عقلاً للتحقّق في باب الأوامر ، إلاّ أنّ فرض كون مخالفة الأمر بترك الفعل المأمور به غير ممكنة عادة فرض نادر ، لا أستحضر له فعلاً مثالاً معقولاً (١).

وما أُفيد في التقريرات المطبوعة في صيدا (٢) ـ من الفرق بين النهي والأمر بحسن الثاني في مورد كون المخالفة غير ممكنة عادة بخلاف [ النهي ] من جهة كون المطلوب في باب الأوامر هو الايجاد عن اختيار ، وهو حاصل في صورة عدم التمكّن العادي من المخالفة ، بخلاف باب النواهي فإنّه لمّا كان المطلوب فيها هو استمرار العدم ، ولم يكن الفعل ممكناً عادة كان قبيحاً ـ ممّا لم أتوفّق للتصديق به ، فإنّ المطلوب في باب النواهي أيضاً الترك الاختياري ، وهو حاصل في صورة عدم التمكّن العادي من الفعل ، كما أنّ الفعل الاختياري حاصل في صورة عدم التمكّن العادي من الترك.

كما أنّي لم أتوفّق للتصديق بما أفاده بعد هذه الجملة ، من الفرق بين التكاليف الايجابية والتكاليف التحريمية ، بمدخلية القدرة في المبغوضية في النحو الثاني التي هي ملاك التحريم ، وعدم مدخليتها في ملاك الايجاب ، بعد الاعتراف باشتراكهما بالنسبة إلى المصالح والمفاسد في كون القدرة قابلة لأن تكون دخيلة ولأن لا تكون دخيلة ، فإنّ المراد من ملاك التحريم لو سلّمنا أنّه

__________________

(١) نعم ، في الصورة التي يكون النهي فيها قبيحاً ، وهي ما لو كان الارتكاب غير ممكن عادة ، لا يكون الأمر بالارتكاب قبيحاً ، لكفاية القدرة العقلية في باب الأوامر ، ولا يكون ذلك الفرد الذي يكون ارتكابه غير مقدور عادة خارجاً عن حيّز الأمر إلاّمن جهة دليل نفي العسر والحرج [ منه قدس‌سره ].

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٥٤١

المبغوضية فلِمَ لا نقول إنّ ملاك الايجاب هو المحبوبية ، لتكون القدرة دخيلة فيه أيضاً ، فراجع وتأمّل.

وبالجملة : أنّا لا نتعقّل للمبغوضية ولا للمحبوبية بالنسبة إليه تعالى إلاّنفس التحريم والايجاب ، لا أنّ التحريم والايجاب بالنسبة إليه تعالى يكونان بعد المبغوضية والمحبوبية لتكون المبغوضية ملاكاً للتحريم زائداً على المفسدة الواقعية. ولو سلّم ذلك لكانت المحبوبية في التكاليف الايجابية ملاكاً للايجاب زائداً على المصالح الواقعية.

ثمّ إنّ عدم ارتكاب المنهي عنه تارةً يكون لما تقدّم ذكره من كونه غير متمكّن منه عادة ، وأُخرى يكون من جهة عدم جريان العادة بارتكابه وإن كان ارتكابه ممكناً ، وثالثة يكون من جهة اتّفاق وجود الصارف عنه أو مجرّد عدم تعلّق الارادة بارتكابه ، وإن كان ارتكابه ممكناً عادة ، وكانت العادة جارية بارتكابه ، بمعنى أنّه لم تجر العادة على عدم ارتكابه.

أمّا النحو الأوّل فهو القدر المتيقّن ممّا يوجب قبح التكليف بالاجتناب عنه.

كما أنّ الثالث ممّا لا ينبغي الشبهة في حسن التكليف بالاجتناب عنه ، لأنّ مجرّد وجود الصارف عنه أو اتّفاق عدم تعلّق الارادة بارتكابه لا يمنع من النهي عنه والتكليف باجتنابه ، حيث إنّ مدار حسن التكليف وملاك حسن الخطاب بالاجتناب عنه هو إمكان تعلّق إرادة المكلّف بارتكابه ، ليكون ذلك الخطاب زاجراً له عن الارتكاب ، ويكون ذلك الخطاب بتركه حسناً عقلاً ، لإمكان أن تتعلّق الارادة بارتكابه ، وبذلك تندفع شبهة تحصيل الحاصل ، إذ ليس الغرض من النهي مجرّد أن لا يفعل كي يقال إنّ هذا الشخص المفروض أنّه لا تحصل له إرادة الفعل أو حصل له الصارف عنه ، يكون نهيه عن ذلك الفعل لغواً وتحصيلاً

٥٤٢

للحاصل ، بل إنّ الغرض من النهي هو إحداث الداعي على الترك ، ويكفي في حصول ذلك الغرض مجرّد إمكان الفعل منه ، بأن يكون قابلاً لتعلّق الارادة به وإن لم يكن مريداً له فعلاً ولا مريداً له فيما بعد.

لا يقال : إنّ الغرض من النهي وإن كان هو إحداث الداعي الذي يكفي فيه إمكان تعلّق الارادة ، إلاّ أنّ الغرض من إحداث ذلك الداعي هو التوصّل إلى عدم صدور الفعل من المكلّف ، فإذا فرضنا أنّ المكلّف لا يصدر منه الفعل عاد محذور تحصيل الحاصل.

لأنّا نقول : إنّ النهي فعل اختياري للشارع ، وهذا الفعل الاختياري لابدّ أن يكون لغرض وفائدة تترتّب عليه ، وحينئذ لا يمكننا أن نقول إنّ الغرض منه هو مجرّد عدم صدور الفعل من المكلّف ، إذ لو كان هو الغرض لاستحال تخلّفه ، بل الغرض التامّ هو ما عرفت من إحداث الداعي وتقريب العبد إلى الاطاعة ، وتسهيل الوصول إلى إدراك المصالح والاجتناب عن المفاسد ، نعم يصحّ لنا أن نقول إنّ الغرض هو عدم الفعل ، لكن لا بمعنى أنّه يكون هو الغاية من جعل النهي ، بل بمعنى أنّه هو المراد بالنهي ، ويكون الغرض من جعل تلك الارادة المتعلّقة بعدم الفعل هو إحداث الداعي ، وفيه تأمّل.

أمّا القسم الثاني فالأقوى لحوقه بالقسم الأوّل ، فإنّ الارتكاب وإن كان ممكناً عادة ، إلاّ أنّه لمّا كان نفس الارتكاب ممّا لم تجر العادة به ، ولم يكن تعلّق إرادة المكلّف بارتكابه عادياً ، كان التكليف باجتنابه والخطاب بعدم ارتكابه قبيحاً لدى العقلاء غير مستحسن لديهم ، لكونه خطاباً بترك ما لم يمكن عادة تعلّق إرادة المكلّف بارتكابه ، فلا يتحقّق فيه ملاك الحسن الذي هو إمكان كون ذلك الخطاب صارفاً للمكلّف عن الارتكاب ، لأنّه إنّما يمكن كون الخطاب صارفاً لو

٥٤٣

كانت إرادة المكلّف للارتكاب ممكنة عادة ، والمفروض أنّ تعلّق الارادة به غير ممكن عادة.

وإن شئت قلت : إنّ العادة لمّا جرت على عدم ارتكابه ، كانت جارية على عدم إرادة ارتكابه ، وإذا جرت العادة بعدم إرادة ارتكابه لم يكن إرادة ارتكابه ممكناً بحسب العادة ، فيكون حاله حال ما لو كان ارتكابه غير ممكن عادة في أنّ كلاً منهما يكون إرادة ارتكابه غير ممكن عادة ، وإذا كانت الارادة غير ممكنة عادة كان الخطاب بالاجتناب قبيحاً ، وقد حقّقنا وأوضحنا ذلك في الشرح المشار إليه (١).

ثمّ إنّا قد بيّنا هناك أخيراً أنّه يمكن أن يكون الملاك في عدم تنجّز العلم الاجمالي في الفرض المذكور ، هو أنّ العقلاء يرون ما لا يمكن عادة ارتكابه أو ما لم تجر العادة بارتكابه من الأطراف ، ملحقاً بالمعدوم بالقياس إلى ذلك المكلّف ، بحيث إنّهم لا يرونه صالحاً لأن يكون متعلّقاً للتحريم ، بل لا يكون ذلك الطرف صالحاً في نظرهم للحكم عليه بالاباحة فضلاً عن التحريم ، بل يمكن القول بأنّ القسم الأوّل منه ـ وهو ما كان ارتكابه غير ممكن عادة ـ خارج عن الصلاحية للدخول تحت عموم كل تكليف حتّى الاستحباب والوجوب ، من دون حاجة في ذلك إلى التمسّك بنفي العسر والحرج.

نعم ، يمكن أن يتعلّق به بشخصه الايجاب إذا ثبت وجوبه شخصياً بدليل خاصّ ، لكن التحريم حتّى الشخصي منه لا يمكن تعلّقه به ، والفرق بينهما أنّ الفرد إذا كان ملحقاً بنظر العقلاء بالمعدوم ، لكون ارتكابه غير ممكن عادة ، يمكن للشارع أن يكلّفنا بارتكابه شخصياً إذا دلّ عليه دليل بالخصوص ، غايته أنّ ذلك

__________________

(١) الظاهر أنّ مراده قدس‌سره بذلك هو شرح الوسيلة المخطوط الذي تقدّمت الاشارة إليه في الصفحة : ٥٤٠.

٥٤٤

الدليل يكون مخصّصاً لدليل العسر والحرج ، وهذا بخلاف التكليف الشخصي باجتنابه فإنّه قبيح لدى العقلاء.

والحاصل : أنّ الفرد إذا كان ارتكابه غير ممكن عادة ، كان خارجاً بنظر العقلاء عن حيّز عمومات الأوامر والنواهي ، لكونه في نظرهم ملحقاً بالمعدوم. أمّا التكليف الشخصي الثابت بالدليل الخاص ، فإن كان وجوبياً لم يكن عدم التمكّن العادي مانعاً منه بعد فرض كونه مقدوراً عقلاً ، والسرّ في ذلك هو أنّ ذلك التكليف الشخصي المتعلّق بلزوم ارتكاب ذلك الفرد المفروض عدم التمكّن من ارتكابه عادة ينحل إلى التكليف النفسي بمقدّماته ، بخلاف ما إذا كان تحريمياً ، فإنّ عدم التمكّن العادي وإلحاقه في نظر العقلاء بالمعدوم يوجب قبح التكليف بالاجتناب عنه. هذا غاية توضيح توجيه سقوط العلم الاجمالي من الناحية التي أشرنا إليها ، أعني ناحية إلحاق ما كان ارتكابه غير ممكن عادة بالمعدوم ، وأنّه غير صالح للدخول في حيّز العمومات التكليفية حتّى الايجاب.

وفيه تأمّل ، فإنّه بناءً على هذا الوجه يشكل الفرق بين الوجوب الثابت بالأدلّة العامّة ، والوجوب الشخصي الثابت بالدليل الخاصّ. ولو سلّمنا إرجاع الوجوب الشخصي إلى الوجوب النفسي للمقدّمات ، أشكل الفرق بينه وبين التحريم الشخصي ، فأيّ فرق بين قوله : اكسر تلك الآنية الفضّة ، المفروض خروجها عن ابتلائه ، وبين قوله : لا تشرب منها. ولو أرجعنا قوله : « اكسرها » إلى الايجاب النفسي المتعلّق بمقدّمات الحصول عليها ، فمضافاً إلى خروجه حينئذ عمّا هو محلّ الكلام ، أنّه يمكن أن يوجّه قوله « لا تشرب منها » بارجاعه إلى النهي عن مقدّمات الحصول عليها.

ثمّ فيه أيضاً : أنّا لو وجّهنا قبح النهي عمّا هو خارج عن الابتلاء ممّا يكون

٥٤٥

غير متمكّن منه عادة ، بأنّ ذلك الفرد ملحق بالمعدوم ، يكون لازمه قبح الأمر به كما عرفت ، مع أنّهم على الظاهر لم يلتزموا به. ولو سلّمنا الالتزام به في صورة كونه غير متمكّن منه عادة ، فلا ريب في عدم إمكان الالتزام به في الصورة الثانية ، أعني صورة عدم وقوعه عادة مع فرض التمكّن العادي منه ، كما هو مختار الأُستاذ قدس‌سره (١) في كونه بحكم الصورة الأُولى في كون النهي عنه قبيحاً ، فلو وجّهنا قبح النهي عنه بأنّه لمّا لم يكن ارتكابه عادياً كان ملحقاً بالمعدوم ، لم يكن لنا أن نلحق به الأمر في القبح. اللهمّ إلاّ أن يلتزم بالحاق الأمر بالنهي في الصورة الأُولى ، وهي صورة عدم التمكّن العادي ، بخلاف الصورة الثانية ، وهي صورة التمكّن العادي مع عدم جريان العادة به.

وبالجملة : أنّ توجيه قبح النهي في صورة الخروج عن الابتلاء بكون ما خرج عن الابتلاء ملحقاً في نظرهم بالمعدوم ، يلزمه إلحاق الأمر به في القبح ، فكما يكون قوله : « لا تشرب من آنية الفضّة » المفروضة كونها خارجة عن الابتلاء قبيحاً ، لكونها بمنزلة المعدوم في نظرهم ، فكذلك ينبغي أن يكون قوله : « اكسر الآنية المذكورة » قبيحاً في نظرهم أيضاً ، ولا يمكن التفكيك بينهما. كما أنّ ما تقدّم من توجيه القبح المذكور بكون حسن النهي منحصراً بما إذا كان يمكنه الارتكاب أيضاً منقوض بالأمر ، بأن يقال إنّ حسنه منحصر بما إذا كان يمكنه الفعل عادة ، بل هو فيه أولى ، لأنّ المطلوب فيه هو نفس الفعل ، فإذا كان غير مقدور عادة ، وكان عدم التمكّن العادي موجباً لقبح التكليف ، فهو فيه أولى من النهي ، لأنّ ذلك إنّما يوجب قبحه لعدم تمكّنه من خلافه ، وهذا يوجب قبحه لعدم تمكّنه من موافقته. ومجرّد كون المطلوب بالأوّل هو استمرار العدم وبالثاني

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٦٥ ـ ٦٧.

٥٤٦

الفعل الاختياري لا يوجب الفرق بينهما ، بحيث يختصّ القبح في صورة عدم التمكّن العادي بالأوّل الذي هو النهي ، دون الثاني الذي هو الأمر.

كما أنّ ما ربما يظهر من التقرير (١) من الفرق بينهما بكون الأوّل مشروطاً بطي المقدّمات دون الثاني ، ممّا لم يظهر وجهه ، فإنّه بعد فرض كون النهي عن الشرب من تلك الآنية مشروطاً بالقدرة عليه كالأمر بالشرب منها ، فإن قلنا إنّ القدرة التي هي شرط فيهما هي القدرة العقلية وهي لا تحصل إلاّبعد طي تلك المقدّمات كان كلّ منهما مشروطاً بطيّ تلك المقدّمات ، وإن قلنا بأنّ الشرب يتّصف بالمقدورية العقلية قبل طي تلك المقدّمات ، لم يكن شيء منهما مشروطاً بطي تلك المقدّمات ، وهكذا الحال لو قلنا بأنّ الشرط فيهما هو القدرة العادية.

وبالجملة : أنّ ما أُفيد مبني على أنّ الأمر لم يكن مشروطاً بالقدرة العادية ، وإنّما هو مشروط بالقدرة العقلية ، بخلاف النهي فإنّه مشروط بكلّ منهما ، والقدرة العادية لا تحصل إلاّبعد طيّ تلك المقدّمات ، وهذه التفرقة تحتاج إلى برهان قوي بحيث تكون القدرة العادية شرطاً في خصوص النهي دون الأمر.

ولتوضيح أصل المطلب ، وهو عدم إمكان تعلّق النهي بما لا يكون مقدوراً عقلاً ، ينبغي تقديم مقدّمات :

الأُولى : أنّ الفعل الاختياري لابدّ أن يكون له غاية مترتّبة عليه ، يكون وجودها العلمي وترتّب وجودها عليه هو الداعي على إيجاده ، وإلاّ لكان عبثاً ولغواً صرفاً ينزّه عنه الحكيم.

الثانية : قد حقّق في محلّه أنّ الغرض والغاية هو ما يكون بوجوده العلمي باعثاً على الفعل وبوجوده الخارجي يكون معلولاً لذلك ، فلابدّ أن تترتّب تلك

__________________

(١) لعلّه قدس‌سره يشير بذلك إلى ما في فوائد الأُصول ٤ : ٥١ ـ ٥٢.

٥٤٧

الغاية على الفعل لكونها من آثاره وفوائده المترتّبة عليه ، ولا تنفكّ عنه إلاّ إذا كان الفاعل جاهلاً بذلك ، بأن يكون قد فعل الفعل باعتقاد ترتّبها عليه فتبيّن الخطأ ، أو يكون قد فعله بداعي احتمال ترتّبها وتبيّن عدم ترتّبها عليه ، وكلّ منهما لا يصدر إلاّ من جهة الجهل.

الثالثة : أنّه ليس معنى كون التكليف من دواعي الامتثال أنّه بنفسه وبوجوده الخارجي يكون داعياً له على الاتيان بالفعل المكلّف به ، بل معناه أنّ المكلّف بعد علمه بالتكليف وبعد تصوّره ما يترتّب على الامتثال من الثواب والخروج عن استحقاق العقاب ، يكون ذلك باعثاً ومحرّكاً له على الاتيان بما تعلّق به التكليف ، فيكون التكليف بوجوده العلمي من مقدّمات الارادة ومن بواعثها.

الرابعة : أنّ الحكم الشرعي أعني الايجاب أو التحريم حيث إنّه بنفسه فعل من الأفعال الاختيارية للشارع ، فلابدّ أن يكون عن غرض وداع ، وليس ذلك الغرض والداعي هو وجود متعلّق التكليف في الخارج ، فإنّ ذلك هو المراد ، وكلامنا إنّما هو في الغرض والداعي على إيجاد تلك الارادة التي هي نفس الحكم الشرعي.

الخامسة : أنّ الغرض الباعث على تلك الارادة الشرعية الذي يكون بوجوده العلمي باعثاً على إيجادها ، هو كونها داعية للمكلّف بالمعنى المتقدّم في المقدّمة الثالثة ، أعني أنّ وقوع تلك الارادة الشرعية في مقدّمات إرادة العبد هو الباعث على إيجاد الارادة الشرعية. وبعبارة أخصر أنّ داعوية الارادة الشرعية للعبد هو الغرض الباعث على صدور الارادة الشرعية من جانب المولى.

إذا عرفت هذه المقدّمات نقول : إنّ الغرض والداعي الباعث على تلك

٥٤٨

الارادة الشرعية ليس هو داعويتها الفعلية للامتثال ، وإلاّ لكان اللازم تحقّق داعويتها ووقوعها في سلسلة إرادة العبد بمجرّد صدورها ، واللازم باطل ، لتحقّق العصيان من بعض ، وتحقّق صدور الفعل بدون باعثية تلك الارادة الشرعية من آخرين ، وليس مرجع البطلان في هذا اللازم إلى أنّ المراد له تعالى لا يتخلّف عن إرادته ، ليجاب عنه بأنّ ذلك إنّما هو في الارادة التكوينية ، بل مرجع البطلان المذكور إلى أنّ الغاية من فعله تعالى يستحيل تخلّفها عن ذلك الفعل.

ثمّ إنّ الارادة الشرعية ليست مختصّة بخصوص من ينبعث عنها ، لأنّ المفروض أنّها تكون باعثة على إرادة العبد ومن محرّكات إرادته ، فلا يعقل اختصاصها بمن حصل منه الانبعاث عنها ، لأنّ الحاصل حينئذ هو أنّها جعلت لتكون باعثة لمن تحقّق في حقّه الانبعاث عنها ، وفساده غني عن البيان ، لأنّ المفروض أنّها من مقدّمات إرادة العبد ، فهي سابقة في الرتبة على إرادة العبد ، فلا يعقل أن تكون مقيّدة بارادته.

وبالجملة : لا ريب في أنّ الارادة الشرعية ليست مختصّة بخصوص من ينبعث عنها ، بل هي من هذه الجهة لا يمكن أن تكون مقيّدة ولا مطلقة حتّى بما هو نتيجة الاطلاق أو بما هو نتيجة التقييد. نعم يمكن تقييد المراد بذلك أو إطلاقه من هذه الجهة بما هو نتيجة التقييد أو نتيجة الاطلاق على ما مرّ في التعبّدي والتوصّلي.

وعلى أيّ حال ، فالارادة الشرعية من ناحية كونها واقعة في سلسلة إرادة العبد أو غير واقعة ، لا يعقل أن تكون مشروطة بذلك أو غير مشروطة به على حذو اشتراط إرادة الحج بالاستطاعة مثلاً حتّى بمثل نتيجة التقييد أو نتيجة الاطلاق ، بل هي من هذه الجهة غير صالحة لكلّ من الأمرين ، لأنّ الارادة الشرعية

٥٤٩

عبارة عن فعل من الشارع صدر بداعي كونه باعثاً ومحرّكاً وواقعاً في سلسلة إرادة العبد ، فكان ذلك هو الداعي والباعث على صدور الارادة من جانب الشارع ، فلا يعقل أن يكون الغرض من الفعل والداعي على إيجاده مأخوذاً في ناحية ذلك الفعل أو منظوراً إليه في ناحيته بأيّ نحو من أنحاء الأخذ والنظر ، لا إطلاقاً ولا تقييداً ، لا لحاظياً ولا بما هو نتيجة ذلك.

ثمّ إنّه حيث قد تحقّق لديك أنّ وقوع تلك الارادة الشرعية في سلسلة إرادة العبد يكون داعياً ومحرّكاً على تلك الارادة الشرعية ، وأنّ ذلك ليس هو عبارة عن كون الوقوع الفعلي داعياً ومحرّكاً ، لما نراه من أنّه بعد صدور الارادة ربما لا تقع محرّكة للعبد ولا تقع في سلسلة إرادته ، إمّا لأنّه لا يأتي بالمكلّف به ، أو لأنّه يأتي به لكن بداعٍ آخر ، مع فرض قيام الإجماع والضرورة على تحقّق الارادة الشرعية بالنسبة إلى كلّ من هذين الفرضين ، فلابدّ أن نقول إنّ الباعث والداعي على صدور تلك الارادة هو إمكان وقوعها في سلسلة إرادة العبد ، ومن الواضح أنّ هذا الداعي لا يتخلّف.

وحينئذ نقول : إن كان المكلّف به غير مقدور للعبد لا يعقل أن تتعلّق إرادته به ، فلا يعقل أن تكون الارادة الشرعية واقعة في سلسلة إرادته ، فلا يكون وقوعها في سلسلة إرادته ممكناً ، فلا تصحّ الارادة في مثل ذلك ، ولأجل ذلك قلنا إنّ التكليف بغير المقدور قبيح بل محال حتّى لو جوّزنا الظلم على الشارع ، وسوّغنا مطالبته العبد بما لا يتمكّن عليه.

ثمّ نقول : إنّ طلب الترك في مورد يكون الفعل غير مقدور كما ذكرناه من صورة تلف الموضوع ، يكون قبيحاً بل محالاً ، من جهة أنّ الفعل إذا لم يكن مقدوراً لا يمكن أن [ يكون ] ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لتركه ، لأنّ

٥٥٠

فرض كون الفعل غير مقدور يكون موجباً لعدم إمكان تعلّق إرادة العبد بتركه ، كما يكون موجباً لعدم إمكان تعلّق إرادته بفعله.

وبالجملة : أنّ الفعل إذا كان غير مقدور كالشرب من الاناء الذي فرض إراقته وتلف الماء الذي هو فيه ، لا يعقل تعلّق الطلب بفعله ، كما لا يعقل تعلّق الطلب بتركه ، لعدم إمكان كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لكلّ من فعله وتركه. كما أنّ الترك إذا كان غير مقدور يستحيل أن يتعلّق الطلب بكلّ من طرفيه ، فالكون في الحيّز مثلاً كما يستحيل أن يتعلّق الطلب بتركه لاستحالة وقوع ذلك الطلب في سلسلة إرادة العبد لتركه ، فكذلك يستحيل أن يتعلّق الطلب بفعله ، لاستحالة كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لفعله ، لا لمجرّد كون الأوّل تكليفاً بغير المقدور وكون الثاني تحصيلاً للحاصل.

وبالجملة : أنّ الترك في صورة كونه ضرورياً مثل ترك شرب الماء الذي فرض تلفه ، يستحيل أن يتعلّق به النهي ، لا لمجرّد كونه تحصيلاً للحاصل ، بل لاستحالة كون النهي واقعاً في سلسلة إرادة العبد له ، كما أنّ ذلك الشرب يستحيل أن يتعلّق به الأمر ، لا لأجل أنّه ظلم وخلاف العدل بواسطة كونه تكليفاً بما لا يطاق ، بل لاستحالة كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد لذلك الشرب.

وهكذا الحال في مسألة إشغال الحيّز ، فإنّ الأمر به يكون محالاً ، لا لمجرّد أنّه تحصيل للحاصل ، بل لما عرفت من استحالة وقوع ذلك الطلب في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بفعله ، كما أنّ تعلّق النهي به أيضاً يكون محالاً ، لا لمجرّد كونه ظلماً وتكليفاً بغير المقدور ، بل لما عرفت من استحالة كون ذلك النهي واقعاً في سلسلة إرادة العبد له.

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا إمكان إخراج من حصل له الداعي النفساني على

٥٥١

المطلوب أو من لم يحصل له الداعي إلى فعل خلاف المطلوب ، بأن يقال إنّ حرمة شرب الخمر مثلاً إنّما هي متوجّهة إلى من لم يحصل [ له ] الداعي النفساني إلى تركه أو إلى من لم يحصل له الداعي إلى فعله ، ولم يكن ذلك راجعاً إلى ما ذكرناه من المحالية أعني تقييد الارادة بكونها هي الداعية ، لم يكن ذلك منافياً لما نحن بصدده من إثبات تحقّق الحرمة في حقّ من كان تاركاً لشرب الخمر بداع نفساني المفروض قيام الإجماع والضرورة عليه ، لكفاية إمكان تكليفه بحرمة شرب الخمر بما ذكرناه من كون الداعي على جعل الحرمة في حقّه هو إمكان وقوعها في سلسلة إرادته لترك شرب الخمر ، ومجرّد إمكان خروجه لا يوجب تحقّق خروجه ما لم يكن عليه دليل بالخصوص.

وبالجملة : أنّا نريد إثبات إمكان تحقّق الحرمة في حقّ مثل ذلك المكلّف ليصحّ ما ذكرناه من الإجماع ، وتندفع شبهة أنّ جعل التحريم في حقّه يكون لغواً.

وإلى هذا الحدّ من البيان يحصل ارتفاع الإشكال في تحقّق النهي والتحريم بالنسبة إلى من يعلم المولى بأنّه لا يريد ارتكاب الفعل المنهي عنه ، لأجل تحقّق الصارف له عنه أو لمجرّد أنّه لا يريده ، لتحقّق الغرض المصحّح للنهي في حقّه ، وهو إمكان وقوع ذلك النهي في سلسلة إرادته ، فلم يكن النهي المذكور خالياً من الغرض.

نعم ، يبقى فيه إشكال تحصيل الحاصل ، أعني طلب الحاصل ، وفي الحقيقة ليس هذا من طلب الحاصل ، إذ ليس المطلوب بذلك النهي هو الترك المقرون بذلك النهي ، أعني به الترك الحاصل في آن النهي ، بل المطلوب به هو الترك في الآن المتأخّر عن آن النهي ، وذلك الترك ليس بحاصل. نعم إنّ المولى يعلم بحصوله بواسطة علمه بأنّ العبد يبقى على استمرار الترك ، فهو من قبيل

٥٥٢

طلب ما يعلم أنّه يحصل في ظرفه ، وليس هذا من قبيل طلب الشيء الحاصل كي يكون محالاً.

نعم ربما يقال : إنّه مستهجن لدى العقلاء ، لكن يرفع هذا الاستهجان ما عرفت من إمكان كون ذلك الطلب واقعاً في سلسلة إرادة العبد الموجب لتحقّق ثوابه زيادة على خروجه عن العصيان ، فإنّه لو ترك في الآن الثاني لا بداعي ذلك الطلب لا يكون مستحقّاً للثواب ، وإن استراح من العقاب لعدم تحقّق العصيان منه ، لأنّه منحصر بالاتيان بالفعل ، بخلاف ما لو ترك بداعي ذلك الطلب ، فإنّه يكون موجباً لاستحقاقه الثواب ، وإن لم يكن ذلك أعني كون تركه بداعي الطلب شرطاً في سقوط الطلب عنه ، وهو ـ أعني العبد ـ وإن فرض أنّه لا يترك بداعي ذلك الطلب ، بل يترك بداعيه النفساني ، إلاّ أنّه لمّا كان يمكنه أن يترك بداعي ذلك الطلب ، كان ذلك كافياً في حسن نهيه ، لما عرفت من أنّ المدار في حسن النهي على إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد.

إذا عرفت جميع ما قدّمناه نقول بعونه تعالى : إنّك قد عرفت اشتراك الأمر والنهي في توقّف حسن كلٍّ على إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بما كان هو المطلوب أعني الترك في النواهي والفعل في الأوامر ، فلم يبق في محلّ البحث إلاّمعرفة الوجه في اختصاص النهي باعتبار القدرة العادية ، بحيث إنّه يكون قبيحاً في مورد عدم التمكن العادي ، بخلاف الأمر.

ثمّ إنّ الإشكال في الأمر تارةً يكون من جهة عدم إلحاقه بالنهي في صورة كون الفعل مورداً لعدم التمكّن العادي كما في آنية الذهب التي لا يتمكّن المكلّف عادة من الحصول عليها في الحكم بقبح النهي عن الشرب فيها ، بخلاف الأمر بكسرها أو الشرب منها ، وأُخرى يكون عكس الصورة المفروضة ، كما لو كان

٥٥٣

الترك مورداً لعدم التمكّن العادي بخلاف الفعل ، بأن كان الفعل لازماً عادياً ، فإنّي وإن لم أتخطّر له فعلاً مثالاً مهمّاً إلاّ أنّه أيضاً يتوجّه فيه الإشكال ، بأن يقال إذا فرضنا قبح النهي في مورد يكون الفعل غير متمكّن منه عادة ، فلِمَ لا يكون الأمر قبيحاً في مورد يكون الترك غير متمكّن منه عادة ، وقد عرفت فيما تقدّم ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه الفرق بين الأمر والنهي في كلتا الصورتين ، وتقدّم أنّها جميعاً لا تخلو عن الإشكال ، وحيث إنّ العمدة في الإشكال إنّما هو في الصورة الأُولى ، وأنّ الصورة الثانية لا أهميّة لها ، لعدم وجود مثال لها أو ندرة وقوعها ، فلنقدّم الكلام على الصورة الأُولى ، ولعلّ منه يتّضح الحكم في الصورة الثانية.

فنقول بعونه تعالى : إنّ حاصل الإشكال في الصورة الأُولى ، هو أنّه إذا كان المدار في حسن التكليف على إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بما هو المطلوب ، فإن كان ذلك الامكان هو الامكان العقلي ، كان كلّ من النهي عن الشرب من تلك الآنية والأمر بالشرب منها متّصفاً بالحسن ، وإن كان ذلك الامكان هو الامكان العادي [ كان ] كلّ من التكليفين قبيحاً.

أمّا الأمر فواضح ، لعدم إمكان وقوعه في سلسلة إرادة العبد المتعلّقة بالفعل بالامكان العادي ، وإن كان ذلك ممكناً بالامكان العقلي. وأمّا النهي فواضح أيضاً ، لعدم إمكان وقوعه أيضاً في سلسلة إرادة العبد للترك إمكاناً عادياً ، فإنّه إذا كان الفعل غير ممكن عادة كان الترك أيضاً غير ممكن عادة ، فلا يمكن بحسب العادة أن تتعلّق به إرادة العبد.

ولو قلنا بعدم الملازمة في عدم الامكان العادي بين الفعل والترك كما هو الظاهر ، بحيث كان الترك في الصورة المفروضة ممكناً عادياً وإن كان الفعل غير ممكن عادة ، كانت النتيجة أسوأ ، لأنّ اللازم حينئذ أن يكون الأمر بالشرب من

٥٥٤

الآنية المذكورة قبيحاً والنهي عن الشرب منها حسناً ، مع أنّ المدّعى هو العكس.

والجواب الحاسم لمادّة الإشكال يتوقّف على شرح حقيقة النهي ، وأنّه ليس ممحّضاً لطلب الترك ، بل فيه جهة أُخرى وهي المعبّر عنها بالردع والزجر ، فإنّ هذه الجهة إن لم نقل إنّها عين حقيقة النهي فلا أقل من الالتزام بكونها من لوازمه الذاتية ، فإنّ النهي أو التحريم عبارة عن المنع عن الفعل ، بل في جملة التعبيرات عنه لا تراه مربوطاً بالترك ، بل يكون مربوطاً بالفعل مثل تحريم شرب الخمر والمنع عنه والنهي عنه ، حتّى عبارة طلب تركه ، فإنّها جميعاً لا تخلو من نظر إلى نفس الفعل بطرده أو تركه أو المنع عنه أو تحريمه.

وهذه الجهة أعني النظر إلى الفعل تعطي حصول الفعل للمكلّف ، بحيث يكون نهيه عنه انتشالاً له منه وتبعيداً له عنه ، بحيث يكون المكلّف واقعاً في صراط الوصول إليه والحصول عليه والشارع يمنعه عنه أو يزجره عنه ، فلابدّ أن يكون الفعل قابل الحصول للمكلّف ليحسن منعه منه وزجره عنه وانتشاله منه.

وهذه القابلية لا يعتبر فيها تحقّق الارادة الفعلية بحيث يكون المكلّف مريداً فعلاً للفعل ، بل يكفي فيها مجرّد الامكان. كما أنّه لا ينافيها وجود الصارف عن الفعل أو اتّفاق عدم إرادته له ، فإنّ ذلك بمجرّده لا ينافي تحقّق القابلية وإمكان صدوره منه ، المحقّق لعنوان المنع منه والزجر عنه.

لكن لا يكفي في تحقّقها الامكان العقلي ، بل لابدّ من الامكان العادي والمشارفة على الفعل بحيث إنّه لو أراده لفعله ، ليتحقّق منعه وزجره وانتشاله منه فلأجل ذلك يكون النهي قبيحاً عن الشرب من الآنية المذكورة ، وإن أمكن أن يكون واقعاً في سلسلة إرادة العبد للترك إمكاناً عقلياً ، فالنهي وإن كان من حيث الغرض من جعله يكفي فيه الإمكان العقلي لترك المنهي عنه المصحّح لإمكان

٥٥٥

وقوعه في سلسلة إرادة العبد للترك الذي هو الغرض من جعل النهي ، إلاّ أنّه بطبعه لمّا كان مقتضياً للزجر والمنع عن الفعل وانتشال العبد من الوقوع فيه ، يستدعي إمكان صدور الفعل المنهي عنه من العبد ، بحيث يكون قابلاً لأن تتعلّق به إرادته إمكاناً عادياً. وهذا كلّه إنما نشأ عن كون طبع النهي يستدعي النظر إلى الفعل المنهي عنه ، وتخليص العبد منه زيادة على كونه طلباً للترك ، إن لم نقل إنّ تمام حقيقته هي تلك الجهة ، أعني النظر إلى الفعل ومنع العبد منه وزجره عنه.

وهذا بخلاف الأمر فإنّه ليس إلاّطلب الفعل ، من دون أن يدخل في طبعه النظر إلى الترك ، بحيث يكون متضمّناً بطبعه لزجر المكلّف عنه ومنعه منه ، ليكون مستدعياً لكون العبد قابلاً منه الترك قابلية عادية. ولو سلّمنا أنّ الأمر كذلك ، لم يكن ذلك بضائر فيما نحن بصدده من إثبات حسن الأمر بالشرب من تلك الآنية ، فإنّا لو فرضنا أنّ الأمر بطبعه يقتضي قابلية الترك قابلية عادية ، كان ذلك متحقّقاً في الصورة المفروضة ، بل إنّ المتحقّق والمتلبّس به المكلّف فعلاً هو نفس ذلك العدم ، ويكون الأمر إخراجاً له منه إخراجاً فعلياً ، لا إخراجاً شأنياً.

نعم ، في الصورة الثانية لو قلنا بما عرفت من أنّ الأمر ينظر إلى ضدّ مطلوبه كنظر النهي إلى ضدّ مطلوبه ، لكان الأمر فيها قبيحاً وكان النهي فيها حسناً ، لكنّك قد عرفت أنّ هذه الصورة لا أهميّة لها لندرة وقوعها ، فإنّ فرضها إنّما يتمّ في عكس الصورة الأُولى ، بأن كان الترك غير مقدور بحسب العادة ، ويكون الفعل في هذه الصورة مثل الترك في الصورة الأُولى في كونه وارداً على المكلّف ، اختاره أو لم يختره ، ولا يخلص منه إلاّبأن يختار الترك ويزيل العقبات الحائلة بينه وبين الترك التي أوجبت عدم تمكّنه منه عادة ، فلا تنطبق على مثل الإنفاق على الولد الصغير العزيز ، فإنّ هذا المثال ونحوه لا يدخل في الصورة المزبورة ، بل هو

٥٥٦

داخل فيما يفعله المكلّف بداع نفساني ، فيكون هذا المثال في باب الأوامر نظير ترك ستر العورة من الشريف في باب النواهي.

ثمّ لو تصوّرنا مثالاً للصورة المفروضة ، لأمكننا أن نقول بقبح الأمر فيها لا من [ جهة ] كون الأمر له نظر إلى مخالفته كالنهي من حيث تضمّنه المنع والزجر ، بل من جهة أنّ نفس البعث إلى ما يكون تركه غير مقدور عادة يكون قبيحاً ، وإن قلنا بحسن الأمر فيما يفعله المكلّف من قبل نفسه ، والفارق هو أنّ ما يفعله من قبل نفسه يمكنه تركه فيصحّ الأمر به ، بخلاف ما لا يمكنه تركه عادة ، فتأمّل.

لا يقال : قد اعترفتم بأنّه لابدّ في حسن النهي من كون ضدّ المطلوب به ممكناً عادة ، ولازم ذلك عدم صحّة الأمر بالشرب من تلك الآنية ، لأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن تركه أو لازمه الذاتي ، والنهي المتعلّق بالترك يستدعي إمكان ضدّ متعلّقه إمكاناً عادياً ، والمفروض أنّ النهي المتعلّق بترك الشرب أعني قوله : لا تترك الشرب من تلك الآنية ، لا يكون ضدّه إلاّ الشرب نفسه ، المفروض كونه غير ممكن عادة.

لأنّا نقول : إنّ النهي عن الترك الذي هو لازم الأمر بالشيء أو عينه ، لا يزيد على نفس الأمر في مقتضياته ، لأنّه عينه أو هو منتزع منه ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث : أنّ التكاليف التحريمية بالنسبة إلى ما هو المطلوب فيها الذي هو الترك لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية عليه ، لكن بالنسبة إلى ضدّ ذلك المطلوب أعني نفس الفعل لابدّ من القدرة العادية ، فالقدرة بالنسبة إلى موافقة التحريم يكفي فيها القدرة العقلية ، وبالنسبة إلى الطرف المخالف لابدّ من القدرة العادية.

وهذا بخلاف الأوامر فإنّها لا يعتبر فيها أزيد من القدرة على موافقتها قدرة

٥٥٧

عقلية ، ولا يعتبر فيها القدرة العادية على مخالفتها. ولو سلّمنا أنّها كالنواهي يعتبر فيها القدرة العادية على مخالفتها ، لم يكن ذلك بضائر في حسنها فيما لو كان المطلوب وهو الفعل غير مقدور عادة ، مع فرض كونه مقدوراً عقلاً كما في الصورة الأُولى التي يقبح فيها النهي ، لأنّ المخالفة أعني عدم الاتيان بالفعل في تلك الصورة تكون مقدورة عادية ، بل أزيد من القدرة العادية لحصول العدم بنفسه. نعم في الصورة الثانية يكون الأمر قبيحاً كالنهي في الصورة الأُولى ، لعدم القدرة العادية على مخالفته ، وإن كانت موافقته مقدورة عقلاً بل عادة ، بل أزيد من القدرة العادية ، لحصول الفعل بنفسه للمكلّف ، لكن حيث كانت مخالفته غير مقدورة عادية ، فبناءً على اعتبار القدرة العادية على المخالفة في حسن الأمر ، يكون الأمر المذكور قبيحاً في الصورة المزبورة ، لعدم القدرة العادية على مخالفته ، فتكون الصورتان حينئذ متعاكستين في الحسن والقبح بالنسبة إلى الأمر والنهي ، فالنهي في الصورة الأُولى يكون قبيحاً مع كون الأمر حسناً ، وفي الصورة الثانية يكون الحال في ذلك على العكس ، فيكون الأمر فيها قبيحاً والنهي حسناً (١)

__________________

(١) وبالجملة : أنّ الحاصل للمكلّف إن كان هو الترك ، فالفعل إمّا أن لا يكون مقدوراً عقلاً ، وإمّا أن لا يكون مقدوراً شرعاً ، وإمّا أن لا يكون مقدوراً عادة ، وإمّا أن يكون ممّا لم تجر به العادة ، وإمّا أن يكون ممّا لا تتعلّق به إرادة المكلّف. ففي الصورة الأُولى وهي عدم القدرة عقلاً على الفعل يقبح كلّ من النهي والأمر. وفي الصورة الثانية وهي عدم القدرة الشرعية لا يكون النهي قبيحاً ، لكنّه يكون مندكّاً مع ذلك المانع الشرعي من الفعل ، ولأجل ذلك لا يؤثّر فيما لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي. ولكن يكون الأمر بذلك الفعل ممتنعاً ، ويكون من قبيل اجتماع الأمر والنهي. وفي الصورة الثالثة وهي عدم القدرة العادية على الفعل يكون النهي قبيحاً ويكون الأمر حسناً لو فرض مثال

٥٥٨

__________________

لذلك. وفي الصورة الرابعة يكون حسن النهي وقبحه محلّ التأمّل السابق ، ويكون الأمر حسناً بلا إشكال. وفي الصورة الخامسة وهي عدم إرادة المكلّف للفعل يكون كلّ من النهي والأمر حسناً.

ولو كان الفرض بالعكس بأن كان الحاصل للمكلّف هو الفعل ، وكان محلّ التقسيم إلى الصور الخمسة هو الترك ، ففي الصورة الأُولى يقبح كلّ من النهي والأمر. وفي الصورة الثانية لا يكون الأمر قبيحاً ، نعم يكون مندكاً مع ذلك المانع الشرعي من الترك ، ولأجل ذلك لا يؤثّر لو وقع طرفاً للعلم الاجمالي ، ويكون النهي ممتنعاً لاجتماع الأمر والنهي. وفي الصورة الثالثة يكون النهي حسناً ويكون الأمر قبيحاً ، بناءً على أنّه يعتبر في متعلّق الأمر القدرة العادية على مخالفته. وفي الرابعة يكون النهي حسناً ، ويكون الأمر محلّ التأمّل السابق. وفي الخامسة يحسن كلّ من النهي والأمر.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ لصورة كون المكلّف متلبّساً بالعدم بالقياس إلى كون الفعل غير مقدور عقلاً أو غير مقدور شرعاً أو غير مقدور عادة أو لم تجر العادة بالاقدام عليه أطواراً خمسة ، كما أنّ لصورة كون المكلّف متلبّساً بالفعل بالقياس إلى كون الترك غير مقدور عقلاً ، أو غير مقدور شرعاً الخ ، أيضاً أطواراً خمسة ، فيكون المجموع عشرة ، وبالقياس إلى كون التكليف المتوجّه في هذه الأطوار العشرة من قبيل النهي تارةً ومن قبيل الأمر أُخرى ، يكون المتحصّل عشرين مسألة ، ولو ضممت إلى ذلك كون المكلّف به معلوماً بالتفصيل ، وكونه أحد طرفي العلم الاجمالي ، لكانت المسائل المتحصّلة من ذلك أربعين مسألة ، وإن كان أغلب هذه المسائل لا أهميّة لها.

والغرض إنّما هو بيان أنّ الخروج عن الابتلاء عبارة عن كون مخالفة النهي غير مقدورة عادة ، وهذا المعنى يتأتّى في الأوامر ، بأن تكون مخالفة الأمر فيه بترك الفعل المأمور به غير مقدورة عادة.

قال في الكفاية [ صفحة ٣٦١ ] : الثاني : أنّه لمّا كان النهي عن الشيء إنّما هو لأجل أن

٥٥٩

وقد حرّرت عنه قدس‌سره في الدرس في وجه قبح النهي وحسن الأمر في الصورة الأُولى ما هذا نصّه : والحاصل : أنّ المكلّف به في التحريم لمّا كان هو الترك وعدم نقض العدم الأزلي ، ففي صورة كون الفعل متروكاً بنفسه لعدم التمكّن منه عادة ، يكون الخطاب بالنهي عنه لغواً لا أثر له ، بخلاف الايجاب فإنّه لمّا كان المكلّف به هو الايجاد ففي صورة عدم التمكّن عادة من الفعل الواجب لا يكون الخطاب بايجابه لغواً ، بل يكون أثره وهو إيجاد الكلفة على المكلّف أشدّ وأقوى من الايجاب المتعلّق بالفعل الممكن عادة ، فلا يكون مشروطاً بالتمكّن العادي من الفعل كما يكون التحريم مشروطاً بذلك ، انتهى.

ومنه يظهر جريان عين هذا التوجيه في الصورة الثانية ، لكنّه على العكس من الصورة الأُولى. ولكن هذا الوجه منقوض في الصورة الأُولى بما لو كان المكلّف تاركاً للفعل من نفسه وإن كان فعله ممكناً له عادة ، وكذا في الصورة الثانية بما لو كان المكلّف يأتي بالفعل من قبل نفسه وإن كان تركه ممكناً له عادة ، فإنّه يلزم كون كلّ من النهي في الصورة الأُولى والأمر في الصورة الثانية قبيحاً ولغواً.

وقد أجبنا هناك عن هذا النقض بأنّه يكفي في حسن النهي ـ فيما لو كان المكلّف تاركاً للفعل لعدم الداعي أو لوجود الصارف عنه مع فرض إمكان الفعل

__________________

يصير داعياً للمكلّف نحو تركه ، لو لم يكن له داع آخر ، ولا يكاد يكون ذلك إلاّفيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأمّا ما لا ابتلاء به بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلاً الخ.

وقال في الهامش : كما أنّه إذا كان فعل الشيء الذي كان متعلّقاً لغرض المولى ممّا لا يكاد عادة أن يتركه العبد ، وأن لا يكون له داع إليه ، لم يكن للأمر به والبعث إليه موقع أصلاً كما لا يخفى [ منه قدس‌سره ].

٥٦٠