أصول الفقه - ج ٧

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٧

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-72-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٩٢

تركه ، بمعنى أنّ الشارع رفع الحسد عن عاتق المكلّف ولو باعتبار رفعه للزوم تركه ، فإنّ وجوب ترك الشيء إلقاء لذلك الشيء على عاتق المكلّف ، باعتبار كونه تضييقاً عليه من ناحية ذلك الشيء ولو باعتبار إلزامه بتركه.

ومن هذا البيان في توجيه رفع الحسد ، يظهر لك أنّ شرب الخمر إكراهاً أو اضطراراً ، وكذلك ترك الواجب إكراهاً واضطراراً ، يمكن إدخالهما في « ما أُكرهوا عليه » وفي « ما اضطرّوا إليه » ، باعتبار أنّ الشرب الاكراهي أو الاضطراري قد رفعه الشارع عن عاتق المكلّف ولو بواسطة رفعه الالزام بتركه ، وهكذا ترك الواجب إكراهاً أو اضطراراً قد رفعه الشارع عن عاتق المكلّف ولو بواسطة رفعه الالزام بفعله ، من دون حاجة إلى إرجاع ذلك إلى ما لا يطيقون.

لكن ذلك يوجب استعمال الرفع في « ما أُكرهوا عليه » و « ما اضطرّوا إليه » في معنيين وعنايتين ، الأُولى : رفع الفعل المكره عليه باعتبار رفع أثره وسببه ، الذي هو الملكية والكفّارة في العقد المكره عليه والافطار المكره عليه. الثانية : رفع الفعل وهو الشرب ـ مثلاً ـ عن عاتق المكلّف باعتبار رفع ما يوجب إلقاء عدمه على عاتقه ، وهو وجوب تركه الموجب لإلقاء عدم الشرب على عاتق المكلّف ، ليكون الاكراه على الشرب موجباً لرفعه عن عاتق المكلّف برفع الالزام المتعلّق بعدمه ، ويكون الحاصل أنّ الرفع في « ما أُكرهوا عليه » و « ما اضطرّوا إليه » جامع بين مفاده في الخطأ والنسيان باعتبار كونه لرفع السبب برفع مسبّبه ، ومفاده في « ما لا يطيقون » باعتبار كونه رفعاً للفعل عن عاتق المكلّف برفع ما يوجب إلقاءه على عاتقه.

ولعلّ بين العنايتين تنافياً ، على وجه لا يمكن جمعهما بعبارة واحدة يسند فيها الرفع إلى « ما أُكرهوا عليه » و « ما اضطرّوا إليه » ، فالأولى هو جعلهما مسوقين

١٤١

للعناية الأُولى فقط ، فيكونان مساوقين لرفع الخطأ والنسيان ، وإدخال الشرب المكره عليه والمضطرّ إليه وترك الواجب المكره عليه والمضطرّ إليه في « ما لا يطيقون ».

ولا يخفى أنّ هذه العناية ، أعني رفع الشيء باعتبار رفع ما يوجب إلقاء نقيضه على عاتق المكلّف ، وإن كانت بعيدة ، إلاّ أنّه لابدّ من الالتزام بها في الحسد وأخويه ، إذ لا يصحّ رفعها إلاّبتلك العناية ، وحينئذ يكون الرفع في « ما لا يعلمون » مسوقاً لرفع الشيء الذي هو الحكم الواقعي برفع أثره الذي هو إيجاب الاحتياط ، وفي « ما أُكرهوا عليه » و « اضطرّوا إليه » والخطأ والنسيان يكون الرفع مسوقاً لرفع الأسباب برفع مسبّباتها ، وفي « ما لا يطيقون » يكون الرفع مسوقاً لرفع الفعل عن عاتق المكلّف باعتبار رفع ما يوجب القاءه على عاتق المكلّف وهو الالزام به ، وفي الحسد وأخويه يكون الرفع مسوقاً لهذا المعنى في « ما لا يطيقون » ، لكن بعناية كون الالزام بترك الحسد إلزاماً متعلّقاً بالحسد ولو باعتبار تركه.

ولا يخفى ما في ذلك من اختلاف السياق والتبلبل في الاستفادة من هذا الحديث الشريف الذي هو من جوامع الكلم. فالأولى هو أخذ الرفع في جميع فقرات الحديث الشريف كناية عن عدم الجعل ، ويكون المصحّح لاستعمال الرفع هو قابلية المورد للجعل ولو باعتباره في نفسه ، مع قطع [ النظر ] عن حكمة الشارع ولطفه بعباده ، ويكون المرفوع حقيقة هو المقتضى ـ بالفتح ـ الذي هو الحكم الشرعي ، ولكنّه أبرزه بصورة رفع المقتضي ـ بالكسر ـ الذي هو موضوع أو متعلّق ذلك الحكم الشرعي ، ويكون رفع ذلك الموضوع أو المتعلّق رفعاً تشريعياً ، ويكون محصّل رفعه هو رفعه في صفحة التشريع باعتبار رفع حكمه

١٤٢

الشرعي.

ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره من كون المرفوع هو الاقتضاء ، فالحكم الواقعي يقتضي في حدّ نفسه الاحتياط والتحرّز عن مخالفته ، لكن الشارع رفعه منّة على العباد ولم يضيّق عليهم بجعله ، وكذلك الفعل الواجب الذي لا يطيقونه يكون في حدّ نفسه موجباً لإيجابه عليهم ، ولكن الشارع رفعه عنهم ولم يجعل وجوبه عليهم. وهكذا الحال في العقد الذي أُكرهوا عليه ، فإنّه في حدّ نفسه يوجب النقل والانتقال ، لكن الشارع رفعه عنهم برفع أثره وعدم جعله الملكية. وكذلك الشرب الذي أُكرهوا عليه ، فإنّ الشرب في نفسه يقتضي التحريم ، ولكن الشارع رفع حرمته ولم يجعلها ، فكأنّه بذلك الرفع لم يكن عند الشارع شرب خمر الذي هو متعلّق التحريم. وهكذا الحال في الشرب الذي اضطرّوا إليه ، بل وهكذا الحال في الحسد وأخويه ، فإنّه برفعه حرمته الذي هو عبارة عن عدم جعلها يكون الحسد معدوماً في نظره ، وكأنّه ليس بحسد ، والجامع هو رفع الشيء برفع حكمه الذي فيه ضيق عليهم.

ولو أبيت إلاّ [ عن ] دعوى كون رفع الحرمة في الحسد وأخويه وفي الاكراه على فعل الحرام وترك الواجب ، وكذلك في الاضطرار إلى فعل الحرام وترك الواجب ، لا يكون مصحّحاً لنسبة الرفع إلى متعلّقها ، فاجعل المرفوع في ذلك هو العقوبة ، وصحّح نسبة رفعها للشارع باعتبار رفعه لعلّتها الذي هو التحريم ، ليكون رفعه للعقوبة بواسطة رفعه لعلّتها التي هي التحريم مصحّحاً لنسبة الرفع إلى فعل الحرام وترك الواجب وإلى الحسد وأخويه.

وإنّما احتجنا في رفع العقوبة إلى رفع علّتها التي هي الحرمة مثلاً ، لا لمجرّد أنّ العقوبة بحكم العقل لا دخل لها بالتصرّف الشرعي ، لإمكان رفعها للشارع من

١٤٣

باب التفضّل ، إلاّ [ أنّ ] ذلك ـ أعني التفضّل وغفران الذنوب ـ آحادي اتّفاقي بأسباب خاصّة أو حسبما يشاء تعالى ، لا قانوني كلّي وإلاّ لكان مناقضاً للتكليف ، ضرورة ثبوت التدافع بين قوله : شرب الخمر حرام ، ولو فعلته لم أُعاقبك أو رفعت العقوبة عنك ، وحينئذ يكون الدليل الدالّ على رفع العقوبة دالاً بالملازمة على رفعه الحرمة التي هي علّتها ، وحينئذ فيمكن القول بأنّ الجامع هو رفع المؤاخذة ، أعمّ من أن تكون هي العقوبة برفع علّتها كما فيما عدا « ما لا يعلمون » ، وفيه يكون العلّة في رفع العقوبة هو جعل الترخيص الظاهري أو حجّية احتمال عدم التكليف أو رفع الاحتياط. أو هي الحكم الوضعي المترتّب على الفعل كما في العقود ، أو الحكم التكليفي كما في الكفّارات ، وتكون نسبة الرفع إلى نفس الأفعال التي تترتّب عليها هذه المؤاخذة باعتبار كون تلك الأفعال مسلوبة الأثر المذكور ، من دون حاجة إلى التشبّث بالمقتضي والمقتضى والاقتضاء.

لكن هذا الوجه أعني رفع العقوبة برفع علّتها الذي هو التكليف ، إنّما يمكن الالتزام به في رفع الحسد وأخويه ، إذ أنّه بعد فرض أنّه لا أثر إلاّ العقوبة ، نلتزم بأنّها هي المرفوعة ، غايته أنّ رفع الشارع للعقوبة لا يكون إلاّبرفع الحرمة. أمّا في الاكراه والاضطرار فلا يتأتّى التوجيه المزبور ، من جهة أنّ إدخال العقوبة في عموم الرفع يتوقّف على العناية المزبورة ، وحيثما توقّف شمول العام لفرد على إعمال العناية الخارجة عن العموم لا نحكم بالشمول. أمّا في « ما لا يعلمون » ففيه تأمّل ، إذ لا داعي للركون إلى تقدير العقوبة ، المحتاج إلى إعمال عناية رفع التكليف الذي هو الاحتياط ، أو جعل الترخيص ، أو رفع الحرمة ظاهراً ، وغير ذلك من التصرّفات التي تكون بنفسها مصحّحة لرفع ما لا يعلمون ، من دون

١٤٤

توسّط رفع العقوبة وتطويل المسافة بذلك. وكذلك الحال في رفع ما لا يطيقون ، وهكذا الحال في الخطأ والنسيان ، فإنّ لهما آثاراً شرعية ، فلا يكون عموم الرفع فيهما شاملاً للعقوبة.

ومن ذلك يظهر فساد ما ربما يقال : إنّ ترك الجزء يوجب العقوبة ، فلو وقع نسياناً كانت العقوبة مرفوعة ، وكان رفعها حاصلاً برفع علّتها التي هي وجوب الجزء ، فيكون المرفوع هو الجزئية ، فلا تكون الصلاة باطلة.

وبالجملة : أنّ طريقة رفع العقوبة لا تتأتّى فيما عدا الحسد وأخويه. نعم في الحسد وأخويه حيث انحصر الأثر المصحّح للرفع بالعقوبة ، لعدم كون الحرمة بنفسها مصحّحة له ، وعدم أثر شرعي يكون هو المصحّح ، كان اللازم هو الالتزام بكون المرفوع هو العقوبة ، ولو بواسطة رفع علّتها التي هي الحرمة الواقعية ، فتأمّل.

قوله : وإن أُكره المكلّف على الترك أو اضطرّ إليه أو نسي الفعل ، ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال ، مثلاً لو نذر أن يشرب من ماء الدجلة فأُكره على العدم أو اضطرّ إليه أو نسي أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفّارة مختصّة بصورة تعمّد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة والتفات ، فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً ... الخ (١).

الظاهر أنّ نفس الترك لو كان بمنزلة السبب لوجوب الكفّارة وقد تحقّق منه الترك بأحد الوجوه المذكورة ، يعني الاكراه أو الاضطرار أو النسيان ، على وجه لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

١٤٥

يمكنه بعد ذلك الاتيان به ، لفوات وقته مثلاً ، ونحو ذلك ممّا يوجب عدم التمكّن بعد ذلك من الفعل ، لا مانع من كون ذلك الترك مشمولاً لحديث الرفع ، إذ لا فرق فيما هو موضوع وسبب للأثر الشرعي بين كونه فعلاً أو تركاً ، من دون توقّف على تنزيل ذلك العدم منزلة الوجود ، ليشكل بأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، هذا.

مضافاً إلى إمكان كون المرفوع في مثل ذلك هو مخالفة النذر ، وتنزيل هذه المخالفة منزلة العدم. نعم لو كان يمكنه الفعل بعد ذلك الترك الاكراهي أو الاضطراري أو النسياني ، لم يترتّب على ذلك الترك السابق أثر المخالفة حتّى لو صدر منه باختياره ، لا باكراه ولا باضطرار ولا بنسيان.

وهذا الإشكال الذي أفاده قدس‌سره لا ينحصر بما يكون المطلوب هو صرف الوجود ، بل لو كان المطلوب هو مطلق الوجود ، كما لو نذر أن يسلّم على زيد كلّما مرّ عليه ، وقد مرّ عليه وترك السلام عليه إكراهاً أو اضطراراً أو نسياناً ، فإنّه بناءً على ما أفاده من أنّ التروك لا تدخل في حديث الرفع ينبغي أن يقال بعدم سقوط الكفّارة في ذلك ، ولا أظنّه قدس‌سره يلتزم بذلك. وكذلك الحال فيما لو نذر إكرام كلّ عالم وقد ترك إكرام بعضهم إكراهاً أو اضطراراً أو نسياناً ، على وجه لا يمكنه التلافي بعد ارتفاع أحد هذه العناوين.

وبالجملة : أنّ ظاهر شيخنا قدس‌سره هو التفرقة بين كون المطلوب بالواجب المتروك بأحد هذه العناوين هو صرف الوجود ، فلا يجري فيه حديث [ الرفع ] ، وكون المطلوب به هو مطلق الوجود فيجري فيه حديث [ الرفع ] ، لكن لا لأجل أنّ الحديث لا يتضمّن تنزيل المعدوم منزلة الموجود كي يتوجّه عليه بأنّه مشترك بين الموردين ، بل لما أشرنا إليه من بقاء فرصة الامتثال بعد ارتفاع هذه العناوين ،

١٤٦

وإلى ذلك أشار في هذا التحرير بقوله : فإنّه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت الخ (١).

وصرّح بذلك في تحريرات السيّد فإنّه قال : وأمّا إذا كان الحكم التكليفي متعلّقاً بصرف الوجود ، فالحقّ عدم شمول حديث الرفع لمثل ذلك أبداً ، لما عرفت من أنّ شمول حديث الرفع يتوقّف على كون المرفوع في عالم التشريع ذا أثر شرعي ، حتّى يكون المرفوع في الحقيقة ذاك الأثر المترتّب عليه أو المتعلّق به ، فإذا فرضنا تعلّق الحكم بصرف الوجود ، وكان فرد واحد من الطبيعة المأمور بها متعلّقاً للنسيان أو الاكراه ، فلا يعقل شمول حديث الرفع له أصلاً ، إذ المفروض أنّ ما هو متعلّق الحكم وهو صرف الوجود لم يتعلّق به النسيان أو الاكراه ، وما تعلّق به النسيان أو الاكراه وهو الفرد الخاصّ الخارجي لم يتعلّق به الحكم حتّى يكون رفعه في عالم التشريع رفعاً لحكمه (٢).

ولكن لا يخفى أنّ الوجه في عدم شمول الحديث لمثل ذلك إنّما هو لأنّه لم يتحقّق الترك بالنسبة إلى ما هو المطلوب الذي هو صرف الطبيعة حتّى لو كان الترك عن عمد واختيار كما عرفت ، وهذا هو الذي يعطيه ذيل الكلام ، لا أنّه تعلّق به الترك لكنّه ليس بمشمول لحديث الرفع ، لتوقّف الشمول على كون المرفوع في عالم التشريع ذا أثر شرعي ، وليس هو في المقام ذا أثر شرعي كما يفيد صدر الكلام. نعم لو لم يتمكّن بعد ذلك من الامتثال كان ترك ذلك الفرد محقّقاً لترك ما هو المطلوب الذي هو صرف الطبيعة ، فإن كان ذلك الفعل منذوراً كان ذلك الترك الاكراهي مشمولاً لحديث الرفع ، وإلاّ فليس في البين إلاّ العقوبة ، وهي غير داخلة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٥٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

١٤٧

في حديث الرفع. والظاهر أنّ هذا الأخير هو المراد ، لأنّه مقدّمة للكلام على الجزء المنسي ، فتأمّل.

قوله : ومن هنا يظهر أنّه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فإنّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلاً ، لخلو صفحة الوجود عنها ... الخ (١).

الأولى نقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام إذ لعلّه أوضح ، وهذا لفظه : لو نسي جزءاً أو شرطاً من الصلاة لم يكن مورداً لحديث رفع النسيان ، أمّا أوّلاً : فلأنّه لو جرى الحديث المذكور في مثله لزم منه فقه جديد ، وانهدام ما جرى عليه الفقهاء من التمسّك في باب الخلل بحديث لا تعاد. وأمّا ثانياً : فلأنّ ناسي الجزء إمّا أن يستوعب الوقت نسيانه ، وإمّا أن يتذكّر في أثناء الوقت ، فإن تذكّر في أثناء الوقت ، فإمّا أن نقول إنّ الصادر نسياناً هو ترك الجزء ليكون هو مورد الرفع ، أو نقول إنّ الصادر نسياناً هو الصلاة الفاقدة للجزء المنسي ، وكلّ منهما لا يمكن أخذه مورداً لحديث الرفع.

أمّا الأوّل ، فلما عرفت من اعتبار كون المرفوع ذا أثر شرعي ، ومن الواضح أنّ ترك الجزء في حدّ ذاته ممّا لا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، وأقصى ما فيه أنّه مبطل ، وهو من الآثار العقلية ، وهكذا الحال لو قيل إنّ المرفوع هو ترك المركّب التامّ ، فإنّه أيضاً ممّا لا يترتّب عليه الأثر سوى الاعادة ، وهي من مقتضيات الأمر عقلاً. وكذلك الحال لو سلّطنا الرفع على الفعل الفاقد للجزء المنسي ، إذ لا أثر له

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٥٣.

١٤٨

إلاّ الاجزاء ، وهو غير مشمول لحديث الرفع ، لكون شموله له منافياً للامتنان (١).

ومنه يعلم الحال فيما لو لم يتذكّر إلاّبعد خروج الوقت ، لما هو واضح من أنّه لولا حديث الرفع لم يكن أثر لنسيان الجزء في تمام الوقت إلاّسقوط التكليف بالمركّب في الوقت ، لكونه حينئذ غير مقدور ، ومن الواضح أنّ السقوط المذكور حكم عقلي لا يمكن رفعه بحديث الرفع ، مضافاً إلى كونه خلاف الامتنان (٢).

لا يقال : لِمَ لا تجعلون مورد الرفع هو الجزء المنسي ، فإنّه فعل من الأفعال معنون بعنوان النسيان ، غايته أنّه معنون بعنوان كونه منسياً ، لا بعنوان كونه صادراً نسياناً.

لأنّا نقول أوّلاً : أنّا قلنا إنّه لابدّ في مورد الرفع من كونه فعلاً خارجياً يكون مورداً لأثر من الآثار الشرعية ، بحيث يكون فعلاً خارجياً شخصياً لا أمراً كلّياً كما في الجزء المنسي.

وثانياً : أنّ النسيان قد أخذناه عنواناً للفعل الصادر نسياناً كما في الخطأ وما أُكرهوا عليه ، وكما لو خالف النذر نسياناً ، فكيف يمكن أخذه أيضاً عنواناً للفعل

__________________

(١) قلت : هذا ، مضافاً إلى أنّ نفس الفاقد لم يكن قد صدر نسياناً ، وإنّما الصادر نسياناً هو ترك الجزء المنسي لا باقي الأجزاء التي جاء بها ، وقد أشار إلى ذلك في هذا التحرير [ فوائد الأُصول ٣ : ٣٥٤ ] بقوله : إلاّ أنّه أوّلاً : ليس هو المنسي أو المكره عليه ، ليتوجّه الرفع إليه [ منه قدس‌سره ].

(٢) قلت : نعم ، هناك أثر آخر وهو العقوبة على ترك المركّب التامّ ، لكنّها غير شرعية ، وتسليط الرفع عليها باعتبار رفع علّتها الذي هو وجوب الجزء أو وجوب المركّب التامّ ، قد عرفت [ في صفحة : ١٤٤ ] ما فيه من توقّفه على العناية فلا يشمله العموم [ منه قدس‌سره ].

١٤٩

المنسي (١).

لا يقال : إنّ الجزء الغير المعلوم الجزئية داخل في « ما لا يعلمون » ، فلِمَ لا نقول بكون الجزء المنسي داخلاً في النسيان ، وأيّ فرق بين مورد عدم العلم ومورد النسيان.

لأنّا نقول : إنّ عدم العلم مسلّط على نفس الجزئية الغير المعلومة ، فتكون هي المرفوعة ابتداءً ، لا أنّ المرفوع هو الجزء الذي لم تكن جزئيته معلومة ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ المنسي هو الفعل لا الجزئية ، فلابدّ أن يكون المسلّط عليه الرفع هو الفعل المنسي لا الجزئية ، وقد عرفت أنّ الفعل المنسي لا يمكن أن يتسلّط عليه الرفع في حديث رفع النسيان ، نعم لو دلّ دليل بالخصوص على رفع الجزء المنسي ، لالتزمنا بدلالة ذلك الدليل على رفع جزئيته التي هي عبارة عن وجوبه الضمني.

__________________

(١) وهذا هو العمدة في الجواب ، وإلاّ فلو قلنا بشمول حديث رفع النسيان للجزء المنسي لكان رفعه برفع وجوبه الضمني في حال نسيانه ، وذلك عبارة أُخرى عن رفع جزئيته ، خصوصاً بناءً على مختار شيخنا من كون المجعول هو ذلك الأمر الضمني ، وذلك كافٍ في الحكم بصحّة الصلاة ، أمّا لو كان العذر مستوعباً للوقت فواضح ، وأمّا لو كان قد بقي من الوقت شيء فكذلك ، لأنّ رفع جزئية الجزء المنسي في حال نسيانه كافٍ في الحكم بصحّة الصلاة.

ومن ذلك يتّضح التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير [ فوائد الأُصول ٣ : ٣٥٣ ] بقوله : فإنّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلاً ، لخلو صفحة الوجود عنها ، إلى آخر المبحث. ومثله أيضاً ما حرّره عنه السيّد سلّمه الله [ أجود التقريرات ٣ : ٣٠٤ ] ، فإنّهما لم يذكرا تطبيق رفع النسيان على ترك الجزء المنسي ، بل طبّقاه على نفس الجزء المنسي [ منه قدس‌سره ].

١٥٠

لا يقال : لو استوعب النسيان تمام الوقت كان ترك المركّب التام عن نسيان ، ويكون أثره هو وجوب القضاء ، فيشمله حديث رفع النسيان وبه يرتفع وجوب القضاء.

لأنّا نقول : إنّ القضاء غير مشمول للحديث ، لدلالة دليله على وجوبه على كلّ من ترك الفريضة ولو نسياناً ، بل هو إلى النسيان أقرب ، انتهى.

والذي تلخّص لك من هذا المبحث : هو أنّ رفع النسيان بالنسبة إلى ناسي الجزء لا يمكن إجراؤه في حقّه باعتبار ما صدر عنه من الفاقد ، لما عرفت من كونه صادراً عن عمد والتفات ، ولم يكن صدوره عنه عن نسيان ، ولا باعتبار ترك المجموع المركّب ، إذ لا أثر لترك ذلك المجموع إلاّ الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه. والأوّل عقلي باقتضاء بقاء الأمر. والثاني وإن كان شرعياً إلاّ أنّ إطلاق دليل القضاء للناسي بل ظهوره فيه يجعله من قبيل الحكم الوارد على الناسي ، فلا يدخل في حديث رفع النسيان.

فلم يبق إلاّ أن نقول باجرائه في حقّه باعتبار تركه الجزء المنسي ، وقد عرفت أنّه لا أثر لترك الجزء إلاّ البطلان وهو عقلي لا شرعي. وأمّا إجراؤه في حقّه باعتبار نفس الجزء المنسي ، بأن يكون مساق رفع النسيان هو رفع المنسي لا رفع ما صدر نسياناً ، وهو خلاف الظاهر من سياقه مساق رفع ما أُكرهوا عليه وما اضطرّوا ، في وقوعهما على نفس ما صدر عن إكراه أو عن اضطرار ، فيكون رفع النسيان عبارة عن رفع ما صدر عن نسيان لا رفع ما هو المنسي ، وهذا المقدار من قرينة السياق كافية في الحكم بأنّه لا يشمل الشيء المنسي ، فينحصر مورده بمثل الأكل والشرب والارتماس نسياناً باعتبار إيجابه الكفّارة أو المفطرية ، على إشكال في كلّ منهما. أمّا الأوّل ، فلكونها مقيّدة بالعامد. وأمّا الثاني ، فلأنّ المفطرية نظير

١٥١

إبطال الصلاة في كونها غير شرعية ، ولأجل ذلك احتجنا في أمثال ذلك إلى الأدلّة الخاصّة. نعم يتأتّى في مثل الكلام نسياناً في أثناء الصلاة بناءً على كونه من قبيل المانع ، إلاّ أنّ اغتفاره لأجل ما ورد فيه من النصوص.

والحاصل : أنّه ليس لنا مورد نحتاج فيه إلى إجراء حديث رفع النسيان فيما وقع عن نسيان من فعل أو ترك كي نقول إنّا بعد إعمالنا لحديث رفع النسيان فيما وقع عن نسيان ، لا يمكننا تطبيقه على الشيء المنسي. فالأولى هو الاعتماد على ما عرفت من قرينة السياق. ولعلّه يلزم من الأخذ بمقتضى هذه القرينة إبقاء رفع النسيان بلا مورد يخصّه. وهذه الجهة تحتاج إلى تتبّع ومراجعة إلى مظانّ هذه الموارد.

أمّا لو حملناه على رفع الجزء المنسي ، فالظاهر أنّه نافع في رفع وجوبه واقعاً ولو في حال النسيان ، لا مجرّد المعذورية لكي يقال إنّ الناسي معذور قطعاً عمّا نسيه ، ومقتضى رفع الوجوب الواقعي هو ارتفاع الجزئية في هذا الحال. لكن التحريرين في هذا المقام كان النظر فيهما إلى تسليم إمكان أخذه بمعنى الجزء المنسي ، وتوجيه المناقشة في أثر ذلك الجزء المنسي ، فراجعهما وراجع ما عن شيخنا قدس‌سره في ذيول مسألة الأقل والأكثر ممّا يتعلّق بهذه الناحية (١).

وهناك طريقة أُخرى لرفع جزئية المنسي ، بأن يقال : إنّ الجزئية في هذا الحال ـ أعني حال النسيان ـ غير معلومة ، فهي مرفوعة باعتبار عدم العلم بكون ذلك الجزء جزءاً حتّى في حال النسيان ، لإمكان اختصاص جزئيته بحال الذكر بأحد طرق الاختصاص. وهذه الطريقة أيضاً راجعة إلى ما أشرنا إليه من توابع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٢٢٠ وما بعدها ، وتعليق المصنّف قدس‌سره على ذلك يأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، فراجع الصفحة : ٣٥٥ وما بعدها من المجلّد الثامن.

١٥٢

مسألة الأقل والأكثر ، فراجع ما هناك وما علّقناه عليه (١) وتأمّل. هذا ما حصل في النظر القاصر.

ولكن الإنصاف أنّه بعدُ محلّ تأمّل وإشكال ، فإنّ رفع الوجوب الوارد على الجزء في ضمن وروده على الكل ، سواء كان بطريق عدم العلم بجزئيته في حال النسيان أو كان بطريق كونه منسياً ورفع الجزء المنسي يكون رفعاً لوجوبه ، قد يقال إنّه لا ينتج النتيجة المطلوبة ، حيث إنّ الوقت إذا كان باقياً بعد ارتفاع النسيان لا يكون رفع الوجوب عن الجزء في حال النسيان مسقطاً للأمر المتعلّق بالكل ، وإن كان الوقت غير واسع ، فإن كان القضاء بالأمر السابق كان حاله حال ما لو بقي الوقت ، وإن كان بالأمر الجديد لم يكن سقوط الوجوب في الوقت عن الجزء المنسي موجباً لسقوط القضاء المترتّب على ترك الكل التامّ.

وبالجملة : لا يكون حال الجزء المنسي بالنسبة إلى الوجوب الضمني إلاّ حال نفس المركّب لو نسيه في تمام الوقت أو في بعضه ، وهذا هو ما أفاده شيخنا قدس‌سره في طي كلماته في المقام وفيما يأتي من مسألة الأقل والأكثر. فتأمّل وانتظر تتمّة المبحث في محلّه من ملحقات مسألة الأقل والأكثر.

والخلاصة هي : أنّ الاكراه أو النسيان إمّا أن يكون في الموافقة للتكليف ، وإمّا أن يكون في المخالفة. فالأوّل لا يجري فيه حديث الرفع ، كما لو كلّف بإكرام زيد فأكرمه إكراهاً أو نسياناً ، أو كلّف بترك إكرامه فتركه إكراهاً أو نسياناً ، فلا يجري في مثل ذلك حديث الرفع ، لكونه خلاف الامتنان. وأمّا الثاني فإن كان المكلّف به هو الترك ، بأن حرم عليه إكرام زيد بنذر ونحوه فأكرمه إكراهاً أو نسياناً ، فهو مورد حديث رفع النسيان أو الاكراه. ولو كان الأمر بالعكس ، بأن

__________________

(١) المصدر المتقدّم.

١٥٣

وجب عليه فعل من الأفعال في وقت معيّن كالدعاء عند رؤية الهلال ، فتركه نسياناً أو إكراهاً فهذا لا يتأتّى فيه حديث الرفع ، إذ لا أثر للترك في مثل الدعاء عند رؤية الهلال إلاّعدم حصول امتثال الأمر ، وهذا لا مورد فيه لحديث الرفع.

نعم ، لو ترتّب على الترك المذكور أثر شرعي ، مثل أن يكون الفعل الواجب واجباً بنذر ونحوه ، بحيث كان هناك أثر يترتّب على تركه وهو الكفّارة ، جرى فيه حديث الرفع بالنسبة إلى مثل ذلك الأثر ، وهناك واجب آخر يترتّب على تركه أثر غير مجرّد عدم الامتثال ، لكنّه لا يكون شرعياً مثل الكفّارة بل يكون عقلياً كالتشهّد المتوسّط في الصلاة ، فإنّ أثر تركه في محلّه هو بطلان الصلاة ، لكنّه ليس بشرعي كي يكون مورداً لحديث الرفع ، هذا إن لاحظنا نفس الترك الصادر نسياناً ، فعدم جريان حديث الرفع فيه لعدم كون أثره وهو بطلان الصلاة شرعياً ، لا لأجل أنّ جريان الرفع في الترك يكون عبارة عن الوضع ، بأن يكون مفاد الرفع في الترك هو جعل الترك كلا ترك ، وهو عبارة عن الفعل ، لأنّ نفي النفي إيجاب ، فيكون محصّل قوله : رفع الترك ، أنّه قد وضع الفعل ، ويكون محصّل الرفع هو الوضع ، وكأنّ هذا هو المانع عند شيخنا قدس‌سره.

لكن لا يخفى عليك أنّ العمدة هو أنّ الترك لا يترتّب عليه أثر شرعي ، ولو كان في البين أثر شرعي كما عرفت في ترك الفعل الواجب بنذر لجرى فيه حديث الرفع من دون حاجة إلى جعل الرفع بمعنى الوضع ، هذا كلّه فيما لو كان المنظور إليه في نسيان التشهّد هو ترك التشهّد.

ولو كان المنظور إليه هو التشهّد المنسي ، فالذي هو العمدة في الإشكال هو مخالفته حينئذ في السياق لباقي التسعة ، لا أنّ المنسي لا أثر له إلاّصحّة الصلاة ، لإمكان الجواب عن هذا بأنّ أثره هو الوجوب الضمني ، ورفعه في حال النسيان

١٥٤

يوجب رفع الجزئية وصحّة العمل ، ولو كان المنظور إليه هو المركّب التامّ فيقال إنّه قد نسي بنسيان التشهّد فيه ، لانحلال المركّب بانحلال بعض أجزائه ، ففيه ما لا يخفى.

وإن شئت فقل : إنّ هذا المكلّف قد نسي الصلاة ، فإن كان ذلك في أوّل الوقت لم يكن عليه شيء سوى بقاء الأمر وهو غير شرعي ، وإن كان ذلك في تمام الوقت لم يكن هناك إلاّ القضاء ، فإن قلنا إنّه بالأمر السابق كان ذلك عبارة عن بقاء الأمر ، وقد عرفت الحال فيه ، وإن قلنا بأنّ القضاء بالأمر الجديد نظير الكفّارة فالظاهر جريان حديث الرفع فيه ، إلاّ أن ندّعي القطع بأنّ قوله عليه‌السلام : « من فاتته فريضة » (١) نصّ في النسيان ، وفيه تأمّل.

وعلى كلّ حال ، ليس بناؤهم على إجراء حديث رفع النسيان فيما لو ترك الصلاة في وقتها نسياناً ، ولعلّ ذلك لأجل نصوص خاصّة توجب القضاء ، أو لأجل أنّ القضاء بالأمر السابق ، ولو كان المنظور في حديث الرفع هو الفعل المأتي به أعني الصلاة الفاقدة للتشهّد نسياناً ، فذلك لا ينطبق عليه حديث الرفع ، لعدم كونه متروكاً ولا كونه مأتياً به نسياناً ، بل هو مأتي به عمداً ، ومع قطع النظر عن ذلك لا يكون له أثر إلاّ الاجزاء وهو عقلي. مضافاً إلى كون رفعه خلاف الامتنان.

بقي الكلام في إعمال حديث الرفع في المقام باعتبار « ما لا يعلمون » ، بأن يقال : إنّ وجوب التشهّد في حال نسيانه غير معلوم فيكون مرفوعاً ، وهو يقتضي الصحّة والاجزاء ، وتمام الكلام فيه في محلّه من مباحث الأقل والأكثر (٢) إن شاء

__________________

(١) عوالي اللآلي ٢ : ٥٤ / ١٤٣ ، ٣ : ١٠٧ / ١٥٠.

(٢) تقدّم استخراجه في الصفحة : ١٥٢.

١٥٥

الله تعالى.

والخلاصة : هي أنّ الفعل لو كان لوجوده أثر كالتحريم وإفساد الصوم ، فلو فعله المكلّف نسياناً جرى فيه حديث رفع النسيان ، أمّا لو كان بالعكس بأن كان الفعل واجباً وقد تركه المكلّف نسياناً ، فلا يجري فيه حديث الرفع ، إذ لا معنى لرفع الترك النسياني ، بل المناسب هو الوضع ، وبعد البناء على ذلك نقول : إنّ من ترك السورة في الصلاة نسياناً ففي تطبيق حديث رفع النسيان عليه وجوه :

الأوّل : أن نقول : إنّ الفاقد للسورة قد صدر نسياناً ، فيكون مرفوعاً. وفيه أوّلاً : أنّ الفاقد لم يكن هو نسياناً بل كان المفقود هو المنسي. وثانياً : أنّه لا يكون لذلك الفاقد أثر شرعي ، بل أثره عقلي وهو إسقاط الأمر المتعلّق به ، فلا يشمله حديث الرفع ، لما عرفت من كون المرفوع هو الأثر الشرعي. وثالثاً : أنّ هذا الأثر لا منّة في رفعه ، بل تكون نتيجة رفعه هو الاعادة ، فلا يشمله حديث الرفع ، لكون المرفوع فيه هو ما يكون رفعه امتناناً.

الوجه الثاني : أن نقول : إنّ ترك السورة كان نسياناً ، فهو ـ أعني الترك ـ مرفوع. وفيه أوّلاً : ما عرفت من عدم جريان الرفع في الترك. وثانياً : أنّ هذا الأثر للترك ليس بشرعي ، إذ ليس هو إلاّعبارة عن عدم حصول امتثال الأمر بذلك الجزء المنسي ، وليس ذلك من الآثار الشرعية.

الوجه الثالث : أن نقول : إنّ الرفع مسلّط على الجزء المنسي ، فذلك ـ أعني السورة ـ هو المرفوع ، ورفعه برفع أثره الذي هو الجزئية والوجوب الضمني. وفيه : أنّ النسيان إنّما ينطبق على الفعل الذي صدر نسياناً ، فليس هو بمعنى المنسي كي ينطبق على السورة المذكورة.

الوجه الرابع : أن نقول : إنّ جزئية هذه السورة مشكوكة ، لأنّها إن كانت

١٥٦

جزءاً حتّى في حال النسيان كانت الصلاة باطلة ، وإن كانت جزئيتها مختصّة بحال الذكر كانت الصلاة صحيحة ، فنحن شاكّون في الجزئية في خصوص حال النسيان ، ويصدق علينا أنّا لا نعلم بجزئيتها في حال [ النسيان ] ، فتكون داخلة في « ما لا يعلمون » ، فتكون مرفوعة ، ويكون الرفع حينئذ رفعاً ظاهرياً ، لأنّ مناطه الجهل بالجزئية وعدم العلم بها ، وهذا بخلاف بقية الوجوه ، فإنّ الرفع لو تمّ فيها يكون واقعياً ولا يكون ظاهرياً ، وتمام الكلام في محلّه في مباحث الأقل والأكثر من الأُصول ، وفي مباحث الصلاة من الفقه.

قوله : ثمّ إنّه ربما يستدلّ للبراءة باستصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر ... الخ (١).

تعرّضنا للاستدلال على البراءة باستصحاب عدم التكليف في التنبيه الرابع من تنبيهات الاستصحاب في حواشي الجزء الثاني عند الكلام على شبهة النراقي في تعارض استصحاب وجوب الجلوس إلى بعد الزوال مع استصحاب عدم الوجوب ، فراجع (٢).

قول السيّد سلّمه الله فيما حكاه عن شيخنا : فيكون مفاده بعينه مفاد « اسكتوا عمّا سكت الله عنه » (٣) ... الخ (٤).

يمكن أن يقال : إنّه لو كان ذلك هو المراد لكان تعلّق الحجب بنفس الحكم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٧٠.

(٢) حواشي المصنّف قدس‌سره على ذلك المطلب تأتي في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : ٤٢٦ ـ ٤٦٢.

(٣) تقدّم استخراجه في الصفحة : ١١٨.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٣١٥.

١٥٧

أولى ، بأن يقال : ما حجبه الله عن العباد. وأمّا نسبة حجب العلم إليه تعالى فيمكن أن يكون كنسبة سائر الأُمور العادية التي تنوجد وتنعدم بأسبابها العادية إليه ، ليكون من قبيل « ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر » (١) وحينئذ يكون محصّل الرواية هو أنّ ما لم يحصل به العلم للعباد من الأحكام الواقعية فهو موضوع ومرفوع عنهم. وعموم العباد لا يكون قرينة على إرادة الأحكام التي لم تبلغ ، لأنّه من قبيل « رفع عن أُمّتي ما لا يعلمون » (٢) في نسبة عدم العلم إلى الأُمّة ، والمقصود هو آحادها ممّن اتّفق له عدم العلم بالحكم الواقعي.

قوله : وعلى الثاني يكون مفاده أنّ الناس ما دام لا يعلمون يكونون في سعة ، فتكون أخبار الاحتياط حاكمة عليه على تقدير تمامية دلالتها ... الخ (٣).

وجه الحكومة : هو أنّ ما لا يعلمون يكون متعلّقه هو مطلق الوظيفة لا خصوص الحكم الواقعي ، وحينئذ تكون أخبار الاحتياط واردة عليه لا حاكمة. ولكن يمكن أن يقال : إنّ متعلّق العلم هو الحكم الواقعي كما لو أخذنا لفظة « ما » موصولة ، وقرأناه باضافة السعة لا بالتنوين.

قوله : فيقدّم أخبار الاحتياط عليه ، لكون هذه الرواية عامّة لمطلق الشبهة ، واختصاص تلك الأخبار بخصوص الشبهة التحريمية ، فتدبّر (٤).

لعلّ قوله : فتدبّر ، إشارة إلى إيراد ذكره قدس‌سره فيما حرّرته عنه ، وأنّه لِمَ لا نلتزم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢٥٩ / أبواب قضاء الصلوات ب ٣ ح ٣ ، ٧ وغيرهما.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣١٥.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٣١٥.

١٥٨

بالتخصيص المذكور بالنسبة إلى « ما لا يعلمون » ، وأجاب عنه قدس‌سره بأنّه آبٍ عن التخصيص ، انتهى.

قلت : لعلّ الوجه في إبائه عن التخصيص هو كونه مسوقاً للامتنان كما صرّح به في هذا التحرير (١) ، وحينئذ نقول : إنّ قوله : « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٢) أيضاً مسوق لذلك ، على أنّه قد ثبت التخصيص في موارد الأموال والدماء والفروج.

فالأولى في الجواب : هو المناقشة في دلالة أخبار الاحتياط أو في سندها ، ولا يبعد أن يكون المراد من أخبار الاحتياط الواردة في خصوص الشبهة التحريمية هي أخبار التثليث ، وهي حرام بيّن وحلال بيّن وشبهات بين ذلك الخ (٣) ، وحينئذ يمكن القول بأنّها ليست مختصّة بخصوص الشبهة التحريمية ، نظراً إلى أنّ المقصود من حلال بيّن وحرام بيّن ليس هو الحلّية والحرمة الاصطلاحية ، لوضوح عدم الانحصار فيهما ، بل المقصود من ذلك هو الالزام وغير الالزام ، فعلاً كان المتعلّق أو تركاً ، وحينئذ تكون عامة للشبهات الوجوبية أيضاً ، وبذلك تكون مباينة لأخبار البراءة ، فتأمّل.

قوله : فإنّ ظاهر الرواية حينئذ هو عدم العقاب في فرض الجهل ، فيكون مفاده مفاد قبح العقاب بلا بيان ليس إلاّ (٤).

سيأتي في رواية « أيّما امرئ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه » (٥) أنّ قوله :

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣١٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ و ١٦١ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣ و ٢٧.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ و ١٦١ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣ و ٢٧.

(٤) أجود التقريرات ٣ : ٣١٥.

(٥) وسائل الشيعة ١٢ : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / أبواب تروك الإحرام ب ٤٥ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).

١٥٩

« لا شيء عليه » ليس إخباراً عن عدم العقاب ـ إلى قوله ـ بل مفاده هو الترخيص الشرعي بلسان نفي العقاب الخ (١).

نعم ، يرد على الاستدلال بهذه الرواية أنّ أخبار الاحتياط في الشبهة التحريمية أخصّ منها ، ولأجل ذلك أفاد فيما حرّرته عنه ما هذا لفظه : ومنها « سألته عمّن لم يعرف شيئاً هل عليه شيء ، فقال عليه‌السلام : لا » (٢) فإن كان المراد هوالسالبة الكلّية ، كانت الرواية أجنبية عمّا نحن بصدده ، لأنّها تكون واردة في المستضعف. وإن كان المراد من الشيء شيئاً معيّناً يفرضه السائل وأنّه قد تعلّق به عدم العلم ، فإن كان المراد من عدم المعرفة خصوص الجهل المركّب ، كانت أيضاً أجنبية عمّا نحن بصدده. وإن كان المراد الأعمّ من الجهل المركّب والجهل البسيط ، كانت أخبار الاحتياط مخصّصة لها بما عدا ما هو محلّ الكلام وهو الشبهة التحريمية ، كما أنّها بالنسبة إلى الجهل المركّب تكون مخصّصة بما عدا مورد القصور وهو الجهل عن التقصير ، انتهى. وقد تقدّم الكلام على التخصيص بأخبار الاحتياط.

قوله : إلاّ أنّ الظاهر أنّ المراد من لفظ « الشيء » هو الشيء بعنوانه الأوّلي فيكون دليلاً على كون الأصل في الأشياء في الشريعة الاباحة حتّى يثبت الحظر ... الخ (٣).

يمكن أن يدّعى ظهور هذه الرواية في الحكم باطلاق الشيء والرخصة فيه ما لم يصل فيه النهي إلى المكلّف ، فإنّ الظاهر من الورود هو الوصول دون أصل

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣١٦ ـ ٣١٧.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٨١ / كتاب العلم ب ٣٢ ح ٥٠.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣١٧.

١٦٠