أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

صاحب الكفاية ، أو يكون نفس ذلك الحكم الشرعي ضررياً أو حرجياً على طريقة شيخنا قدس‌سره ، والمفروض في المقام عدم وجود الحكم الشرعي المذكور ، فإنّ الحكم الشرعي الواقعي المعلوم وجوده في البين ليس في حدّ نفسه ضررياً أو حرجياً ، وإنّما جاء الضرر أو الحرج من ناحية الحكم العقلي الراجع إلى الاحتياط العقلي ، الملزم بالجمع بين الأطراف ، المفروض كونه ضررياً أو حرجياً ، وأدلّة نفي الضرر أو الحرج لا تنفي هذا الحكم العقلي ، سواء قلنا إنّها مسوقة لنفي الحكم الشرعي بلسان نفي الموضوع كما هي طريقة صاحب الكفاية ، أو قلنا إنّها مسوقة لنفي الحكم الضرري أو الحرجي ابتداءً كما هي طريقة شيخنا قدس‌سره.

وأمّا ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : نعم لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل الخ (١) ، فهو وإن كان ظاهره الاختصاص بطريقة شيخنا قدس‌سره في كيفية الحكومة ، إلاّ أنّ هذا المطلب لا يختصّ بها ، بل يتأتّى على نفس طريقة صاحب الكفاية قدس‌سره ، بأن نقول : إنّ الحكم الشرعي المنفي بلسان نفي الموضوع هو ما يكون موجباً للعسر والحرج ، ولو بواسطة العلم الاجمالي المتعلّق به فيما هو مردّد بين الأطراف الكثيرة التي يلزم العسر والحرج من الجمع بينها ، بمعنى أنّ متعلّقات تلك الأحكام الواقعية تكون موقعة في العسر والحرج بواسطة ذلك العلم الاجمالي ، فتكون تلك الأحكام الشرعية المتعلّقة بتلك المتعلّقات منفية بلسان نفي تلك المتعلّقات.

وقد صرّح شيخنا قدس‌سره بوحدة الطريقتين من هذه الجهة كما حكاه عنه السيّد سلّمه الله في تحريراته بقوله ـ بعد نقل مضمون ما في الكفاية ـ : وأنت خبير بفساد ذلك أمّا أوّلاً : فلأنّ مفاد أدلّة نفي الحرج وإن سلّمنا أنّه نفي الحكم بنفي

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣١٣.

٤١

موضوعه ، إلاّ أنّه لا إشكال في حكومتها على الأحكام الشرعية ، وأنّها تنفي كلّ حكم شرعي يكون موضوعه حرجياً ، بل لو لم نقل بالحكومة لقدّمت عليها أيضاً بالأظهرية ، وحينئذ فمقتضى تلك الأدلّة أنّ الموارد المحتملة التي يلزم من الاحتياط فيها حرج ، يكون الحكم الشرعي في تلك الموارد على تقدير وجوده فيها مرفوعاً ، ويكون نتيجة ذلك هو التكليف المتوسّط ، باتيان مقدار من المحتملات وترك المقدار الزائد الموجب للعسر والحرج ، الخ (١).

ولكن ما المراد بالموارد المحتملة في قوله : فمقتضى تلك الأدلّة أنّ الموارد المحتملة التي يلزم من الاحتياط فيها حرج ، يكون الحكم الشرعي في تلك الموارد على تقدير وجوده فيها مرفوعاً. فإن كان المراد بها الشبهات المتأخّرة فيما شرحناه في الشبهات التدريجية ، فهو كما عرفت لا ينتج التبعيض بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، ويكون المقام من قبيل الاضطرار إلى المعيّن.

نعم ، يتأتّى ذلك في الشبهات الدفعية ، فإنّ ما يختاره منها لرفع الحرج يجري فيه حديث نفيه ، بأن يقال : إنّ تلك الموارد التي اختارها لو كان فيها تكليف لكان حرجياً ، فيكون مرتفعاً ، وفي الحقيقة هو قبل أن يرتكب شيئاً من تلك الشبهات تكون التكاليف الواقعية كلّها حرجية في حقّه ولو بواسطة تردّدها بين تلك الأطراف الكثيرة ، وحينئذ يجوز له أن يرتكب البعض ، ولكن بعد ارتكابه ذلك البعض يعلم إجمالاً أيضاً ببقاء مقدار من التكاليف في البواقي ، لأنّ ذلك المقدار الذي ارتكبه لا يكون بمقدار معلومه الاجمالي ، بل إنّه أقلّ منه بكثير ، لأنّه لم يكن إلاّبمقدار ما يرفع به حرجه الآتي من ناحية اجتناب الجميع ، وحينئذ ذلك المقدار الباقي من التكاليف المعلومة لا مانع من كون العلم به مؤثّراً ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٣٢.

٤٢

فيلزم الاجتناب عن الباقي ، وهو معنى التبعيض.

وهذه الطريقة مختصّة بما نحن فيه من كثرة المعلوم بالاجمال وقلّة ما يندفع به الحرج ، على وجه يبقى العلم الاجمالي في البواقي بعد ما يندفع الحرج بحاله ، دون ما لو كان ذلك المقدار مساوياً لما هو المعلوم بالاجمال أو أكثر.

وهذا الفرق إنّما يظهر في نفي الحرج ، أمّا نفي الاضطرار فلا فرق فيه بين الصورتين ، بمعنى أنّه في الصورة الثانية يلزمه الاحتياط في البواقي ، لأنّ ميزان جريان حديث الاضطرار هو انطباق المعلوم بالاجمال على ذلك الذي دفع به اضطراره ، وارتكابه لا يسقط العلم الاجمالي عن التأثير في البواقي ، بخلاف حديث نفي الضرر والعسر والحرج ، فإنّه إنّما ينطبق قبل الارتكاب ، ويكون ذلك الحكم الواقعي الموجود ضررياً أو حرجياً ، فيرتفع بحديث نفي الضرر والحرج قبل ارتكاب ما يرتفع به حرجه. ثمّ بعد ارتكاب البعض الرافع لحرجه إن بقي له علم إجمالي في البواقي وجب الاجتناب عنها ، وإلاّ جاز له ارتكابها ، وتكون النتيجة فيما نحن فيه أنّ وجوب الاجتناب عن البواقي بعد ارتكاب ما ارتكبه لا قبل الارتكاب ، لأنّ التكليف الواقعي حرجي قبل الارتكاب لا بعده.

ويمكن أن تأتي هذه الطريقة في الشبهات التي يبتلى بها المكلّف تدريجاً بأن يقال : إنّ المكلّف بعد علمه الاجمالي بالتكاليف الكثيرة وانسداد باب العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقامه ، فهو يعلم فعلاً أنّ أطراف هذه الشبهات كثيرة لا تحصى ، على وجه يكون الجري فيها جميعاً على طبق الاحتياط حرجياً ، فكانت التكاليف الواقعية التي علمها بالاجمال حرجية عليه فترتفع ، ولا يتوقّف اتّصافها بالحرجية على تحقّق الاحتياط على طبقها حتّى لو كانت كلّها وجوبية ، بل إنّ تلك الوجوبات الواقعية المعلومة في البين تكون فعلاً متّصفة بالحرجية ، لأنّها فعلاً

٤٣

يكون امتثالها بطريقة الاحتياط حرجياً ، ألا ترى أنّ نفس السفر المفروض كونه واجباً وأنّه معلوم الوجوب تفصيلاً ، لو كان حرجياً لم يتوقّف اتّصاف ذلك الوجوب بالحرجية (١) على امتثاله ، بل هو فعلاً قبل السعي لامتثاله حرجي ، فيرتفع الوجوب المتعلّق به ، وحينئذ ففيما نحن فيه تكون التكاليف الواقعية المعلومة بالاجمال حرجية فعلاً ، فترتفع بدليل نفي الحرج ، فله فعلاً أن يخالف الاحتياط فيها ولو تدريجاً إلى أن يرتفع حرجه ، فيلزمه الاحتياط في الباقي لبقاء العلم الاجمالي بالتكليف بين أطرافه.

لكن هذه الطريقة غير نافعة فيما نحن فيه ، لأنّ مخالفة الاحتياط في أوائل الزمان لا توجب رفع حرجيته في الأزمنة التالية.

أمّا إقدامه من الأوّل على تقسيم هذه الشبهات الآتية تدريجاً إلى مظنونات ومشكوكات وموهومات ، وتقريره على نفسه أن يحتاط في المظنونات ويسقط الاحتياط في البواقي ، فلا وجه له على الظاهر ، لأنّ مجرّد هذا التقسيم والتقرير لا يخرج تلك التكاليف عن كونها حرجية فعلاً قبل ارتكاب ما به يرتفع الحرج.

مضافاً إلى أنّ المشكوكات والموهومات لعلّها أكثر من المعلوم الاجمالي بحيث لا يبقى علم إجمالي في المظنونات. وإن شئت فقل : إنّ ما يندفع به الحرج لعلّه مساوٍ أو أكثر من التكاليف الواقعية ، فلا يكون في البواقي علم إجمالي.

نعم ، هناك طريقة أُخرى ، وهي أن يقال : إنّ ذلك التكليف الواقعي يكون متّصفاً بالحرجية إن سلكنا الاحتياط التامّ في طريق امتثاله ، وليس بحرجي إن سلكنا هذه الطريقة في كيفية الامتثال.

وبعبارة أُخرى : أنّ تلك التكاليف الواقعية ليست بنفسها حرجية ، وإنّما

__________________

(١) [ في الأصل هنا زيادة : متوقّفاً ، حذفناها لاستقامة العبارة ].

٤٤

عرضت لها صفة الحرجية بواسطة اقتضائها ، ويختلف حينئذ مقدار اقتضائها ، فربما كانت مقتضية للاحتياط التامّ ، وربما كانت مقتضية لمقدار من الاحتياط وهي في الاقتضاء الأوّل حرجية دون الثاني ، فإن سلكنا في طريق امتثالها الاحتياط التامّ ، كانت بهذا المقدار من الاقتضاء حرجية ، لكن لو سلكنا طريقة التبعيض المذكورة لم يكن اقتضاؤها لذلك المقدار حرجياً فلا ترتفع ، ولا ريب أنّ تلك المرتبة من الاقتضاء الكلّي إنّما هي من جانب الشارع ، فيجري فيه نفي الحرج.

ولعلّ هذا هو المراد من قول شيخنا قدس‌سره : لأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها (١) ، وكذلك قوله فيما حكاه عنه السيّد سلّمه الله من قوله : بل لازم شمولها هو ارتفاع الأحكام بمقدار الحرج لا أزيد (٢).

بل لعلّه هو المراد فيما أجاب به ثانياً (٣) ممّا ظاهره إجراء نفي الحرج في الحكم العقلي بوجوب الاحتياط التامّ لكونه برعاية الواقع الشرعي ، بأن يكون مراده قدس‌سره هو إجراء نفي الحرج في نفس الأحكام الواقعية بمقدار اقتضائها الاحتياط التامّ ، لا في نفس وجوب الاحتياط عقلاً ، فتأمّل.

ولكن هذه الطرق كلّها من محض التصوّر ، وليس الواقع إلاّما لدينا من العلم الاجمالي المتعلّق بتلك التكاليف الواقعية من تحريم وإيجاب ، المردّدة بين تلك الشبهات الكثيرة التي يكون الابتلاء بها تدريجياً ، فعلى المكلّف حينئذ أن يعامل تلك الشبهات معاملة ما علم فيه التكليف تفصيلاً ، وأن يجري في كلّ شبهة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٦.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٣٥.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥٨.

٤٥

على ما يقتضيه العلم الاجمالي من الاحتياط ، ولا يقف في قبال هذا العلم الاجمالي الموجب للاحتياط إلاّ الحرج ، وهو إنّما يكون في كلّ شبهة بحالها ، فأي شبهة عرضت له ولم يكن الاحتياط فيها حرجياً عليه لزمه أن يحتاط فيها ، وأي شبهة عرضت له وكان الاحتياط فيها حرجياً عليه ولو من جهة مسبوقيته بالاحتياط في غيرها سقط الاحتياط في هذه الطارئة ، سواء كانت شبهة جديدة أو كانت من سنخ ما تقدّم ممّا كان قد احتاط فيه. ولو طرأت بعدها شبهة أُخرى واتّفق أن لم يكن الاحتياط فيها حرجياً ، لزمه العود إلى الاحتياط في تلك الشبهة ، وإن كانت من سنخ ما تقدّم ممّا لم يحتط فيه لكون طروّها السابق كان مقارناً للحرج في الاحتياط فيها ، وعلى هذا لا تصل النوبة إلى اختلال النظام ، ولا إلى التبعيض بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، من دون حاجة إلى إجراء نفي الحرج في مجموع تلك التكاليف الواقعية ، ليكون ذلك موجباً لسقوط الاحتياط في جميع الأطراف ، ولا إلى إجرائه في نفس الاحتياط العقلي الآتي من ناحية العلم الاجمالي ، ليرد عليه أنّه لا يحكم عليه نفي العسر والحرج.

كما أنّه بناءً على ذلك لا تصل النوبة إلى دعوى الكشف ، بمعنى استكشاف حجّية الظنّ شرعاً ، بل ولا إلى الحكومة بمعنى حكم العقل بحجّية الظنّ عقلاً ، ولو من باب أنّ الاطاعة الظنّية مقدّمة على الاطاعة الشكّية أو الوهمية ، بل قد عرفت أنّه بناءً عليه لا تصل النوبة إلى تبعيض الاحتياط بحسب الظنّ والشكّ والوهم ، كي يتخيّل أنّ ذلك ـ أعني تقديم الاحتمالات الظنّية على غيرها ـ من باب تقديم الاطاعة الظنّية على غيرها ، كي يدّعى كون ذلك من باب حكومة العقل بحجّية الظنّ عقلاً.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه من لزوم الجري على طبق العلم الاجمالي بالنحو

٤٦

الذي شرحناه من التبعيض التدريجي ، لا يضرّه دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال ، ولو بمعنى قيام الإجماع على عدم الترخيص في مخالفة تلك التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال بإعمال البراءة الشرعية ، أو كون ذلك من قبيل الخروج عن الدين ، فإنّا لو سلكنا في تلك التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال ذلك المسلك الذي سلكناه من التبعيض التدريجي ، لم نكن مخالفين لذلك الإجماع ، ولا ارتكبنا ما هو مخالف لضرورة الدين كما هو واضح لا يخفى.

والخلاصة : هي أنّ حاصل دليل الانسداد قياس استثنائي ، أعني أنّه في صورة القياس الاستثنائي ، إذ لو كان حقيقة من القياس الاستثنائي ، لكان استثناء التالي وهو وجوب الاحتياط موجباً لسقوط المقدّم ، وهو انسداد باب العلم والعلمي ، وليس غرضنا من تسميته قياساً استثنائياً إلاّتقريب المطلب إلى الذهن باختصار المقدّمات التي ذكرت لدليل الانسداد. وحاصل المطلب : هو أنّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي ، ومقتضاه أوّلاً هو وجوب الاحتياط ، لكن لا يمكننا الالتزام بالاحتياط التامّ ، فلابدّ من الالتزام بشيء آخر هو تبعيض الاحتياط ، أو استكشاف حجّية الظنّ شرعاً ، فتسامحنا وسمّينا هذا التقريب قياساً استثنائياً ، وقلنا إنّه لو انسدّ علينا باب العلم والعلمي لوجب علينا الاحتياط في جميع الاحتمالات ، لكن الاحتياط المذكور ليس بواجب ، فلابدّ من التبعيض أو سقوط الاحتياط بالمرّة وإيجاب الشارع علينا العمل بالظنّ.

ومرجع المقدّمة الأُولى إلى إثبات المقدّم ، ومرجع المقدّمة الثانية إلى إثبات التالي ، وهو وجوب الاحتياط التامّ ببرهان العلم الاجمالي ، أو الإجماع على عدم الاهمال ، أو أنّه ـ أعني الاهمال ـ موجب للخروج عن الدين.

ومرجع المقدّمة الثالثة إلى إثبات المستثنى ، أعني إثبات كون الاحتياط

٤٧

المذكور غير واجب بالإجماع على عدم الاحتياط بأحد تقريبي الإجماع ، اللذين يكون مفاد الأوّل منهما عدم وجوب الاحتياط التامّ ، والثاني منهما إلى عدم جوازه منعاً للاطاعة الاحتمالية ، أو بأنّ الاحتياط التامّ موجب لاختلال النظام أو العسر والحرج.

ومرجع المقدّمة الرابعة إلى إثبات نتيجة ذلك القياس الاستثنائي ، إمّا بتبعيض الاحتياط ، أو باستكشاف جعل الظنّ حجّة شرعية ، ونحن إذا منعنا حجّية الإجماع على عدم الإهمال ، ومنعنا من الاكتفاء بكونه موجباً للخروج من الدين ، وقلنا إنّه ليس في البين إلاّ العلم الاجمالي ، وكذلك منعنا من حجّية الإجماع على عدم الاحتياط بكلا وجهيه ، وحصرنا الدليل في المقدّمة الثالثة على عدم الاحتياط بكونه موجباً لاختلال النظام أو للعسر والحرج ، وقلنا إنّ الدرجة الأُولى في إسقاط الاحتياط هي العسر والحرج ، تكون النتيجة هي تبعيض الاحتياط ، فلاحظ وتدبّر.

أمّا الوجه في منع الإجماع على عدم الإهمال ، فلأنّه ليس هناك تحرير للمسألة كي يقال إنّهم أجمعوا على ذلك ، خصوصاً بعد البناء على كون مدرك الإجماع هو الكشف عن الأخذ من المعصوم. مضافاً إلى أنّه ليس المنع من الاهمال إلاّ إرشاداً عقلياً واقعاً في مقام الاطاعة ، فلا يكون هذا الحكم العقلي إلاّ ناشئاً عن ذلك العلم الاجمالي. ولوسلّمنا أنّ العلم الاجمالي لا ينجّز لم يكن الحكم بعدم الاهمال شرعياً ، بل لا يخرج عن كونه بحكم العقل الناشئ عن لزوم اتّباع الشريعة والمنع عن إهمالها ، وحينئذ فلا يدخله الإجماع ولا يكون حكماً شرعياً.

ومن ذلك تعرف الحال في الدليل الثاني ، أعني لزوم الخروج من الدين ، إذ

٤٨

لا ينبغي الريب في أنّ المنع من الخروج من الدين ليس من الأحكام الشرعية ، بل هو من الأحكام العقلية راجع إلى لزوم الطاعة والانقياد والخضوع للقوانين الشرعية ، والمنع من الاسترسال وإطلاق العنان وعدم التقيّد بالقوانين الشرعية. وعلى كلّ حال أنّه حكم عقلي واقع في مقام الاطاعة والالزام بالامتثال ، فلا يكون حاله إلاّكحال ما يقتضيه تنجيز العلم الاجمالي ، فلو قلنا إنّ هذا الحكم العقلي قاض بالاحتياط فلا يكون الاحتياط فيه إلاّحكماً عقلياً ، ولا يقف في قبال هذا الحكم العقلي إلاّ اختلال النظام أو العسر والحرج. أمّا الإجماع بالمعنى الأوّل أعني عدم لزوم الاحتياط التامّ ، فأين هذه الفتوى وأين إجماعهم عليها ، ولو سلّم فلا أخاله إلاّناشئاً عن اختلال النظام أو عن العسر والحرج. وكذلك الحال في الإجماع على أنّ الشارع لا يريد الامتثال الاحتمالي.

وإن كان المراد به هو أنّه لابدّ من إحراز للأمر ، فإن أخرجناه عن حيّز القول بنيّة الوجه أو القول بلزوم الاطاعة الجزمية ، لم يكن له معنى محصّل ، إلاّ أنّ الشارع يريد من عباده التعبّد بقوانين الشريعة ، وأنّ السعي وراء الاحتمال ليس بتعبّد بها ، وهذا أمر لعلّه يمكننا المساعدة عليه في الجملة ، لكنّه إنّما يكون غير مرضي إذا جرى عليه جميع أهل الشريعة ، دون ما لو جرى عليه بعض الآحاد منهم ، مع كون الشريعة قائمة بأهلها. على أنّه لو كان بالنسبة إلى الجميع لم يكن المنع عنه إلاّبحكم العقل ، لأنّ العقل لا يرى العامل بالاحتياط آخذاً بقوانين الشريعة. على أنّه لو كان شرعياً فأين هذا الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام ، ومن حرّر هذه المسألة كي ندّعي أنّهم أخذوها من المعصوم عليه‌السلام.

ولعمري إنّ هذه الإجماعات أردأ من دعوى إجماعهم على الحكم استناداً

٤٩

إلى إجماعهم على حجّية الخبر الدالّ عليه بزعم الحاكم. وفي الحقيقة أنّ هذه الاجماعات من قبيل دعوى أنّ المطلب الفلاني يحكم به العرف ، أو يحكم به العقلاء ، أو يحكم به العقل ، في حين أنّ المدّعي لم يسأل العرف ولا العقلاء ، ولا أنّ العقل له قوانين مسجّلة وهذا من جملتها ، بل ليس في البين إلاّ أنّ المدّعي يحكم بذلك بما أنّه أحد أهل العرف أو أحد العقلاء فينسبه إلى العرف أو إلى العقلاء أو إلى العقل ، وفي الحقيقة لا يكون في البين إلاّحكم عقل الناقل ، وكان الأحرى أن يقول إنّ ذوقي أو عقلي يحكم بذلك.

ثم لو أغضينا النظر عن ذلك كلّه ، فلماذا يتعيّن الظنّ المطلق للحجّية المستكشفة ، ولماذا لا نقول إنّ ذلك كاشف عن جعله خبر الواحد حجّة.

ثمّ إنّ أصل هذا الكشف قابل للمنع ، ولماذا هذا الاستكشاف ، ولِمَ لا نقول إنّ الشارع قد بلّغ الأحكام وفتح باب العلم والعلمي للمكلّفين ، وقل إنّه شرط عليهم في الامتثال أن لا يكون بطريق الاحتمال ، ولكنّهم قد ضيّعوا على أنفسهم وسدّوا على أنفسهم باب العلم والعلمي ، أو أنّ بعضهم كان السبب في ذلك التضييع فانحرم الجميع من القوانين الشرعية ، وليس ذلك بغريب ، فإنّا نلتزم بمثل ذلك في الإمام عليه‌السلام بالنسبة إلى من لم يقل بإمامته ولم يكن عمله بدلالته ، بل بالنسبة إلينا القائلين بإمامته فيما حرمناه من الأحكام الباقية عنده المكتومة لديه ، وكلّ ذلك في عنق من منعه من التصرّف.

وحينئذ لا يكون في البين إلاّ العلم الاجمالي ، وطبعه الأوّلي الاحتياط التامّ ، إلاّ أنّه بالتمام ساقط للعسر والحرج قبل الوصول في العمل به إلى حدّ اختلال النظام ، وتكون النتيجة هي التبعيض في المحتملات على الاطلاق ، فيحتاط حتّى

٥٠

تصل النوبة إلى العسر والحرج كما هو مقتضى تدريجية الابتلاء ، ولا تصل النوبة إلى الاحتياط في خصوص المظنونات ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه قبل الابتلاء لمّا كان عالماً بأنّه لا يسعه الاحتياط في الجميع ، وأنّه لابدّ له من إسقاطه في بعض المحتملات ، فيعيّن ما عدا المظنونات لذلك السقوط. لكنّه موقوف على علمه بأنّه فيما يأتي يحصل له الظنّ فيؤخّر احتياطه إليه ، ويجري على عدم الاحتياط فيما يبتلى به فعلاً من الاحتمالات غير الظنّية.

قوله : بقي التنبيه على أُمور ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وقبل الشروع في هذه التنبيهات نقول : إنّه كان الأنسب تأخير التنبيه الأوّل عن التنبيه الثاني لتوقّفه عليه ، حيث إنّ الكلام في هذا التنبيه يتوقّف على كون مقدّمات الانسداد جارية في كلّ مسألة مسألة ، لتكون النتيجة كلّية ، أو أنّها إنّما تجري في مجموع التكاليف لتكون النتيجة مهملة ، ومن الواضح أنّ النتيجة مهملة أو كلّية إنّما ينقّح في التنبيه الثاني ، وجريان مقدّمات الانسداد في خصوص العلم الاجمالي بجعل الطرق ، الذي هو مبنى الكلام في التنبيه الأوّل كما سيتّضح إن شاء الله تعالى ، عبارة أُخرى عن دعوى جريان المقدّمات في خصوص المسائل الأُصولية دون مجموع التكاليف الواقعية ، وذلك إنّما يتنقّح في التنبيه الثاني. وكيف كان ، فنحن نحرّر هذه التنبيهات على وفق ما حرّره الشيخ وإن كان فيه عكس الترتيب ، انتهى.

وقد أشار السيّد سلّمه الله إلى ذلك في تحريراته فراجعه (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٤.

٥١

قوله : وليس غرضه تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤدّيات الطرق أو صرفها إليها ، فإنّ ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق بصاحب الفصول الالتزام به ، فلابدّ وأن يكون مراده من التكليف بالعمل بمؤدّى الطرق هو العمل بالأحكام الواقعية التي تؤدّي إليها الطرق بحسب دليل الحجّية وجعلها محرزة لها ... الخ (١).

هذا تعريض بما في الكفاية ، حيث إنّه قدس‌سره يظهر منه أنّه حمل كلام صاحب الفصول على ذلك ، فقال في بعض كلماته : فإنّ الالتزام به ( يعني الصرف والتقييد ) بعيد ، إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً فلا أقل من كونه مجمعاً على بطلانه ـ إلى قوله ـ ومن هنا انقدح أنّ التقييد أيضاً غير سديد ، إلى آخر كلامه قدس‌سره (٢).

لكن يمكن التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره في تأويل كلام الفصول ، فإنّه ربما كان ظاهراً أو صريحاً في التقييد ، خصوصاً كلماته الأخيرة التي نقلها عنه الشيخ قدس‌سره (٣) بعد الفراغ عن الإيرادات الخمسة ، فراجع.

وإن شئت فراجع كلمات الفصول في الجواب عن الإشكال الثاني الراجع إلى التسوية بين الظنّ بالواقع والظنّ بالطريق ، خصوصاً قوله : إذ قضية هذا العلم الاجمالي علمنا بأنّا مكلّفون بالأحكام بشرط مساعدة تلك الطرق عليها ، فلا يجدي الظنّ الناشئ منها بالحكم ما لم يظنّ الطريق ، إذ التقدير بقاء التكليف

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٢.

(٢) كفاية الأُصول : ٣١٨.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٤٤٧.

٥٢

بالعمل به ، بل اللازم حينئذ تحصيل الظنّ بالطريق خاصّة الخ (١) إلاّ أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره في حاشيته على الرسائل على قول الشيخ قدس‌سره : وكأنّ المستدلّ توهّم أنّ مجرّد نصب الطريق الخ (٢) يظهر منه إنكار كون صاحب الفصول قائلاً بالصرف ، فراجع (٣). وعلى كلّ حال ، فسيأتي إن شاء الله تعالى عن شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير ما لعلّه منافٍ لما حكي عنه هنا ، وذلك قوله : وكأنّ منشأ تخيّل المحقّق صاحب المقالة الخ (٤) ، فراجعه.

قوله : ولا يخفى أنّه على ما وجّهنا به كلامه يندفع غالب ما أورد عليه الشيخ قدس‌سره (٥) بقوله : وفيه أوّلاً : إمكان منع نصب الشارع طرقاً خاصّة للأحكام الواقعية وافية بها ، وإلاّ لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار ... الخ (٦).

لا يخفى أنّ نصب الطرق الخاصّة إلى الأحكام كجعل الأحكام ، فكما أنّ عدم العلم التفصيلي بها لا يدلّ على عدمها في الواقع ، فكذلك عدم وصول الطريق تفصيلاً لا يدلّ على عدمه في الواقع ، وإلاّ فكيف ادّعينا الانفتاح ، إذ لا فرق بين دعوى الانفتاح وهذه الدعوى ، فإن كلاً منهما راجع إلى دعوى العلم بالطرق المنصوبة ، غايته أنّ مدّعي الانفتاح يدّعي العلم بها تفصيلاً ، وأنّ الانفتاح إنّما

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢٧٩.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٤٤٧.

(٣) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٨٩.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ٢٩٢.

(٥) فرائد الأُصول ١ : ٤٣٩.

(٦) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٣.

٥٣

حصل بواسطة العلم التفصيلي بتلك الطرق ، بحيث إنّه لولا ذلك العلم التفصيلي بجعل تلك الطرق ، لكان باب العلم بالأحكام منسدّاً. وهذه الدعوى مبنية على دعوى العلم الاجمالي بها ، ولو من جهة القطع بأنّ الشارع المقدّس بعد أن جعل لنا أحكاماً ، لابدّ أن يكون قد جعل لنا طرقاً موصلة لنا إلى تلك الأحكام ، وأنّه لا يحسن منه إيكال الوصول إلى تلك الأحكام إلى الاحتياط العقلي الناشئ عن العلم الاجمالي بها ، خصوصاً بناءً على عدم كون العلم الاجمالي منجّزاً.

وبالجملة : أنّ إنكار جعل الطرق مع فرض جعل الأحكام ممّا لا سبيل إليه. نعم ، لو كان إنكار جعل الطرق ناظراً إلى خصوص حال الانسداد ، الذي هو عبارة عن انسداد باب العلم التفصيلي وما يقوم مقامه من الطرق الخاصّة ، لكان له وجه ، لكن صاحب الفصول لا يدّعي الجعل في حال الانسداد المذكور ، على وجه يقول إنّ الشارع قد جعل لنا طرقاً مخصوصة في حال انسداد باب العلم بما جعله من الأحكام ، وبما جعله لنا من الطرق إليها ، بل إنّه إنّما يقول : إنّ الشارع كما جعل لنا أحكاماً فقد جعل لنا طرقاً إليها ، وكما أنّ باب العلم بتلك الأحكام قد انسدّ علينا فكذلك باب العلم التفصيلي بتلك الطرق قد انسدّ علينا. بل لو كان صاحب الفصول ناظراً إلى حال الانسداد ، لم يرد عليه أنّه لو كان لبان ، لجواز اختفاء تلك الطرق علينا ، بحيث إنّه لم يحصل لنا العلم بها تفصيلاً ، كما أنّ أصل الأحكام كذلك. نعم يرد عليه أنّ دعوى القطع بجعل الطرق في ذلك الحال لا مستند لها.

نعم ، يرد على صاحب الفصول ، أنّ جعل الأحكام وإن كان ملازماً لجعل الطرق إليها ، إلاّ أنّ تلك الطرق لا تنحصر في الطرق التأسيسية ، بل يكفي في ذلك الطرق الامضائية ، بمعنى أنّه يوكلنا إلى ما جرت به الطريقة العقلائية من الطرق التي يسلكونها في أُمورهم العادية ، ومن جملتها أخبار الآحاد. ولعلّ الشيخ قدس‌سره في

٥٤

إيراده ناظر إلى هذه الجهة ، وحاصله : أنّه لو انحصرت الطرق بالطرق التأسيسية لكان جعل الأحكام ملازماً لجعلها ، ولا يرد عليه حينئذ أنّه لو كان لظهر وبان ، لجواز اختفاء تلك الطرق الخاصّة علينا ، بحيث إنّه لم يحصل العلم التفصيلي بها كما ادّعاه الأُستاذ قدس‌سره واستنتجه من دعوى الإجماع على عدم جواز الاهمال ودعوى الإجماع على عدم جواز الاحتياط ، لكن الطرق التي يكون جعلها لازماً لجعل الأحكام لا تنحصر بالطرق التأسيسية ، بل يكفي الطرق الامضائية ، بمعنى أنّ الشارع يكون قد أوكلنا إلى الطرق العقلائية ، ويكون ذلك الايكال عبارة أُخرى عن إمضاء تلك الطرق العقلائية.

ولا يخفى أنّ هذه الطرق العقلائية لم يكن العلم بها منسدّاً علينا كي تصل النوبة إلى تعيينها بالظنّ ، لتكون النتيجة هي حجّية الظنّ بالطريق ، بل تكون نتيجة هذه الطريقة هي انفتاح باب العلم بالأحكام بواسطة الطرق العقلائية ، التي منها خبر الواحد ونحوه من الأمارات العقلائية ، التي ثبت امضاؤها بواسطة أنّ الشارع أوكلنا إليها في الايصال إلى أحكامه ، ولعلّ هذا هو مراد الشيخ قدس‌سره من الايراد أوّلاً ، وإن لم يكن تعبيره صريحاً فيه.

ومنه يظهر لك أنّا لو تكلّفنا في عبارة الفصول كما تكلّفه شيخنا قدس‌سره ، وحملنا الطرق التي ادّعى العلم الاجمالي بجعلها على الأعمّ من الطرق العقلائية الامضائية لكان ذلك ناقضاً لغرضه من استنتاج حجّية الظنّ بالطريق ، بل كان موجباً للعلم التفصيلي بالطريق ، وحينئذ لا يصلحه ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : بمعنى أنّه يعلم إجمالاً إمضاء بعض الطرق العقلائية الوافي بالأحكام الشرعية ، وقد خفي علينا ما أمضاه وانسدّ باب العلم به الخ (١) فإنّ صاحب الفصول قدس‌سره ليس عنده إلاّمجرّد أنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٣.

٥٥

جعل الأحكام ملازم لجعل الطرق ، فإذا حملنا الطرق على الطرق العقلائية ، وكان إيكال الشارع المكلّفين إلى تلك الطرق إمضاءً لها ، كانت جميع تلك الطرق العقلائية حججاً شرعية وطرقاً إمضائية ، إلاّما أخرجه دليل الردع من القياس والاستحسان ونحوه ممّا قد ثبت الردع عنه ، ولا ريب أنّ تلك [ الطرق ] العقلائية معلومة بالتفصيل ، فلا وجه لدعوى كون الممضى من تلك الطرق العقلائية هو بعضها ، فإنّ إيكال الشارع المكلّفين إلى بعض تلك الطرق لا يكون نافعاً في الملازمة بين جعل الأحكام وبين جعل الطرق إليها ، إذ كما يقبح من الشارع أن يجعل الأحكام ولا يجعل لنا طرقاً موصلة إليها ، فكذلك يقبح منه إيكالنا إلى بعض تلك الطرق العقلائية من دون أن يعيّنه لنا.

وأمّا قوله بعد هذه العبارة : بل قد تقدّم سابقاً أنّه لا يحتاج إلى الامضاء ، ويكفي عدم الردع عمّا بيد العقلاء من الطرق الخ (١) فلعلّه مناقض للعبارة السابقة ، فإنّ هذه العبارة الثانية إنّما تقال بعد فرض كون الذي أوكلنا إليه هو مطلق تلك الطرق العقلائية. والحاصل أنّ الجعل الامضائي بالنسبة إلى جميع الطرق العقلائية يوجب العلم التفصيلي بحجّيتها. مضافاً إلى أنّه يرد عليه ما أفاده الشيخ من أنّه لو كان لبان ، كما أنّه يرد إشكال الشيخ فيما لو كان الممضى هو البعض من تلك الطرق. أمّا الاكتفاء بعدم الردع فهو ـ أعني الاكتفاء بعدم الردع ـ يوجب حجّية الجميع لتساويها في عدم الردع.

وأمّا قوله في ذيل هذه العبارة : نعم لو كان مراده ما هو ظاهر كلامه من اختراع الشارع وتأسيسه طرقاً مخصوصة ، كان للمنع عن ذلك مجال واسع ، بل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٣.

٥٦

كان ينبغي القطع بعدمه ، لأنّ عدم نقلها كاشف قطعي على العدم الخ (١) فقد عرفت الإشكال فيه ، وأنّه لو كان مراد صاحب الفصول هو خصوص الطرق التأسيسية لم يرد عليه سوى منع القطع بذلك ، لجواز الايكال إلى الطرق العقلائية. أمّا دعوى القطع بعدمه ببرهان عدم النقل فهو غير وارد ، لما عرفت من أنّ عدم النقل لا يكشف عن العدم ، لجواز اختفاء ما جعله الشارع تأسيساً كاختفاء نفس الأحكام ، فراجع.

ومن ذلك كلّه ينقدح لنا مطلب آخر شرحناه في حاشية ص ٦٩ وهو أنّ صاحب الفصول ليس عنده إلاّ الملازمة بين جعل الأحكام وجعل الطرق ، فلا ينتج من ذلك إلاّ أنّ الشارع قد جعل لنا طرقاً إلى تلك الأحكام ، ولكن لو تحقّق عندنا أنّه لم يجعل لنا طرقاً تأسيسية ، لثبت ما ذكرناه من أنّ نتيجة ذلك هو الايكال إلى الطرق العقلائية ، وهو عبارة عن إمضائها ، أمّا إذا احتملنا أنّ الطرق التي جعلها هي طرق تأسيسية ، ولم يعتن بأنّ عدم النقل كاشف قطعي عن عدم الجعل التأسيسي ، لم يكن لنا مندوحة عمّا ذكره صاحب الفصول من العلم الاجمالي بجعل الطرق أعمّ من أن تكون تأسيسية أو إمضائية ، فلا يبقى إلاّ أصالة عدم الجعل التأسيسي ، وهي غير نافعة في إحراز الايكال إلى الطرق العقلائية ، فراجع ما شرحناه في حاشية ص ٦٩ (٢) وتأمّل.

واعلم أنّ شيخنا قدس‌سره في الدورة الأخيرة قد اقتصر في الإشكال على ما أفاده

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٤.

(٢) وهي الحاشية على فوائد الأُصول ٣ : ١٩٣ وقد تقدّمت في المجلّد السادس من هذا الكتاب ص ٤٥٤ وما بعدها.

٥٧

الشيخ قدس‌سره من الاعتراض أوّلاً على صاحب الفصول ، على مجرّد قوله فيما حرّرته عنه قدس‌سره : أمّا الإشكال الأوّل ، فلأنّ جعل الحجّية لو كان تأسيسياً لكان ثبوته متوقّفاً على ما ذكره من النقل ، وأمّا لو كان إمضاء لما جرت عليه الطريقة العقلائية فلا يتوقّف على ذلك ، انتهى.

وقال السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه : وأمّا إذا كان غرضه ( يعني صاحب الفصول ) دعوى القطع بوجوب الرجوع في امتثال الأحكام إلى طرق مخصوصة ، وإن كانت حجّية تلك الطرق إمضائية من الشارع ولم تكن مجعولة له ابتداء ، فدون إثبات المنع من تلك الدعوى خرط القتاد (١).

ولا يخفى أنّه قدس‌سره لم يتعرّض لـ : ماذا تكون النتيجة لو كان مراد صاحب الفصول هو خصوص الطرق العقلائية أو كان مراده هو الأعمّ منها ومن الطرق التأسيسية ، وقد عرفت التفصيل في ذلك ، فتأمّل.

قوله : وكذا لا يرد عليه ( يعني على صاحب الفصول ) ما ذكره ( الشيخ قدس‌سره ) بقوله : وثانياً سلّمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ـ إلى قوله ـ فإنّ المدّعى هو أنّ الشارع ـ إلى قوله ـ فلابدّ من أن يكون الطريق المنصوب غير الخبر المفيد للاطمئنان وقد انسدّ باب العلم به علينا ... الخ (٢).

حاصل ما دفع به قدس‌سره إشكال الشيخ قدس‌سره على صاحب الفصول هو منع كفاية ذلك الطريق في معظم الفقه حتّى في ذلك العصر السابق ، وحينئذ لابدّ أن يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٦.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٤.

٥٨

الطريق الذي يدّعي صاحب الفصول نصبه هو غير الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد انسدّ علينا باب العلم به.

قلت : ويمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ الخبر المفيد للوثوق التامّ كثير في ذلك العصر ، لما ذكرناه من توفّر أسباب الوثوق في ذلك العصر بخلاف عصرنا ، وحينئذ يكون ما أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : ثانياً ، متّجهاً على صاحب الفصول ، لعدم بقاء ذلك الطريق إلى عصرنا.

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال الشيخ قدس‌سره بأنّ الشارع الحكيم المطّلع على ما سيأتي من الأعصر المتأخّرة عن عصر أوليائه ( صلوات الله عليهم أجمعين ) لابدّ أن يجعل لهم ما يكون كافياً بمعظم الفقه ، ويكون ذلك الكافي واصلاً إليهم ولو بواسطة العلم الاجمالي به في ضمن طرق متعدّدة ، هذا ما يتعلّق بهذا التحرير.

ولكن الذي أفاده قدس‌سره في الدورة الأخيرة في مقام الجواب عن إشكال الشيخ قدس‌سره هو المنع من عدم البقاء بعد البناء على أنّ المجعول هو الطرق العقلائية ، فقد قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : فإنّ ذلك إنّما يتوجّه على الحجّة التأسيسية دون الامضائية ، حيث إنّ بقاءها إلى الآن بمكان من الامكان ، ومدّعي العلم الاجمالي به غير مجازف ، انتهى. وبنحو ذلك صرّح السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه قدس‌سره ، وذلك قوله : وأمّا ما أفاده ثانياً من عدم العلم ببقاء تلك الطرق ـ إلى قوله ـ لكنّها أجنبية عن دعوى صاحب الفصول ، الخ (١)

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٥٩

قلت : قد عرفت فيما تقدّم (١) أنّه لو كانت تلك الطرق هي الطرق العقلائية وقد جعلها الشارع إمضاءً لا تأسيساً ، لكان بقاؤها إلى زماننا كما هو المفروض موجباً لانحلال العلم الاجمالي الكبير ، ولا وجه لما حرّرته عنه بقولي : ومدّعي العلم الاجمالي به غير مجازف ، وذلك لأنّ العلم بحجّية تلك الطرق يكون تفصيلياً لا إجمالياً ، ومعه لا يتمّ لصاحب الفصول ما أراده من إثبات حجّية الظنّ بالطريق. نعم لو كان الممضى هو بعض تلك الطرق ولم يعيّنه لنا الشارع ، لكان من قبيل العلم الاجمالي ، لكنّك قد عرفت أنّ الايكال إلى بعض تلك الطرق من دون تعيينه أسوأ حالاً من عدم جعل الطرق ، الذي قلنا إنّه لا يجتمع مع جعل الأحكام ، إلاّ أن يدّعي صاحب الفصول أنّ ذلك الطريق العقلائي قد عيّنه الشارع ، إلاّ أنّ ذلك التعيين لم يصل إلينا ، وحينئذ يكون عدم وصول التعيين إلينا محقّقاً للعلم الاجمالي في حقّنا.

وحينئذ لا يمكن الجواب عنه إلاّبدعوى القطع بعدم التعيين ، وإلاّ فإنّ أصالة عدم التعيين لا تثبت أنّ الذي أوكلنا الشارع إليه هو مطلق الطرق العقلائية وحينئذ يكون احتمال التعيين كافياً في تحقّق العلم الاجمالي ، فتأمّل

قوله : إذ فيه أنّ ما هو المتيقّن في النصب من هذه الطرق هو ما ذكره بقوله وثانياً ، وهو الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد عرفت أنّه قليل لا يفي بالأحكام الشرعية ، والطرق الأُخر ليس فيها ما هو متيقّن الاعتبار ، بل احتمال النصب في كلّ واحد منها على حدّ سواء ... الخ (٢).

يمكن التأمّل فيه بما عرفت في الايراد الثاني.

__________________

(١) في الحاشية السابقة.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٨٤.

٦٠