أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

هي محطّ التشريع الذي هو عبارة عن عقد القلب على ما ليس بواقع واعتقاد أنّه هو الواقع مكابرة وعتوّاً ، من باب جحد القلب وتيقّن النفس المعبّر عنه في القرآن المجيد بقوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )(١) ويتفرّع على هذه المرتبة أنّ ذلك الواقع المعلوم إن كان ممّا ينفر عنه تحقّق النفرة عنه ، وإن كان ممّا يرغب فيه تحقّق الميل إليه والسعي نحوه ، انتهى.

بل إنّ تحرير هذه المقدّمة من أصلها بهذا التحرير في هذا الكتاب ليس كما ينبغي ، ولعلّ ذلك من الدورة السابقة ، والذي حرّرته عنه قدس‌سره في بيان هذه المقدّمة ما هذا لفظه : وهو أنّك قد عرفت أنّ أهل المعقول قسّموا المعلوم إلى المعلوم بالذات والمعلوم بالعرض. ومرادهم بالأوّل هو الصورة التي تحدثها النفس في صقعها الداخل عند تمامية مقدّمات حصول العلم لها ، ومرادهم بالثاني هو الأمر الخارجي الذي تنطبق عليه تلك الصورة ، سواء قلنا بأنّ العلم من مقولة الكيف أو مقولة الانفعال أو مقولة الاضافة. ولا يبعد صحّة جميع هذه الأقوال باعتبارات مختلفة ، فباعتبار أنّ حصول مقدّمات العلم وتماميتها تكون موجبة لانفعال النفس بذلك ، بحيث إنّ النفس بواسطة انفعالها عن تلك المقدّمات تحدث تلك الصورة في صقعها الداخل ، وهذه هي المرتبة الأُولى من مراتب العلم المعبّر عنها بانفعال النفس عن تلك المقدّمات.

ثمّ من بعد هذه المرتبة مرتبة تلك الصورة التي أحدثتها النفس في صقعها الداخل ، وبهذا الاعتبار يكون العلم من مقولة الكيف ، باعتبار تكيّف النفس بتلك الصورة.

ثمّ من بعد هذه المرتبة مرتبة ثالثة ، وهي مرتبة إضافة تلك الصورة إلى ما

__________________

(١) النمل ٢٧ : ١٤.

٦١

في الخارج باعتبار انكشافه بها ، وبالنظر إلى هذه المرتبة يكون العلم من مقولة الاضافة.

ثمّ من بعد هذه المرتبة مرتبة رابعة ، وهي مرتبة عقد القلب والاعتقاد بذلك الواقع ( حسبما عرفته فيما تقدّم ) ويتفرّع عن هذه المرتبة الهرب عن ذلك الأمر الخارجي إن كان ممّا يهرب وينفر عنه ، والميل إليه والسعي نحوه إن كان ممّا يرغب فيه ويسعى نحوه. وقد عرفت أنّ القابل للجعل والتصرّف الشرعي إنّما هو المرتبتان الأخيرتان ، دون المرتبتين الأُوليين فإنّهما من الأُمور التكوينية الصرفة بخلاف الأخيرتين فإنّهما وإن كانتا من اللوازم الذاتية للقطع إلاّ أنّهما قابلان للجعل الشرعي ، كما تقدّم من جعل المرتبة الثالثة للأمارات الشرعية ، وجعل المرتبة الرابعة للأُصول الاحرازية ، انتهى.

والإنصاف : أنّ ما اشتمل عليه التحرير المطبوع في صيدا (١) هو أوفى بياناً في هذا المقام من هذا التحرير ، فراجعه وتأمّل. وراجع ما سيأتي (٢) في الجواب عن إشكال ابن قبة فيما يعود إلى الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في أوائل الظنّ.

قوله : الثالث : قيامها مقام القطع الطريقي مطلقاً ولو كان مأخوذاً في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي ، وهذا هو الأقوى ... الخ (٣).

بناءً على ما تقدّم منه قدس‌سره من أنّ المجعول في الأُصول الاحرازية هو الجهة الثالثة من جهات القطع أعني الاعتقاد والبناء العملي ، يشكل الأمر في قيام

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩ ـ ٢١.

(٢) راجع ما سيأتي في الحاشية الآتية في الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢١.

٦٢

الأُصول المذكورة مقام القطع الطريقي الذي يكون له الدخل في الموضوع ، سواء كان بنحو تمام الموضوع أو كان جزءاً منه ، فإنّ الذي له الدخل في الموضوع هو القطع بالجهة الثانية ، أعني جهة الكشف والطريقية ، وجعل الاعتقاد والبناء القلبيين من حيث العمل لا يكون محقّقاً لذلك الموضوع ، وحينئذ لابدّ أن نقول إنّ المجعول في الأُصول الاحرازية هو جهة الكشف والطريقية المعبّر عنها بالاحراز ، غايته أنّ ذلك الكشف والاحراز يكون من ناحية العمل على نفس المحرز بالاستصحاب ، لتخرج بذلك الأُصول المثبتة على ما سيجيء شرحه إن شاء الله تعالى (١).

لا يقال : إنّه إذا كان حاله حال الأمارة في كون المجعول فيها هو الاحراز والكشف ، لم يكن وجه في تقديمها وحكومتها عليه.

لأنّا نقول : إنّ الوجه في ذلك هو أنّ موضوعه الشكّ ، والأمارة بكشفها تزيل ذلك الشكّ الذي هو موضوعه ، بخلاف كشفه فإنّه لا يزيل موضوع الأمارة ، حيث إنّ الجهل ليس بموضوع لها ، بل أقصى ما في البين أنّه مورد لها ، وهذا المقدار من الفرق هو الموجب للحكومة ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون المجعول في باب الاستصحاب هو الجهة الثالثة ـ أعني البناء وعقد القلب ـ إشكالاً آخر ، وهو أنّ الجهة الثانية وهي جهة الاحراز والكشف والطريقية ليست قابلة للأمر التكليفي ، بحيث يأمره المولى في مقام الشكّ بعد اليقين باحراز الواقع ، لأنّ الاحراز إنّما يحصل بأسبابه ، وليس هو ـ أعني الاحراز ـ في حدّ نفسه اختيارياً للمكلّف كي يتعلّق به التكليف. نعم يقع الكلام في أنّ هذه

__________________

(١) راجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

٦٣

الجهة هل هي قابلة للجعل الشرعي ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى (١).

أمّا الجهة الثالثة وهي جهة البناء القلبي وعقد القلب فهي غير قابلة للجعل قطعاً ، فإنّها من الأفعال القلبية الاختيارية للقاطع. نعم يمكن التعبّد في هذه المرحلة بالأمر بالبناء وعقد القلب على أحد طرفي الشكّ ، والشارع بعد أمره بذلك البناء وعقد القلب يأخذه مفروض الوجود ، فيكون اللازم على المكلّف الجري العملي على طبق ذلك الاعتقاد والبناء القلبي ، لا من جهة أنّ الأمر به يكون مرجعه إلى الأمر بترتيب الأثر من باب الأمر لذلك الشاكّ بأن ينزّل نفسه منزلة المعتقد ، بل من جهة أنّ الأمر بذلك الاعتقاد يوجب تحقّقه في نظر الشارع ، ومع فرض تحقّقه يلتزم المكلّف قهراً بالجري العملي على طبقه ، فتأمّل فإنّ ذلك في غاية البعد.

والأولى الالتزام في أنّ المجعول في الأُصول الاحرازية هو نفس حجّية اليقين السابق والاحراز بالغاء الشكّ الطارئ ، ويكون الوجه في تقدّم الأمارة عليه ما عرفته من كون موضوعه الشكّ ، والوجه في عدم ترتيب اللوازم عليه بخلاف الأمارة هو إطلاق دليل الأمارة ، بخلاف الأصل الاحرازي فإنّ المنظور في جعل الاحراز فيه هو الجري العملي على طبق المحرز. ولا يخفى بعده.

والأولى أن يقال : المجعول فيه هو الأمر التعبّدي بالغاء احتمال الخلاف ، لكن لازمه هو الحكم بترتيب آثار المتيقّن السابق ، وسيأتي له مزيد توضيح في مباحث الاستصحاب (٢) إن شاء الله تعالى ، وينبغي مراجعة مبحث الجمع بين

__________________

(١) راجع الصفحة : ٨٢ وما بعدها.

(٢) راجع مبحث الأصل المثبت في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، خصوصاً الصفحة :

٦٤

الحكم الواقعي والظاهري في أوائل حجّية الظنّ (١).

ثمّ إنّه بعد القول بجعل الاحراز في الأمارات والأُصول الاحرازية نقول : إنّ قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الموضوع من حيث الكشف والطريقية لا يتوقّف على كون المؤدّى بنفسه ذا أثر شرعي ، كي يخرج بذلك ما لا يكون له أثر أصلاً مع فرض كون القطع فيه تمام الموضوع عن صلاحية قيام الأمارة والأصل الاحرازي فيه مقام ذلك القطع ، لما سيجيء منه قدس‌سره (٢) من أنّ مجرّد جعل الحجّية والاحراز يكون كافياً في ترتيب أثر القطع الموضوعي.

نعم يتوجّه هذا الإشكال على القول بأنّ مفاد الحجّية هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، إذ يتّجه الإشكال حينئذ بأنّه لو فرض كون الواقع المؤدّى لا أثر له في حدّ نفسه ومع ذلك كان القطع تمام الموضوع ، لم يكن ذلك الواقع قابلاً لجريان دليل الأمارة والأصل فيه ، حتّى لو قلنا بأنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يلزمه تنزيل الأمارة والأصل منزلة القطع ، لما عرفت من توقّف جريانهما في المورد على كون الواقع فيه ذا أثر في حدّ نفسه ، وبعد تمامية جريانهما فيه نقول : إنّ تنزيل المؤدّى يلزمه تنزيل الأمارة أو الأصل منزلة القطع ، لأنّ هذه الملازمة المدعاة إنّما تتمّ فيما لو كان الواقع له في حدّ نفسه أثر ولو باعتبار كونه جزء الموضوع ، أو باعتبار كونه في حدّ نفسه موضوع أثر شرعي ثابت له في حدّ نفسه ، مثل حرمة شرب الخمر ،

__________________

٨٧ وما بعدها وهي حاشيته قدس‌سره في ذلك المبحث على قوله في فوائد الأُصول ٤ : ٤٨٦ : نعم المجعول في باب الأُصول العملية مطلقاً ....

(١) راجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٢٩٩ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢١ ـ ٢٥.

٦٥

فيصحّ جريان دليل الأمارة والأصل فيه ، ثمّ بالملازمة بين تنزيل المؤدّى منزلته (١) يترتّب عليهما الأثر المترتّب على القطع بالخمرية التي هي النجاسة ، بناءً على كون موضوعها هو القطع بالخمرية على نحو تمام الموضوع ، ولا يكون الأصل في ذلك مثبتاً ، للتلازم المزعوم بين التنزيلين.

أمّا ما لا يكون له أثر أصلاً ، ولم يكن القطع به جزء الموضوع كي تكون جزئية الواقع لذلك الموضوع كافية في جريان دليل الأمارة والأصل فيه ، بل لا يكون في البين إلاّ الأثر المترتّب على القطع بالواقع على نحو تمام الموضوع ، فلا يمكن جريان دليل الأمارة والأصل فيه المبني على التنزيل في ناحية المؤدّى ، كي يقال إنّ التنزيل في المؤدّى يلزمه التنزيل في ناحية الأمارة والقطع ، فتأمّل.

قوله : وأمّا على المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات والأُصول الاحرازية (٢) هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات ... الخ (٣).

تقدّمت الاشارة (٤) إلى أنّ الأدلّة الشرعية كالأمارات والأُصول الشرعية لا تكون وسطاً في الاثبات ، لعدم علقة العلّية والمعلولية بين الدالّ والدليل ، فلا يصحّ أن يكون وسطاً في الاثبات كي يتألّف منه الشكل الأوّل ، إلاّعلى تقدير

__________________

(١) [ لا يخفى عدم تمامية العبارة ، لكن المقصود واضح ].

(٢) في الطبعة الحديثة لا توجد عبارة « والأُصول الاحرازية » ولكن في الطبعة القديمة يوجد فراغ في وسط العبارة ، وقد كتب المصنّف قدس‌سره مكان الفراغ « والأُصول الإحرازية ».

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢١.

(٤) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٧ ـ ٨ ، وراجع أيضاً الصفحة : ١٩ من هذا المجلّد.

٦٦

القول بالسببية ، فراجع.

ثمّ لا يخفى أنّ الوجوه المحتملة في حجّية الأمارة تدور على وجوه أربعة ، لا خامس لها على الظاهر :

الوجه الأوّل : هو كون المجعول نفس الحجّية إمّا ابتداءً ، أو أنّ المجعول هو الحكم التكليفي ولو بمثل الأمر بالعمل على طبقها ، وعنه تنتزع الحجّية كما هو مبنى الشيخ قدس‌سره (١).

الثاني : هو تنزيل الأمارة منزلة العلم.

الثالث : كون المجعول هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع.

الرابع : كون المجعول هو تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع المعلوم ، وإن شئت فقل : تنزيل مؤدّى الأمارة الذي هو مظنون منزلة المعلوم.

أمّا الوجه الأوّل فقد شرحه الأُستاذ قدس‌سره (٢) بما لا مزيد عليه ، وسيأتي (٣) إن شاء الله مزيد شرحه والتأمّل فيه من ناحية دخول القطع الموضوعي فيه.

وأمّا الثاني فالكلام فيه من جهات :

الجهة الأُولى : هل أنّ قوله : نزّل الأمارة منزلة العلم يشمل العلم الطريقي الصرف ، أو أنّه يختصّ بالقطع الموضوعي في الجملة؟ الظاهر الثاني. ولا وجه لاستظهار خصوص القطع الطريقي الصرف ، بأن يكون المراد من العلم في قوله : نزّل الأمارة منزلة العلم ، هو خصوص العلم الطريقي الصرف ، فإنّ ذلك خلاف الظاهر من تنزيلها منزلته ، فإنّ الظاهر من تنزيلها منزلته هو ترتيب الآثار الشرعية

__________________

(١) راجع فرائد الأُصول ١ : ١١٤ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧.

(٣) في الصفحة : ٨١ وما بعدها.

٦٧

المترتّبة على العلم ، فلا يشمل الآثار المترتّبة على الواقع على وجه لا يكون العلم بالنسبة إليها إلاّطريقاً صرفاً.

وعلى أيّ حال ، فإنّ ذلك التنزيل لا يكاد يكون واقعاً بلحاظ كلا الأثرين ، أعني الأثر المترتّب على الواقع ، والأثر المترتّب على العلم بالواقع. مثلاً لو فرضنا أنّ للخمر حكمين : أحدهما متعلّق بنفس الخمر الواقعي وهو حرمة الشرب ، والآخر مترتّب على العلم بالخمرية ، إمّا بنحو تمام الموضوع أو بنحو جزء الموضوع ، ثمّ قامت الأمارة على كون هذا المايع خمراً ، فدليل حجّية تلك الأمارة المتكفّل لتنزيلها منزلة العلم في ترتيب أثره عليها ، إن كان ناظراً إلى خصوص الأثر الأوّل المترتّب على الخمر الواقعي ، المفروض أنّ العلم بالقياس إليه لا يكون إلاّطريقاً صرفاً ، ولم يكن العلم فيه بالخمرية إلاّ أجنبياً عن ذلك الأثر الذي هو محطّ التنزيل المذكور ، كان ذكر العلم فيه من باب الكناية عن الواقع المعلوم ، بخلاف ما لو كان المنظور به هو الأثر الثاني ، فإنّ العلم حينئذ يكون هو محطّ التنزيل ، ويكون الأثر المحكوم بترتّبه على الأمارة هو الأثر المترتّب على العلم ، ويكون ذكر العلم فيه من باب الحقيقة ، إذ لا يكون المراد به هو الواقع الذي وقع متعلّقاً للعلم ، بل المراد به هو نفس العلم.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا يمكن الجمع بينهما في عبارة واحدة ، لما عرفت من كون العلم على الأوّل كناية عن الواقع المعلوم ، وأنّ الأثر المحكوم بترتّبه على الأمارة هو أثر الواقع الذي أُخذ العلم كناية عنه ، بخلافه على الثاني فإنّ العلم فيه لا يكون إلاّحاكياً عن نفسه ، وهذا معنى ما يقال من أنّ الجمع بينهما في عبارة واحدة غير ممكن من جهة أخذ العلم في أحدهما آلياً وفي الآخر استقلالياً ، فليس المراد بالآلية والاستقلالية هو لحاظ العلم بنفسه ولحاظه طريقاً كما ربما

٦٨

يظهر ذلك من الكفاية بقوله : ولحاظهما في أحدهما آليّ وفي الآخر استقلالي ، بداهة أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما ، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما الخ (١) فإنّ العلم في ذلك كلّه لا يكون إلاّطريقياً ، لما سيأتي (٢) إن شاء الله من عدم شمول دليل التنزيل للعلم الصفتي ، بل المراد من الآلية هو ما ذكرناه من لحاظ العلم كناية عن متعلّقه ، نعم إنّ الوجه في أخذه كناية عن الواقع المعلوم هو كونه طريقاً كاشفاً عنه ، والمراد من الاستقلالية هو أنّ ذلك الحاكم قد لاحظ العلم بنفسه ، وإن كان لحاظه بنفسه لم يخرجه عن كونه طريقياً. وبعبارة أُخرى : لاحظه بنفسه من حيث الكشف والطريقية كما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى (٣).

وإن شئت فقل : إنّهما في ذلك نظير الخلق والمخلوق ، فإنّ الخلق قد يطلق ويراد به نفس المعنى الحدثي المعبّر عنه بالمصدر تارةً وباسم المصدر أُخرى ، وقد يطلق ويراد به المخلوق الذي هو اسم عين ، ومن الواضح أنّه لا جامع بين ما هو بمعنى الحدث وما هو بمعنى اسم العين ، بل إنّ ما نحن فيه أردأ من هذا المثال لأنّ العلم بالقياس إلى الأثر لا يكون من قبيل استعمال المصدر في اسم المفعول إذ ليس محطّ ذلك الأثر هو المعلوم بما أنّه معلوم ، بل إنّ محطّ الأثر إنّما هو نفس الواقع الذي هو الخمر ، فيكون من قبيل استعمال العلم في الواقع الذي تعلّق به العلم ، لا المعلوم بما أنّه معلوم.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٦٤.

(٢) في الجهة الثانية.

(٣) في الصفحة : ٧٤ وما بعدها.

٦٩

الجهة الثانية : هل أنّ هذه الجملة ـ أعني قول نزّل الأمارة منزلة العلم ـ يشمل العلم المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية ، أو أنّه لا يشمله؟ الظاهر الثاني ، لتوقّف الشمول على وجود القدر الجامع بين العلم المأخوذ على نحو الصفتية ، والعلم المأخوذ على نحو الطريقية ، وليس ذلك من قبيل الجمع بين اللحاظ الاستقلالي واللحاظ الآلي ، لما عرفت من أنّ أخذ العلم موضوعاً من حيث الطريقية لا يخرجه عن الاستقلالية في اللحاظ ، غايته أنّه لاحظه مستقلاً لكن لا بما أنّه صفة خاصّة ، بل بما أنّه كاشف عن متعلّقه ، فلا يكون اللحاظ في كلّ منهما إلاّ استقلالياً. نعم الملحوظ في الأوّل منهما استقلالي ، والثاني آلي مع كونه ملحوظاً استقلالاً ، فالأوّل منهما نظير قولك : ابتدائي السير من البصرة كان في أوّل الزوال ، والثاني نظير قولك : الابتداء المستفاد من لفظة « من البصرة » معنى حرفي ، فلاحظ وتأمّل ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى (١) ، وقد مرّت إليه الاشارة (٢) في التأمّل فيما ذكره شيخنا قدس‌سره من عدم إمكان أخذ العلم الطريقي تمام الموضوع ، فراجع وتأمّل.

وإن شئت فقل : إنّ اللحاظ والملحوظ في كلّ منهما استقلالي ، غير أنّ المحكي في الملحوظ الأوّل هو استقلالي ، والمحكي بالملحوظ الثاني آلي ، أعني به العلم في وجوده الخارجي للعالم ، فتأمّل.

الجهة الثالثة : وهي أنّ هذه الجملة بعد أن خرج عن مفادها القطع الطريقي الصرف والقطع الصفتي ، ولم يبق تحتها إلاّالقطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية ، هل تشمل ما يكون القطع فيه جزء الموضوع ، أو تشمله وما

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٠ ـ ٢٢.

٧٠

يكون تمام الموضوع؟ الظاهر شمولها لهما معاً.

أمّا الثاني فواضح. وأمّا الأوّل ، فلأنّ كونه جزء الموضوع كافٍ في تنزيل الأمارة منزلته وترتيب الأثر المترتّب على المجموع منه ومن الواقع ، على تأمّل في ذلك ، من جهة أنّه عند العلم بالواقع يكون الجزء الأوّل من الموضوع وهو العلم محرزاً بالوجدان ، والجزء الثاني منه وهو الواقع محرزاً بنفس العلم ، ومن الواضح أنّ هذا التنزيل لا يفي إلاّبتنزيل الأمارة منزلة العلم ، فيكون قيامها منزّلاً منزلة الجزء الأوّل من الموضوع ، ويبقى الكلام في الجزء الثاني وهو الواقع.

إلاّ أن يقال : إنّ تنزيل الأمارة منزلة الاحراز العلمي يوجب إحراز الجزء الثاني وهو الواقع. لكن هذا إنّما يتمّ على مسلك شيخنا قدس‌سره من جعل الاحراز للأمارة ، أمّا على هذا الوجه من أنّ مفاد الحجّية هو تنزيل الأمارة منزلة العلم ، يكون الجزء الثاني بلا محرز له.

إلاّ أن يدّعى أنّ تنزيلها منزلة العلم يستلزم تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع ، على العكس ممّا قالوه بناءً على أنّ المجعول هو [ تنزيل ] مؤدّاها منزلة الواقع من أنّه يستلزم تنزيلها منزلة العلم (١) ، فتأمّل.

فقد ظهر لك من ذلك أنّ مفاد دليل اعتبار الأمارة لو كان هو تنزيلها منزلة العلم ، لم يكن مصحّحاً إلاّلقيامها مقام العلم الطريقي المأخوذ في الحكم الشرعي على نحو تمام الموضوع ، خلافاً لما يظهر من الكفاية (٢) من أنّه حينئذ يكون مصحّحاً لقيامها مقام القطع الطريقي. نعم لو لم يكن مفاده التنزيل ، بل كان مفاده مجرّد جعل الحجّية التي هي من مقولة الأحكام الوضعية ، لأمكن القول بأنّه لا

__________________

(١) [ في الأصل : منزلة الواقع ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) كفاية الأُصول : ٢٦٣ ( الأمر الثالث ).

٧١

يصحّح إلاّقيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، بناءً على ما اشتمل عليه صدر كلامه من أنّ قيامها مقام العلم الموضوعي يحتاج إلى جعل آخر زائد على جعل الحجّية خلافاً لما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ جعل الحجّية كافٍ بذلك ، لكون مرجعه إلى جعل الاحراز والكاشفية كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى (١).

وأمّا على الوجه الثالث ، فالظاهر اختصاص مفاد الجملة المذكورة بمورد القطع الطريقي الصرف ، فلا تكون الأمارة قائمة مقام القطع الموضوعي ، سواء كان تمام الموضوع أو كان جزء الموضوع. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فلأنّ الواقع وإن كان جزء الموضوع إلاّ أنّ جزأه الآخر وهو القطع لمّا لم يكن مورداً للتنزيل لم يكن في البين ما يوجب التنزيل في ناحيته ، إلاّأن يدّعي الملازمة بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وتنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع ، ولا دليل على الملازمة المذكورة.

نعم ، لو ورد دليل بالخصوص يدلّ على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع في خصوص المورد الذي يكون الأثر فيه مترتّباً على الواقع المعلوم ، لقلنا بالملازمة المذكورة إخراجاً لمفاد ذلك الدليل عن اللغوية.

وكيف كان ، فليس الإشكال في شمول تلك الجملة للقطع الموضوعي هو عدم إمكان الجمع بين اللحاظين ، بل هو عدم كون الواقع ذا أثر مصحّح للتنزيل في ناحيته فيما كان القطع فيه تمام الموضوع ، أو كان جزء الموضوع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد توضيح لذلك (٢).

وأمّا على الوجه الرابع ، أعني تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المعلوم في

__________________

(١) راجع ما يأتي في الصفحة : ٧٨ وما بعدها.

(٢) في الصفحة : ٧٦.

٧٢

ترتيب أثره عليه ، فلا يخفى أنّ الأثر في صورة كون العلم طريقاً صرفاً يكون مترتّباً على نفس الواقع ، ولا يكون صفة الانكشاف والمعلومية في ذلك إلاّمن قبيل المعرّف والاشارة إلى ما هو موضوع الحكم ، نظير ما لو مات شخص وترك ولدين أحدهما مجتهد والآخر غير مجتهد ، فإنّك تقول : نصف متروكاته للمجتهد والنصف الآخر منها للآخر ، ولا يكون ذكرك لعنوان المجتهد في مثل هذا المقام إلاّمن جهة كونه إشارة ومعرّفاً لصاحب النصف الذي هو نفس الموضوع ، بخلاف ما لو كان الأثر مترتّباً على العلم بنحو تمام الموضوع أو جزئه ، فإنّ ذكر صفة المعلومية في ذلك لكونها عنوان الموضوع ، نظير عنوان المجتهد في قولك قلّد المجتهد.

وحينئذ نقول : لو قال الشارع : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع المعلوم في ترتيب أثره عليه ، إن كان مسوقاً بلحاظ النحو الأوّل من الآثار ، لم يكن توصيف الواقع بالمعلومية في هذه الجملة إلاّمن باب المعرّفية ، بحيث يكون عنوان المعلومية أجنبياً عن محطّ الحكم ، نظير قولك في المثال السابق : النصف من المتروكات للولد المجتهد ، بل هو أسوأ منه ، إذ ليس في مورد الجملة المذكورة اشتباه وتعدّد كي يحتاج إلى التعريف والاشارة بما لا يكون له الدخل في موضوعيته ، بخلاف ما لو كان مسوقاً بلحاظ النحو الثاني من الآثار ، فإنّه بناءً عليه يكون لصفة المعلومية مدخلية في موضوعية الحكم ، نظير قولك : قلّد المجتهد.

ولو خلّينا نحن وهذه العبارة فلا يبعد ظهورها في المعنى الثاني ، فلا يكون دليل حجّية الأمارة إلاّمتكفّلاً لقيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الطريقية بنحو يكون العلم جزء الموضوع لاتمامه ، إذ الواقع حينئذ يكون أجنبياً عن التنزيل. ولو جرّدت الجملة عن الواقع وقيل : نزّل مؤدّى الأمارة منزلة

٧٣

المعلوم ، كان ذلك موجباً لقيامها مقام العلم المأخوذ بنحو تمام الموضوع لا جزءاً له ، هذا كلّه لو حملت الجملة المذكورة على المعنى الثاني.

أمّا حملها على المعنى الأوّل فهو في غاية البعد ، لأنّ الظاهر من أخذ العنوان في موضوع الحكم هو مدخليته في ذلك الحكم.

وكيف كان ، فلا يمكن أن يقال : إنّ هذه الجملة شاملة لكلا المعنيين ، لما عرفت من أنّ لازمه الجمع بين لحاظ الآلية والاستقلالية ، ومرادنا من الآلية في هذا المقام هو أخذ عنوان المعلومية معرّفاً لذات الموضوع ، ومن الاستقلالية هو أخذه دخيلاً في الموضوع ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بلحاظ الآلية والاستقلالية بلحاظ العلم طريقاً ولحاظه موضوعاً ، لما عرفت من كون لحاظه طريقياً على التقديرين ، بل لا دخل له بما تقدّم ذكره في الوجه الثاني (١) من لحاظه كناية عن متعلّقه ولحاظه في نفسه ، فلاحظ وتأمّل.

وبالجملة : أنّ أخذ العلم كناية عن الواقع كما في الوجه الثاني ، أو أخذ المعلوم صفة معرّفة لما هو الموضوع كما في هذا الوجه الرابع ، لا دخل له بأخذ العلم آلة أعني لحاظه آلياً ، فإنّ ذلك ـ أعني كون العلم آلة لمتعلّقه ـ لا يكون إلاّمن نفس العالم في مرتبة طروّ العلم عليه ، فإنّ العلم في تلك المرتبة يكون وجوده آلة للنظر إلى متعلّقه ، لا أنّه يكون ملحوظاً آلة ، فإنّه في تلك المرتبة ـ أعني مرتبة عروضه على العالم ـ لا يكون ملحوظاً أصلاً حتّى باللحاظ الآلي ، بل أقصى ما في البين هو أنّ وجوده آلة للحاظ ورؤية متعلّقه. وأمّا كيفية لحاظ الحاكم لذلك العلم فتارةً يلاحظه بنفسه ونعبّر عنه بالصفتية ، وأُخرى يلاحظه باعتبار كونه عند عروضه للعالم يكون آلة للنظر إلى متعلّقه ، ونعبّر عنه بلحاظ العلم من حيث

__________________

(١) في الصفحة : ٦٨ ـ ٦٩.

٧٤

الكشف والطريقية ، وفي هذه الصورة تارة يأخذه الحاكم موضوعاً أو جزء الموضوع كما لو قال : الخمر المعلوم الخمرية حكمه النجاسة ، وأُخرى يأخذه طريقاً صرفاً كما لو قال : إذا علمت بخمرية المايع حرم عليك شربه ، مع فرض كون الحرمة لاحقة لنفس الخمر من دون دخل فيها للعلم به ، وفي كلا الحالتين لم يأخذه الحاكم إلاّبلحاظ طريقيته وكشفه الذي نعبّر عنه بلحاظ كونه آلة في الخارج يكون وصلة للنظر إلى متعلّقه ، وإنّما لم يمكن الجمع بينهما في مثل نزّل الأمارة منزلة العلم ، أو نزّل مؤدّاها منزلة المعلوم ، لأنّ الأوّل ـ أعني نزّل الأمارة منزلة العلم ـ لو كان المقصود به كلا الأثرين ، يكون من قبيل الجمع بين المعنى الكنائي والمعنى الحقيقي ، والثاني أعني نزّل مؤدّى الأمارة منزلة المعلوم ، لو كان المقصود به كلا الأثرين ، يكون من قبيل أخذ العنوان الواحد وهو المعلومية دخيلاً في الموضوع وغير دخيل فيه.

وأين هذه الإشكالات من إشكال الجمع بين لحاظ العلم استقلالاً ولحاظه آلة ، فإنّ الجمع بين الأثرين المذكورين في العبارة المذكورة لا يكون موجباً لذلك ، لما عرفت من أنّ العلم لم يلاحظه الحاكم في كلّ من الأثرين إلاّمن حيث الكشف والطريقية ، وأنّ العلم يستحيل أن يكون آلة في لحاظ الحاكم ، وإنّما يكون آلة في وجوده الخارجي للعالم في مرتبة عروضه عليه ، أمّا الحاكم فلا يوجد العلم في ذهنه إلاّمعنى اسمياً أعني مستقلاً. نعم هو يلاحظه من حيث كونه باعتبار وجوده الخارجي آلة (١)

__________________

(١) ويشهد بذلك ما لو قيل : هل تقوم الأمارة مقام القطع الطريقي سواء كان قد أخذ موضوعاً أو لم يؤخذ ، بل يمكن تصوير الجامع بين الصفتي والطريقي بجميع أنواعه ، بأن نقول هل تقوم الأمارة مقام القطع بجميع أنواعه أو لا [ منه قدس‌سره ].

٧٥

وبعبارة أُخرى : أنّ العلم الطريقي الواقع في كلام الحاكم لا يكون حاكياً إلاّ عمّا يكون بوجوده الخارجي آلة ، سواء كان طريقاً صرفاً أو كان له الدخل في الموضوع ، وإن كان وجود ذلك العلم في ذهن ذلك الحاكم لا يكون إلاّاستقلالاً. ومن ذلك يتّضح أنّه لا يلزم على الجمع بين الأثرين ما ذكروه من لحاظ العلم آلة واستقلالاً ، نعم يلزم عليه ما ذكرناه من الجمع بين أخذه كناية عن الواقع وحاكياً عن نفسه ، أو أخذ المعلوم أجنبياً ودخيلاً ، ولعلّ هذا هو المراد لهم ( قدّست أسرارهم ) فلاحظ كلماتهم وتأمّل فيها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل في قوله : فإنّ ما ذكر مانعاً عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقية من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد ضعيف غايته ، فإنّ الاستلزام المذكور مبني على جعل المؤدّى الذي قد تبيّن فساده الخ (١).

فإنّه إن كان المراد من جعل المؤدّى هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، لم يكن الإشكال في قيامها مقام العلم الطريقي الصرف والعلم الطريقي الموضوعي من جهة الجمع بين اللحاظين ، بل هو كما عرفت (٢) في الوجه الثالث من جهة عدم كون الواقع في العلم الموضوعي ذا أثر مصحّح للتنزيل.

وإن كان المراد من جعل المؤدّى هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع المعلوم ، كان الإشكال فيه من جهة أخذ صفة المعلومية معرّفة وأجنبية عن موضوع الحكم في الطريقي الصرف ، وأخذها عنواناً له المدخلية في العلم الموضوعي كما

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢١.

(٢) في صفحة : ٧٢.

٧٦

عرفت (١) في الوجه الرابع.

وإن كان المراد من جعل المؤدّى هو إنشاء حكم على طبق مؤدّاها ، كما ربما يومئ إليه قوله فيما تقدّم : فإنّه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي إلاّبناء على بعض وجوه جعل المؤدّى الذي يرجع إلى التصويب الخ (٢) فلا يخفى أنّه بناءً على هذا المعنى من جعل المؤدّى لا تكون الأمارة قائمة مقام العلم بجميع أقسامه ، بل لا تكون حينئذ إلاّسبباً أو موضوعاً لأحكام شرعية مجعولة على طبق ما أدّت إليه.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك التأمّل أيضاً فيما أفاده قدس‌سره بقوله : ولا يحتاج إلى جعلين حتّى يقال إنّه ليس في البين جعلان ، والجعل الواحد لا يمكن أن يتكفّل كلا الجزأين لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث إنّ تنزيل الظنّ منزلة العلم باعتبار المؤدّى يرجع في الحقيقة إلى تنزيل المظنون منزلة المعلوم ، فيكون النظر إلى الظنّ والعلم نظراً مرآتياً ، وتنزيل الظنّ منزلة العلم باعتبار نفسه وبما أنّه جزء الموضوع يرجع في الحقيقة إلى لحاظ الظنّ والعلم شيئاً بحيال ذاته ، ويكون النظر إليهما استقلالياً ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في جعل واحد ، لا لمكان أنّه ليس هناك مفهوم عام يجمعهما ، كما يقال إنّ الجمع بين الشيئين في استعمال واحد لا يمكن لعدم الجامع بينهما ، بل لمكان عدم إمكان الجمع بين اللحاظين لتنافيهما ذاتاً الخ (٣).

فإنّ الظاهر منه هو أنّ تنزيل الأمارة منزلة العلم الطريقي الصرف والطريقي

__________________

(١) في صفحة : ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٩.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢.

٧٧

الموضوعي يحتاج إلى جعلين ، يعني تنزيلين ، الأوّل تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، والنظر إلى العلم من هذه الجهة طريقي صرف لا دخل له بالموضوع ، والثاني تنزيل نفس الأمارة منزلة العلم من حيث كونه موضوعاً للحكم ، والنظر إلى العلم من هذه الجهة موضوعي ، ويكون لحاظ العلم في الأوّل طريقياً مرآتياً وفي الثاني موضوعياً استقلالياً ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظ الآلي للعلم ولحاظه الاستقلالي وحينئذ يكون المنظور بهذا الإشكال هو الوجه الثاني المبني على تنزيل الأمارة منزلة العلم ، وقد تقدّم أنّ الجمع في دليل التنزيل بين العلم الطريقي الصرف والعلم الموضوعي من حيث الطريقية إنّما يلزم منه الجمع بين لحاظ العلم كناية عن المعلوم ولحاظه على حقيقته ، لا الجمع بين لحاظه آلياً ولحاظه استقلالياً.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الكلام الذي أفاده قدس‌سره في هذه الأسطر إنّما هو للردّ على صاحب الكفاية ، فإنّه بعد أن منع من قيام الأمارة بمجرّد دليل حجّيتها الذي لا يتكفّل إلاّجعل الحجّية لها مقام القطع الصفتي ، وأنّه لابدّ في قيامها مقامه من دليل آخر يدلّ على التنزيل ، قال : فإنّ قضية الحجّية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة أنّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات. ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل ( يعني دليل حجّية الأمارة الذي لا يتكفّل إلاّجعل الحجّية لها ) مقام ما أُخذ ( من العلم ) في الموضوع على نحو الكشف ، فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً ، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته أو قيام دليل على اعتباره ( لما عرفت من أنّ دليل الاعتبار للحجّية لا يكفي في ترتيب الآثار اللاحقة للقطع بما أنّه دخيل في الموضوع ) ما لم يقم دليل ( آخر يدلّ ) على

٧٨

تنزيله ( أي تنزيل ذلك الشيء منزلته ) و ( على ) دخله في الموضوع كدخله (١) ( أي كدخل القطع في الموضوع ).

والحاصل : أنّ دليل الحجّية للأمارة لا يتكفّل إلاّبقيامها مقام القطع من حيث الحجّية والطريقية الصرفة ، وأمّا قيامها مقام القطع الموضوعي فهو يحتاج إلى دليل آخر يدلّ على تنزيلها منزلة القطع من حيث دخله في الموضوع.

ثمّ قال : وتوهّم كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه ، وجعله بمنزلة القطع ، من جهة كونه موضوعاً ومن جهة كونه طريقاً ، فيقوم ( ذلك الشيء الذي هو حجّة أعني الأمارة ) مقامه ( أي مقام القطع ) طريقاً كان أو موضوعاً ، فاسد جدّاً ، فإنّ الدليل الدالّ على ( الحجّية و ) إلغاء الاحتمال لا يكاد يفي إلاّبأحد التنزيلين ( أعني تنزيلها منزلة القطع الصرف من حيث كونه حجّة ، وتنزيلها منزلة القطع الموضوعي من حيث كونه دخيلاً في موضوع الحكم ) حيث ( إنّه ) لابدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه ، ولحاظهما ( أي المنزّل والمنزّل عليه ) في أحدهما ( أي أحد التنزيلين ، وهو تنزيلها منزلة القطع الطريقي الصرف ) آلي ، وفي الآخر ( وهو تنزيلها منزلة القطع الموضوعي ) استقلالي ، بداهة أنّ النظر في حجّيته ( أي في حجّية ذلك الشيء الذي هو الأمارة ) وتنزيله منزلة القطع في طريقيته ( لا يكون ) في الحقيقة ( في ناحية المنزل عليه الذي هو القطع إلاّنظراً ) إلى الواقع و ( في ناحية المنزّل الذي هو الأمارة لا يكون النظر إليها إلاّنظراً إلى ) مؤدّى الطريق ( فيكون المنظور في قوله : نزّل الأمارة منزلة القطع ، المفروض كونه طريقياً صرفاً هو الواقع في ناحية القطع ، ومؤدّى الأمارة في ناحية الأمارة ، ولا

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٦٣ ـ ٢٦٤ [ لا يخفى أنّ ما بين القوسين هو شرح المصنّف لكلمات صاحب الكفاية قدس‌سرهما ].

٧٩

يكون النظر في هذا التنزيل إلى القطع والأمارة إلاّنظراً آلياً ) وفي ( تنزيلها منزلة القطع الذي يكون دخيلاً في الموضوع يكون النظر إلى كلّ من الأمارة والقطع نظراً استقلالياً ، بحيث يكون الدليل المتكفّل لتنزيل شيء منزلة القطع في كونه دخيلاً في الموضوع مشتملاً على ) كونه بمنزلته في دخله في الموضوع ( ومن الواضح أنّ النظر إليهما في هذا الدليل لا يكون إلاّاستقلالياً ، لأنّ النظر فيه إنّما يكون ) إلى أنفسهما ( فقد اختلف النظر إليهما في التنزيلين بالآلية والاستقلالية ) ، و ( من الواضح أنّه ) لا يكاد يمكن الجمع بينهما (١). هذا شرح ما أفاده في الكفاية.

ومنه يعلم أنّ مسلكه قدس‌سره في الأمارات هو عين مسلك شيخنا قدس‌سره من أنّ المجعول في دليل اعتبارها هو الحجّية لا التنزيل. ولكن صاحب الكفاية قدس‌سره يرى أنّ مجرّد جعل الحجّية لا يترتّب عليه إلاّقيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، لا من جهة أنّ قيامها مقام القطع الموضوعي مع قيامها مقام القطع الطريقي الصرف يحتاج إلى الجمع بين اللحاظين ، بل من جهة أنّ دليل الحجّية في حدّ نفسه لا يفي بقيامها مقام الأوّل ـ أعني القطع الموضوعي ـ حتّى مع قطع النظر عن ضمّ قيامها مقام القطع الطريقي الصرف ، بأن نفرض أنّ المراد من دليل اعتبارها وجعل حجّيتها هو مجرّد قيامها مقام القطع الموضوعي ، وذلك لأنّ مجرّد جعل الحجّية لها لا يترتّب عليه قيامها مقام القطع الموضوعي.

وبالجملة : أنّ قيامها مقام القطع الموضوعي يحتاج إلى دليل خاصّ ، يكون مضمونه تنزيلها منزلة القطع من حيث دخله في الموضوع ، ودليل الحجّية المتكفّل لمجرّد جعل حجّيتها لا يكون مؤدّياً لذلك على وجه يترتّب عليه قيامها مقام القطع الموضوعي ، هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره في الكفاية في صدر كلامه.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٦٤.

٨٠