أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

اجتنب ترك الصيام بخصوصه كما أنّه قد اجتنب الجمع بين ترك الصيام وترك الاطعام ، فيكون ذلك من قبيل ما لو علم بتحقّق رضاع هند معه فتكون أُخته من الرضاعة ، أو تحقّق رضاعها مع عاتكة فتكون أُختاً لعاتكة من الرضاعة ، وحينئذ هو يعلم إمّا بحرمة هند عليه ذاتاً ، وإمّا بحرمة الجمع بينها وبين عاتكة في الزوجية له ، فهو وإن علم بأنّه لو تزوّجهما معاً فقد وقع في الحرام إمّا الذاتي وإمّا الجمعي ، وإن تزوّج هنداً وحدها يحتمل أنّه وقع في الحرام الذاتي ، لكنّه لا يمكنه الرجوع في ذلك إلى البراءة ، لكون الحرمة الذاتية قد وقعت في ذلك العلم الاجمالي طرفاً للحرمة الجمعية وهما متبائنان ، لا من قبيل الأقل والأكثر ، وهو باجتنابه تزوّج هند يكون قد اجتنب كلا طرفي العلم الاجمالي ، لأنّه بذلك قد اجتنب تزوّج هند ، كما أنّه قد اجتنب بذلك الجمع بين تزوّجها وتزوّج عاتكة ولو تزوّج عاتكة وحدها.

لا يقال : لو تمّ هذا العلم الاجمالي لجرى في مسألة الأقل والأكثر ، فإنّ المكلّف يعلم بأنّه قد حرم عليه إمّا خصوص ترك الصلاة المشتملة على الاستعاذة أو على التعمّم ، أو أنّ الحرام عليه هو الجمع بين ترك هذا النحو من الصلاة وترك الفاقد لهذه الخصوصية ، إذ الواجب لو كان هو الأكثر لكان المحرّم عليه هو ترك خصوصه ، ولو كان الواجب هو القدر الجامع بين الأقل والأكثر لكان الحرام عليه هو الجمع بين ترك الأكثر وترك الأقل.

لأنّا نقول : نعم ولكن جريان البراءة في وجوب الاستعاذة أو وجوب التعمّم يوجب انحلال العلم الاجمالي المذكور ، فإنّها تحكم بعدم حرمة ترك تلك الصلاة الخاصّة المشتملة على الاستعاذة أو التعمّم ، فلم يبق إلاّحرمة الجمع بين تركها وترك الطرف الآخر أعني الصلاة الفاقدة لذلك القيد.

لا يقال : إذا أجرينا البراءة في حرمة ترك الصيام المقرون بوجود الاطعام ،

٣٠١

انحلّ أيضاً العلم الاجمالي المردّد بين كون الحرام هو ترك خصوص الصيام وبين كون الحرام هو الجمع بين تركه وترك الاطعام.

لأنّا نقول : هذه البراءة لا تجري في هذا المقام وإن جرت في المقام الأوّل ، لأنّ مجراها في المقام الأوّل هو نفس وجوب الاستعاذة أو التعمّم ، وهذا المجرى خارج عن طرفي العلم الاجمالي ، فلا مانع من جريانها فيه ، وهو موجب لانحلال العلم الاجمالي ، بخلاف المقام الثاني فإنّ مجراها فيه هو حرمة ترك الصيام بخصوصه عند وجود الاطعام ، وذلك بنفسه طرف للعلم الاجمالي المردّد بين كون المحرّم هو ترك الصيام بخصوصه أو الجمع بينه وبين ترك الاطعام ، فلا يمكن جريانها فيه لكونه بنفسه طرفاً للعلم الاجمالي. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إجراء البراءة في الوجوب الوارد على الاستعاذة مرجعه إلى إجراء البراءة في حرمة ترك الصلاة المشتملة على الاستعاذة عند الاتيان بالصلاة الفاقدة للاستعاذة.

والتحقيق هو أن يقال : إنّ هذا العلم الاجمالي من قبيل العلم الاجمالي المردّد بين طرفين يكون الجري على طبق أحدهما محصّلاً للموافقة القطعية ومخالفة الطرف الآخر محصّلاً للمخالفة القطعية ، فإنّ العلم المردّد بين تحريم ذات هند وتحريم الجمع بينها وبين عاتكة مع فرض عدم الحرمة الذاتية لكلّ منهما ، يكون الجري على الأوّل موجباً للموافقة القطعية ، ومخالفة الطرف الثاني محصّلاً للمخالفة القطعية. وهكذا الحال في الوجوب المردّد بين الخاص والعام ، فإنّ الجري على طبق الأوّل وهو الاتيان بالخاص يكون محصّلاً للموافقة القطعية ، ومخالفة الطرف الثاني أعني ترك العام يكون محصّلاً للمخالفة القطعية. وهكذا الحال في الوجوب المردّد بين الأكثر والأقل ، فإنّ الاتيان بالأكثر يوجب الموافقة القطعية ، ومخالفة الثاني يعني ترك الأقل محصّل للمخالفة القطعية. وهكذا الحال

٣٠٢

في الوجوب الوارد على الصيام المردّد بين كونه تعيينياً وكونه تخييرياً بينه وبين الاطعام ، فإنّ الاتيان بالصيام يكون محصّلاً للموافقة القطعية ، وترك الثاني بترك كلا الأمرين محصّل للمخالفة القطعية.

فالظاهر أنّ المتنجّز من هذا العلم هو الطرف الثاني دون الطرف الأوّل ، حيث إنّ الطرف الثاني لمّا لم يمكن فيه إجراء البراءة لما عرفت من أنّها موجبة للمخالفة القطعية ، بقي الطرف الأوّل مجرى للبراءة بلا معارض. ففي مثال الرضاع لا يجوز له الجمع بينهما لكونه موجباً للوقوع في الحرام ، إمّا من جهة ذات هند وإمّا من جهة الجمع بينهما ، وحينئذ لا يمكن جريان البراءة في هذا الطرف أعني حرمة الجمع ، لكن لا مانع من تزوّجه بهند وحدها ، لجريان البراءة فيه بلا معارض.

وينبغي أن يكون الأمر كذلك في البواقي ، فلا يجوز ترك العام ، لكن لا مانع من ترك الخاص لجريان البراءة فيه بلا معارض لها من ناحية وجوب العام. ولا يجوز له ترك الأقل ، لكن لا مانع من ترك الأكثر. ولا يجوز له ترك العدلين ، لكن لا مانع من تركه الصيام. إلاّ أن يكون في البين أصالة الاشتغال فيلزمه حينئذ الاتيان بالخاصّ والاتيان بالصيام ، وفي خصوص مسألة الأقل والأكثر لمّا كانت البراءة جارية في الزائد على الأقل ، كانت حاكمة على أصالة الاشتغال القاضية بلزوم الاتيان بالأكثر.

قال سيّدنا الأُستاذ المرحوم السيّد أبو الحسن قدس‌سره فيما حرّرته عنه في مباحث الأقل والأكثر الارتباطيين ما هذا لفظ ما حرّرته عنه :

لا يخفى أنّه يمكن أن يوجّه الرجوع إلى البراءة في الشكّ بين العام والخاصّ ، بأن يقال إنّه حيث قد تقرّر فيما تقدّم أنّ العلم الاجمالي علّة تامّة لعدم

٣٠٣

جواز المخالفة القطعية ، فالأصل لا يمكن إجراؤه في طرف الأعمّ ، لاستلزامه المخالفة القطعية ، حيث إنّه موجب لجواز ترك العام بجميع أفراده ، وذلك عبارة أُخرى عن ترك ما علم وجوبه إجمالاً ، وحينئذ فيبقى الأصل في طرف الخاصّ بلا معارض ، فلا مانع من إجرائه فيه ، حيث إنّه إنّما لا يجري فيه لمعارضته مع الأصل في طرف العام ، وإذا لم يكن ذلك الأصل جارياً في العام ، بقي هذا بلا معارض ، وحينئذ فالمتحصّل من ذلك هو العمل على طبق العام من جهة أنّه لمّا نفي وجوب الخاص بالبراءة ، ولم يمكن نفي وجوب العام ، لزم العمل على طبق العام ، لا أنّ إجراء أصالة البراءة في الخاصّ مثبت لوجوب العام. وبذلك يمكن أيضاً أن يقرّر الرجوع إلى البراءة فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير ، فيقال : إنّ إجراء أصالة البراءة في أحد أطراف هذا العلم وهو الوجوب التخييري غير ممكن ، لما تقدّم من أنّه مستلزم للمخالفة القطعية ، فيبقى الأصل في الطرف الآخر وهو الوجوب التعييني بلا معارض ، فتجري فيه البراءة ويجب العمل على طبق الوجوب التخييري من دون أن يثبت ذلك أعني الوجوب التخييري ، انتهى ما حرّرته عنه حسبما فهمته منه.

ولقائل أن يقول : إنّ المسألة مبنية على كون المنجّز في العلم الاجمالي هو تعارض الأُصول ، وحينئذ نقول إنّ البراءة لا تجري في الجمع بين هند وعاتكة لكنّها تجري في خصوص هند ، وأيضاً هي ـ أعني البراءة ـ لا تجري في العام لكنّها تجري في الخاص ، وهي أيضاً لا تجري في وجوب الأقل لكنّها تجري في وجوب الأكثر ، وهي لا تجري في الوجوب التخييري لكنّها تجري في الوجوب التعييني ، وعليه تكون النتيجة هي عدم لزوم الخاصّ وعدم لزوم التعيين وعدم لزوم الأكثر.

٣٠٤

أمّا لو كان المنجّز هو نفس العلم الاجمالي ، لكان اللازم هو الاحتياط في جميع هذه الموارد. وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث عن ذلك في أصالة الاشتغال (١) وأنّه هل يمكن أن يوجد لنا مثال يجري في بعض أطراف العلم الأصل النافي للتكليف مع كون الأطراف الأُخر لا أصل فيها.

ويمكن التفكيك بين هذه الفروع حتّى على القول بأنّ المنجّز هو تعارض الأُصول ، فيقال بالبراءة من حرمة تزويج هند ، لكنّها لا تنفع في مسألة الخاص والعام ، إذ بعد فرض أنّ وجوب العام لا تجري فيه البراءة ، لو أجرينا البراءة في وجوب الخاص لم يكن ذلك نافعاً في جواز اكتفاء المكلّف بفرد آخر من أفراد العام ممّا هو مباين للخاصّ ، نظراً إلى أنّ الاكتفاء بذلك الفرد لا يحقّق الفراغ اليقيني الذي تقضي به قاعدة الشغل ، إلاّ إذا كانت البراءة من الخاصّ مثبتة لكون الواجب هو العام.

وهكذا الحال في دوران الأمر في الوجوب الوارد على الصيام بين التعييني والتخييري بينه وبين الاطعام ، فإنّه بعد فرض عدم جريان البراءة في الوجوب التخييري ، لا يكون إجراء البراءة في ناحية الوجوب التعييني محقّقاً للفراغ اليقيني فيما لو أقدم المكلّف على الاطعام ، إلاّ إذا قلنا بأنّ البراءة عن الوجوب التعييني مثبتة لكون الوجوب تخييرياً.

نعم ، في مسألة الأقل والأكثر تكون البراءة عن الزائد نافعة ، فإنّه بعد فرض عدم جريان البراءة في وجوب الأقل ، لا تكون البراءة جارية في نفس وجوب الأكثر كي يقال إنّه لا يترتّب الاكتفاء بالأقل إلاّبالأصل المثبت ، من جهة أنّ البراءة من الأكثر لا تثبت كون الواجب هو الأقل ، بل تكون البراءة جارية في وجوب

__________________

(١) راجع ما يأتي في الصفحة : ٤١٩ / تنبيه وإيضاح.

٣٠٥

الزائد على الأقل ، أعني به الجزء المشكوك أو الشرط المشكوك ، وجريانها فيه محقّق للفراغ بالاتيان بالأقل ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره في مقالته المطبوعة تعرّض لهذا العلم الاجمالي في ذيل مسألة الأقل والأكثر فقال ما هذا لفظه : ثمّ إنّ ذلك كلّه في صورة دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، الراجع في الحقيقة إلى محفوظية الأقل بحدوده الخاصّة ـ غير جهة قلّته ـ في ضمن الأكثر ، ومن هذه الجهة قلنا بشباهتها بالكلّيات المشكّكة المحفوظة ضعيفها في ضمن قويّها ، وأمّا لو كان الواجب دائراً بين الطبيعي على الاطلاق أو خصوص فرد فهو خارج عن هذا الباب ، إذ إطلاق الطبيعة لفرد آخر في قبال خصوص هذا الفرد ، بحيث لا يكون بينهما جهة قلّة وكثرة ، بل يدور أمره بين حصّة من الطبيعي أو حصّة أُخرى المشمول لاطلاقه ، لا صرف الطبيعي المهمل المحفوظ في ضمن هذا الفرد ، ولذا في طرف العقوبة أمره يدور بين ترك خصوص هذا الفرد أو ترك الفردين ، ولازمه العلم الاجمالي بحرمة ترك هذا الفرد مستقلاً أو ترك فرد آخر مباين معه ضمناً ، وفي مثله يرجع الأمر إلى الدوران بين المتباينين كما لا يخفى ، وحينئذ ففي كلّية دوران الأمر بين التعيين والتخيير المرجع هو الاحتياط ، على خلاف باب الأقل والأكثر.

ثمّ لا يتوهّم بأنّ باب الشكّ في الشرط من قبيل التعيين والتخيير ، بخيال أنّ الفاقد للشرط مباين مع الواجد وجوداً ، لأنّه يقال : إنّ جهة التباين بينهما إنّما هو من جهة فقدان حدّ القلّة بوجدان التقييد ، ووجدانه بفقدانه ، مع حفظ سائر الحدود بشخصها في الأقل المحفوظ في ضمن الأكثر الواجد للتقيّد ، وأين هذا بباب التعيين والتخيير الراجع إلى الترديد بين الحصّتين السابقتين [ المتباينتين ]

٣٠٦

مرتبة ووجوداً ، كما هو الشأن في أفراد الكلّيات المتواطئة كما هو ظاهر (١).

وقد عرفت الحال في ضابط هذا العلم الاجمالي ، وأنّه موجود في جميع هذه المسائل ، أعني مسألة الرضاع ، ومسألة العام والخاصّ ، ومسألة الأقل والأكثر من حيث الأجزاء ومن حيث الشرائط ، ومسألة التخيير والتعيين ، وأنّ أصالة البراءة لا تجري في أحد طرفيه ، ولا مانع من جريانها في الطرف الآخر ، إلاّ أنّها لا تثبت الفراغ إلاّ إذا كان مجراها أمراً آخر غير هذا الطرف ، وهو الجهة الزائدة في مسألة الجزء الزائد أو الشرط الزائد ، هذا.

مضافاً إلى ما في العبارة من القلق وعدم تأدية المراد ، سيّما ما يظهر منها من جعل المقابلة بين الحصّتين من الطبيعة ، فراجع وتأمّل.

ولعلّ مراده من جعل الحصّة في الطرف الآخر مقابلة لهذا الفرد هو تعلّق الحرمة بتركها ضمناً في ضمن ترك القدر الجامع بين الحصّتين ، كما ربما يظهر ذلك ممّا حرّرته عن درسه (٢) وهذا لفظ ما حرّرته عنه : ثمّ إنّك قد عرفت أنّ المدار في الأقل والأكثر هو أن يكون الأقل على تقدير وجوب الأكثر موجوداً بعينه في ضمن الأكثر ، وحينئذ فلو علم إجمالاً بتعلّق الإيجاب بشيء خاصّ ، فإمّا أن يعلم بوجوب الحصّة من الطبيعة الموجودة في ذلك الخاصّ ، ويشكّ في تعلّق الوجوب بخصوصية ذلك الشخص الخاصّ ، فلا إشكال في جريان البراءة في ذلك المقدار من الوجوب المشكوك. وإن لم يعلم ذلك ، بل علم إجمالاً إمّا وجوب ذلك الخاصّ من رأس إلى قدم بجميع مشخّصاته ، وإمّا وجوب الحصّة الموجودة فيه وفي الخاصّ الآخر ، فينشأ من ذلك علم إجمالي آخر ، وهو إمّا

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٢) في ذي الحجّة سنة ١٣٤٠ [ منه قدس‌سره ].

٣٠٧

حرمة ترك خصوصية الخاصّ المذكور ، وإمّا حرمة ترك نفس القدر المشترك الموجود فيه وفي الخاصّ الآخر ، الموجب لكون ترك ذلك الخاصّ الآخر حراماً ضمناً ، وحينئذ يكون حاصل العلم الثاني هو إمّا أن يكون ترك الخصوصية الخاصّة لذلك الخاصّ حراماً ، وإمّا أن يكون ترك الخاصّ الآخر حراماً ، ومقتضى ذلك الاحتياط باتيان ما يحتمل كون خصوصيته واجبة.

والحاصل : أنّه إذا علم إجمالاً إمّا وجوب القدر الجامع بين الفردين مثلاً ، وإمّا وجوب أحد الفردين بخصوصه ، يعلم من ذلك إجمالاً إمّا حرمة ترك خصوص ذلك الفرد الخاصّ ، وإمّا حرمة ترك مقابله حرمة ضمنية ، حيث إنّه على تقدير كون الوجوب متعلّقاً بالجامع يكون تركه بترك كلا الفردين ، فيكون ترك أحدهما المعيّن له الدخل في ترك ذلك الجامع ، فيكون حراماً ضمناً.

لا يقال : إنّه يكون من قبيل الأقل والأكثر ، لأنّه إذا علم بوجوب القدر الجامع بين زيد وعمرو أو وجوب زيد بخصوصه ، كان القدر الجامع معلوم الوجوب ، لأنّ الواجب الواقعي إن كان هو القدر الجامع فواضح ، وإن كان هو خصوص زيد كان القدر الجامع الموجود فيه واجباً ضمناً ، فيكون وجوب القدر الجامع معلوماً ، ووجوب خصوصية زيد مشكوكاً ، فينحل العلم الاجمالي.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ الضابط في الأقل والأكثر هو أنّ الأقل على تقدير تعلّق الوجوب بالأكثر يكون موجوداً بنفسه في ضمن الأكثر ، ومن الواضح أنّ القدر الجامع بما هو قدر جامع لا يكون موجوداً في زيد ، وإنّما الموجود فيه هو حصّة منه ، لا أنّه موجود فيه بنفسه ، انتهى ما حرّرته عنه.

وكيف كان ، أنّ الذي يظهر لك أنّ أغلب هذه الجهات التي أفادها في تقريب العلم الاجمالي وغيره راجعة إلى دعوى حرمة الترك عند وجوب الفعل.

٣٠٨

ويمكن القول بأنّ الحرمة المذكورة لا واقعية لها ، وإنّما هي مجرّد تعبير منشؤه هو دعوى رجوع الأمر بالشيء إلى النهي عن تركه ، وقد حقّق في محلّه (١) أنّ ذلك من مجرّد التعبير ، نظير أنت وابن أُخت خالتك ، وأنّه ليس في البين إلاّوجوب الفعل ، وأنّ ذلك ـ أعني وجوب الفعل ـ هو المدار في التكليف وفي العلم الاجمالي ، لا أنّ المدار هو حرمة تركه حرمة تكليفية كي تتّجه هذه التفاصيل.

ثمّ إنّ المسقط للتكليف قد يكون من قبيل الرافع للموضوع نظير موت المرتدّ الواجب قتله ، ولعلّ منه قضاء غير الولي ، فلا يكون عدمه شرطاً وقيداً في التكليف كي يكون الفعل المطلوب مرخّصاً في عدمه على تقدير وجود ذلك المسقط ، بل يكون من قبيل انتفاء الموضوع ، وإن أمكن إرجاع ما يكون معدماً للموضوع إلى ما يكون عدمه قيداً في نفس التكليف ، إذ الموضوع من حدود التكليف وقيوده ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون من قبيل الترخيص في العدم ، أو عدم حرمة عدم الفعل المفروض الوجوب على تقدير وجود ذلك الموضوع ، فتأمّل.

ثمّ لو سلّمنا انحلال الوجوب إلى تحريم الأعدام ، ورجعت المسألة إلى الأقل والأكثر من هذه الناحية ، فهي إنّما تؤثّر فيما لو توجّه التكليف وكان المكلّف واجداً لتلك الجهة المحتمل عدم حرمة الترك على تقدير وجودها ، أمّا لو كان ذلك طارئاً بعد توجّه التكليف ، كما هو الغالب فيما لو ارتكب الاطعام مثلاً بعد فرض تحقّق السبب الموجب لتوجّه الأمر بالصيام ، فإنّ عدم الصيام بعد طروّ الاطعام وإن كان مشكوك التحريم من أوّل الأمر ، إلاّ أنّه بعد أن توجّه إليه الأمر بالصيام قطعاً وحرم عليه عدمه وانشغلت به ذمّته يقيناً ، يشكل الاكتفاء بالاطعام

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ٩٥ ومابعدها.

٣٠٩

اعتماداً على أنّ عدم الصيام عند وجود الاطعام لم يكن معلوم الحرمة عليه من أوّل الأمر ، بل يمكن القول إنّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، إذ لا أقل من استصحاب بقاء الصيام على ما كان عليه من الوجوب قبل الاطعام ، وإن كان ذلك محلّ نظر وإشكال ، إذ بعد فرض تبعيض ذلك الوجوب وتحليله إلى تحريم هذه الأعدام ، يكون المقدار الثابت أوّلاً من مقدار ذلك الوجوب مشكوكاً ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ لا يخفى أنّا قد جرينا في هذه الفروع في قولنا : إنّ البراءة لا تجري في الطرف الذي تكون المخالفة فيه موجبة للمخالفة القطعية ، على مسلكه رحمه‌الله في مثل من كان في حال القنوت وعلم إجمالاً بفوات السجود منه أو القراءة ، في عدم جريان قاعدة التجاوز في القراءة ، للعلم بعدم امتثاله أمرها. وأمّا بناءً على ما حرّرناه في مثل هذه الفروع ، من أنّ الأصل النافي إنّما يجري في أحد طرفي العلم الاجمالي بفرضه وحده على نحو الشبهة البدوية ، فلا وجه لعدم جريان البراءة فيما نحن فيه في الطرف المذكور ، لأنّا نفرض الوجوب المشكوك الوارد على الحيوان مثلاً كشبهة بدوية ، ولا ريب في جريان البراءة فيه في حدّ نفسه ، وإنّما لا تجري فيه بلحاظ الطرف الآخر وهو احتمال وجوب الإنسان ، فإنّه بلحاظ هذا الطرف لا تجري فيه البراءة ، لكونها حينئذ موجبة للمخالفة القطعية ، فتأمّل جيّداً.

الأمر السابع : أنّه لو علم بوجوب شيء كالصيام مثلاً ، واحتمل كون الاطعام مثلاً عدلاً له ، أو أنّه من مجرّد المسقط ، وكان المكلّف متمكّناً من الصيام ، فلا إشكال في سقوطه عند الاطعام. أمّا جواز الاقدام على الاطعام ، فإن كان احتمال مسقطيته للصيام من باب كون ملاك وجوب الصيام محدوداً بعدم الاطعام ، بأن لم يحتمل في الاطعام إلاّكونه واجباً تخييرياً وعدلاً للصيام ، أو كون

٣١٠

ملاك وجوب الصيام محدوداً بعدمه ، فلا إشكال في الحكم بجواز الاقدام على الاطعام المذكور.

وإن انضمّ إلى ذلك احتمال ثالث ، وهو كونه مفوّتاً لموضوع الصيام مع بقاء ملاك وجوب الصيام بحاله ، بأن كانت الاحتمالات في الطرف المقابل للصيام ثلاثة : أحدها كونه عدلاً له ، ثانيها كون ملاك وجوبه محدوداً بعدمه ، ثالثها كونه مفوّتاً لنفس الواجب الذي هو الصيام ، نظير ما لو وجب قتل المرتدّ مثلاً بالشنق فقتله بطريقة أُخرى ، ففي هذه الصورة التي تطرّق فيها الاحتمال الثالث يشكل الحكم بجواز الإقدام على ذلك الطرف ، فإنّه بعد فرض وجوب الصيام وتردّد ذلك الطرف بين كونه عدلاً له وكونه مسقطاً لملاكه وكونه موجباً لعدم التمكّن من استيفائه لكونه رافعاً لموضوعه ، لا يمكن الركون في الإقدام على ذلك الطرف إلى أصالة البراءة من المنع عنه ، فإنّه وإن كان مسقطاً لوجوب الصيام على كلّ حال ، إلاّ أنّ إسقاطه له على الاحتمال الأوّل يكون بالاطاعة ، وعلى الثاني يكون إسقاطه له من باب أنّ الأمر بالصيام يكون مشروطاً بعدمه ، وعلى الثالث يكون إسقاطه له من قبيل العصيان.

وحيث قد تطرّق هذا الاحتمال الثالث يكون الحكم بجواز الإقدام عليه منافياً لمقتضى الاشتغال بالصيام ، فإنّ مقتضى اشتغال الذمّة به هو المنع من إسقاطه بالعصيان ، وحيث كان إسقاطه بذلك الطرف يحتمل كونه من قبيل الاسقاط بالعصيان ، كان مقتضى الاشتغال هو المنع عنه ، ولا تنفع فيه أصالة البراءة ، لأنّها لا تجري في الفعل الذي يحتمل كونه موجباً لعصيان تكليف آخر قد تنجّز عليه واشتغلت به ذمّته.

بل قد يقال : إنّه لا معنى لأصالة البراءة من حرمة الفعل المزبور ، إذ ليس هو

٣١١

بحرام ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه موجب لعدم التمكّن من امتثال الواجب ، فيكون مقارناً أو ملازماً لعصيان ذلك الواجب ، فلا يكون بنفسه محتمل الحرمة كي تجري فيه أصالة البراءة ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه مفوّت للواجب ، فيكون محقّقاً أو ملازماً أو مقارناً لترك الواجب ، فإن كان في البين أصل نافٍ ، فالذي ينبغي هو إجراؤه في ترك ذلك الواجب ، ولأجل ذلك لو كان ذلك الشيء مردّداً بين الاسقاط على النحو الثالث وعدمه ، بأن احتمل أنّ الإقدام عليه يكون موجباً لتفويت الواجب ، في قبال عدم ذلك الاحتمال وأنّ الإقدام عليه لا يكون موجباً لذلك ، لا ينبغي الإشكال على الظاهر في عدم جواز الاقدام عليه اعتماداً على مثل أصالة البراءة.

ومن ذلك يتّضح لك أنّه يترتّب الأثر على الشكّ المزبور ، وهو أنّ الوظيفة في الإقدام على ذلك الطرف ما هي ، هل هي أصالة البراءة ، أم أنّ مقتضى الاشتغال بما علم وجوبه هو المنع من الإقدام عليه ، فلا يكون الأثر منحصراً بالعصيان. نعم لو أقدم على ذلك الطرف كان الأثر منحصراً بالعصيان.

فما أُفيد في هذا التحرير بقوله : وإن شكّ في ذلك وتردّد أمره بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري أو مجرّد كونه مسقطاً ، فمع التمكّن من الاتيان بما علم تعلّق التكليف به من العتق مثلاً ، لا يترتّب على الوجهين أثر حتّى يبحث عن الوظيفة في حال الشكّ إلاّمن حيث العصيان وعدمه الخ (١) لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، لا يترتّب أثر عملي من ناحية نفس الواجب ، باعتبار أنّه بعد الإقدام على ذلك الشيء يكون ساقطاً قطعاً ، لكن الكلام قبل الإقدام وأنّه هل يجوز له أو لا يجوز ، وهذا أثر مهمّ ينبغي البحث عنه ، وإلاّ لسقط البحث عن الوظيفة في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣٠.

٣١٢

محتمل الأهمية في باب التخيير الناشئ عن التزاحم ، فإنّه بعد الاتيان بالطرف الآخر لا يكون أيضاً لنا أثر إلاّ العصيان.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ التعبير (١) بأصالة الاشتغال ، وبكون المسألة من قبيل الشكّ في المسقط في محتمل الأهميّة في باب التزاحم ، لا يخلو عن مسامحة ، سواء قلنا بصحّة الترتّب أو لم نقل ، إذ لا ريب في سقوط التكليف بما يحتمل الأهميّة بعد الاتيان بالطرف الآخر ، غايته أنّه لو كان المتروك محقّق الأهميّة في الواقع ، يكون تركه والاشتغال بالطرف الآخر من قبيل السقوط بالعصيان ، وحينئذ يتمحّض البحث في أنّه هل يسوغ له ترك محتمل الأهمية أو أنّه لا يسوغ له ذلك ، فعلى تقدير صحّة الترتّب يكون مرجع هذا الشكّ إلى الشكّ في سقوط إطلاق الأمر في محتمل الأهمية ، وعلى تقدير عدم صحّة الترتّب يكون مرجع الشكّ المزبور إلى الشكّ في سقوط أصل الأمر بمحتمل الأهمية.

وعلى أيّ حال ، حيث إنّ الأمر بما هو محتمل الأهمية كان محقّق الفعلية ، حيث إنّه إن كان مطلقاً فواضح ، وإن كان مشروطاً بعدم الاتيان بالطرف الآخر فقد تحقّق شرطه ، لأنّ الكلام إنّما هو قبل الشروع في الطرف الآخر ، وبعد تحقّق فعلية الأمر بما هو محتمل الأهمية لا يسوّغ العقل مخالفته بالاتيان بالطرف الآخر ، لأنّ ذلك يتوقّف على إحراز التساوي الموجب لجواز ترك كلّ منهما والاشتغال بالآخر.

وبالجملة : أنّ الكلام في هذه المسألة يكون عين الكلام في التردّد بين التعيين والتخيير الشرعي الأصلي فيما لو كان مسقطية الطرف الآخر معلومة واحتمل كون إسقاطه لما هو محتمل التعيين من باب العصيان ، لكونه رافعاً

__________________

(١) الظاهر أنّ المقصود بذلك ما ورد في فوائد الأُصول ٣ : ٤٣٣.

٣١٣

للتمكّن منه مع فرض التمكّن من كلّ من الطرفين ، فإنّك قد عرفت أنّ البحث في تلك المسألة يكون ممحّضاً في جواز ترك محتمل التعيين والاتيان بالطرف الآخر ، لا أنّه بعد الاتيان بالطرف الآخر هل تجري أصالة الاشتغال ، وهل تكون المسألة من قبيل الشكّ في المسقط. وكذلك الحال فيما نحن فيه ينبغي أن يكون الكلام فيه ممحّضاً في جواز ترك محتمل الأهميّة بالاتيان بالطرف الآخر ، أو أنّه لا يسوغ له ذلك ، وإن كان بعد الاتيان بذلك الطرف الآخر يكون سقوط ما هو محتمل الأهمية معلوماً ، غايته أنّه يحتمل أنّ سقوطه كان مقروناً بالعصيان لو كان المتروك محقّق الأهميّة في الواقع.

والحاصل : أنّ الكلام في مسألة محتمل الأهمية في باب التزاحم وفي محتمل التعيين فيما لو كانت مسقطية الطرف معلومة ، لا يكون إلاّبالنظر إلى ما قبل الشروع في الطرف الآخر ، وأنّه هل يسوغ له ترك ما هو محتمل الأهمية أو ترك ما هو محتمل التعيين والاتيان بالطرف الآخر الذي يكون الاشتغال به وترك ذلك المحتمل محتمل العصيان ، بخلاف باقي مسائل دوران الأمر بين التخيير والتعيين ، أعني مسألة ما لو علم وجوب الصيام مثلاً وشكّ في كون الاطعام عدلاً له ، أو علم وجوبهما واحتمل كونه من باب التخيير ، فإنّه على كلا المسألتين لا إشكال في جواز الإقدام على الاطعام ، وإنّما الإشكال فيما بعد الاتيان بالاطعام ، وأنّه هل يكون من باب أصالة الاشتغال والشكّ في كون الاطعام مسقطاً للصيام ، أو أنّه من باب الرجوع إلى أصالة البراءة من تعيين الصيام.

بل قد عرفت أنّه بناءً على كون الوجوب التخييري راجعاً إلى طلب أحد العدلين تكون المسألة ـ أعني مسألة ما لو أتى بالطرف الآخر المحتمل كونه عدلاً لما علم وجوبه ـ من باب الشكّ في الامتثال لا من باب الشكّ في المسقط ، وأنّ

٣١٤

التعبير بأصالة الاشتغال بالنسبة إلى ما علم وجوبه ـ أعني الصيام ـ لا يخلو عن مسامحة. نعم يحسن التعبير بأصالة الاشتغال بالنسبة إلى ما علم إجمالاً اشتغال ذمّته به من أحد طرفي العلم الاجمالي اللذين يكون أحدهما هو خصوص الصيام والآخر منهما هو أحد الفعلين منه ومن الإطعام.

قوله : هو أنّه تارةً نقول : إنّ الصلاة جماعة إحدى فردي الواجب التخييري الشرعي ، فإنّ التخيير العقلي لا يحتمل لسقوط ( القراءة ) فيها وثبوتها في الصلاة فرادى ، فلا يمكن أن يجمعهما خطاب واحد. مع أنّه يعتبر في التخيير العقلي أن يكون بين الأفراد جامع خطابي حتّى تكون الأفراد متساوية الأقدام ، فالتخيير الذي يحتمل أن يكون بين الصلاة فرادى والجماعة هو التخيير الشرعي ... الخ (١).

لا يخفى إمكان الجامع ووضوحه وهو عنوان الصلاة ، وهذا هو شأن الجامع ، وهو ما كان جامعاً بين واجد الجزء الفلاني وفاقده ، وقد تعرّض قدس‌سره لذلك في الدورة الأخيرة ، ولم يرجّح التخيير الشرعي بينهما على العقلي ، وذكر الثمرة بينهما ، وهي أصالة استمرار التخيير في العقلي ، وأصالة كونه بدوياً في التخيير الشرعي ، بل لم أجد فيما حرّرته عنه قدس‌سره في الدورة السابقة في هذا المقام ما يظهر منه الميل إلى كون التخيير شرعياً. وأغرب من ذلك جعله الثمرة للتخيير أو لخصوص الشرعي هي تعيّن الجماعة عند تعذّر الفرادى ولو لتعذّر جزئها الذي هو القراءة ، فقال : وعليه فإن تعذّرت الصلاة فرادى ولو لمكان تعذّر جزئها وهي القراءة ، تتعيّن الصلاة جماعة ، فإنّه عند تعذّر أحد فردي الواجب المخيّر يتعيّن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣٠ ـ ٤٣١.

٣١٥

الآخر (١).

فإنّ الضمير في قوله « وعليه » إن كان راجعاً إلى ما سبقه وهو التخيير الشرعي ، كانت هذه الثمرة ثمرة لخصوص التخيير الشرعي ، وإن كان راجعاً إلى مطلق التخيير ـ سواء كان شرعياً أو كان عقلياً ـ كانت الثمرة المذكورة من ثمرات مطلق التخيير. وهذا ممّا لم أجده فيما حرّرته عنه في الدورة السابقة ، فإنّ جلّ ما كان في الدورة السابقة هو المقابلة بين نفس القراءة وبين الائتمام ، وأنّ الثاني هل هو عدل للأوّل أعني القراءة أو أنّه مسقط له ، أمّا في الدورة الثانية فقد صرّح بأنّ التخيير العقلي أو الشرعي إنّما هو بين تمام مراتب الصلاة الفرادى وبين الائتمام ، فلا يترتّب عليه أنّه عند تعذّر القراءة يتعيّن عليه الائتمام ، وأنّ النزاع في تعيّن الائتمام إنّما يجري لو قلنا بأنّ الائتمام عدل في التخيير لنفس القراءة ، فراجع ما حرّره السيّد سلّمه الله بقوله : فإن قلت الخ (٢).

قوله : بدعوى أنّه يمكن تحصيل القراءة التنزيلية ، كما هو الشأن في باب الطرق والأمارات ... الخ (٣).

هذه الدعوى أعني قياس ما نحن فيه على بدلية الأوامر الظاهرية عن الواقعية وجوابها ، ممّا تعرّض له قدس‌سره في الدورة السابقة ، ولم يتعرّض لها في هذه الدورة الأخيرة ، فراجع ما حرّره عنه السيّد سلّمه الله (٤) فإنّه أوفى بما أفاده قدس‌سره.

والإنصاف : أنّ البحث في هذه المسألة ـ أعني مسألة الائتمام وقراءة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣١.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٧٧.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٣٧٦ وما بعدها.

٣١٦

المنفرد ـ لم يتّضح للنظر القاصر تمام الاتضاح ، فإنّه بعد البناء على التخيير بين صلاة الجماعة وصلاة الفرادى بجميع مراتبها ، سواء كان التخيير شرعياً أو كان عقلياً ، لا يكون إلاّبين نوعين أو فردين ، يكون كلّ منهما مختصّاً بأحكام ، منها عدم وجوب القراءة في الأوّل ووجوبها في الثاني ، فلا يبقى محل للتكلّم في أنّه عند تعذّر القراءة أو عند تعذّر أوّل مرتبة منها هل تتعيّن الجماعة أو لا تتعيّن ، إذ لا تكون القراءة حينئذ واقعة في عرض صلاة الجماعة كي يتكلّم في تعيّن الجماعة عند تعذّرها ، بل الذي يكون واقعاً في عرض صلاة الجماعة هو صلاة الفرادى بجميع مراتبها ، وعليه يتعيّن كون الجماعة من باب المسقط للقراءة ، بل إنّ التعبير بالاسقاط لا يخلو من مسامحة ، فإنّه بناءً على التخيير المزبور لا تكون القراءة واجبة أوّلاً وبالذات في مطلق الصلاة لتكون الجماعة مسقطة لها ، بل إن كان التخيير بين النحوين عقلياً يكون الواجب من أوّل الأمر هو القدر المشترك بين الفرد الذي لا تجب فيه القراءة والفرد الذي تجب فيه ، وإن كان التخيير شرعياً كان الواجب الأصلي مخيّراً بين النوع الذي لا تجب فيه القراءة والنوع الذي تجب فيه ، وعلى أيّ حال لا يكون هناك وجوب للقراءة ابتداءً وتكون الجماعة مسقطة له ، فضلاً عن كون الجماعة في عرض القراءة ، فتأمّل.

نعم ، يمكن توجيه هذا البحث ، بأنّ التخيير الثابت بين الفرادى والجماعة سواء كان عقلياً أو كان شرعياً ، هل هو بين الجماعة والفرادى بجميع مراتبها ، أو أنّه بين الجماعة والفرادى المشتملة على القراءة الصحيحة ، وعلى الأوّل لو لم يتمكّن من القراءة الصحيحة أو لم يتمكّن من أصل القراءة لا يتعيّن عليه الجماعة ، وعلى الثاني يتعيّن عليه الجماعة ، فتأمّل.

٣١٧

قوله : سواء قلنا إنّ التخيير في باب التزاحم لأجل تقييد الاطلاق ، أو لأجل سقوط الخطابين المتزاحمين واستكشاف العقل حكماً تخييرياً ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : إنّ هذا الاستكشاف العقلي ليس من قبيل قاعدة الملازمة ، بل هو من قبيل الأحكام الشرعية التي يستكشفها العقل بالملازمات ، نظير كون إيجاب الشيء موجباً للنهي عن ضدّه أو إيجاب مقدّمته ، وعلى كلّ حال أنّ هذا الوجوب الشرعي بناءً على الوجه الثاني يكون من قبيل الوجوب التخييري الناشئ عن ملاكين متزاحمين ، بحيث إنّه يكون لنا وجوبان تخييريان ، كلّ واحد منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر ، بخلافه على الوجه الأوّل فإنّه عليه لا ينقلب الوجوب عن كونه تعيينياً إلى كونه تخييرياً ، بل يبقى على ما هو عليه من التعيين ، غايته أنّ العقل يحكم بكون أحدهما مقيّداً بعدم امتثال الآخر ، هذا كلّه على تقدير تساوي الفعلين.

ولو كان أحدهما أهم ، فبناءً على الأوّل يكون الأمر بالأهمّ باقياً بحاله مع تحقّق الأمر بالمهمّ ، غايته أنّ الأمر بالمهمّ يكون مقيّداً عقلاً بعدم امتثال الأمر بالأهمّ ، وبناءً على الثاني يكون الأمر بالمهمّ ساقطاً بالمرّة ، ولا يكون في البين إلاّ أمر واحد وهو الأمر بالأهمّ.

ثمّ قال : ولو كان أحدهما محتمل الأهمية ، فبناءً على الوجه الأوّل لا ينبغي الإشكال في الحكم بتعيّنه ، لا من جهة الشكّ في بقاء إطلاق أمره كي يكون الأصل لفظياً ، إذ ليس التقييد المذكور على تقدير التساوي من قبيل التقييد اللفظي كي ينفى بأصالة الاطلاق ، بل هو تقييد عقلي لاحق لواقع التكليف لا لما يدلّ عليه ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣٢.

٣١٨

ولأجل ذلك نقول بذلك التقييد حتّى لو كان دليل الأمر لبّياً مثل الإجماع ونحوه ، بل من جهة إحراز توجّه الأمر بذلك المحتمل الأهميّة ، وكون الاتيان بالطرف الآخر مسقطاً له مشكوك.

ثمّ إنّه قدس‌سره أفاد أنّه بناءً على الوجه الثاني يكون المرجع هو الاشتغال. ثمّ استشكل في ذلك بأنّ محتمل الأهمية لمّا كان يحتمل فيه المساواة كان من المحتمل اشتراطه بعدم الآخر ، ثمّ أجاب عنه بأنّ سقوطه بالآخر لو كانا متساويين إنّما يكون من ناحية عدم القدرة ، وإذا رجع إلى الشكّ في القدرة وجب الاحتياط ، ثمّ استشكل في كون المقام من قبيل الشكّ في القدرة ، بل هو على تقدير التساوي من قبيل عدم تمامية الملاك بالنسبة إلى محتمل الأهمية ، لأنّه على تقدير التساوي يكون الاتيان بالآخر مسقطاً لملاكه. ثمّ أفاد أنّ هذا كلّه من قبيل الفرض والتقدير وإلاّ فالحقّ والمختار هو صحّة الترتّب الذي هو أساس الوجه الأوّل.

قلت : لا ينبغي الإشكال في أنّ محتمل الأهمية لو كان مساوياً في الواقع لكان التكليف به مشروطاً بعدم الآخر ، والمفروض إنّما هو قبل الاتيان بأحد الطرفين ، فيكون محتمل الأهمية محقّق الفعلية حينئذ ، ويكون الشكّ راجعاً إلى الشكّ في سقوطه بفعل الآخر ، سواء قلنا بصحّة الترتّب الذي هو مبنى الوجه الأوّل ، أو قلنا بعدمه الذي هو مبنى الوجه الثاني.

لكن لا يخفى أنّه بعد الاتيان بالآخر لا يبقى مجال للتشبّث بأصالة الاشتغال في محتمل الأهمية ، لسقوطه على كلّ حال ، وإنّما عمدة الكلام هو في جواز الإقدام على الاتيان بالطرف الآخر مع فرض احتمال كونه مفوّتاً للأهمية المحتملة في الطرف الذي يريد تركه ، وقد مضى البحث عن ذلك في الأمر السابع ، فراجع (١)

__________________

(١) تقدّم الأمر السابع في الصفحة : ٣١٠ وما بعدها.

٣١٩

تنبيه : وهو أنّ التخيير في دوران الأمر بين المحذورين عقلي بالنحو الآتي شرحه إن شاء الله تعالى (١) ، لكن لو احتملنا تقدّم جانب الحرمة ولو من جهة تخيّل تطبيق أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، دخلت المسألة حينئذ في التردّد بين التعيين والتخيير ، وهل الحكم حينئذ هو البراءة أو الاشتغال ، هذا محتاج إلى تأمّل ، لعلّنا نتوفّق لحلّه في محلّه الآتي إن شاء الله تعالى ، ويتّضح الحال فيما لو كان الأمر دائراً بين التحريم والوجوب والإباحة ، وجرت أصالة البراءة من الالزام لكن أراد الاحتياط ، فهل يمكننا القول بأنّ الاحتياط في جانب التحريم مقدّم ، ولو فتحنا هذا الاحتمال يأتي لنا نظيره في الدوران بين المحذورين ، فتأمّل.

ولو تمّ ذلك كان موجباً لسقوط أصالة التخيير وانحصار الأُصول في ثلاثة الاستصحاب والاحتياط والبراءة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى التعرّض لذلك في الأمر الثاني من الأُمور التي عقدها للبحث عن أصالة التخيير (٢).

قوله : وتوضيح ذلك ، هو أنّ في تصوير الواجب الكفائي وكيفية تشريعه ... الخ (٣).

لو كان هناك ملاك واحد قائم به فعلُ واحدٍ من طبيعة المكلّفين ، كان نظير التخيير الناشئ عن ملاك واحد. ولو كانت هناك ملاكات متعدّدة حسب تعدّد المكلّفين ، لكن كان فعل كلّ واحد منهم موجباً لذهاب الملاك في أفعال

__________________

(١) يأتي البحث عن دوران الأمر بين المحذورين في الصفحة : ٣٢٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٤٥٠ ـ ٤٥٢ ، وللمصنّف حاشية على ذلك المبحث أمر قدس‌سره بالضرب عليها ، ولذلك أدرجناها في الهامش الصفحة : ٣٣٩.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤٣٦.

٣٢٠