أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

وأمّا ما أفاده في ذيل كلامه بقوله قدس‌سره : وتوهّم كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً الخ ، فهو إشارة إلى مسلك آخر ، وهو كون مفاد دليل اعتبار الأمارة هو تنزيلها منزلة القطع بقول مطلق ، الشامل للقطع الموضوعي والقطع الطريقي الصرف ، وهذا المسلك وإن لم يكن هو قدس‌سره قائلاً به ، إلاّ أنّه قد ردّه بما ملخّصه : هو أنّا لو بنينا على ذلك ، وقلنا بأنّ مفاد دليل اعتبارها هو تنزيلها منزلة القطع ، لم يكن ذلك التنزيل قابلاً للجمع في التنزيل من الجهتين ، لكون الملحوظ في المنزّل والمنزّل عليه في الجهة الأُولى هو الأمارة والقطع باللحاظ الآلي لكلّ منهما ، والملحوظ فيهما في الجهة الثانية هو الأمارة والقطع باللحاظ الاستقلالي ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في عبارة واحدة تكون متكفّلة للتنزيلين.

وحينئذ لا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره بما حاصله : أنّ الاحتياج إلى الجمع بين اللحاظين إنّما هو على تقدير القول بأنّ مفاد دليل الاعتبار هو التنزيل ، وأمّا إذا قلنا كما هو المختار بأنّ مفاد دليل الاعتبار هو جعل الحجّية ، فلا مورد فيه للجمع بين التنزيلين.

نعم ، إنّ الذي ينبغي المناقشة فيه مع صاحب الكفاية قدس‌سره هو هذه الجهة ، وهي ما تضمّنه صدر كلامه من أنّ مجرّد جعل الحجّية للأمارة لا يفي إلاّبقيامها مقام القطع الطريقي الصرف دون القطع الموضوعي ، لأنّ أقصى ما يفيده جعل الحجّية لها هو قيامها مقام القطع في الحجّية ، الذي هو عبارة عن القطع الطريقي الصرف ، فشيخنا قدس‌سره يعترض عليه في ذلك بأنّ القطع المأخوذ في الموضوع إنّما أُخذ فيه من حيث إنّه حجّة ، فإذا جعل الشارع الحجّية للأمارة وصيّرها حجّة ، قامت قهراً مقام العلم في مدخليته في الموضوع ، كما قامت مقامه في الحجّية

٨١

والطريقية الصرفة.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ ما أُخذ في الموضوع هو الحجّة التي هي الأعمّ من الحجّية الذاتية والحجّية الجعلية ، كما هو محصّل الجواب الأوّل الذي أفاده بقوله قدس‌سره : الأوّل دعوى أنّ المراد من العلم الذي أُخذ في ظاهر الدليل موضوعاً الخ (١). أمّا بعد البناء على إبطال ذلك الوجه الأوّل بقوله قدس‌سره : ولكن للمنع عن هذه الدعوى مجال الخ (٢) وبعد إبطال الوجه الراجع إلى دعوى استنباط العلّة أو تنقيح المناط بقوله : وللمنع عن هذه الدعوى أيضاً مجال ، فإنّها موقوفة على استخراج المناط القطعي ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك (٣) فيشكل الأمر في كفاية دليل جعل الحجّية في قيامها مقام القطع الموضوعي.

وأمّا الحكومة الظاهرية التي اعتمد عليها قدس‌سره في ذلك ، فهي بالنسبة إلى أدلّة الأحكام الواقعية اللاحقة لموضوعاتها الواقعية مسلّمة لا شبهة فيها ، ولكنّها لا تقتضي إلاّقيام الأمارة مقام القطع الطريقي الصرف ، أمّا حكومتها على الأدلّة المتكفّلة لاثبات الأحكام للقطع على نحو تمام الموضوع أو جزئه فهي غير ثابتة ، وجعل الحجّية لا يقتضيها ، فلا يكون في البين ما يقتضي قيامها مقام ذلك القطع.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده قدس‌سره بقوله : والحاصل أنّ نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الاحراز ، وأنّه أعمّ من الاحراز الوجداني ، وإلاّ لم يكن للحكومة معنى الخ (٤). ووجه التأمّل هو أنّ جهة الاحراز أو إلغاء احتمال

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٤.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢٤.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ٢٥.

٨٢

الخلاف غير قابلة للجعل الشرعي إلاّباعتبار التنزيل وترتيب الأثر ، وهو قدس‌سره لا يقول به ، لأنّ مرجع ذلك إلى تنزيل الأمارة منزلة العلم الوجداني ، وهو قدس‌سره لا يرى مفاد دليل الاعتبار إلاّجعل الاحراز والحجّية ، دون غيره ممّا يرجع إلى التنزيل وجعل الآثار.

وبالجملة : أنّ نفس الأمارة لا تخلو في حدّ ذاتها عن الاحراز الوجداني ومن الواضح أنّ ذلك المقدار من الاحراز وجداني غير قابل للتعبّد الشرعي ، وترقية ذلك الاحراز إلى مرتبة العلم المنفي فيه احتمال الخلاف غير قابل للجعل الشرعي ، لأنّه من الأُمور الواقعية غير القابلة للجعل الشرعي إلاّبالتنزيل الراجع إلى الحكم بترتيب الأثر ، الذي أقل ما يرد عليه هو عدم إمكان الجمع على ما تقدّم تفصيله في الوجوه المتقدّمة (١) المحتملة في مفاد دليل اعتبار الأمارة ، فمن أين لنا الحكم بالحكومة الظاهرية على أدلّة الأحكام الشرعية اللاحقة للقطع الموضوعي سواء كان تمام الموضوع أو جزأه.

ومن ذلك يظهر التأمّل فيما أفاده في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : والحاصل أنّ تحقّق الواقع بعد قيام البيّنة مثلاً إنّما هو من جهة إعطاء الشارع صفة المحرزية والكاشفية للبيّنة ، التي هي ليست بمحرزة تامّة للواقع ، فصفة المحرزية إنّما هي المجعولة أوّلاً وبالذات ، وكون الواقع محرزاً إنّما هو بتبعها ، فقيامها بعد اتّصافها بهذه الصفة المجعولة مقام القطع الوجداني في كونه جزءاً للموضوع أولى من قيام المؤدّى منزلة الواقع الخ (٢).

فإنّ ذلك كلّه مبني على جعل الاحراز التامّ للأمارة ، وقد عرفت أنّه غير قابل

__________________

(١) في الصفحة : ٦٧ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٨.

٨٣

للجعل التعبّدي ، بل هو أمر وجداني واقعي ، إمّا أن يكون موجوداً وإمّا أن يكون معدوماً ، كسائر الموضوعات التكوينية الواقعية غير القابلة للجعل التعبّدي والتكوين الشرعي إلاّبلحاظ التنزيل والحكم بترتيب الأثر ، وإنّما أقصى ما في البين هو دعوى كون الحجّية من الأحكام الوضعية القابلة للجعل التعبّدي ، وليست هي عين الاحراز التعبّدي كي يكون جعل الحجّية للأمارة عبارة أُخرى عن جعلها محرزة للواقع بخلق الاحراز فيها خلقاً تعبّدياً ، فإنّ ذلك لا يمكن إلاّ بجعل الآثار اللاحقة للاحراز الوجداني ، بتنزيل ذلك المقدار من الاحراز الوجداني الناقص الحاصل للأمارة منزلة الاحراز الوجداني التامّ الحاصل للقطع.

وعمدة الإشكال هو هذه الجهة ، وأنّ الاحراز قابل للتعبّد وللجعل الشرعي ، وشيخنا قدس‌سره يراه قابلاً لذلك كما صرّح فيما حرّره عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا في مقام الجواب عن إشكال الجمع بين اللحاظين ، فإنّه قال : وأمّا إذا بنينا على عدم تكفّل دليل الحجّية والاعتبار للتنزيل أصلاً ، بل غاية شأنه هو إعطاء صفة الطريقية والكاشفية للأمارة ، وجعل ما ليس بمحرز للواقع حقيقة محرزاً له تشريعاً ، فليس هناك تنزيل حتّى يترتّب عليه الجمع بين اللحاظين الخ (١).

لكن النظر القاصر قاصر عن إدراك قابلية الاحراز للجعل من دون توسّط التنزيل الراجع إلى ترتيب الآثار ، ولا يمكنني الجزم بذلك فعلاً ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً.

وإن شئت فراجع ما حرّره عنه قدس‌سره في التحرير المذكور في المقدّمة الثالثة فإنّ عباراته هناك في جعل الاحراز أصرح ، لكنّه مع ذلك يقول في أثناء الكلام :

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٦.

٨٤

فما يجري على الألسنة بأنّ ما قامت الأمارة على خمريته مثلاً خمر تعبّداً ، أو أنّ نفس البيّنة علم تعبّداً ، فممّا لا محصّل له ، وليس له معنى معقول ، إذ الخمرية أو العلم من الأُمور التكوينية الواقعية التي لا تنالها يد الجعل تشريعاً. مضافاً إلى أنّه لم يرد في آية ولا رواية أنّ ما قامت البيّنة على خمريته خمر ، أو أنّ الأمارة علم حتّى يصحّ دعوى كون المجعول هو الخمرية ، أو كون البيّنة علماً ولو بنحو المسامحة ومن باب الضيق في التعبير. وبالجملة : ما يكون قابلاً لتعلّق الجعل التشريعي به كبقيّة المجعولات التشريعية هو نفس صفة الكاشفية والطريقية لما ليس كذلك بحسب ذاته ، من دون تنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ، ولا لتنزيل نفسه منزلة العلم الخ (١). وبنحو ذلك صرّح فيما حرّرته عنه قدس‌سره في هذه المقدّمة الثالثة.

والأصل في هذا كلّه هو ما صرّح به في المقدّمة الأُولى في بيان جهات العلم من أنّه بنفسه لا يكون قابلاً للجعل ، لكن الجهة الثانية منه وهي جهة الكشف والاراءة ، والجهة الثالثة وهي جهة البناء وعقد القلب ، كلّ منهما قابل للجعل الشرعي ، والأُولى منهما مجعولة للأمارات ، والثانية مجعولة للأُصول الاحرازية ، وقد تقدّم نقل ما حرّرته عنه قدس‌سره في بيان أنّ الجهة الثانية والجهة الثالثة من جهات القطع قابلان للجعل الشرعي لغير القطع ، بخلاف الجهة الأُولى منه والثانية (٢) فإنّهما غير قابلتين للجعل الشرعي أصلاً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٢٥.

(٢) [ هكذا في الأصل ، والظاهر أنّ المصنّف قدس‌سره يشير بذلك إلى ما نقله سابقاً عن شيخه قدس‌سره من المراتب الأربع للقطع ، فيكون المراد : أنّ المرتبة الثالثة والرابعة قابلتان للجعل الشرعي بخلاف المرتبة الأُولى والثانية ، فراجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦٠ ـ ٦٢ ].

٨٥

وبناءً على ذلك يتمّ ما أفاده قدس‌سره من الحكومة الظاهرية ، وأنّ خلق الاحراز في الأمارة يوجب قهراً ترتيب آثار الواقع لتحقّق إحرازه ، وترتيب آثار القطع نفسه المفروض كونه موضوعاً لتلك الآثار من ناحية جهته الثانية ، وهي جهة الكشف والاحراز والطريقية ، ولا يتوجّه عليه الإشكال بأنّ تلك الآثار مترتّبة على الاحراز الوجداني ، وهذا الاحراز الحاصل من الأمارة ليس باحراز وجداني ، وإنّما هو إحراز جعلي من الشارع ، لأنّ ترتيب تلك الآثار أولى من ترتيب آثار الواقع ، لأنّ آثار الواقع لم تكن لاحقة للاحراز ، بل إنّما هي لاحقة للواقع ، وأمّا الاحراز فغايته أنّه ينجّزها ، بخلاف الآثار المترتّبة على الاحراز.

نعم ، لمّا كان هذا الاحراز تعبّدياً ظاهرياً ، كان ترتيب أثر الاحراز الوجداني عليه حكماً ظاهرياً ، فتكون حكومته على دليله حكومة ظاهرية ، هذا.

ولكن قد يقال : لو سلّمنا إمكان جعل الاحراز تعبّداً ، فلا نسلّم أنّ مجرّد جعل الاحراز يوجب ترتيب آثار الاحراز الوجداني عليه ، ما لم يكن في البين ما يدلّ على تنزيل هذا الاحراز التعبّدي منزلة الاحراز الوجداني ، وإلاّ فلو خلّينا نحن ودليل جعل ذلك الاحراز لم يترتّب عليه إلاّتنجيز آثار الواقع لكونها محرزة.

ويمكن الجواب عنه : بأنّه كما رتّبنا على ذلك الاحراز آثار الواقع ، وحكم العقل بكونها منجّزة لكونها محرزة ، فكذلك يحكم العقل بترتيب آثار إحراز الواقع لتحقّق الاحراز نفسه ، غايته أنّه تحقّق تعبّدي لا وجداني ، وهذه التفرقة إنّما توجب كون الحكومة حكومة ظاهرية ، فتأمّل لإمكان أن يقال : إنّ جعل الاحراز لا أثر له حتّى في ترتيب آثار الواقع ، ما لم يرجع إلى التنزيل وجعل الآثار.

ويمكن أن يقال : إنّا لو سلّمنا ذلك كلّه فهو لا يقتضي كون الحكومة بالنسبة إلى القطع الموضوعي حكومة ظاهرية ، بل الذي ينبغي هو كون الحكومة بالنسبة

٨٦

إلى ذلك حكومة واقعية ، على وجه يكون انكشاف الخلاف وتبيّن خطأ الأمارة من قبيل تبدّل الموضوع ، كما لو انكشف خطأ القطع. نعم هي بالنسبة إلى القطع الطريقي الصرف تكون حكومة ظاهرية ، فتأمّل.

فالأولى أن يقال : إنّ الأمارة في حدّ نفسها لا تخلو عن مقدار من الكشف والاحراز ، وهذا المقدار لم يزده الشارع لا تعبّداً ولا تكويناً ، وإنّما أقصى ما صنعه الشارع هو أنّه أعطاه صفة الحجّية ، فجعله حجّة بعد ما لم يكن كذلك ، وبعد أن جعله حجّة يحكم العقل بلزوم ترتيب آثار الواقع لقيام الحجّة الشرعية عليه ، وبذلك تكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي الصرف ليس إلاّ.

لا يقال : لو قلتم بجعل الاحراز يكون اللازم عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ تمام الموضوع ، لأنّ ما قامت [ عليه ] الأمارة في مثل الفرض لا يكون له أثر أصلاً ، فلا يشمله دليل حجّية الأمارة ، إذ لابدّ فيما قامت عليه الأمارة من كونه ذا أثر شرعي بنفسه ، أو لا أقل من كونه ذا لازم يترتّب عليه الأثر الشرعي ، بناءً على كفاية هذا الأخير في شمول دليل الحجّية.

لأنّا نقول : بناء على كون مفاد الحجّية هو جعل الاحراز ، نقول : إنّه لا دليل على اعتبار كون مؤدّى الأمارة ذا أثر شرعي ، إلاّمن جهة لغوية الجعل فيما لم يكن في البين أثر شرعي ، ويكفي في الاخراج عن اللغوية ترتّب الأثر على نفس الجعل ، أعني جعل الاحراز ، فإنّ ترتّب الأثر على نفس الاحراز كافٍ في خروجه عن اللغوية ، ولا يلزم الدور ، لأنّه إنّما يلزم لو كان الأثر شرطاً على وجه يكون متقدّماً رتبة على الجعل ، كما لو قلنا بأنّ مفاد دليل الاعتبار هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع في ترتيب أثره عليه ، إذ لا يعقل حينئذ أن يكون ذلك الأثر ناشئاً من ذلك التنزيل. أمّا إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد جعل الاحراز ، فيكفي فيه ترتّب الأثر

٨٧

ولو في المرتبة المتأخرة عن الجعل ، لكونه لاحقاً للمجعول بذلك.

ومن ذلك يعلم أنّه لا حاجة في قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الذي على نحو تمام الموضوع إلى أن يكون الواقع الذي قامت عليه الأمارة ذا أثر في حدّ نفسه ليكون ذلك الأثر مصحّحاً لقيام الأمارة ، وبعد تحقّق قيامها عليه وتحقّق إحرازه بها يترتّب الأثر المترتّب على القطع الموضوعي الذي هو تمام الموضوع ، لتحقّق موضوعه تعبّداً وهو الاحراز.

لا يقال : لو كان المجعول في الأمارة هو نفس الحجّية لا الاحراز والكشف والطريقية ، لم يكن وجه لتقدّمها على الاستصحاب وحكومتها عليه ، لأنّ المجعول فيه أيضاً هو الحجّية ، بناءً على ما ذكرتموه في أوّل البحث (١) من عدم إمكان جعل الجهة الثالثة ، أعني عقد القلب المعبّر عنه بالاعتقاد.

لأنّا نقول : تقدّمت الاشارة إلى أنّه يكفي في الحكومة كون موضوعه هو الشكّ ، بخلاف موضوعها فإنّه غير مقيّد بذلك. مضافاً إلى إمكان القول بالفرق بينهما ، بأنّ المجعول فيها هو الحجّية من حيث الكشف والاحراز ، والمجعول فيه هو الحجّية من حيث البناء القلبي على أحد طرفي الشكّ ، الذي هو مستلزم للجري العملي على طبقه ، فإنّ هذا المقدار من الفرق بين الحجّتين هو الموجب لتقدّم الأُولى على الثانية وحكومتها عليها ، ولعلّ هذا هو المراد لشيخنا قدس‌سره من كون المجعول فيها هو الاحراز ، وفيه هو البناء القلبي ، بأن يكون الاحراز فيها والبناء القلبي فيه حيثية تقييدية للحجّية المجعولة فيهما ، فتأمّل.

ولكن على الظاهر أنّه لا حاجة إلى الالتزام بهذه الوساوس ، بل إنّ الاحراز والدليلية والكشف والطريقية قابلة للجعل في عالم الاعتبار ، وقد بنى العقلاء على

__________________

(١) في صفحة ٦٢ ـ ٦٤.

٨٨

إعطاء الدليلية والاحراز في موارد كثيرة ، مثل ظهور الألفاظ في إثبات مرادات المتكلّمين ، وغير ذلك من الأمارات العقلائية ، وحينئذ يكون من الممكن للشارع اعتبار الدليلية والكشف والاحراز لما يكون كذلك عند العقلاء بطريق الامضاء كما في غالب الأمارات ، أو كان بطريق الجعل والتأسيس ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : أنّ العقلاء يرون الواقع من قيام هذه الأمارات ، ولا شكّ أنّ تلك الرؤية ليست رؤية حقيقية ، بل هي رؤية جعلية ، بمعنى أنّ بناءهم كان على أنّهم يرون الواقع من هذه الأمارات ولا يشكّكون فيه ، فهذا البناء عبارة عن جعلهم الاراءة المذكورة. ومن ذلك يظهر أنّ الكشف والاحراز والاراءة قابلة للجعل العقلائي ، والشارع أمضى هذا البناء العقلائي وأسّس في بعضه.

قوله : فإنّ العلم في باب الشهادة أُخذ من حيث الطريقية ، ولذا جاز الشهادة في موارد اليد كما دلّت عليه رواية حفص ، وفي باب الركعتين الأوّلتين لم يؤخذ فيهما على نحو الصفتية ، بل على نحو الطريقية كما يدلّ على ذلك بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب ، مثل قوله عليه‌السلام : « حتّى تثبتهما » ... الخ (١).

قد يقال : إنّ ما دلّ على أخذ العلم بالمشهود به في أدلّة الشهادة لو كان على نحو الطريقية ، كان مقتضاه على ما أفاده قدس‌سره من جعل الاحراز والحجّية ، وأنّ دليل حجّيتها حاكم على ما دلّ على اعتبار العلم في الموضوع من الطريقية هو قيام الجميع مقام العلم ، فتجوز الشهادة حينئذ استناداً إلى الأمارة أيّ أمارة كانت ، لكن الظاهر أنّ الفقهاء لم يلتزموا بذلك ، بل الظاهر أنّ ذلك عندهم مختصّ باليد.

وحينئذ نقول : يمكن أن يكون الدليل الدالّ على أخذ العلم بالمشهود به

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٦ ـ ٢٧.

٨٩

في جواز الشهادة أنّه مأخوذ من حيث الصفتية كما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) ، ومقتضاه أن لا يقوم مقامه شيء من الأمارات ، لكن دلّ الدليل بالخصوص على قيام اليد مقامه ، فيكون مقتضاه أنّ الشارع نزّل الظنّ الحاصل من اليد منزلة العلم من حيث الصفتية. ولا يخفى بعده.

والأقرب أن يقال : إنّ العلم إنّما أُخذ في الموضوع هنا من حيث الطريقية ، وأنّ دليل حجّية الأمارة لا يوجب صحّة قيام الأمارة مقامه ، لأنّ الظاهر منه هو العلم الوجداني ، وأنّ ما أفاده قدس‌سره من الحكومة الظاهرية لا ينفع في إجراء حكم العلم الوجداني على الاحراز التعبّدي ، لكن لمّا قام الدليل بالخصوص على جواز الشهادة استناداً إلى اليد ، دلّ ذلك الدليل على أنّ الشارع أقامها مقام العلم الوجداني المأخوذ على نحو الطريقية ، لما ذكرناه من التردّد (٢) بين الحكم بجواز الشهادة استناداً إليها ، وبين تنزيله الظنّ الحاصل منها مقام ذلك العلم الموضوعي وأين هذا من أنّ دليل حجّية الأمارة يكون بنفسه مقتضياً لقيامها مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الطريقية.

أمّا احتمال أخذ العلم الموضوعي هنا كناية عن مطلق الإحراز ولو تعبّدياً ، فيمكن القطع بعدمه ، وإلاّ لقامت مقامه سائر الأمارات حتّى البيّنة. نعم في الجواهر (٣) عن الشيخ الطوسي قدس‌سره (٤) جواز الشهادة استناداً إلى البيّنة ، وقد منع غيره من ذلك ، قال في الجواهر : ومن هنا لم تجز الشهادة بشهادة العدلين إلاّعلى

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣٤.

(٢) [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

(٣) جواهر الكلام ٤١ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٤) المبسوط ٨ : ١٨٠ ـ ١٨١.

٩٠

طريق التحمل وكونها شهادة فرع لا أصل (١) وقيل في توجيه المنع : ولعلّه لما ورد من عدم قبول شهادة الفرع إلاّفي موارد خاصّة ، انتهى ، كذا في المستمسك (٢) ولا يخفى أنّ الذي ينفيه الجماعة هو ما ادّعاه الشيخ من الشهادة بالواقع استناداً إلى البيّنة ، لا الشهادة على الشهادة التي هي شهادة الفرع.

قلت : لكنّهم ـ كما في الروضة ـ (٣) جوّزوا تحمّل الشهادة على المرأة بعد تعريف شخصها بالبيّنة ، وذلك منصوص ، قال عليه‌السلام : « لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها » (٤) ذكره في الجواهر (٥) ، بل نقلوا جواز الشهادة على أُمور تثبت بالشياع استناداً إلى الشياع ، وجوّزوا الشهادة بالنسب استناداً إلى قاعدة الفراش ، بل جوّزوا الشهادة على النجاسة استناداً إلى الاستصحاب ، بل جوّزوا الشهادة في غيرها ، واستدلّوا على ذلك بروايات لا يكون المدرك فيها للشهادة إلاّالاستصحاب ، مثل صحيحة معاوية بن وهب (٦) التي ذكرها في الجواهر (٧) في هذا السياق ، بل جوّزوا الشهادة استناداً إلى قاعدة الصحّة ، مثل ما لو تزوّج أو طلّق أو اشترى ولم يعلم الشاهد بصحّة العقد ، وغير ذلك ممّا تطّلع عليه عند مراجعة الجواهر في باب الشهادات

__________________

(١) جواهر الكلام ٤١ : ١٢٦.

(٢) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢١٣.

(٣) الروضة البهية ٣ : ١٣٥.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠١ / كتاب الشهادات ب ٤٣ ح ١.

(٥) جواهر الكلام ٤١ : ١٢٧.

(٦) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٣٦ / كتاب الشهادات ب ١٧ ح ٢.

(٧) جواهر الكلام ٤١ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٩١

ومراجعة العروة في مبحث المياه (١).

وعلى كلّ حال ، لو تمّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره من كون مفاد دليل الاعتبار هو جعل الإحراز الذي لازمه الحكومة الظاهرية على ما دلّ على أخذ القطع موضوعاً مثل القطع بالمشهود به ، لكان قيام هذه الأُصول الإحرازية وغيرها من الأمارات مقامه في جواز الشهادة على القاعدة ، وكان الخروج عن ذلك محتاجاً إلى الدليل الخاصّ ، على العكس ممّا يستفاد من الجواهر وغيرها من التنقيب في تجويز الشهادة على الدليل الخاصّ ، ولأجل ذلك كثر القيل والقال في المسألة ، فراجع الجواهر وغيرها.

قال في الشرائع في الطرف الثاني فيما به يصير شاهداً : ومستندها إمّا المشاهدة أو السماع أو هما ، فما يفتقر إلى المشاهدة الأفعال ـ ثمّ قال ـ وما يكفي فيه السماع فالنسب والموت والملك المطلق ، لتعذّر الوقوف عليه مشاهدة في الأغلب (٢).

ولا يخفى أنّه قدس‌سره ألحق بهذه الأُمور الوقف والنكاح فيما ذكره في المسألة الثانية من المسائل الآتية ، وقد قال قدس‌سره فيما فرّعه على القول بالاستفاضة : الثاني إذا شهد بالملك مستنداً إلى الاستفاضة ، هل يفتقر إلى مشاهدة اليد والتصرّف؟ الوجه لا. ثمّ قال : مسائل ثلاث : الأُولى ، لا ريب أنّ المتصرّف بالبناء والهدم والاجارة بغير منازع يشهد له بالملك المطلق ، أمّا من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد ، وهل يشهد له بالملك المطلق؟ قيل : نعم ، وهو المروي.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٩٨ ـ ٩٩ مسألة (٧) من فصل : ماء البئر النابع.

(٢) شرائع الإسلام ٤ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٩٢

وفيه إشكال ، من حيث إنّ اليد لو أوجبت الملك له لم تسمع دعوى من يقول :

الدار التي في يد هذا لي ، كما لا تسمع لو قال : ملك هذا لي. الثانية : الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة (١).

وظاهره الكلام على كلّ واحدة من هذه القواعد مستقلاً ، أعني الاستفاضة والتصرّف واليد ، فدع الاستفاضة واليد ، ولكن هلمّ الكلام في التصرّف ، وكيف يمكن الاستناد إليه في الشهادة كما هو ظاهر اختياره قدس‌سره فيما لو تجرّد عن كلّ من الاستفاضة واليد ، وهل في البين شيء في مثل التصرّف بالهدم والبناء إلاّأصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ، الذي لا يقتضي إلاّعدم الحكم بالعصيان أو الحكم بعدم العصيان ، فلا يكون من الأمارات بل ولا من الأُصول الاحرازية ، فكيف يصحّ الشهادة بالملك استناداً إليه حتّى لو لم يكن المتصرّف مسلماً كما هو ظاهر إطلاق كلامه قدس‌سره ، أو أنّ في البين شيئاً آخر وهو كون التصرّف المالكي كاشفاً نوعياً عن الملكية حتّى لو تجرّد عن اليد ، فيكون حينئذ من الأمارات على الملكية ولو كان هذا مبناه قدس‌سره فأقصى ما فيه أنّ حاله حينئذ حال اليد ، فلماذا استشكل في اليد مع كونها مورد الرواية ، ولم يستشكل في التصرّف بهذا الإشكال الذي يشتركان فيه.

قال في الجواهر : نعم قد يستفاد من صحيحة معاوية بن وهب وغيره جواز الشهادة بالاستصحاب ، قال « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ، ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه ، ونحن لا ندري ما أحدث في داره ، ولا ما أحدث له من الولد ، إلاّ أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئاً ولا حدث له ولد ، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتّى يشهد

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ١٣٧.

٩٣

شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان ، مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان ، أوَ نشهد على هذا؟ قال : نعم. قلت : الرجل يكون له العبد والأمة فيقول : أبق غلامي وأبقت أمتي فيؤخذ في البلد ، فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه ، أفنشهد على هذا إذا كلّفنا ونحن لم نعلم أنّه أحدث شيئاً ، فقال عليه‌السلام : كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به » (١).

لكن في خبره الآخر « قلت له : إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً ، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له ، فقال عليه‌السلام : اشهد بما هو علمك. قلت : إنّ ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس ، فقال : احلف ، إنّما هو على علمك » (٢).

قال في الجواهر : ويمكن أن يريد بعلمه الحاصل له من الاستصحاب بقرينة الخبر السابق ، كما أنّه يمكن حمل الأوّل على إرادة حصول هذا العلم باعتبار خلطته واطّلاعه ، كما أومأ إليه الفاضل هنا في التحرير (٣).

قلت : إنّ قوله عليه‌السلام في ذيل الخبر الأوّل : « كلّما غاب من يد المرء المسلم » الخ ، ظاهره الاستفهام الانكاري ، فلا حاجة إلى الالتزام بما في المستمسك من قوله : وما في ذيل الأوّل محمول على بعض المحامل أو مطروح لترجّح غيره عليه (٤)

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٣٦ / أبواب الشهادات ب ١٧ ح ٢.

(٢) المصدر المتقدّم ح ١.

(٣) جواهر الكلام ٤١ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٤) مستمسك العروة الوثقى ١ : ٢١٣.

٩٤

ثمّ إنّ قول صاحب الجواهر قدس‌سره في الخبر الثاني : ويمكن أن يريد بعلمه الحاصل له من الاستصحاب بقرينة الخبر السابق إلخ ، يكون دفعاً لما تقدّم منه بقوله : لكن في خبره الآخر الخ من دعوى معارضة الثاني للأوّل ، فدفع هذه المعارضة بالتصرّف في الثاني ، بجعل العلم فيه هو العلم الادّعائي الحاصل من الاستصحاب.

أمّا قوله قدس‌سره : كما يمكن حمل الأوّل على إرادة حصول هذا العلم باعتبار خلطته واطّلاعه كما أومأ إليه الفاضل في التحرير ، انتهى.

قلت : هذا ، ولكن العلاّمة قال في التحرير : لو شهد عدلان أنّ فلاناً مات وخلّف من الورثة فلاناً وفلاناً لا نعلم له وارثاً غيرهما ، قبلت شهادتهما وإن لم يبيّنا أنّه لا وارث له سواهما لعدم الاطّلاع عليه ، فيكفي فيه الظاهر ، مع اعتضاده بالأصل ، هذا إن كانا من أهل الخبرة الباطنة ، وإن لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بحث الحاكم عن وارث آخر ، فإن لم يظهر سلّم التركة إليهما بعد الاستظهار بالتضمين. ولو قالا : لا نعلم له وارثاً بهذه البلدة أو بأرض كذا لم يقبل ، مع احتمال القبول (١).

قلت : لكن فرض العلاّمة أنّه لا نعلم له وارثاً غيرهما يأبى عن حمل كلامه قدس‌سره على صورة العلم للشاهد ، بل إنّ ظاهره هو تصريح الشاهد بما يحتاج إلى الاستصحاب. نعم لا يبعد حمل الخبر على صورة حصول العلم للشاهد ، إذ لا تصريح فيه بعدم العلم بوارث آخر. ويؤيّد ذلك ما اشتمل عليه الخبر من جواز الاقدام على اليمين الغموس ، فإنّ الظاهر أنّه لم يقل أحد بجواز الحلف اعتماداً على الاستصحاب.

__________________

(١) تحرير الأحكام ٥ : ٢٦٥ / العاشر.

٩٥

ثمّ لا يخفى أنّ مراد صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله : كما يمكن الخ ، هو إبقاء العلم في الثاني بحاله أعني العلم الوجداني ، والتصرّف في الأوّل بحمله على حصول العلم الوجداني أيضاً.

قلت : ولكن لا يخفى أنّ هذا التصرّف في الأوّل بعيد جدّاً ، لأنّ السائل مصرّح بعدم حصول العلم.

ثمّ لا يخفى أنّ صاحب الجواهر قدس‌سره لمّا بنى على لزوم العلم الوجداني في الشهادة قال : وحينئذ فلابدّ من حمل الخبر المزبور على جواز الشهادة لحصول ضرب من العلم ، أو لأنّ الاستصحاب كافٍ ولكن القضاة لا يكتفون إلاّبالشهادة على الوجه المزبور ، فسوّغ له ذلك استنقاذاً لمال المسلم ، أو على غير ذلك (١).

ولا يخفى بُعد الأوّل كما عرفت. أمّا الثاني فكأنّ المراد به هو أنّ الشهادة تكون على الواقع السابق المعلوم ، والحاكم يكمل ذلك بالاستصحاب ، لكنّه خلاف الظاهر ، لأنّ الظاهر هو كون المشهود به الحالة الفعلية لا السابق. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مراد صاحب الجواهر قدس‌سره هو أنّ الشاهد لمّا كان عالماً بالحالة السابقة كان الاستصحاب جارياً عند نفسه ، فهو فعلاً يحكم بأنّ الحال السابق باقٍ ، لكن لمّا لم تقبل منه الشهادة جاز له أن يشهد بالفعلية استنقاذاً.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ كون الشاهد تكليفه ذلك لا يوجب اجراءه على طرفه ، لجواز أن لا تكون أركان الاستصحاب تامّة عنده.

ثمّ إنّه قدس‌سره صنع مثل ذلك في خبر حفص بن غياث (٢) الدالّ على جواز الشهادة استناداً إلى اليد ، فقال : فلابدّ من حمل الخبر المزبور على صورة حصول

__________________

(١) جواهر الكلام ٤١ : ١٢٦.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩٢ / أبواب كيفية الحكم ب ٢٥ ح ٢.

٩٦

العلم بالملك من ذلك ، أو على الشهادة مسنداً له إلى اليد ، أو على إرادة الشهادة به اتّكالاً على علم الحاكم بأنّ مأخذه من ذلك ، أو على إرادة النسبة بأنّه له التي هي من توابع الملك ، بمعنى الاطلاق المتعارف ، لا الشهادة عند الحاكم التي يختلف الحكم باختلافها ، بل ظاهر قوله عليه‌السلام في الآخر : « لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق » أو صريحه ، كون العمل على ملك ذي اليد الذي لا منازع له ، لا الشهادة التي ذكرناها ، فإنّه لا مدخلية لسوق المسلمين فيها ، بل الشهادة بالواقع الذي يعلمه لا ينافي قيام السوق ، ولا يتوقّف قيامه على الكذب والتدليس ، بل قوله عليه‌السلام أخيراً : « ولا يجوز أن تنسبه » كالصريح في إرادة هذا المعنى من الشهادة المزبورة ، لا التي تقام عند الحاكم ويختلف الحكم باختلافها. ولعلّ هذا المعنى المذكور في الرواية هو الذي أشار إليه في الرياض (١) بأنّ الضرورة تقتضي الحكم بملكية اليد ، وهو كذلك ، لكنّه غير الشهادة به ، فإنّها من الطرق الشرعية لاثبات حكم الملك ، كغيرها من الطرق التي منها إخبار المرأة بخلوّها من الحيض ومن الزوج وغيرهما ممّا يقبل فيه خبرها ، لكن لا تجوز الشهادة بذلك (٢).

لكنّه قدس‌سره التزم في الشهادة على شهود التعريف بخروجه عن القاعدة للنصّ فقال : وأمّا ما روي من جواز الشهادة على إقرار المرأة إذا حضر من يعرفها ، فمبني على استثناء مسألة التعريف من الضابط المزبور ، ففي خبر ابن يقطين عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام « لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها ، أو حضر من يعرفها » (٣) الخ (٤) ولم يلتزم بتأويله بأنّ المراد صورة كون

__________________

(١) رياض المسائل ١٥ : ٣٩٤.

(٢) جواهر الكلام ٤١ : ١٤٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠١ / كتاب الشهادات ب ٤٣ ح ١.

(٤) جواهر الكلام ٤١ : ١٤٤.

٩٧

التعريف موجباً لحصول العلم ، مع أنّ في قباله رواية أُخرى تدلّ على عدم الاكتفاء بشهادة الشهود ، وهي صحيحة الصفّار (١) بل حمل هذا الأخير على التقية فراجع (٢) وراجع أيضاً ما ذكره (٣) في شهادة الأعمى لو كان تحمله متوقّفاً على يقين المقرّ ، وتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك أنّ ما يرسمونه في السجلاّت من قولهم : اعترفت فلانة أو اعترف فلان بعد التعريف ، لا يخلو عن تسامح ، لأنّ الشهادة في ذلك إن كانت صحيحة فلا حاجة إلى قوله : بعد التعريف ، وإن لم تكن صحيحة لم يكن لها أثر حتّى مع ضمّ قوله : بعد التعريف ، إلاّأن تكون شهادة فرع ، فتأمّل فإنّ شهادة الفرع إنّما هي شهادته على أنّ الشاهدين قد عرّفاها ، وإن لم يسمعا إقرارها ، والمفروض أنّ الشاهد إنّما يشهد باقرارها الذي سمعه منها بعد أن عرّفها الشاهدان. نعم في ذكر قوله : « بعد التعريف » فائدة ، وهي أنّ الحاكم الذي تعرض عليه تلك الشهادة يعرف أنّ اعتماد صاحبها كان على بيّنة التعريف ، فإن كان ممّن يسوّغ ذلك كانت تلك الشهادة معتبرة عنده ، وإن كان ممّن لا يسوّغ ذلك ردّها ولم يقبلها.

وأنت بعد اطّلاعك على هذه التفاصيل ، تعرف أنّ رفع اليد عن دلالة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هل ترى الشمس ، على مثلها فاشهد أو دع » (٤) وقوله عليه‌السلام في خبر علي

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠١ / كتاب الشهادات ب ٤٣ ح ٢.

(٢) جواهر الكلام ٤١ : ١٢٧.

(٣) جواهر الكلام ٤١ : ١٥٠ وما بعدها.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٤٢ / كتاب الشهادات ب ٢٠ ح ٣.

٩٨

ابن غياث : « لا تشهدنّ بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (١) ونحوهما ، وتجويز الشهادة استناداً إلى الاستصحاب أو اليد اعتماداً على ما تقدّم من رواية الارث واليد ، أو استناداً إلى البيّنة المعرّفة اعتماداً على ما تقدّم من رواية ابن يقطين المعارضة بالمثل ، لا يخلو من مجازفة. لا من جهة كون العلم في ذلك قد أُخذ صفتياً بالمعنى الذي تقدّم في أوائل تقسيم العلم ، وذلك لوضوح أنّ أخذه في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « على مثلها فاشهد » هو عنوان الكشف والطريقية ، بل من جهة صراحة الخبرين في اعتبار الكشف التامّ الذي لا يحتمل الخلاف ، بل لا يبعد أن يكون ذلك وارداً في مقام الردع عن الاستناد في الشهادة والاعتماد على الأمارات والأُصول العقلائية ، إذ يبعد كلّ البعد أن يكون مثل هذه الأخبار وارداً في مقام المنع عن الشهادة فيما إذا لم يكن في البين علم ولا ما هو بنظر العقلاء قائماً مقامه ، فإنّ ذلك لا يرتكبه إلاّشاهد الزور ، وليس هذا الاهتمام ناظراً إليه ، بل الظاهر أنّ نظره إلى ما ذكرناه من الردع عن الاعتماد على الأمارات والأُصول الاحرازية في مقام الشهادة.

وبالجملة : أنّ صدور مثل هذه المبالغة ممّن هو عالم بأنّ في البين أمارات وأُصولاً يعملها العقلاء ويعتمدون عليها وهو قد أمضى الكثير منها ، كاشف عن أنّه بصدد الردع عنها في خصوص باب الشهادة ، وإن لم يكن بصدد الردع عن ذلك لكانت هذه المبالغة وذلك الاهتمام لمجرّد بيان المنع عن الشهادة كذباً عمداً ، أو ما هو ملحق به من الاعتماد على الظنون غير المعتبرة عنده وعند العقلاء.

ومن ذلك يظهر لك أنّ الأمارات والأُصول الاحرازية بمجرّد دليل اعتبارها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٤١ / كتاب الشهادات ب ٢٠ ح ١.

٩٩

لا تقوم مقام هذا العلم حتّى لو قلنا بما أفاده شيخنا قدس‌سره من الحكومة الظاهرية وجعل الاحراز ، وأنّ الإحراز قابل للجعل الشرعي ، وأنّ مقتضى جعله هو ترتيب أثر الإحراز الوجداني عليه ، فإنّ ذلك كلّه لو سلّم لم يكن نافعاً في مقام الشهادة بعد تصريحه عليه‌السلام بأنّه لابدّ فيها من العلم التامّ الذي هو كالعلم بالشمس والكفّ الذي عرفت أنّ مرجعه إلى الردع عن الاعتماد على الأُصول والأمارات العقلائية في مقام الشهادة.

نعم ، يمكن ذلك بدليل خاصّ غير دليل اعتبارها يكون متكفّلاً لجواز الشهادة اعتماداً على الأمارة الفلانية أو الاستصحاب ، فإنّ هذا الدليل الخاصّ يكون مخصّصاً لعموم هذا الردع الوارد في خصوص باب الشهادة ، فتكون النتيجة على مسلك شيخنا قدس‌سره هي عين النتيجة على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره من الاحتياج إلى الدليل الخاصّ.

وربما يؤيّد جواز الشهادة استناداً إلى الاستصحاب بلزوم اليمين الاستظهارية في دعوى الدين على الميّت سدّاً لباب احتمال الابراء أو الوفاء.

وفيه : أنّ محتمل الوفاء أو الابراء إنّما هو الحاكم لا الشاهد ، فيمكن أن تكون شهادة الشهود مستندة إلى العلم الوجداني ، ولكن الحاكم يحتمل الوفاء أو الابراء وعدم اطّلاع الشهود على ذلك ، فلذلك يكلّف المدّعي باليمين على البقاء سدّاً لباب هذا الاحتمال. هذا كلّه فيما يدّعى الدلالة عليه من الروايات ، أمّا مجرّد السماع والتصرّف فالمجازفة فيه أعظم.

وأمّا الاعتماد على أصالة الصحّة في العقود فهي أعظم من الكلّ ، إذ لا منشأ لذلك إلاّدعوى السيرة ، من جهة أنّ من سمع العقد أو علم بوقوعه ربما كان لا يعلم بصحّته.

١٠٠