أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

سؤال السائل من شمول التذكية لكلّ حيوان في قوله : الكيمخت جلود دواب منه ما يكون ذكياً ( يعني قد ذكّي وذبح ) ومنه ما لم يكن قد ذكّي وهو ما يكون ميتة ، فإنّ الدواب يشمل كلّ دابة ، فتأمّل.

قوله : الأمر الثاني : هل التذكية الموجبة للطهارة والحلّية عبارة عن المعنى المتحصّل من قابلية المحل والأُمور الخمسة ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الترديد بين الوجهين المذكورين مبني على أنّ المراد من التذكية والذكاة ونحوهما ممّا يشتقّ من هذه المادّة هو معنى غير الطهارة ، ليقع الكلام حينئذ في أنّ ذلك المعنى الذي هو محكوم عليه بالطهارة ، هل هو نفس تلك الأفعال مع اشتراط كون المحلّ قابلاً ، أو أنّ ذلك المعنى هو المسبّب والمتولّد عن هذه الأُمور. أمّا بناءً على أنّ المستفاد من هذه المادّة هو نفس الطهارة مثل قولهم : « كلّ يابس ذكي » (٢) ، فالمتعيّن هو كون تلك الأفعال من قبيل الأسباب ، وأنّ المسبّب هو ذلك المعنى البسيط الذي هو الذكاة بمعنى الطهارة ، ويكون محصّل الشكّ في القابلية ، سواء كان على نحو الشبهة الموضوعية أو على نحو الشبهة الحكمية ، هو الشكّ في تحقّق الحكم المذكور ـ أعني الطهارة التي هي معنى الذكاة ـ عند تحقّق هذه الأُمور.

وهكذا الحال فيما لو شكّ في اعتبار شيء آخر ، مثل كون الذابح بالغاً أو ذكراً مثلاً ، ويكون محصّل أصالة عدم التذكية في جميع ذلك هو أصالة عدم ترتّب الأثر ، أعني ذلك الحكم الذي هو الطهارة المعبّر عنها بالذكاة ، ومع جريان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٨١.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٣٥١ / أبواب أحكام الخلوة ب ٣١ ح ٥.

٢٠١

أصالة عدم جعل الطهارة لا يمكن الرجوع إلى قاعدة الطهارة.

بل قد يقال : إنّ ما زهقت روحه ولم يحكم عليه بالطهارة هو الميتة ، فيترتّب عليه آثار الميتة ، فلا يمكن الرجوع حينئذ إلى قاعدة الطهارة ، هذا.

ولكن الظاهر أنّ التذكية هي غير الطهارة وإن كان حكمها هو الطهارة ، فإنّ مادّة الذكاة وإن استعملت هي ومشتقّاتها في الطهارة ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه تجوّز باعتبار لازم معناها ، وإلاّ فإنّ حقيقة الذكاة ليست إلاّمعنى بسيطاً يتولّد من هذه الأفعال ، أعني ذبح الذابح مع الشرائط ، وذلك المعنى البسيط هو مقارب لمعنى النقاء ونحوه ، فراجع كتب اللغة (١) في هذه المادّة وما يرجع إليها من ذكى الغلام وذكت النار وغير ذلك من موارد استعمال هذه المادّة ، فإنّك تراهم يذكرون لهذه المادّة معاني متعدّدة ، ولكن الظاهر أنّها جميعاً ترجع إلى معنى واحد يمكن أن يعبّر عنه بالنقاء ، غير أنّه في مثل ذكى الغلام يكون عبارة عن نقاء فكره وصفائه عن كدورة الجهل. وهكذا في مثل ذكت النار ، فإنّه عبارة عن خلوصها من كدورة الدخّان أو الرماد ، ولعلّ منه تسمية الشمس ذكاء. وهكذا الحال في الذكاة بمعنى الطهارة.

وفي خصوص تذكية الحيوان إمّا أن نقول : إنّه عبارة عن إيجاد سبب الطهارة ، أو نقول : إنّه عبارة عن إيجاد سبب النقاء ، ويكون الطهارة أو النقاء أمراً اعتبارياً وقد أمضاه الشارع ، غايته أنّه مع اعتبار زيادة بعض الشروط الوجودية والعدمية. وعلى أيّ حال ، لا يكون ذكاة الحيوان إلاّعبارة عن المسبّب. ومن ذلك يظهر لك التأمّل في :

__________________

(١) مجمع البحرين ١ : ١٥٩ ، المنجد : ٢٣٦ مادّة « ذكا ».

٢٠٢

قوله : وجهان ، لا يخلو ثانيهما عن قوّة ، لقوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ )(١) فإنّ نسبة التذكية إلى الفاعلين تدلّ على أنّها من فعلهم ... الخ (٢).

أمّا نسبة التذكية إلى المكلّفين فهو توسّع وتساهل ، باعتبار كون الذكاة مولّدة ومسبّبة عن فعلهم ، فيكون الفعل مصداقاً للتذكية ، نظير ذكّيت النار بالعود ، وطهّرت الثوب بالماء باعتبار ترتّب الطهارة التي هي حكم شرعي على غسله فيه ، وهذا أمر يساعد عليه الذوق.

ثمّ لا يخفى أنّه لو تمّ ما أفاده قدس‌سره في معنى التذكية وأنّها لا تجري أصالة عدمها عند الشكّ في القابلية ، لم يكن لنا طريق إلى الحكم بعدم تذكية الحشرات من ذوات النفس مثل الجرذان ، إذ لا مستند لنا في ذلك إلاّ أصالة عدم التذكية ، فراجع الجواهر وغيرها في شرح قوله : « القسم الثاني : فيما يقع عليه الذكاة » ، فإنّ صاحب الجواهر استند هناك في موارد الشكّ في القابلية إلى أصالة عدم التذكية ، ويظهر منه البناء على أنّ التذكية اسم للمسبّب (٣).

ثمّ لا يخفى أنّه لا ينبغي الريب في أنّ الذكاة ليست من أفعال المكلّفين وإنّما هي ذلك المعنى البسيط الحاصل من أفعالهم ، وأنّ أفعالهم هي عبارة عن التذكية ، فكما لا وجه للقول بأنّ الذكاة من أفعال المكلّفين ، فكذلك لا ينبغي القول بأنّ التذكية هي عبارة عن نفس ذلك المعنى البسيط ، بل إنّما هي من أفعال المكلّفين ، أمّا الأثر الشرعي فإنّما هو مرتّب على ذلك المعنى البسيط ، أعني الذكاة الحاصلة بفعل المكلّفين الذي هو التذكية ، التي هي عبارة عن الذبح مع

__________________

(١) المائدة ٥ : ٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٣٨٢.

(٣) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٣ وما بعدها.

٢٠٣

باقي الشرائط. ولكن هذا جارٍ في كلّ سبب ومسبّب كالالقاء والاحتراق ، وذلك لا ينافي صحّة النسبة إلى فاعل السبب.

والخلاصة : هي أنّ سببية فعل المكلّف لما يتسبّب عنه تكون على أنحاء :

الأوّل : أن يكون فعل المكلّف سبباً لأمر تكويني ، وذلك الأمر التكويني يكون موضوعاً لحكم شرعي ، مثل إلقاء الشيء في النار يكون سبباً لاتلافه ، وهذا الاتلاف موضوع لحكم شرعي وهو الضمان.

الثاني : أن يكون فعل المكلّف سبباً للحكم الشرعي ، مثل مس الميت الذي يكون سبباً في وجوب الغسل ، ومثل مس النجس مع الرطوبة يكون سبباً في الحكم بالنجاسة للماس.

الثالث : أن يكون فعل المكلّف آلة في إيجاد أمر عقلائي اعتباري ، وهذا الأمر الاعتباري قد أمضاه الشارع ، كما في عقد البيع مثلاً فإنّه سبب لأمر اعتباري وهو النقل والانتقال ، بمعنى كون البيع آلة في إنشاء ذلك الاعتبار ، وهذا الاعتبار قد أمضاه الشارع.

فالمسبّب في الأوّل هو الاتلاف ، وفي الثاني هو النجاسة ، وفي الثالث هو النقل ، وهذا المسبّب صالح للنسبة إلى المكلّف في الموارد الثلاثة ، فيقال لمن ألقى الشيء في النار إنّه أتلفه ، وباعتبار كون الاتلاف سبباً للحكم الشرعي بالضمان إنّه ضمنه ، ومن هذه الجهة يكون راجعاً إلى النحو الثاني ، ولمن مسّ بيده النجس مع الرطوبة إنّه نجّس يده ، ولمن أوجد عقد البيع على كتابه إنّه نقل كتابه عن ملكه.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ التذكية التي هي فعل المكلّف أعني فري الأوداج بشرائطه ، تارةً نقول إنّها سبب لأمر تكويني وهو النقاء ، وهذا النقاء إذا حصل

٢٠٤

بذلك الذبح يكون الحيوان محكوماً بالطهارة والحلّية ، وحينئذ يكون من قبيل القسم الأوّل ، وإن أنكرنا ذلك الأمر التكويني ، وقلنا إنّه ليس في البين إلاّحكم الشارع على ذلك الحيوان الذي وقع عليه ذلك الذبح بالطهارة أو بها مع الحلّية ، تكون التذكية أعني فري الأوداج بالشرائط المذكورة من قبيل القسم الثاني. وعلى أيّ حال يصحّ النسبة إلى المكلّف فيقال لذابح الحيوان بالشرائط المذكورة إنّه نقّاه ، ويقال إنّه طهّره وحلّله ، سواء قلنا إنّ الذكاة اسم للنقاء وحكمه الطهارة والحلّية ، أو قلنا إنّها اسم لنفس ذلك الحكم الشرعي أعني الطهارة والحلّية ، فيصحّ أن يقال لذابح الحيوان إنّه ذكّاه ، أعني أنّه طهّره وحلّله ، أو نقّاه فطهّره وحلّله.

وأمّا القابلية فليست هي إلاّعبارة عمّا ينتزع من حكم الشارع على الحيوان بأنّه طاهر عند التذكية وحلال الأكل كما في الغنم ، أو أنّه طاهر فقط كما في مثل الحيوان المحرّم الأكل كالسباع مثلاً ، مع فرض قيام الدليل على طهارتها بالذبح ، أو أنّه حلال فقط كما في السمك. وبالجملة : ليست القابلية من الشرائط الواقعية التي يشكّ فيها في حدّ نفسها ، بل ليست هي إلاّ أمراً منتزعاً من الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ هذا المعنى البسيط المتولّد من التذكية الذي هو موضوع الطهارة والحل أو أنّه نفس الطهارة ، من الأُمور الحادثة عند زهوق روح الحيوان ومن الحوادث المسبوقة بالعدم ، فعند الشكّ في تحقّقه عند زهوق الروح يحكم بعدمه ، وبذلك يكون الحيوان ميتة ، لأنّه قد زهقت روحه بالوجدان مع فرض عدم التذكية بالأصل ، إذ المفروض أنّ الميتة هو ما مات بلا تذكية ، فلا يكون عدم التذكية وصفاً للحيوان ولا لزهوق روحه بما هو مفاد ليس الناقصة ، كي يتوجّه عليه أنّه لا ينفع فيه عدم التذكية بمفاد ليس التامّة ، أو العدم الثابت في حال الحياة

٢٠٥

غير العدم الثابت في حال خروج الروح ، ليكون استصحاب العدم في ذلك من قبيل استصحاب الكلّي الذي قد انعدم فرده وشكّ في قيام فرد آخر مقامه ، كما أُفيد في ذيل استصحاب الكلّي ، لنتكلّف في جوابه بما أفاده شيخنا قدس‌سره في ذلك المقام (١).

والحاصل : أنّ الميتة عبارة عمّا مات وخرجت روحه مع فرض عدم طروّ ذلك المعنى البسيط عليه أعني الذكاة ، وليس تركّب خروج الروح مع ذلك العدم من قبيل مفاد ليس الناقصة ، بل لا يكون العدم إلاّعبارة عن العدم المحمولي الذي هو مفاد ليس التامة ، وهو ما ذكرناه من كون خروج روحه بالوجدان وعدم طروّ الذكاة عليه بالأصل ، من دون فرق في ذلك بين موارد الشكّ في كونه من قبيل الشكّ في القابلية على نحو الشبهة الحكمية ، كما لو شككنا في قابلية المسوخ أو الحشرات للتذكية ، أو كان الشكّ في القابلية من قبيل الشبهة الموضوعية ، كما لو علمنا بقابلية الغزال للتذكية وعدم قابلية الأرنب لها مثلاً لكونه مسوخاً ، وحدثت ظلمة أوجبت عدم تميّز هذا الحيوان الذي بأيدينا ، وتردّد بين كونه من الغزال أو من الأرنب ، أو كان على نحو الشبهة المفهومية بأن شككنا في أنّ النعامة من المسوخ المفروض كونها لا تقبل التذكية ، أو كان الشكّ في تحقّق الذبح بشرائطه كما لو وجدنا لحماً من الغنم وشككنا في كونه ميتة أو كونه قد طرأه الذبح بشرائطه لتكون الشبهة موضوعية صرفة ، أو كان الشكّ في اعتبار أمر آخر غير ما هو معلوم في التذكية ، مثل كون الذابح بالغاً ، أو كون الذبيحة في حال الذبح نائمة غير قائمة ، إلى غير ذلك من موارد الشكّ في تحقّق الذكاة ، فإنّ المرجع في جميعها هو أصالة عدم ذلك الحادث البسيط ، وبواسطة ذلك الأصل يكون مورد

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٣٠ وما بعدها.

٢٠٦

الشكّ محكوماً بكونه ميتة ، بناءً على ما عرفت من كون الميتة هو ما خرجت روحه ولم يوجد له عند الخروج ذلك المعنى البسيط.

نعم ، يمكن في خصوص صورة الشبهة الموضوعية الصرفة الرجوع إلى أصالة عدم تحقّق الذبح بشرائطه ، وحينئذ يتوجّه عليه الإشكال المحرّر في ذلك البحث عن الفاضل التوني ، ونحتاج إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) في جوابه ، لكنّا في غنىً عن هذا الأصل حتّى في الصورة المزبورة ، أعني الشبهة الموضوعية الصرفة ، بل المرجع فيها ما عرفت من عدم طروّ ذلك المعنى البسيط ، وإن كان منشأ الشكّ في طروّه هو الشكّ في تحقّق سببه ، أعني الذبح بشرائطه ، فتأمّل.

وهذا بخلاف ما لو قلنا إنّ التذكية اسم للسبب ، وأنّها هي الذبح مع باقي الشرائط ، فإنّها حينئذ لا تجري في مورد الشكّ في القابلية ، سواء كان على نحو الشبهة الحكمية ، أو كانت على نحو الشبهة الموضوعية للظلمة الموجبة لتردّد الحيوان الموجود بين كونه غزالاً مثلاً أو أرنباً ، كما أنّها لا تجري أيضاً في مورد الشكّ في اعتبار مثل بلوغ الذابح ونحوه ، وينحصر جريانها في الشبهات الموضوعية الصرفة. ويظهر من الكفاية (٢) جريانها في مورد الشكّ في القابلية.

وبين الوجهين وهما كون التذكية عبارة عن السبب وكونها عبارة عن المسبّب فرق آخر ، وهو أنّه لو اعتبرنا في السبب كون الموت مستنداً إليه كانت أصالة عدم التذكية ساقطة حتّى في مورد الشبهة الموضوعية الصرفة ، إذ لا أصل حينئذ لأصالة عدم استناد الموت إلى الذبح ، وكذلك الحال لو شككنا في اعتبار

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٤٩.

٢٠٧

الاستناد ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّها عبارة عن المسبّب ، وسيأتي (١) توضيح ذلك فيما لو علم الموت والذبح ولم يعلم السابق منهما.

وربما يتوجّه الإشكال على ما ذكرناه من كون التذكية بمعنى المسبّب وهو الطهارة والحلّية لتصحيح إجراء أصالة عدم التذكية عند الشكّ في القابلية بنحو الشبهة الحكمية أو بنحو الشبهة الموضوعية ، بأن يقال : إنّ هذا الأصل أعني أصالة عدم تذكية هذا الحيوان بالمعنى المذكور ـ أعني الحكم الشرعي بالطهارة والحلّية ـ لا أصل له ، لأنّ عدم طهارة هذا الحيوان لم يكن ثابتاً له في حال حياته ، فإنّ الثابت له في حال الحياة هو الطهارة لا عدمها. وإن كان المراد أنّه عند ذبحه أو عند زهوق روحه يشكّ في طروّ ذلك الحكم له والأصل عدم طروّه ، فهو معارض بأصالة عدم طروّ النجاسة عليه. والقول بأنّ النجاسة من أحكام الميتة ، وهذا الموضوع وهو الميتة عبارة عن زهوق روحه مع عدم الحكم بالطهارة عليه ، فبأصالة عدم طروّ الطهارة عليه عند زهوق روحه يتنقّح موضوع النجاسة الذي هو الميتة ، ومع تحقّق موضوع النجاسة الذي هو الميتة لا يبقى لنا شكّ في نجاسته ، كي يكون أصل العدم فيها معارضاً لأصالة عدم الطهارة ، لا يخفى ما فيه من أخذ عدم الطهارة في موضوع النجاسة الذي هو الميتة.

فالأولى أن يقال : إنّ المسبّب ليس هو نفس الطهارة ، بل إنّ المسبّب هو ذلك الأمر الواقعي الذي يحدث بالذبح عند اجتماع شرائطه ، ولا يتوقّف ذلك على دعوى كونه عبارة عن النقاء الحسّي ، بل يكفي فيه أن يقال إنّ الحكم على هذا الحيوان بالقابلية وأنّه عند الذبح يطهر ويحلّ أكله ، بخلاف الحيوان غير القابل لذلك ، ليس خالياً من جهة تقتضي ذلك ، وإلاّ لكان الحكم بالقابلية على هذا

__________________

(١) في الصفحة : ٢١٣.

٢٠٨

الحيوان دون غيره ترجيحاً بلا مرجّح.

وحينئذ نقول : إنّ تلك الجهة التي أوجبت الحكم عليه بالطهارة وحلّية الأكل ، وإن كانت هي ذاتية للحيوان ، ولا محصّل لأصالة العدم فيها ، إلاّ أنّ تلك الجهة الذاتية لو كانت موجودة في هذا الحيوان يكون الذبح له بشرائطه مؤثّراً في نقائه وخلوصه من كدورة الموت ، بخلاف الحيوان الذي لا تكون هذه الجهة موجودة فيه ، فإنّ ذبحه لا يكون مؤثّراً في نقائه وخلوصه من كدورة الموت ، فكان ذلك النقاء الحاصل بالذبح هو المقتضي للحكم عليه بالطهارة وحلّية الأكل.

وإن شئت فقل : إنّه موضوع الطهارة والحلّية ، ومع الشكّ فيه ولو من جهة الشكّ في القابلية التي هي عبارة عن تلك الجهة الذاتية يكون الأصل عدمه. نعم إنّ ذلك النقاء الناشئ عن تلك الجهة الذاتية ليس محسوساً لنا ، وإنّما استكشفناه من الحكم الشرعي ، ومن إطلاق الذكاة عليه التي هي في اللغة النقاء.

لا يقال : لِمَ لا نقول إنّ تلك الجهة الذاتية هي المنشأ في تفصيل الشارع بالحكم على بعض الحيوانات بالطهارة عند الذبح ، والحكم على بعضها بالنجاسة ولو مع الذبح ، فلا يبقى مجال لأصالة عدم التذكية.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وإن كان ممكناً ، إلاّ أنّ إدخال الذكاة والتذكية ونحو هذه الألفاظ وتطبيقها على الذبح بشرائطه كاشف عن أنّ هناك شيئاً يحصل عند الذبح يعبّر عنه بالذكاة ، لا أنّه موجود قبل الذبح وتكون الطهارة بعد الذبح مشروطة بذلك الموجود قبل الذبح إذا طرأه الذبح ، فلاحظ.

وفي المقام إشكالات وأبحاث مفصّلة تعرّضنا لها في الدروس الفقهية فيما علّقناه على مباحث أصالة عدم التذكية من مباحث نجاسة الميتة من العروة الوثقى

٢٠٩

فراجعها (١). هذا كلّه في تذكية ذي النفس.

وأمّا تذكية غير ذي النفس كالسمك والجراد ، فإن لها تذكية أُخرى ، ففي خبر الاحتجاج « إنّ زنديقاً قال له : السمك ميتة؟ قال عليه‌السلام : إنّ السمك ذكاته إخراجه حيّاً من الماء ثمّ يترك حتّى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنّه ليس له دم ، وكذلك الجراد » (٢) وخبر أبي حفص عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ علياً كان يقول في صيد السمك : إذا أدركتها وهي تضطرب وتضرب بيدها ( بدنها ) وتحرّك ذنبها وتطرف بعينها فهي ذكاتها » (٣) والحسن كالصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ علياً عليه‌السلام قال : السمك والجراد إذا أُخرج من الماء فهو ذكي ، والأرض للجراد مصيدة ، وللسمك قد يكون أيضاً » (٤).

وفي الوسائل في باب ذكاة السمك عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : « الحوت ذكي حيّه وميّته » (٥). وعن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن أبيه عليه‌السلام « أنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : الجراد ذكي والحيتان ذكي ، فما مات في البحر فهو ميت » (٦). وعنه عليه‌السلام في آخر « الجراد ذكي كلّه ، والحيتان ذكي كلّه ، وأمّا ما هلك في البحر فلا تأكل » (٧) وهذا المتن عن علي عليه‌السلام متكرّر في هذا الباب وفي الباب الذي بعده. وفي المرسل عن كتاب علي « عمّا أصاب المجوسي من الجراد والسمك أيحلّ أكله؟ قال عليه‌السلام :

__________________

(١) مخطوط ولم يطبع بعد.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٣٨ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٥ / أبواب الذبائح ب ٣١ ح ٨.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٨١ / أبواب الذبائح ب ٣٤ ح ٢.

(٤) وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٧ / أبواب الذبائح ب ٣٧ ح ٣.

(٥) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٤ / أبواب الذبائح ب ٣١ ح ٥.

(٦) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٤ / أبواب الذبائح ب ٣١ ح ٦.

(٧) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٤ / أبواب الذبائح ب ٣١ ح ٧.

٢١٠

صيده ذكاته ، لا بأس به » (١) وورد فيما عاد إلى الماء النهي عن أكله معلّلاً بأنّه مات في الذي فيه حياته (٢). وكذلك ورد النهي عن أكل ما نضب عنه الماء وما نبذه الماء (٣).

وفي الجواهر في مسألة حل أكل السمك حياً عن ابن أبي يعفور الواردة في الجراد إنّ الله تعالى أحلّه وجعل ذكاته موته ، كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها (٤) وأجاب عنه وعن خبر الاحتجاج بما محصّله عدم وجدانه أحداً عمل بمفادهما من عدم الحل إلاّبالموت ، وقال : بل يمكن القطع بعدم اعتبار الموت حتف الأنف في تذكيته ، وحينئذ فالمذهب الجواز (٥).

قلت : والأولى في الجواب عنهما بأنّهما في مقام عدم توقّف الحلّية على الذبح وإخراج الدم ، كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : « وذلك أنّه ليس له دم ». وسيأتي إن شاء الله تعالى له مزيد توضيح (٦).

ثمّ إنّ هذه الأخبار شاهدة بأنّه لا تذكية في السمك والجراد ، وأنّ إطلاق التذكية على صيدهما وأخذهما مسامحة تنزيلية ، باعتبار ترتّب حلّية الأكل على ذلك ، وإلاّ فإنّه كلّه ذكي حياً كان أو ميتاً ، كما قال عليه‌السلام : « الحوت ذكي حيه وميّته » فإنّه بمعنى طاهر ، ولا ينافيه ترتّب الحرمة عليه لو مات في الماء ، كما لا ينافيه

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٧ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٩ / أبواب الذبائح ب ٣٣ ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٢ / أبواب الذبائح ب ٣٤ ح ٣.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ٣٥٩ / أبواب لباس المصلّي ب ٨ ح ٤ إلاّ أنّها واردة في الخز لا الجراد ، وليس لابن أبي يعفور رواية في الجراد بهذا المضمون.

(٥) جواهر الكلام ٣٦ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٦) في الصفحة : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٢١١

قوله عليه‌السلام : « إنّ السمك ذكاته إخراجه من الماء » ، لأنّ الذكاة هنا كناية عمّا يوجب حلّ أكله ، كما في قوله عليه‌السلام : « صيده ذكاته ». وكأنّه لأجل ذلك لم يعتبر فيها ما يعتبر في الذباحة ولا في الصيد من التسمية ونحوها.

قال في الجواهر : ومن ذلك يظهر لك أنّ تذكية السمك إثبات اليد عليه على أن لا يموت في الماء ، فهو حينئذ كحيازة المباح الذي هو بمعنى الصيد الموافق له ، لا المعنى الذي هو التذكية المخصوصة ، ولعلّه لهذا المعنى أُطلق عليه أنّه ذكي ، بل أُطلق عليه في بعض النصوص اسم الميتة ، كقوله عليه‌السلام في البحر : « الطهور ماؤه ، الحل ميتته » (١) ، إذ ليست تذكيته كتذكية الحيوان المشتملة على فري الأوداج ونحوها الخ (٢). وبنحو ذلك صرّح ابن إدريس (٣).

وحينئذ لا يرد النقض على ما ذكرناه من معنى التذكية من المعنى البسيط ، الذي هو مسبّب عن فري الأوداج مع الشرائط المقرّرة ، التي من جملتها قابلية الحيوان للتذكية. ولو سلّمنا أنّ التذكية في السمك والجراد تذكية حقيقية ، لقلنا إنّها أيضاً عبارة عن ذلك المعنى البسيط الذي هو موضوع الحلّية ، غاية الأمر أنّها في تذكية سائر الحيوانات يترتّب عليها الطهارة والحلّية فيما يحلّ أكله ، والطهارة فقط فيما لا يحلّ أكله ، وفي تذكية السمك والجراد يترتّب عليها حلّ الأكل فقط دون الطهارة مع كونها في الجميع بمعنى واحد مسبّب عن أسبابه المختلفة ، وليس هو إلاّذلك الذكاء والنقاء الذي هو ضدّ تلك القذارة الحاصلة بالموت حتف الأنف في سائر الحيوانات ، وبالموت بدون قبض في السمك والجراد ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٣٦ / أبواب الماء المطلق ب ٢ ح ٤.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٥.

(٣) السرائر ٣ : ٨٩ ـ ٩٠.

٢١٢

الموجب لحرمة الأكل في الجميع ، وللنجاسة أيضاً في ذوات النفس.

نعم ، لو قلنا بأنّ ذلك المعنى البسيط في سائر الحيوانات هو نفس الطهارة الشرعية ، ورد النقض بتذكية السمك والجراد ، ولا مخلص لهذا النقض على هذا التقدير إلاّبالالتزام بأنّ حقيقة التذكية هو ما يتحقّق في ذوات النفس ، أمّا التذكية في السمك والجراد فلا يكون إطلاق التذكية عليها إلاّبالمسامحة والتنزيل ، فتأمّل.

تكميل أو استطراد : لو علم بتحقّق الذبح على هذا الحيوان وموته ، وشكّ في أنّ موته كان قبل الذبح ليكون ميتة ، أو كان بالذبح ليكون مذكّى ، فيقال : إنّ استصحاب حياته إلى حين الذبح الذي يترتّب عليه التذكية معارض باستصحاب عدم الذبح إلى ما بعد الموت الذي يترتّب عليه كونه ميتة ، لكون محصّل هذا الأصل أنّه مات ولم يقع عليه الذبح فيكون ميتة ، فبعد التعارض يكون المرجع هو قاعدة الطهارة والحل.

ولا يخفى أنّ ذلك إنّما يتمّ بناءً على كون التذكية عبارة عن السبب ، وأمّا بناءً على ما ذكرناه من كونها عبارة عن المسبّب ، فلا يكون المرجع بعد تعارض الأصلين المزبورين هو قاعدة الحل والطهارة ، بل يكون المرجع هو أصالة عدم تحقّق ذلك المعنى البسيط ، فيحكم بكونه ميتة ، على تأمّل في ذلك ، فإنّ أصالة عدم المسبّب ـ أعني الطهارة والحلّية ـ تعارضها أصالة العدم في ضدّه ، أعني أصالة عدم طروّ الحرمة والنجاسة ، وعلى أيّ حال ، أنّا لو قلنا بأنّها اسم للسبب فإنّ أصالة عدم ذلك السبب لا تجري في مثل المقام ممّا علم فيه تحقّق السبب وحصل الشكّ في تقدّم ذلك السبب وتأخّره عن الموت ، وإنّما تجري فيه أصالة عدم تحقّق السبب إلى ما بعد الموت ، وقد عرفت أنّه معارض بأصالة عدم الموت

٢١٣

إلى ما بعد تحقّق ذلك السبب.

وقد يقال : إنّ المعتبر في التذكية أن يكون زهوق روح الحيوان بالذبح على وجه يكون موته مستنداً إليها ، فلا ينفع فيه استصحاب الحياة إلى حين التذكية ، فيكون الجاري في المسألة هو استصحاب عدم الذبح إلى ما بعد الموت. ولعلّ في كلمات الجواهر في المسألة الثالثة من خاتمة الذباحة إيماء إلى ذلك ، فراجع (١) وكذلك كلماتهم في اعتبار استقرار الحياة ، بل في رواية حمران ، قال : « سألته عليه‌السلام عن الذبح ، فقال عليه‌السلام : إن تردّى في جب أو وهدة من الأرض فلا تأكل ولا تطعم ، فإنّك لا تدري التردّي قتله أو الذبح » (٢) لكن صاحب الجواهر في مسألة استقرار الحياة بعد أن ذكر ما تضمّنه صحيح زرارة وهو قوله عليه‌السلام : « وإن ذبحت فأجدت الذبح ، فوقعت في النار ، أو في الماء ، أو من فوق بيتك ، إذا كنت أجدت الذبح فكل » (٣) قال : ولا ينافي ذلك خبر حمران ( وذكر خبر حمران ) بعد أن لم نجد القائل به ممّن يعتدّ بقوله (٤).

وكيف كان ، فإنّ ذلك ـ أعني دعوى اعتبار كون زهوق الروح مستنداً إلى الذبح ـ لا يتأتّى في تذكية السمك التي هي مجرّد أخذه من الماء حياً (٥) على وجه

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٦ / أبواب الذبائح ب ١٣ ح ٢ ، ب ٣ ح ٢.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٦ / أبواب الذبائح ب ١٣ ح ١.

(٤) جواهر الكلام ٣٦ : ١٥٠.

(٥) [ وإليك بعض ما روي من أنّ ] صيد السمك أخذه حياً : [ منها : ] المرسل في الاحتجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إنّ زنديقاً قال له : فالسمك ميتة؟ قال عليه‌السلام : إنّ السمك ذكاته إخراجه حيّاً من الماء ثمّ يترك حتّى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنّه ليس له

٢١٤

__________________

دم ، وكذلك الجراد » [ الاحتجاج ٢ : ٢٣٨ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٥ / أبواب الذبائح ب ٣١ ح ٨ ].

[ ومنها : ما رواه ] أبو بصير : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صيد المجوس للسمك حين يضربون بالشبك ولا يسمّون ، وكذلك اليهودي ، فقال عليه‌السلام : لا بأس ، إنّما صيد الحيتان أخذها » [ المصدر المتقدّم ب ٣٢ ح ٥ ].

[ ومنها : ] المرسل عن كتاب علي : « عمّا أصاب المجوس من الجراد والسمك أيحلّ أكله؟ قال : صيده ذكاته ، لا بأس به » [ مسائل علي بن جعفر عليه‌السلام : ١٦٨ / ٢٧٩ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٧ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ٨ ].

[ ومنها : ما رواه ] الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أيضاً : « عن الحيتان يصيدها المجوسي ، قال عليه‌السلام : لا بأس ، إنّما صيد الحيتان أخذها » [ المصدر المتقدّم ح ١١ ].

[ ومنها : ما رواه ] الحلبي عنه أيضاً : « أنّه سئل عن صيد المجوس للحيتان حين يضربون عليها بالشباك ويسمّون بالشرك ، فقال عليه‌السلام : لا بأس بصيدهم ، إنّما صيد الحيتان أخذها » [ المصدر المتقدّم ح ٩ ].

ولو لم يكن في البين أخذ ، ولكنّها خرجت أو انحسر عنها الماء فماتت ، كانت ميتة إجماعاً ولخبر علي بن جعفر : « سألته عن سمكة وثبت من نهر فوقعت على الجُدّ من النهر فماتت ، هل يصلح أكلها؟ فقال عليه‌السلام : إن أخذتها قبل أن تموت ثمّ ماتت فكلها ، وإن ماتت قبل أن تأخذها فلا تأكلها » [ المصدر المتقدّم ب ٣٤ ح ١ ].

وأمّا ما عن الباقر عليه‌السلام في رواية محمّد بن مسلم : « لا تأكل ما نبذه الماء من الحيتان ، وما نضب عنه الماء ، فذلك المتروك » (*).

__________________

(*) [ لا يخفى أنّ هناك حديثين لمحمّد بن مسلم مذكورين في ب ٣٤ وهما ح ٣ ، ٦ ، والحديث الأوّل صحيح السند والثاني ضعيف ، والمذكور هنا ، صدره نصّ الأوّل

٢١٥

__________________

والموثّق [ المروي في التهذيب ٩ : ٨٠ ـ ٨١ / ٣٤٥ ] عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل « عن الذي ينضب عنه الماء من سمك البحر ، قال عليه‌السلام : لا تأكله » فهما مقيّدان ـ بما تقدّم من رواية علي بن جعفر عليه‌السلام ـ بما إذا لم يأخذه حياً.

وبالجملة : لابدّ من أخذه حياً من الماء أو من خارج الماء ، ولا يكفي فيه النظر إليه حياً خارج الماء إلى أن يموت من دون أخذ ، وإن قال به بعضهم استناداً إلى خبر عبد الله بن بحر عن رجل عن زرارة « قلت له : السمكة تثب من الماء فتقع على الشط فتضطرب حتّى تموت فقال عليه‌السلام : كلها » [ وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٢ / أبواب الذبائح ب ٣٤ ح ٤ ].

قال في الجواهر : وخبر زرارة مع إرساله وإضماره قاصر عن معارضة ما تقدّم من وجوه [ جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٧ ]. قلت : لعلّ منها أنّه صالح للتقييد بالأخذ.

وعلى كلّ حال ، أنّ ما في يد المجوسي يحتمل موته في الماء فيكون حراماً على القولين ، كما أنّه يحتمل موته خارج الماء قبل الأخذ فيكون حراماً على القول المعروف ، وحينئذ يكون أصل عدم إخراجه أو عدم أخذه إلى أن مات قاضياً بأنّه ميتة وأنّه حرام ، وهو معنى أصالة عدم التذكية في السمك.

ولكن يعارضه استصحاب حياته إلى أن أُخذ ، فيكون قد أُخذ وهو حي فيكون حلالاً ، ولو اعتبرنا موته تحت اليد لقلنا باستصحاب كونه حياً تحت اليد إلى أن مات في حال كونه تحت اليد ، وبعد التساقط يكون المرجع قاعدة الحل.

وربما يقال ـ كما يستفاد من الجواهر [ ٣٦ : ٢٥٦ ] ـ بعدم جريان استصحاب الحياة لكونه مثبتاً. وفيه تأمّل كما عرفته. فالأولى أن يقال : إنّ الوجه في سقوطه تعبّدي مستفاد من الأخبار الواردة في المقام ، مثل قوله عليه‌السلام « في صيد المجوسي للسمك آكله؟ قال عليه‌السلام : ما كنت لآكله حتّى أنظر إليه » ومثله صحيح ابن مسلم عنه عليه‌السلام ـ

__________________

وذيله مذكور في الثاني فقط كما يتّضح بالمراجعة ].

٢١٦

التزموا بجواز أكله حياً ، وبجواز أخذ القطعة منه بعد الأخذ وإن عاد الباقي إلى الماء ومات فيه ، وحينئذ يمكن الاعتماد على استصحاب حياته إلى حين الأخذ ، ويعارضه استصحاب بقائه في الماء إلى أن مات ، وبعد التعارض يرجع إلى قاعدة الحل بناءً على كون التذكية اسماً للسبب ، بخلاف ما لو قلنا إنّها اسم للمسبّب ، فإنّ المرجع بعد التعارض هو أصالة عدم تحقّق ذلك المسبّب ، هذا.

ولكن صاحب الجواهر قدس‌سره منع من الركون إلى استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، فراجعه في مسألة السمكة في جوف سمكة أُخرى التي هي مورد رواية السكوني ، فقد قال في الشرائع : وربما كانت الرواية أرجح استصحاباً لحال الحياة (١) فقال صاحب الجواهر قدس‌سره : إنّه من الأُصول المثبتة المعارضة باستصحاب الحرمة ، وبأصالة عدم حصول التذكية المتوقّفة على شرط لا ينقّحه

__________________

أيضاً [ وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٥ ـ ٧٦ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ١ ، ٢ ] وخبر عيسى بن عبد الله قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صيد المجوس ، قال عليه‌السلام : لا بأس إذا أعطوكه حيّاً ، والسمك أيضاً ، وإلاّ فلا تجوز شهادتهم إلاّ أن تشهده » [ المصدر المتقدّم : ح ٣ ].

ويستفاد من هذه الأخبار إسقاط استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ، فيكون السمك في يد الكافر محكوماً بعدم التذكية ، وأنّ شهادة الكافر بالتذكية لا تقبل حتّى في صورة كونه ذا يد ، فينبغي أن يستثنى ذلك من حجّية إخبار ذي اليد ، هذا.

ولكن ذلك كلّه بناءً على كون التذكية اسماً للسبب ، وإمّا بناءً على أنّها اسم للمسبّب أعني ذلك النقاء الموجب للحلّية أو الحلّية نفسها ، فلا حاجة إلى دعوى دلالة هذه الأخبار على إسقاط استصحاب الحياة ، بل إنّها بعد أن أسقطت حجّية قول ذي [ اليد ] الكافر توجب كون المسألة من تعارض الاستصحابين ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية بمعنى المسبّب. وهكذا الحال فيما لو تردّد الذبح بين كونه قبل زهوق الروح وبين كونه بعدها [ منه قدس‌سره ].

(١) شرائع الإسلام ٣ : ١٩٨.

٢١٧

الأصل ، الخ (١).

ولم أتوفّق لمعرفة الوجه في كون استصحاب الحياة إلى حين الموت مثبتاً ، فإنّ ذلك لو سلّمناه فإنّما هو فيما يذكّى بالذبح ، فيقال : يعتبر فيه استناد خروج الروح إليه ، أمّا الأخذ حيّاً في السمك فلا يعتبر فيه ذلك. نعم هذا الاستصحاب معارض باستصحاب البقاء في الماء إلى حين موته ، فيكون المرجع هو أصالة الحل ، إلاّ إذا قلنا إنّ التذكية اسم للمسبّب.

كما أنّي لم أتوفّق لمعرفة الوجه في معارضة هذا الأصل ـ أعني استصحاب الحياة ـ باستصحاب الحرمة مع كونه موضوعياً منقّحاً للتذكية الرافعة للحرمة. مضافاً إلى أنّ هذه الحرمة غير متحقّقة ، إلاّ أن يدّعي حرمة أكل السمك وهو في الماء قبل أخذه منه ، ولا يخفى بُعده.

وأمّا المعارضة بأصالة عدم التذكية الخ ، ففيه : أنّ سبب التذكية أو هي نفسها ليس إلاّ الأخذ حياً ، وأصالة بقاء الحياة إلى حين الأخذ منقّح له ، وليس في البين شرط غير الحياة حين الأخذ. نعم ربما كان ما ورد من علامة المذكّى من السمك من طرحه في الماء ، فإن طفا مستلقياً على ظهره فهو غير ذكي ، وإن كان على وجهه فهو ذكي (٢) ، شاهداً على عدم الاعتناء بهذا الأصل ، فراجع هذه المباحث في كتاب الأطعمة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ جعل الأمارة المذكورة لا ينافي كون الأصل هو ما ذكرناه ولو عند فقد الأمارة المذكورة ، كما أنّ جعل الأمارة في اللحم على النار لا ينافي كون الأصل هو عدم التذكية ، على أنّه قد نوقش في الرجوع إليها ، فراجع.

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ٢٥٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٤٤ ـ ١٤٥ / أبواب الأطعمة المحرّمة ب ١٤ ح ١.

٢١٨

وممّا ذكرناه من أنّ المرجع بعد التساقط إلى أصالة عدم التذكية التي هي عبارة عن المسبّب ، يظهر لك الوجه في عدم جواز أخذ السمكة من المجوسي. قال في الشرائع في صيد السمك : لا يحلّ أكل ما يوجد في يده حتّى يعلم ( ولو شرعاً ) أنّه مات بعد إخراجه من الماء (١) ، فراجع مبحث ذكاة السمك (٢) وقد تضمّنه قوله عليه‌السلام : « ما كنت لآكله حتّى أنظر إليه » (٣) وقوله عليه‌السلام : فإن أعطوكه حياً فكله (٤) إلاّ أن يحمل هذا الحكم على الاستحباب ونحو من التنزّه فتأمّل. أو يقال : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية وإن كان مقتضى الأصل هو التذكية.

ولعلّ دعوى كون هذا الأصل ـ أعني استصحاب الحياة إلى حين الأخذ ـ مثبتاً مبنية على عدم الاكتفاء في تذكية السمك بالأخذ حياً من الماء ، بل لابدّ فيه من اعتبار موته خارج الماء ، وذلك لا يثبت باستصحاب حياته إلى حين الأخذ.

وفيه أوّلاً : أنّه مناف لما تقدّم من جواز أكله حياً ، وجواز أكل القطعة منه وإن عاد الباقي إلى الماء ومات فيه.

وإن أمكن الجواب عن النقض الأوّل بعدم الالتزام بجواز أكله حياً ، وعن النقض الثاني بأنّه يصدق على القطعة المبانة من الحي أنّها ميّتة خارج الماء ، فالعمدة حينئذ هو الاعتراض :

ثانياً : بأنّه لا دليل على اعتبار القيد المزبور ، وإنّما أقصى ما عندنا في قبال الاكتفاء بالأخذ حياً هو اعتبار عدم رجوعه إلى الماء وموته فيه ، كما يدلّ عليه

__________________

(١) شرائع الإسلام ٣ : ١٨٩.

(٢) جواهر الكلام ٣٦ : ١٦٦ ـ ١٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٥ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ١ ، ٢.

(٤) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٦ / أبواب الذبائح ب ٣٢ ح ٣ ( نقل بالمضمون ).

٢١٩

قوله عليه‌السلام : مات فيما فيه حياته (١) فيكون القيد المعتبر هو عدم موته في الماء ، وهذا القيد حاصل باستصحاب حياته وعدم موته في الماء إلى حين الأخذ منه ، حتّى أنّه لو أُخذ منه ثمّ عاد إليه واحتمل أنّه مات في الماء ، أو أنّه انحسر عنه الماء حين عوده إليه ومات في خارجه من ذات نفسه من دون أخذ ثمّ طرأه الأخذ ، لكان استصحاب حياته إلى حين الأخذ الثاني كافياً في حصول القيد المزبور ، أعني عدم موته في الماء أو في خارجه إلى حين الأخذ الثاني ، من دون فرق في ذلك بين كون التذكية هي نفس الأخذ حياً ، أو كونها هي المسبّب عن ذلك. أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلأنّ الأصل وإن كان هو عدم ذلك المسبّب ، إلاّ أنّ استصحاب حياته إلى حين الأخذ يكون حاكماً على أصالة عدم ذلك المسبّب ، لكونه بالنسبة إلى أصالة عدم المسبّب من قبيل الأصل الموضوعي المنقّح لحصول [ السبب ] الذي ينشأ عنه ذلك المسبّب ، لكنّه معارض باستصحاب بقائه في الماء إلى أن مات ، وبعد التساقط يكون المرجع هو أصالة عدم التذكية بناءً على كونها اسماً للمسبّب ، وأمّا بناءً على كونها اسماً للسبب فالذي ينبغي أن يرجع إليه هو قاعدة الحل.

وبناءً عليه ينبغي أن يقال : إنّه لا مانع من أكل دهن السمك المجلوب من اوروبا ما دام منشأ الإشكال فيه هو احتمال عدم التذكية مع إحراز كونه من المأكول ، إلاّ أن نقول : إنّ يد الكافر أمارة على عدم التذكية ، ولو احتمل كونه من غير المأكول كالجرّي مثلاً ، كانت أصالة الحل فيه محكمة أيضاً.

والحاصل : أنّ صاحب الجواهر قدس‌سره قال في كتاب الأطعمة في مسألة السمكة في جوف سمكة أُخرى في شرح قول المصنّف : « وربما كانت الرواية

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٩ / أبواب الذبائح ب ٣٣ ح ٢ و ٦ ( مع اختلاف يسير ).

٢٢٠