أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

صرف الوجود بأن يكون المطلوب هو عدم صرف الطبيعة ، أو بنحو الطبيعة السارية بأن يكون المطلوب هو عدم كلّ واحد من أفرادها ، وهو المعبّر عنه بالعموم الانحلالي. والأوّل هو المعبّر عنه في كلمات شيخنا قدس‌سره بالعموم المجموعي.

وينبغي أن يعلم أنّه ليس مراد الكفاية (١) هو هذا النحو ، ليتوجّه عليه ما في المقالة ص ٨٢ (٢) ، وما أورده عليه شيخنا قدس‌سره في تحرير السيّد سلّمه الله (٣) من أنّ المرجع فيه هو البراءة لا الاشتغال ، بل مراده هو ما عرفت من كون المطلوب هو انعدام الطبيعة وخلوّ صفحة الوجود عنها.

قوله : وإن كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، فالمرجع عند الشكّ في خمرية مايع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، للشكّ في حصول الوصف مع عدم ترك المشكوك ، فيرجع الشكّ إلى الشكّ في الامتثال ... الخ (٤).

قال السيّد سلّمه الله فيما حرّره عنه قدس‌سره في هذا المقام : وثالثة يكون الحكم متعلّقاً بالعنوان المتحصّل من التروك الخارجية ، فتكون التروك محصّلة لها خارجاً من دون أن يتعلّق بنفسها تكليف ، فعند الشكّ في تحقّق ذلك العنوان في الخارج لابدّ من الحكم بالاشتغال إن لم يكن هناك استصحاب حاكم عليه ، فمورد الحكم بالبراءة أجنبي عن مورد جريان الاستصحاب بالكلّية (٥) ، فإنّ مورد البراءة هو

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٣ ( الثالث ).

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ ، راجع أيضاً ص ٢١٧.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٥١.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

(٥) أجود التقريرات ٣ : ٣٥١.

٢٤١

كون التروك انحلالية أو مجموعية ، ومورد الاستصحاب هو كون المكلّف به هو الاتّصاف بتلك التروك. ثمّ قال السيّد سلّمه الله في تحريره : ومن جميع ما ذكرناه يظهر الحال فيما ذكره المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام ، فراجع. وقال السيّد سلّمه الله قبل هذا في صورة كون المطلوب هو التروك على نحو العام المجموعي ، بعد أن أوضح كون المرجع في الشبهات الموضوعية فيها هو البراءة ، قال : فمن الغريب ما صدر عن المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره من حكمه في المقام بالاشتغال مع ذهابه إلى البراءة في مسألة الأقل والأكثر الخ (١).

وقلت فيما حرّرته عنه قدس‌سره بعد بيان المرجع في الصور الثلاثة ـ أعني كون المطلوب هو الاتّصاف بالتروك على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، وكون المطلوب هو العدم الواحد البسيط المنبسط على تمام أفراد الخمر ، وهو المعبّر عنه بالتروك على نحو العموم المجموعي ، وكون المطلوب هو التروك على نحو العموم الانحلالي ـ وبيان أحكامها ، ما هذا لفظه : فتلخّص لك أنّه لا مجرى للاستصحاب إلاّفي الصورة الأُولى ، وأنّ ما هو مجرى البراءة وهو الصورة الثانية والثالثة لا مورد فيه للاستصحاب ، وما هو مورد للاستصحاب وهو الصورة الأُولى لا مورد فيه للبراءة ، بل [ لو ] أُغضي النظر فيه عن الاستصحاب لكان مورداً للاحتياط ، لكون الشكّ فيه شكّاً في محصّل ما هو الواجب. ومن ذلك يظهر لك ما فيما يظهر من الكفاية من الجمع في التمسّك في الشبهة التحريمية الموضوعية بين أصالة البراءة والاستصحاب ، انتهى.

قلت : لا يخفى أنّ الذي ذكره في الكفاية (٢) في الأمر الثالث من الأُمور التي

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٤٩.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٥٣.

٢٤٢

ذكرها في ذيل البراءة ما حاصله هو الرجوع إلى الاستصحاب المذكور فيما أُخذ العموم فيه مجموعياً وهو الصورة الثانية ، وإلى البراءة فيما أُخذ العموم فيه انحلالياً وهو الصورة الثالثة ، فلم يجمع بين الاستصحاب والبراءة في صورة واحدة. نعم في حاشية منه على هامش حاشيته على الرسائل (١) في مسألة الشبهة المفهومية وإجمال النصّ ، ذكر ما محصّله الجمع بين الرجوع إلى الاستصحاب وأصالة البراءة. لكنّه لا دخل له بما نحن فيه ، لأنّ ذلك في الشبهة المفهومية الناشئة عن إجمال النصّ ، وما نحن فيه إنّما هو الشبهة الموضوعية الناشئة عن اشتباه الأُمور الخارجية.

وتوضيح ما أفاده في الكفاية : أنّ الظاهر منه قدس‌سره أنّه يفرّق بين العام المجموعي في الأوامر والعام المجموعي في النواهي ، وحاصل ما يمكن أن يفرّق به بين البابين هو أن يقال : إنّ الآمر إذا أمر باكرام كلّ عالم على نحو العموم المجموعي كان هناك وجوب واحد منبسط على المجموع ، وكان ذلك الحكم ـ أعني وجوب الاكرام ـ مختلفاً سعة وضيقاً باعتبار كثرة أفراد العلماء وقلّتها ، فلو فرض أنّ هذا الشخص المشكوك كونه عالماً لم يكن عالماً في الواقع ، كان ذلك التكليف ـ أعني وجوب الاكرام ـ أقلّ منه على تقدير كون الشخص المذكور عالماً في الواقع ، فيرجع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في الأقل والأكثر في ناحية المكلّف به ، بخلاف ما لو قال : لا تشرب الخمر ، على نحو العموم المجموعي ، فإنّه لا يكون المطلوب به إلاّترك تمام أفراد طبيعة الخمر ، بحيث كان المطلوب هو انعدام هذه الطبيعة بتمام أفرادها عن صفحة الوجود ، وهذا المعنى أعني انعدام الطبيعة عن صفحة الوجود المعبّر عنه بخلوّ صفحة الوجود عن مجموع أفراد طبيعة الخمر ، لا

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ١٣٢.

٢٤٣

يختلف سعة وضيقاً بقلّة أفراد الطبيعة أو كثرتها ، فلو كان هذا الفرد المشكوك كونه خمراً فرداً من أفراد تلك الطبيعة ، لم يكن ذلك موجباً لزيادة في المكلّف به أعني انعدام مجموع الأفراد عن صفحة الوجود وخلوّها عنها ، إذ العدم أمر واحد بسيط لا يختلف سعة وضيقاً بكثرة ما يضاف إليه وبقلّته ، فلا يرجع الشكّ في كون هذا المايع خمراً إلى الشكّ في الأقل والأكثر في ناحية المكلّف به ، بل يرجع الشكّ المذكور إلى الشكّ في حصول ما هو المطلوب ، أعني خلوّ الصفحة عن مجموع الأفراد عند الاقدام على شرب ذلك المشكوك ، فيلزم الاحتياط بالاجتناب عنه.

وفي الحقيقة أنّ انعدام مجموع الأفراد وخلوّ صفحة الوجود عنها ، يكون أمراً بسيطاً وجودياً مسبّباً عن ترك كلّ واحد من أفراد الطبيعة ، وعند الإقدام على شرب ذلك المشكوك يكون حصول ذلك الأمر البسيط مشكوكاً ، فيكون ذلك من قبيل الشكّ في المحصّل ، فإن كان في البين استصحاب ، بأن كانت الصفحة قبل الاقدام على ذلك المشكوك خالية من تلك الأفراد ، لم يكن بالاقدام على ذلك المشكوك بأس ، لاستصحاب بقاء خلوّ الصفحة الذي هو المطلوب ، وهذا الاستصحاب مزيل للشكّ في حصول ذلك المطلوب عند الاقدام على ذلك المشكوك ، بخلاف ما لو لم يكن الاستصحاب المذكور جارياً ، فإنّ المرجع حينئذ هو الاحتياط في تحصيل ذلك المطلوب بالاجتناب عن ذلك المشكوك ، لا لأجل احتمال التكليف بتركه ، بل لأجل أنّ الاقدام عليه موجب لاحتمال عدم تحقّق ذلك الأمر البسيط الذي هو المطلوب ، وهو خلوّ صفحة الوجود عن تلك الطبيعة.

ومن ذلك يظهر أنّ الطلب حينئذ يكون من قبيل الأمر ، وأنّ المأمور به هو

٢٤٤

أمر وجودي بسيط ، وهو خلوّ صفحة الوجود عن طبيعة شرب الخمر ، ويكون حال هذه الصورة حال ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من الموجبة المعدولة المحمول ، وليس ذلك من قبيل العموم المجموعي في التروك ، بأن يكون المطلوب هو الترك الواحد المنبسط على تمام أفراد الطبيعة ، بأن يلاحظ المجموعية في أفراد الطبيعة ويتعلّق الطلب بتركها جميعاً ، ويكون المطلوب هو تركاً واحداً منبسطاً على تمام ومجموع تلك الأفراد ، أو أن يلاحظ التروك المتعدّدة حسب تعدّد أفراد الطبيعة ويتعلّق الطلب بكلّ واحد من هاتيك التروك مقيّداً بعضها بالبعض الآخر ، لتكون من قبيل الواجبات الارتباطية ، وهذا هو الذي ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في قبال العموم الانحلالي.

أمّا صاحب الكفاية قدس‌سره فلم يذكر هذا القسم ـ أعني العموم المجموعي ـ بهذا المعنى في قبال العموم الانحلالي ، وإنّما ذكر مقابله ذلك المعنى الذي عبّرنا عنه باخلاء صفحة الوجود عن الطبيعة ، فيكون كلّ منهما قدس‌سرهما قد أغفل بعض الصور العقلية التي تتصوّر عقلاً في النواهي ، فشيخنا قدس‌سره قد أغفل ما ذكره صاحب الكفاية وهو ما عبّرنا عنه بكون المطلوب فيه هو إخلاء صفحة الوجود عن الطبيعة ، وصاحب الكفاية قدس‌سره قد أغفل صورة العموم المجموعي الذي هو عبارة عن كون المطلوب تركاً واحداً منبسطاً على تمام الأفراد ، أو تروكاً متعدّدة حسب تعدّد الأفراد مقيّداً كلّ ترك منها بالترك الآخر.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما أفاده في المقالة من الايراد على ما في الكفاية بقوله : كما أنّه بالبيان المزبور الخ (١) ، غير متوجّه على ما في الكفاية بعد أن كان مراد الكفاية ما عرفت ، من كون المطلوب بالنواهي هو إخلاء صفحة الوجود من

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢١٧.

٢٤٥

صرف الطبيعة الذي عرفت أنّه راجع إلى كون المطلوب معنى بسيطاً متولّداً من ترك صرف الطبيعة.

وكيف كان ، فإنّ الصورة التي هي مورد إمكان إجراء الاستصحاب في كلام شيخنا قدس‌سره ، وهي صورة كون المطلوب هو اتّصاف المكلّف بالأعدام ، وكذلك الصورة التي ذكرها صاحب الكفاية وهي صورة كون المطلوب هو إعدام الطبيعة وإخلاء صفحة الوجود منها ، إن كانت تلك الجهة الوجودية شرطاً في عبادة كما مثّل به شيخنا قدس‌سره في مسألة اللباس المشكوك (١) ، أعني اتّصاف المكلّف بعدم لباس ما لا يؤكل لحمه ، أو اتّصاف صلاته بذلك ، فلا إشكال في كون الاستصحاب نافعاً في إحراز ذلك الشرط.

أمّا مع قطع النظر عن كونه شرطاً في عبادة ، بل كان من باب التكليف الاستقلالي ، بأن يكون المكلّف متّصفاً بترك شرب الخمر ، أو من باب التكليف باخلاء صفحة الوجود منها ، نقول : إنّ المكلّف قبل أن يرتكب ذلك المشكوك كان متّصفاً بتلك الصفة أو كانت صفحة الوجود خالية منها ، وأقصى ما عند المكلّف هو الحكم ببقاء ذلك المطلوب وسحبه إلى حال الارتكاب وما بعده ، ولكن مع ذلك يبقى شكّه في جواز الاقدام على الارتكاب ، فإنّ مجرّد جرّه ذلك المطلوب من الآن إلى حال الارتكاب وما بعده ، لا يخوّله الاقدام على ذلك المشكوك إلاّباجراء البراءة في ذلك المشكوك ، ولو بأن يقول إنّ هذا المايع لو كان خمراً لكان شربه علّة تامّة في تركه لذلك الواجب ونقضه ، وما يكون علّة في ترك الواجب يكون ممنوعاً عنه شرعاً ، لأنّ المقدّمة التي تكون علّة في فعل الحرام أو في ترك الواجب تكون محرّمة ، فحيث إنّي أشكّ في كونه خمراً ،

__________________

(١) رسالة الصلاة في المشكوك : ٤٧٣ وما بعدها.

٢٤٦

فأشكّ في كون شربه علّة لترك ذلك الواجب ونقضه ، فأشكّ في حرمتها من هذه الجهة ، فأُجري البراءة فيه من هذه الجهة ، ولا يبقى عليَّ إلاّ إحراز المطلوب الذي هو الاتّصاف أو إخلاء صفحة الوجود ، ويكفيني في إحراز ذلك الاستصحاب المذكور.

ومنه يظهر لك أنّه لابدّ من الجمع بين البراءة والاستصحاب ، وما ذلك إلاّ من قبيل من أُمر بحفظ هذه الآنية الزجاجية من الكسر ، ويريد رميها بحجر مثلاً ويحتمل أنّه يكسرها ، فيقدم على ذلك اعتماداً على استصحاب سلامتها إلى ما بعد الرمي ، من دون اعتماد على أصالة البراءة من حرمة ذلك الرمي باعتبار احتمال علّيته في كسرها.

وهذا المعنى ـ أعني إجراء البراءة في المشكوك ـ لا يتأتّى في مثل الأفعال الوضوئية بناءً على أنّ الواجب هو المسبّب عنها ، فيما لو شكّ في مدخلية المضمضة مثلاً ، فإنّه لا يمكنه أن يقول : إنّ تركها لعلّه علّة في عدم حصول ذلك المسبّب ، فأُجري البراءة في حرمة تركها ، إذ لا ينفعه ذلك وحده ، لأنّه يبقى شاكّاً في حصول ذلك الواجب البسيط ، وليس لديه ما يحرزه به.

فظهر لك من هذا كلّه أنّه إذا كان المورد ممّا تجري فيه البراءة والاستصحاب ، صحّ الإقدام فيه على المشكوك استناداً إليهما ، فبالبراءة يسوغ له الإقدام ، وبالاستصحاب يحرز ذلك العنوان البسيط الذي هو متعلّق الطلب ، سواء قلنا إنّه هو الاتّصاف ، أو قلنا إنّه عبارة عن خلوّ صفحة الوجود عن تلك الطبيعة وفي المورد الذي لا يجري فيه الاستصحاب لا تكون البراءة فيه وحدها نافعة ، كما في الشكّ عند ترك المضمضة عند احتمال مدخليتها في الطهارة ، وكما في مورد الشكّ في حصول التعظيم الواجب عند القيام مع عدم التعمّم ، كما أنّه في

٢٤٧

المورد الذي يجري فيه الاستصحاب وحده لا تكون البراءة نافعة ، كما لو أُمر بحفظ حياة زيد وشكّ في أنّ رميه بهذا السهم قاض على حياته ، فإنّ استصحاب بقاء حياته إلى ما بعد الرمي لا ينفع في جواز الإقدام عليه ، لأصالة الاحتياط في النفوس ، ولو كان الاستصحاب نافعاً في جواز الاقدام لكان حاكماً على أصالة الاحتياط في النفوس ، فتأمّل.

ولعلّ هذا الذي ذكرناه من الاحتياج إلى البراءة عند إجراء الاستصحاب هو المراد لصاحب الكفاية بقوله : والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه الخ (١).

فيكون مراده من البراءة هي البراءة من احتمال حرمته باعتبار كونه ناقضاً لذلك الأمر البسيط ، لا حرمته باعتبار كونه فرداً من الطبيعة المحرّمة ، فيكون الحاصل أنّه بعد فرض كون المطلوب هو ذلك الأمر البسيط ، لابدّ من إحرازه بالاستصحاب ، ومجرّد البراءة عن حرمة ذلك الفرد المشكوك باعتبار حرمته الناقضية لا تنفع ، بل لابدّ من الأمرين معاً ، استصحاب بقاء ذلك المشكوك وأصالة البراءة ، وكما أنّ البراءة المذكورة وحدها لا تنفع في رفع قاعدة شغل الذمّة التي مقتضاها الاحتياط ، فكذلك الاستصحاب وحده لا ينفع في جواز الاقدام على ذلك المشكوك ، ويكون المورد محلاً للبراءة المذكورة ، لكنّها إنّما تنفع إذا جرى الاستصحاب ، أمّا إذا لم يكن الاستصحاب جارياً لم تكن البراءة المذكورة وحدها نافعة في سقوط الاحتياط المذكور. ويتلخّص أنّ المورد يكون مجرى للأُصول الثلاثة على تعاقب بين الاستصحاب والاحتياط ، فتأمّل.

نعم ، فيما لو كان المسبّب البسيط محرّماً مثل ما لو نهي عن تعظيم الكافر

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٤.

٢٤٨

وشكّ في كون القيام بلا عمامة محصّلاً له ، فيكون شاكّاً في حرمة ذلك القيام من جهة شكّه في كونه علّة تامّة للحرام ، فيجري فيه البراءة وبها يسوغ له ذلك القيام ، وليس في البين جهة وجودية كي يلزمه إحرازها بعد إجرائه البراءة في ذلك القيام بخلاف ما نحن فيه.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الأعدام ليست قيوداً في ذلك الواجب ـ أعني الاتّصاف أو إخلاء صفحة الوجود ـ كي يتوجّه الإشكال ـ الذي وجّهه الأُستاذ العراقي قدس‌سره على شيخنا قدس‌سره في مقالته المطبوعة (١) ، وهو الإشكال الثالث من الإشكالات التي وجّهها على شيخنا قدس‌سره ـ باجراء البراءة في ترك ما هو المشكوك من تلك الأفراد ، بدعوى أنّه لا فرق بين أخذ التروك بنفسها مطلوبة أو كونها قيداً فيما هو المطلوب ، وأنّ أقصى ما في الموجبة المعدولة المحمول هو كون تلك التروك قيوداً في الاتّصاف ، فلا يكون المرجع في ذلك هو أصالة الاشتغال ، وذلك لما عرفت من عدم كون تلك التروك قيوداً في الاتّصاف المزبور ، بل هي محصّلة له وهو متولّد منها.

نعم ، هناك مناقشة أُخرى لعلّها يشير إليها في كلماته ، وهي أنّه لا واقعية للموجبة المعدولة المحمول ، وأنّها عين السالبة البسيطة ، أو نقول إنّ الاتّصاف لا محصّل لوقوعه تحت الطلب الايجابي ، إذ ليس الاتّصاف إلاّعبارة أُخرى عن كون تلك التروك منسوبة إلى المكلّف ، وليس الاتّصاف إلاّعبارة عن تلك النسبة الناقصة ، فيكون واقع الموجبة المعدولة المحمول عين السالبة البسيطة بما هو مفاد ليس الناقصة الذي نعبّر عنه بالعدم النعتي ، إلاّ أنّ هذه إشكالات أُخر لا دخل لها بما هو المدّعى ، وقد تعرّضنا لذلك في مباحث الألفاظ عند الكلام على

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٢٢٠.

٢٤٩

التمسّك بالعموم في الشبهات المصداقية (١) ، وشرحنا الفرق بين السالبة البسيطة والموجبة المعدولة المحمول ، فراجع.

نعم ، فيما أفاده شيخنا قدس‌سره جهة أُخرى يحتاج إلى التنبيه عليها ، وهي أنّ ذلك الترك الذي كان اتّصاف المكلّف به مطلوباً لابدّ أن يكون مضافاً إلى صرف الطبيعة ، إذ لو كان مضافاً إلى كلّ فرد لكان اللازم هو كون المطلوب اتّصافه بهذا الفرد وبذلك الفرد إلى آخر الأفراد ، فيكون عنده اتّصافات متعدّدة بتعدّد التروك المتعدّدة بتعدّد الأفراد ، أمّا الفرد المشكوك فيشكّ في مطلوبية الاتّصاف بتركه ، فتجري البراءة فيما يحتمله من وجوب الاتّصاف بترك ذلك المايع المشكوك.

وبالجملة : يكون الاتّصاف المأمور به منحلاً إلى اتّصافات متعدّدة ، فما علم أنّه فرد لتلك الطبيعة يكون الاتّصاف بتركه معلوم الوجوب ، وما شكّ في كونه فرداً منها يكون الاتّصاف بتركه مشكوكاً فتجري البراءة في وجوبه ، بخلاف ما لو جعلنا الترك الذي طلب من المكلّف الاتّصاف به مضافاً إلى صرف الطبيعة ، فإنّه لا يكون لنا إلاّ اتّصاف واحد متعلّق بترك صرف الطبيعة ، ومع الشكّ في فرد منها يكون الاقدام عليه موجباً للشكّ في حصول ذلك الاتّصاف الواحد. وهكذا الحال في مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره ، فإنّه لو كان المطلوب هو إخلاء صفحة الوجود عن كلّ فرد من أفراد الطبيعة ، يكون المرجع في إخلائها من هذا الفرد المشكوك هو البراءة.

بقي الكلام في كون صاحب الكفاية قدس‌سره قد جمع بين البراءة والاستصحاب في مورد وصورة واحدة ، والذي يمكن أن يستفاد منه ذلك هو عبارته الأخيرة حيث قال : والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه ، إلاّ أنّ

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٨٦ وما بعدها.

٢٥٠

قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرّز عنه ، ولا يكاد يحرز إلاّبترك المشتبه أيضاً ، فتفطّن (١). فإنّه قد يقال : إنّ مفادها هو الرجوع إلى البراءة في المشكوك الفردية ، والاحتياط في المطلوب الذي هو العنوان البسيط ، أعني إعدام الطبيعة وإخلاء صفحة الوجود منها ، وأنّه لو كان له حالة سابقة لكان مورداً للاستصحاب ، وحينئذ يكون قد جمع بين البراءة والاحتياط والاستصحاب في مورد واحد.

لكن الظاهر أنّ مراده هو أنّ الفرد المشكوك في حدّ نفسه وإن كان هو مورداً للبراءة ، إلاّ أنّ هناك مانعاً من الرجوع إليها ، وهو لزوم إحراز المكلّف به أعني ذلك العنوان البسيط ، فلا يكون في البين إلاّ أصالة الاحتياط لو لم يكن الاستصحاب جارياً. ولعلّ مراده هو أنّ البراءة من حرمة الاقدام على الفرد المشكوك باعتبار احتمال حرمته لأجل احتمال كونه ناقضاً لذلك البسيط ، لا تكون وحدها نافعة ما لم ينضمّ إليها الاستصحاب ، فيكون قد جمع بين الأُمور الثلاثة في مورد واحد. نعم لو كان مراده من البراءة هو البراءة من حرمة نفس المشكوك باعتبار كونه فرداً لابدّ أن نقول إنّ ذلك مجرّد فرض.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره في حاشية منه على الرسائل فيما يتعلّق بإجمال النصّ ، فإنّه قدس‌سره ذكر في أصل الحاشية توهّم لزوم الاحتياط ، بدعوى أنّ التكليف بالاجتناب عن الغناء وشرب الخمر مثلاً ثابت ، فيجب الخروج عن عهدته. وأجاب عن هذا التوهّم بما حاصله : أنّ التكليف الثابت إنّما هو خصوص ما كان الخطاب بياناً له وهو القدر المتيقّن ، وأمّا غيره فلم يكن التكليف فيه منجّزاً ، كتب في الهامش ما نصّه : أنّ التكليف بالاجتناب عن الطبيعة المنهي عنها وإن كان

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٥٤.

٢٥١

منجّزاً يجب إحراز الاجتناب عنها ، لكن يكفي في ذلك إحرازه بأصالة العدم الجارية غالباً عند الاتيان بما يشكّ أنّه منها ، حيث إنّ المكلّف به ليس إلاّ الترك ، وهو محرز بالأصل ولو أتى بما احتمل حرمته ، وأمّا وجه جواز الاتيان به فلعدم كون الخطاب والنهي عن الطبيعة بياناً للتكليف من غير ما علم تفصيلاً أو إجمالاً من أفراده ، فليفهم (١).

وهو لا يخلو من تأمّل ، فإنّ مقتضى الحاجة إلى الرجوع إلى استصحاب الترك هو أنّ المطلوب هو عنوان بسيط مسبّب عن ترك الطبيعة ، ومقتضى ما ذكره من عدم كون الخطاب والنهي عن الطبيعة بياناً على التكليف في غير ما علم تفصيلاً أو إجمالاً من أفراده ، هو عدم ثبوت التكليف فيما عدا الزائد وعدم الحاجة إلى الاستصحاب ، وأنّ المكلّف به هو نفس الترك. نعم قد تقدّم أنّ استصحاب العنوان البسيط على ما أفاده شيخنا قدس‌سره وعلى ما أفاده هو قدس‌سره لا ينفع في جواز الاقدام على الفرد المشكوك ، لاحتمال كونه علّة في ترك ذلك العنوان البسيط الذي قد تعلّق به الطلب الوجوبي حسب الفرض ، وأنّه لابدّ في جواز الاقدام عليه من الركون إلى أصالة البراءة من حرمة الاقدام على ذلك المشكوك ، لاحتمال حرمته باعتبار احتمال كونه علّة في تفويت ذلك الواجب البسيط ، وكما أنّ ذلك الاستصحاب لا ينفع بدون تلك البراءة ، فكذلك هذه البراءة لا تنفع بدون ذلك الاستصحاب ، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله في الكفاية : والفرد المشتبه وإن كان الخ ، فيكون تمامية المطلب متوقّفة على اجرائهما معاً ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده من الاستصحاب في خصوص الشبهة المفهومية محلّ تأمّل ، لأنّ المستصحب تركه إن كان هو القدر المتيقّن حرمته ، فهو أعني ذلك الترك عند

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ١٣٢.

٢٥٢

ارتكاب المشتبه معلوم غير مشكوك ، وإن كان هو ترك ذلك المشتبه فهو عند الارتكاب المذكور غير مشكوك بل معلوم الوجود ، وإن كان المستصحب هو ترك الطبيعة على واقعها ، فهو غير نافع في جواز الإقدام على ذلك المشكوك ، إلاّ بضميمة ما عرفت من أصالة البراءة من احتمال حرمته الناشئة عن احتمال كونه علّة في تفويت الواجب البسيط ، فتأمّل.

قوله : وأمّا العبادات فقد استشكل الشيخ قدس‌سره في إمكان الاحتياط فيها بل قوّى العدم في هذا المقام ... الخ (١).

الأولى في مبحث الاحتياط في العبادات أن يكون الكلام فيه من جهات أربع :

الأُولى : في إمكانه ، وتكون نقطة الإشكال في هذه الجهة هي فقدان الجزم بالنيّة ، فيتأتّى حينئذ ما علّقنا على مبحث الاحتياط من مباحث القطع (٢) ، ومن جملة تلك المباحث الإشكال على هذه المراتب الأربع ـ التي أشار إليها بقوله : إنّ للامتثال مراتب أربع الخ ـ (٣) ، الامتثال التفصيلي ، الامتثال الاجمالي ، الامتثال الظنّي ، الامتثال الاحتمالي. ومن جملة تلك الإشكالات أنّ هذه المراتب إنّما تجري في أصل الاطاعة تعبّدياً كان المكلّف به أو توصّلياً ، وهي إنّما تقال عند الانسداد ، فيقال : إنّ اللازم أوّلاً هو العلم التفصيلي بالخروج عن العهدة ، وإن لم يمكن ذلك فالاحتياط ، وإن لم يمكن ذلك بعّضناه بحسب الظنّ ، فإن لم يمكن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٢) راجع الحواشي المذكورة في المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٧٢ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠٠.

٢٥٣

ذلك اقتصرنا على الاحتمال ، ولو كانت هذه المراتب جارية فيما نحن فيه لكان الامتثال الاجمالي متأخّراً عن الظنّي ، وكان في درجة الامتثال الاحتمالي بالنظر إلى أنّ أحد الطرفين محتمل كما قرّره : وتوهّم أنّ الأمر في موارد العلم الاجمالي الخ (١).

والعمدة في هذا المقام هو التعرّض لما عن الشيخ قدس‌سره ، فإنّه لا ينبغي الريب في صحّة الاحتياط وحسنه في المقام ، لكونه بعد تعذّر الاطاعة التفصيلية ، لكونه بعد الفحص وعدم العثور على ما يكون مثبتاً للتكليف ، ولعلّ كلام الشيخ قدس‌سره ناظر إلى أصل الاحتياط في قبال الاطاعة التفصيلية.

الثانية ممّا ينبغي أن يحرّر في الاحتياط : هي حسنه عقلاً ، ولا إشكال في هذه الجهة.

الجهة الثالثة : في استحبابه شرعاً ولو من جهة الملازمة بين الحسن العقلي والاستحباب الشرعي ، وما أُفيد بقوله : فإنّ المورد ليس من موارد قاعدة الملازمة الخ (٢) ، محلّ تأمّل وإشكال ، فإنّ الحكم العقلي الذي لا يكون مورداً لقاعدة الملازمة إنّما هو حكمه بحسن الطاعة ولزومها وقبح المعصية ، أمّا حكمه بحسن الاحتياط وأنّه يستحسن أن يأتي المكلّف بما يحتمل التكليف به ، فلا مانع من كونه مورداً لقاعدة الملازمة ، فيستكشف به حكم شرعي طريقي على وتيرة ذلك الحكم العقلي.

ولو تمّت هذه الجهة كان لازمها عدم إمكان تعلّق الأمر المولوي الاستحبابي بالاحتياط ، لكونه حينئذ من سنخ الاطاعة غير القابلة لتعلّق الأمر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠١.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٩٩.

٢٥٤

المولوي بها ، وإلاّ لزم التسلسل ، فلا يتمّ حينئذ قوله : نعم ، يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الخ ، لما عرفت من أنّ مقتضى كونه من سنخ الاطاعة [ أن ] لا يكون قابلاً للأمر المولوي ، لكنّك قد عرفت المنع من كونه من سنخ الاطاعة ، بل هو أمر ثانوي واقع في طريق إطاعة الأوامر الأوّلية ، وأنّه عند الجهل بها يستحبّ الاحتياط أعني الاتيان بما يحتمل أنّه مأمور به ، لكونه من سنخ الورع والتقوى أو زيادة الحب للمنعم ، ونحو ذلك ممّا هو خارج عن نفس الاطاعة ، وحينئذ لا داعي لحمل أخبار الاحتياط لو كان لها ظهور في المولوية على الإرشاد لذلك الحكم العقلي بعد فرض إمكان كونها مولوية ، إلاّ أن يدّعى عدم ظهورها في المولوية ، وأنّها بقرينة التعاليل الواردة فيها ظاهرة في الارشاد.

الجهة الرابعة : هي أنّ عبادية العبادة التي يقع الاحتياط فيها هل هي من جهة الاتيان بها بداعي احتمال الأمر ، أو هي من جهة نفس الأمر بالاحتياط ، والظاهر الأوّل ، فإنّ الاحتياط في العبادة لا يكون إلاّبداعي احتمال الأمر ، مضافاً إلى ما يشاهد من عمل المحتاطين ، فإنّهم إنّما يأتون بالعبادة بداعي احتمال أمرها لا بداعي الأمر بالاحتياط ، حتّى أنّه لو سلّمنا كون أوامر الاحتياط إرشادية لكان عمل هؤلاء صحيحاً لا غبار عليه.

قوله : والسرّ في ذلك هو أنّ النذر إنّما يتعلّق بذات صلاة الليل لا بها بما أنّها مستحبّة ، بحيث يؤخذ استحبابها قيداً في متعلّق النذر ، وإلاّ كان النذر باطلاً لعدم القدرة على وفائه ، فإنّ صلاة الليل بالنذر تصير واجبة ، فلا يمكن بعد النذر فعل صلاة الليل بقيد كونها مستحبّة ... الخ (١).

يمكن التأمّل فيه ، بأنّ المراد هو المستحبّة لولا تعلّق النذر بها ، وذلك نظير

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠٣.

٢٥٥

تعلّق النذر بترك الصلاة في الحمام بناءً على الصحيح من كون المنذور هو لولا تعلّق النذر بتركه. مضافاً إلى أنّ الاختلاف في متعلّق النذر مع الأمر الأصلي لا يتوقّف على دعوى كون المنذور مقيّداً بالاستحباب ، بل يكفي فيه أن يكون المنذور هو امتثال ذلك الأمر الاستحبابي ، فيكون من هذه الجهة من قبيل الأمر الاجاري ، ولعلّ هذا هو المتعيّن ، لأنّ الناذر لا يأتي بصلاة الليل بداعي الأمر النذري ، وإنّما يأتي بها بعنوان الامتثال للأمر الاستحبابي المتعلّق بها ، ويكون امتثاله لذلك الأمر الاستحبابي محقّقاً لوفائه بنذره ، أمّا تعلّق النذر بذات صلاة الليل مع قطع النظر عن أمرها الاستحبابي الذي هو ملاك عباديتها ، فلعلّه غير صحيح ، لأنّها مع قطع النظر عن أمرها الاستحبابي لا ينعقد النذر المتعلّق بها فتأمّل.

وبالجملة : أنّ النذر في مثل صلاة الليل لا يتعلّق بذات العمل ولو بعنوان الرياضة البدنية ، لأنّها حينئذ ليست بصلاة الليل المفروض كونها [ عبادة ] والمفروض تعلّق النذر بها بما أنّها عبادة ، كما أنّه لم يتعلّق بها بوصف كونها مستحبّة ، على وجه يكون الناذر في مقام العمل يكتفي في الوفاء بنذره بالاتيان بتلك الأعمال الموصوفة بكونها مستحبّة ، فإنّها حينئذ لا تكون عبادة ، بل المنذور هو امتثال الأمر المتعلّق بصلاة الليل.

ثمّ لا يخفى أنّ الوجه في اندكاك أحد الطلبين بالآخر في صورة كونهما وجوبيين أو استحبابيين هو محالية اجتماع المثلين ، وأمّا صورة كون أحدهما وجوبياً والآخر ندبياً ، هو أنّ الوجوب بالنسبة إلى عدم تجويز الترك من باب الاقتضاء ، والاستحباب بالنسبة إلى ذلك من باب عدم المقتضي ، فالذي ينعدم

٢٥٦

من ناحية الاستحباب هو حدّه الراجع بالنسبة إلى الترك إلى عدم المقتضي ، ويكون ذلك المقدار من الطلب الذي يشتمل عليه الندب مندكّاً في الطلب الوجوبي. وكذلك الحال فيما لو كان أحدهما توصّلياً والآخر تعبّدياً ، فإنّه من هذا الباب ، بمعنى أنّ التوصّلي يكون بالنسبة إلى التقييد بالتعبّد من باب عدم المقتضي ، وهو يجتمع مع ما له اقتضاء ذلك وهو التعبّدي ، فلو كانا وجوبيين وكان أحدهما تعبّدياً والآخر توصّلياً ، فلا إشكال في تولّد الطلب الأكيد العبادي. وكذلك الحال لو كان أحدهما ندبياً وكان توصّلياً وكان الآخر وجوبياً عبادياً ، أمّا لو كان العبادي هو الاستحبابي ، ففيه تأمّل ، لأنّ اقتضاء التعبّد في الندبي لا يكون إلاّ عبارة عن اعتبار التعبّد في سقوط أمره ، أمّا الوجوبي فلا يعتبر فيه ذلك ، وحينئذ لا يكون سقوط الأمر الوجوبي المفروض كونه في حدّ نفسه توصّلياً متوقّفاً على التعبّد في متعلّقه ، فلو أتى بصلاة الليل لا بقصد الاطاعة والتعبّد ، لأمرها النذري ، كان الأمر النذري ساقطاً بذلك وإن لم يسقط الأمر الندبي.

وبالجملة : أنّ اندكاك أحد الأمرين بالآخر لا يوجب توقّف سقوط الأمر النذري على قصد التقرّب ، والجهة الاستحبابية بالنسبة إلى قصد التقرّب والتعبّد وإن كانت اقتضائية ولو باعتبار اقتضائها شرطية التقرّب في ذلك الفعل ، إلاّ أنّ ذلك الاقتضاء إنّما هو بالنسبة إلى الأمر الندبي ، لا أنّ جهة الندب تقتضي توقّف صحّة ذلك الفعل في كونه مسقطاً للأمر أيّ أمر كان على التعبّد ، وإنّما يكون ذلك بالنسبة إلى نفس الأمر الندبي ، فلو أتى المكلّف بذلك لكن لا بقصد التعبّد به بل لمجرّد قصد الأمر النذري ، كان مقتضى القاعدة سقوط الأمر النذري بذلك ، وإن لم يسقط الأمر الندبي لتوقّف سقوطه على التعبّد به.

٢٥٧

وهكذا الحال فيما لو كانا وجوبيين وكان أحدهما توصّلياً وكان الآخر تعبّدياً ، فإنّ الاتيان بالمتعلّق بدون قصد التعبّد يكون مسقطاً للأمر التوصّلي ، وإن بقي جهة التعبّدي بحالها لم تسقط ، بل وكذلك الحال في الاستحبابيين اللذين يكون أحدهما تعبّدياً والآخر توصّلياً ، وينبغي مراجعة ما علّقناه على مبحث عبادية الطهارات في مباحث مقدّمة الواجب (١) ، فراجع وتأمّل ، وراجع أيضاً ما علّقناه في مسألة التداخل في حاشية ص ٣٤٢ من تحريرات السيّد سلّمه الله عن شيخنا قدس‌سره (٢).

قوله : فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلّق الأمر العبادي به ... الخ (٣).

الأولى أن يجاب عن ذلك : بأنّ هذا الأمر العبادي المستكشف بالأمر الاحتياطي إن كان هو عين الأمر الواقعي المحتمل ، ففيه أنّ الأمر بالاحتياط لا يكشف عنه. وإن كان هو أمراً آخر تصحيحاً لشمول أوامر الاحتياط لهذا الفعل المفروض كونه عبادياً لو كان مأموراً به ، ففيه أنّ ذلك داخل فيما لو كان شمول العام لفرد متوقّفاً على إعمال عناية من الشارع في ذلك الفرد ، تكون أصالة العموم فيه ساقطة كما حقّق في محلّه. مضافاً إلى أنّه لو التزمنا به لا يكون دافعاً للإشكال ، لأنّ [ الإتيان ] بالفعل بداعي ذلك الأمر المستكشف بأمر الاحتياط ، لا يوجب سقوط الأمر الواقعي الأوّلي ما لم يؤت بالعمل بداعيه.

__________________

(١) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢١٨ وما بعدها.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٩ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠٧.

٢٥٨

قوله : وأمّا الجهة الثانية : فلأنّ الأمر بالاحتياط لم يتعلّق بذات العمل مرسلاً عن قيد كونه محتمل الوجوب ، بل التقييد بذلك مأخوذ في موضوع أوامر الاحتياط ـ إلى قوله ـ فلم يتّحد متعلّق الأمرين حتّى يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية من الأمر المتعلّق بالعمل لو فرض أنّه كان ممّا تعلّق الأمر العبادي به ... الخ (١).

يمكن للخصم أن يلتزم بذلك ، أعني عدم الاتّحاد بين الأمرين ، لكون الواقعي منهما متعلّقاً بذات العمل ، والاحتياطي متعلّق به بما أنّه محتمل الوجوب ، لكن لمّا كان الاتيان بالعمل بداعي احتمال وجوبه الواقعي غير محقّق لعباديته كما هو مفروض الخصم ، فلا محيص من القول بأنّ اللازم هو الاتيان بالمحتمل الوجوب بداعي الأمر الاحتياطي لتتمّ عباديته بذلك ، ليكون بذلك مسقطاً للأمر الواقعي لو كان موجوداً.

ومنه يظهر أنّ هذه الشقوق الثلاثة المذكورة في ذيل قوله : وبالجملة الخ ، للخصم أن يختار الثاني منها ، ويقول إنّ الأمر بالاحتياط في مورد كون العمل عبادياً يكون متعلّقاً بالعمل ، لكن لابدّ من تقييده بقصد التقرّب لا إلى ذلك الأمر الواقعي المحتمل لأنّه غير ممكن حسب الفرض ، بل إلى الأمر الاحتياطي ، وهذا التقييد كسائر موارد العبادات يتأتّى فيه الخلاف من كونه بحكم العقل ، أو كونه بأمر جديد ، أو بغير ذلك ممّا حرّر في الواجب التعبّدي.

ومن ذلك يظهر أنّ قوله في تقريب شبهة الخصم : فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلّق الأمر العبادي به ، وحينئذ يمكن قصد الأمر القطعي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

٢٥٩

المستكشف من أوامر الاحتياط الخ (١) ، لا يحتاجه الخصم كي يتوجّه عليه ما تقدّم ممّا ذكرناه من أنّ هذا الأمر المستكشف إن كان هو نفس الأمر الواقعي ، فالأمر الاحتياطي لا يدلّ عليه ، وإن كان أمراً آخر بحيث إنّه كانت لنا أوامر ثلاثة : الأمر الواقعي ، والأمر المستكشف ، والأمر الاحتياطي ، كان محصّله توقّف شمول أوامر الاحتياط لما نحن فيه على إعمال عناية من الشارع ، وتوقّف الشمول لفرد على إعمال عناية موجب لسقوط العموم عن شمول ذلك الفرد. مضافاً إلى بقاء الإشكال في سقوط الأمر الواقعي ، إذ لا يسقط الأمر الواقعي ما لم يؤت بالفعل بداعيه.

بل يكفي الخصم أن يقول : إنّ الأمر الاحتياطي بعد فرض شموله لما نحن فيه ممّا هو في حدّ نفسه عبادة ، بمعنى أنّه لو كان مأموراً به لكان عبادة ، وكان ممّا قام الدليل الخارجي على كونه من هذا القسم من الواجبات ، لم يكن لنا بدّ من إيقاعه على جهة العبادية ، وحيث إنّ المفروض أنّ الأمر الاحتمالي لا يكفي في تحقّق عباديته ، لم يكن لنا بدّ من خلق عباديته من ناحية الأمر الاحتياطي بنحو ما حرّر في عبادية الواجب العبادي.

ومنه يظهر لك أنّ ما أُفيد في جواب هذا الاعتراض بقوله : ولكن قد استفيد من دليل خارجي اعتبار قصد امتثال احتمال الأمر الخ (٢) غير نافع ، فإنّ هذا الدليل الخارجي إنّما يدلّ على أنّ هذا الفعل لابدّ أن يكون عبادياً ، وحيث إنّ عباديته لا يمكن أن تتحقّق من ناحية احتمال الأمر الواقعي ، فلا محيص لنا إلاّ أن نخلقها من نفس الأمر الاحتياطي على نحو ما عرفت ، فالعمدة في الجواب هو ما أفاده قدس‌سره من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠٧.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨.

٢٦٠