أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

وإن كان هذا الجواب لا يخلو عن تأمّل ، فإنّ حكم العقل بلزوم الاجتناب عن ذلك الضرر الدنيوي الذي هو المفسدة لا ينجّز التكليف الواقعي ، ولا يكون حجّة قاطعة لعذر المكلّف من ناحية ذلك التكليف الواقعي المحتمل ، فإنّ تلك الأضرار الدنيوية المفروض كونها عبارة عن المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الواقعية ، حيث إنّها خارجة عن العقوبة الأُخروية لم يكن احتمالها منجّزاً للتكاليف الواقعية ، بحيث يوجب احتمال العقوبة على مخالفة تلك التكاليف الواقعية ، فلم يبق إلاّدعوى أنّ حكم العقل بدفع الضرر الدنيوي المحتمل ملازم لحكم الشرع بذلك ، وهذا إنّما يتصوّر في الأضرار الدنيوية الأُخر مثل تلف النفس ونحوه ، أمّا المفاسد التي هي ملاكات الأحكام الواقعية فلا يكون احتمالها بل العلم بها مؤثّراً في حكم الشرع بوجوب اجتنابها ، على وجه يكون للشارع حكم آخر غير ذلك الحكم الواقعي التابع لها ، وإن حكم العقل بذلك ، إذ لا يكون هذا الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي ، إذ لا يؤثّر ملاك الحكم الواقعي إلاّفي ذلك الحكم الواقعي.

مثلاً لو كان ملاك حرمة شرب التتن على تقدير حرمته واقعاً هو أنّه يوجب قلة الرزق ، أو يوجب قصر العمر ، أو يوجب بعد العبد عن ساحة الطاعة ، فهذا الملاك لا يؤثّر إلاّفي الحكم الواقعي على شرب التتن بأنّه حرام ، فلو كنّا نحتمل حرمة شرب التتن ، وكان احتمال حرمته ملازماً لاحتمال تلك المفسدة المفروض كونها ضرراً دنيوياً ، وكان العقل حاكماً بلزوم دفع ذلك الضرر ، لم يكن ذلك الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي بالاجتناب عنه ، نظير الحكم الشرعي بلزوم اجتناب الطريق الذي يحتمل تلف النفس في سلوكه ، لأنّ ذلك الضرر الذي هو مفسدة شرب التتن لا يترتّب عليه إلاّتلك الحرمة الواقعية على تقديرها ،

٥٢١

ويستحيل أن تكون موجبة لحكم شرعي آخر طريقي أو موضوعي نظير حرمة سلوك ذلك الطريق ، وحينئذ فلا يترتّب على الحكم العقلي بالتجنّب عن تلك المفسدة الواقعية إلاّمجرّد الوقوع فيها لو صادفت الواقع ، وذلك لا يوجب تنجّز تلك الحرمة الواقعية ، بحيث يوجب استحقاق العقاب على مخالفتها مع فرض كون الشكّ فيها بعد الفحص ، فإنّ تلك المفسدة الواقعية بعد فرض كونها ليست من قبيل العقاب الأُخروي ، وبعد فرض أنّها ليست موجبة لجعل حكم شرعي آخر غير ذلك الحكم الواقعي ، فلا يترتّب على حكم العقل بلزوم الاجتناب عنها إلاّ مجرّد الوقوع فيها لو صادفت الواقع ، هذا.

مضافاً إلى أنّا لو قلنا بأنّ ذلك الحكم العقلي كاشف بقاعدة الملازمة عن حكم شرعي آخر غير ذلك الحكم الواقعي ، لنقلنا الكلام إلى ذلك الحكم الشرعي الثاني ، وقلنا إنّه لابدّ أن يكون ناشئاً عن مفسدة أُخرى غير المفسدة التي اقتضت الحكم الشرعي الأوّل ، فنقول إنّ تلك المفسدة الثانية أيضاً ضرر دنيوي يحكم العقل باجتنابه ، وهذا الحكم العقلي ملازم لحكم شرعي ثالث وهكذا ، هذا.

ولكن التحقيق أن يقال : إنّا لو التزمنا بأنّ المفسدة التي هي ملاك التحريم مثلاً من قبيل الأضرار الدنيوية ، المفروض كون العقل حاكماً بلزوم الابتعاد عنها وأنّ تلك الحكومة العقلية مورد لقاعدة الملازمة ، كانت تلك المفسدة موجبة لحرمة ما فيه تلك المفسدة وحرمة ما يحتملها ، وحينئذ يكون الاحتياط الشرعي موجوداً في جميع موارد احتمال التكليف ، إن كان ذلك الحكم العقلي بلزوم الاجتناب عن تلك المفسدة وذلك الضرر من قبيل ما هو بملاكين ، فيحرم شرعاً ارتكاب ما فيه تلك المفسدة ، ويجب شرعاً الاحتياط بالاجتناب عمّا يحتمل فيه ذلك. وإن كان ذلك الحكم العقلي حكماً واحداً بملاك واحد ، وهو وجوب

٥٢٢

التحرّز عمّا لا يؤمن معه من الوقوع في تلك المفسدة ، سواء كانت المفسدة معلومة أو كانت محتملة ، كان الحكم الشرعي على طبق ذلك الحكم العقلي ، فيكون الحال أقبح ممّا هو بملاكين.

والحاصل : أنّ لازم ذلك هو انقلاب الأحكام الشرعية إلى الحكم الشرعي بلزوم التحرّز عمّا فيه تلك المفاسد ، سواء كانت معلومة أو كانت مشكوكة ، وحينئذ لابدّ من الالتزام بأنّ المفاسد والمصالح التي هي ملاكات الأحكام الشرعية ليس من قبيل الأضرار الدنيوية التي هي مورد حكم العقل بلزوم الابتعاد عنها.

والحاصل : أنّ المفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعية لو قلنا بأنّها من قبيل الضرر ، فإن كان المراد بذلك الضرر الأُخروي الذي هو العقوبة فذلك واضح الفساد ، لأنّ الضرر الأُخروي الذي هو العقوبة يكون معلولاً للأحكام الشرعية ، فلا يعقل كونه هو الملاك فيها الذي هو في مرتبة العلّة لها. وإن كان المراد به الضرر الدنيوي وقد حكم العقل بلزوم دفعه ، فهذا الحكم العقلي يكون مجرى لقاعدة الملازمة.

وحينئذ نقول : إنّ ذلك الحكم الشرعي المستكشف بذلك الحكم العقلي إن كان هو نفس الحكم الأوّلي الذي كان ملاكه تلك المفسدة ، كان اللازم منه وجوب الاحتياط الشرعي في جميع محتملات التكليف ، ولم يبق للبراءة الشرعية مورد أصلاً. مضافاً إلى ما عرفت من أنّ ذلك الحكم العقلي لو كان من ذي الملاك الواحد ، لكانت صورة الأحكام الشرعية صورة أُخرى تكون على طبق ذلك الحكم العقلي ، وحاصله لزوم الاجتناب شرعاً عن كلّ ما لا يؤمن مفسدته.

وإن كان ذلك الحكم الشرعي المستكشف بذلك الحكم العقلي هو غير تلك الأحكام الأوّلية الناشئة عن تلك المفاسد والمصالح الواقعية ، لزم التعدّد في

٥٢٣

الأحكام الشرعية ، بل لزم التسلسل فيها كما عرفت فيما تقدّم. وحينئذ فلم يبق إلاّ أن نقول إنّ هذا الحكم العقلي لا يستكشف منه الحكم الشرعي ، وحينئذ يتوجّه الإشكال أوّلاً : بأنّه لماذا لا يكون هذا الحكم العقلي ملازماً للحكم الشرعي مع كونه غير واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، بل هو واقع في سلسلة عللها.

وثانياً : بأنّ مجرّد هذا الحكم العقلي بلزوم دفع الضرر المذكور لا يكون حينئذ منجّزاً للحكم الواقعي ، ولا موجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته ، فلا يكون وارداً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا حاكماً على البراءة الشرعية ، فتأمّل.

قوله : وأمّا الوقوع في المفسدة فكذلك أيضاً ، لأنّه ليس كلّ مفسدة ضرراً حتّى يجب عقلاً التحرّز عن الوقوع فيها ، إلاّأن يدّعى أنّ دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلاً ... الخ (١).

مراده من الضرر في قوله : ليس كلّ مفسدة ضرراً الخ هو الضرر الدنيوي وحينئذ لابدّ من دعوى القطع بأنّ المفسدة التي هي ملاك الحكم مقصورة على المفاسد النفسانية غير الراجعة إلى العقاب ولا إلى الأضرار الدنيوية ، والمراد بالمفاسد النفسانية هي ما يتعلّق بعالم النفس من كدورتها وظلمتها وبعدها عن ساحة الربّ ، ونحو ذلك ممّا لا يرجع إلى الأضرار الأُخروية أعني العقاب ، ولا إلى الأضرار الدنيوية مثل قصر العمر وموت الولد وقلّة الرزق ونحو ذلك.

ولا يخفى أنّ دعوى القطع بأنّ المفاسد التي هي ملاك الأحكام منحصرة بذلك ، وأنّها مجرّدة عن الضرر الدنيوي لا تخلو عن مجازفة ، لوجود الاحتمال الوجداني بأنّ ملاك هذا التحريم مثلاً هو الضرر الدنيوي ، إمّا وحده أو منضمّاً للمفسدة النفسانية ، ومع وجود هذا الاحتمال يكون العقل حاكماً بلزوم دفعه.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢١.

٥٢٤

ثمّ إنّ قوله : إلاّأن يدّعى أنّ دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلاً الخ ، لعلّه إشارة إلى أنّ نفس المفسدة التي قلنا إنّها ملاك التحريم ، وإنّها عبارة عن تلك الجهات النفسانية غير الراجعة إلى ضرر مادّي ، مثل موت الولد وقلّة الرزق ونحو ذلك ، فيدّعى أنّ تلك الجهة النفسانية من أهمّ الأضرار لدى العقل السليم ، أمّا الأضرار المادّية فليس الحاكم بدفعها هو العقل بل هو الطبع ، وهو ـ أعني الابتعاد عن تلك الأضرار والآلام المادّية ـ موجود في أقلّ الحيوانات فضلاً عن العقلاء ، فالذي [ ينبغي ] أن يكون من مختصّات العقل هو تلك الأضرار المعنوية النفسانية وهذه هي التي قلنا إنّه يجب على الشارع الحكيم أن يبعدنا منها بحكمه بمنعنا من ارتكاب ما تترتّب عليه ، وتحريمه علينا من باب اللطف ، وهي الحجر الأساسي في قاعدة الملازمة في استكشاف حكم الشرع من حكم العقل استكشافاً لمّياً وهي الأساس في قاعدة أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وأنّ الحكم الشرعي بتحريم الفعل الفلاني كاشف عن المفسدة كشفاً إنّياً ، فهذه المفسدة لا يمكننا القول بأنّها ليست في نظر العقل ضرراً يلزم بالابتعاد عنه. نعم إنّ هذا الضرر النفساني الروحاني وإن حكم العقل بالابتعاد عنه ، إلاّ أنّه لا يستكشف من هذه الحكومة العقلية حكم شرعي آخر غير ذلك الحكم الشرعي الناشئ عن تلك المفسدة.

نعم إنّ تلك المفسدة التي هي ذلك الضرر النفساني ربما كان له أهمية بحيث يحكم الشرع عند احتماله بالاحتياط ، كما أنّ العقل لأجل أهميّته لو أدرك تلك الأهمية يحكم أيضاً فيه بالاحتياط. وربما لا يكون له تلك الأهمية على [ نحو ] يتسامح فيه كلّ من العقل والشرع ، فلا يلزمان بالاحتياط ولزوم الابتعاد عنه عند احتماله. وبالجملة : أنّ هذا الضرر الذي هو نفس تلك المفسدة لم يأت

٥٢٥

بشيء جديد غير ما قلناه في ملاكات الأحكام ، فراجع وتأمّل.

وخلاصة هذا المبحث على طوله : هو أنّ قولهم إنّ الظنّ بالتكليف يوجب الظنّ بالضرر عند مخالفته ، إن كان المراد بالضرر في هذه الجملة هو العقوبة ، فهو ممّا يقطع بعدمه ، نظراً إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وإن كان المراد به هو الضرر الدنيوي المادّي الأجنبي عن ملاكات الأحكام ، فهو وإن حكم العقل في موارده بلزوم التحرّز منه ، وكان ذلك الحكم العقلي مستتبعاً للحكم الشرعي بقاعدة الملازمة ، إلاّ أنّه لا دخل له بما نحن فيه من الظنّ بالتكليف ، لما هو المفروض من خروجه عن عالم ملاكات الأحكام الشرعية. وإن كان المراد به ما يكون ملاكاً للأحكام الشرعية ، سواء كان ذلك مقصوراً على الأضرار النفسانية ، أو كان شاملاً للأضرار المادّية ، فهو لا يزيد على كونه ملاكاً للأحكام الأوّلية الشرعية ، وحينئذ يكون لزوم التحرّز عنه عقلاً وشرعاً تابعاً لقوّة ذلك الملاك وضعفه ، وهو ما تقدّم من تقسيم الملاك إلى القسمين المذكورين ، وأثر ذلك هو وجوب الاحتياط شرعاً بل وعقلاً في الأوّل دون الثاني ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الضرر المظنون في المقام لو سلّمنا كونه دنيوياً مثل قلّة الرزق وقصر العمر ، بل مثل البعد عن العبودية وصيرورته من قبيل الرين على القلب ، فلا يبعد القول بأنّه من سنخ العقوبة ، غير أنّه عقوبة دنيوية ، وحينئذ يكون حاله حال العقاب الأُخروي في القطع بعدمه عند الظنّ بالتكليف ، استناداً في ذلك إلى قبح العقاب بلا بيان ، اللهمّ إلاّأن يدّعى أنّ ذلك من قبيل الأسباب التكوينية ، لا من قبيل العقوبة الإلهية الدنيوية. ولا يخفى ما فيه من البُعد. نعم إنّ ظاهر جملة من الأخبار المشتملة على التعليل بمثل تقصير العمر وتقليل الرزق ونحوهما ، أنّ ذلك من قبيل الأسباب التكوينية.

٥٢٦

قوله : وحاصل ما أفاده في وجه المنع هو أنّ المفسدة المظنونة ممّا يقطع أو يظنّ بتداركها ... الخ (١).

ولا يخفى ما في عبارة الشيخ قدس‌سره (٢) من الاجمال ، والأولى في ردّه أن يقال : إنّه قدس‌سره إن أراد أنّ الأُصول الشرعية النافية للتكليف تكون كاشفة عن تدارك الشارع لتلك المفسدة المحتملة ، إمّا على نحو القطع أو على نحو الظنّ ، ففيه بعد الفراغ عن منع دعوى القطع بذلك ، لأنّ أدلّة تلك الأُصول غير قطعية الدلالة والسند ، وإلاّ لما وقع الخلاف فيها من الأخباريين ، أنّه أوّلاً : موجب لسدّ باب البراءة العقلية ، بل ينحصر الاعتماد في قبال قاعدة دفع الضرر المظنون على البراءة الشرعية وباقي الأُصول الشرعية النافية.

وثانياً : أنّه غير نافع إلاّفي إخراج الضرر المذكور عن كونه مظنوناً ، لكنّه لا ريب في كونه محتملاً أيضاً ولو موهوماً ، ومن الواضح أنّه يجب [ دفع الضرر ] الموهوم كالمظنون ، والشاهد على ذلك هو عدم الاكتفاء بالاطاعة الظنّية عند التمكّن من الاطاعة العلمية القطعية.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ التدارك مقطوع بواسطة أنّ الدليل على البراءة وإن كان ظنّياً إلاّ أنّه بعد قيام الدليل على حجّيته موجب للقطع بكون حكمنا الظاهري على طبقها ، وحينئذ يكون لازمه وهو التدارك قطعياً ، ولا وجه حينئذ لما تضمّنته عبارة التحرير من كونه ظنّياً من جهة كون دليله ظنّياً ، لما عرفت من أنّ قطعية التدارك تابع لقطعية الحكم الظاهري ، وهو قطعي وإن كان دليله ظنّياً ، لأنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعية الحكم الظاهري ، فتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٢.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٣٧٦.

٥٢٧

وإن أراد أنّ الكاشف عن تدارك المفسدة هو عدم إيجاب الاحتياط شرعاً ، ففيه أوّلاً : أنّه لا وجه لكون عدم جعل الاحتياط كاشفاً عن تدارك المفسدة ، إذ ليس عدم جعل الاحتياط موجباً للوقوع في المفسدة كي يستكشف به تداركها ، لإمكان اتّكال الشارع على ما يحكم به عقل المكلّف من لزوم دفع الضرر المظنون.

وثانياً : أنّ الاستكشاف المذكور إنّما يسلم لو حصل لنا القطع بأنّ الشارع لم يجعل الاحتياط ، فلعلّه جعله ولم يصل إلينا ، هذا ما انقدح في نظري القاصر.

ولكن شيخنا قدس‌سره حسبما نقله في هذا التحرير قد أجاب عنه بوجوه فقال : وأنت خبير بما فيه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ تدارك الضرر والمفسدة إنّما يجب إذا كان الشارع أوقع المكلّف في الضرر والمفسدة الواقعية الخ (١).

وفيه تأمّل أمّا أوّلاً : فلما عرفت في أوّل مباحث جعل الطرق (٢) من أنّ حصول العلم بالواقع ممتنع ، وليس في البين إلاّالطرق العقلائية. وأمّا ثانياً : فلأنّ دعوى عدم كون التفويت في الأُصول الشرعية مستنداً إلى الشارع ممنوع ، بناءً على ما هو المفروض من حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى المفسدة ، فإنّه لو لم يجعل لنا الأُصول الشرعية النافية ، لكان العقل حاكماً علينا بلزوم التحرّز عن احتمال المفسدة ، فيكون جعل الأُصول الشرعية النافية موجباً للوقوع في المفسدة ، فيلزمه تداركها.

لا يقال : يمكن للمكلّف أن يحصّل القطع بعدم المفسدة اللازم دفعها بنظر العقل ، لأنّ تلك المفسدة أو المصلحة إن كانت لازمة التحصيل في نظر الشارع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٢.

(٢) في الصفحة ٢٥١ وما بعدها.

٥٢٨

حتّى في مقام الشكّ ، كان عليه أن يجعل الاحتياط ، فلمّا لم يجعله كشف ذلك عن أنّها غير لازمة التحصيل في مقام الشكّ. وإذا كانت غير لازمة التحصيل في مقام الشكّ ، لم يكن احتمالها احتمالاً للضرر الذي يحكم العقل بلزوم دفعه.

لأنّا نقول : هذا إنّما يتمّ لو حصل لنا القطع بعدم جعل الشارع الاحتياط في مقام الشكّ ، وقد عرفت أنّه ممنوع ، بل يجوز أن يكون قد جعله ولم يصل إلينا.

قال : وأمّا ثانياً : فلأنّ العموم في كلّ مورد إنّما يشمل الأفراد التي لا يتوقّف شمول العام لها إلى مؤونة زائدة من إثبات أمر آخر ، إلاّإذا بقي العام بلا مورد لولا تلك المؤونة الخ (١).

وفيه تأمّل أيضاً ، فإنّ المقام من قبيل ما لو أُخرج المورد المتوقّف على العناية يبقى العام بلا مورد ، لما عرفت من أنّ حكم العقل إنّما هو بلزوم دفع الضرر المحتمل وإن لم يكن مظنوناً ، فلو أخرجنا جميع موارد احتمال المفسدة عن عموم دليل البراءة يبقى عمومها بلا مورد أصلاً ، هذا.

مضافاً إلى أنّ محلّ الكلام في الأُصول إنّما هو الحكم الشرعي الملازم لدخول المورد في العام ، مثل طهارة آنية الخمر وطهارة ثياب العامل لطهارة نفس الخمر بعموم إنّ الخمر إذا انقلب خلاًّ يطهر ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو أمر تكويني تابع للحكم الشرعي أينما وجد ، فعموم أقيموا الصلاة لو طبّقناه على الصبي المميّز يلزمه ثبوت المصلحة في صلاته ، فلا يقال إنّ وجود المصلحة مؤونة زائدة فلا تثبت بالعموم ، وأنّ العموم ساقط فيه لتوقّفه على تلك المؤونة الزائدة.

قال : وأمّا ثالثاً : فلأنّه بعد تسليم كون الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالضرر على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٣.

٥٢٩

تقدير ترك العمل بالظنّ لا يبقى موقع للبراءة والاستصحاب ، لاستقلال العقل بقبح الاقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر الخ (١).

ويمكن التأمّل فيه أيضاً ، أمّا أوّلاً : فلما عرفت فيما تقدّم (٢) من عدم حكومة هذا الحكم العقلي على الاستصحاب ، بل إنّ الاستصحاب حاكم عليه.

وأمّا ثانياً : فلأنّ حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على الأُصول الشرعية النافية إنّما هي في خصوص الضرر الدنيوي ، أمّا الضرر بمعنى المفسدة فإنّ الأمر فيها بالعكس ، بناءً على ما أفاده الشيخ قدس‌سره من لزوم التدارك.

ومن ذلك يتّضح لك وجه الفرق بين ما أفاده الشيخ قدس‌سره هنا وما أفاده في مبحث البراءة ، فإنّ ما أفاده في مبحث البراءة (٣) من أنّ الظنّ بالضرر غير العقاب قد جعل طريقاً شرعياً إلى الضرر الواقعي ، ولا تجري فيه البراءة كسائر موارد الطرق الشرعية ، مبني على أنّ مراده من الضرر غير العقاب الضرر الدنيوي مثل تلف النفس ، وقد عرفت أنّ حكم العقل بلزوم دفعه والفرار عنه مستتبع للحكم الشرعي بذلك ، غايته أنّه اختار أنّ ذلك الحكم الشرعي من باب الطريقية والتحرّز عن الضرر الواقعي ، فيكون الحكم بلزوم دفع الضرر عنده من قبيل ذي الملاكين.

وأمّا ما أفاده في هذا المقام من جريان البراءة مع اعترافه بأنّ الظنّ بالحكم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٣.

(٢) في الصفحة : ٥١٦ ـ ٥١٧.

(٣) [ نقله في فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٤ عن الشيخ قدس‌سره في مبحث البراءة ، ويظهر من تعليقة المحقّق العراقي قدس‌سره إنكار النسبة. وعلى أيّ حال راجع ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الشبهة التحريمية الموضوعية في فرائد الأُصول ٢ : ١٢٢ ـ ١٢٦ ، وكذا ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الاستدلال على البراءة بحكم العقل في فرائد الأُصول ٢ : ٥٧ ].

٥٣٠

يلازم الظنّ بالضرر ، فهو كما عرفت مبني على أنّ مراده من الضرر المظنون هو المفسدة التي فرض أنّ الشارع يتداركها بواسطة حكمه بالترخيص فيها.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أُفيد في هذا التحرير بقوله : ولو سلّم أنّ الظنّ بالحكم يلازم الظنّ بالضرر الدنيوي والأُخروي ـ إلى قوله ـ ومن حيث الظنّ بالضرر غير العقاب لا تجري البراءة العقلية الخ (١) فإنّك قد عرفت أنّ حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، إنّما يستتبع الحكم الشرعي بذلك إذا كان ذلك الضرر من قبيل الضرر الدنيوي مثل تلف النفس ، وأمّا إذا كان من قبيل المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ، فقد عرفت أنّ الشيخ يقول بمنع الصغرى ، للزوم تداركها على الشارع ، مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ هذه الأضرار لا تكون مؤثّرة إلاّفي الحكم الأوّلي التابع لتلك الملاكات ، فتأمّل. هذا ما كنت حرّرته سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ إجراء قاعدة دفع الضرر المظنون هنا إن كان المراد بالضرر فيها هو الضرر الدنيوي التي هي العقوبة الدنيوية ، فقد عرفت (٢) أنّ حالها حال العقوبة الأُخروية في القطع بعدمها ، لكن لو سلّمنا كونها من قبيل الأسباب فهي حاكمة على البراءة الشرعية. وإن كان المراد بالضرر فيها هو المفسدة ، فتلك لا يجب دفعها فلا تمنع من البراءة. نعم إنّ البراءة حينئذ تكون إيقاعاً في المفسدة ويكون جوابه هو التدارك كما أفاده الشيخ ، لكن يرد على الشيخ أنّه لا وجه لتسليم وجوب الدفع وجعل التدارك رافعاً لوجوبه.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٤.

(٢) في الصفحة : ٥٢٦.

٥٣١

فهرس الموضوعات

الموضوع

الصفحة

مبحث القطع.....................................................................

تحقيق الحال في المراد بالمكلّف وأنّه هل يعمّ العامي أم لا............................ ٣

الكلام في حصر مجاري الأُصول............................................... ١٣

عدم إطلاق الحجّة على القطع................................................ ١٦

دفع الإشكال عن أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع............................. ٢٠

الكلام في أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.................................. ٢٢

إثبات إطلاق الحكم لحالتي العلم والجهل بمتمّم الجعل............................ ٢٢

الكلام فيما ادّعي من تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل........ ٢٧

توجيه اختصاص الجهر والاخفات والقصر والتمام بالعالم......................... ٢٨

توجيه مقالة الأخباريين بمنع اعتبار العلم من غير الكتاب والسنّة................... ٢٨

توجيه آخر لمقالة الأخباريين في المسألة......................................... ٣٢

التعليق على كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره في المقام................................ ٣٤

توجيه المنع من العمل بالقطع الحاصل من القياس................................. ٣٨

أخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر يضادّه أو يماثله......................... ٤٠

وقفة مع الآخوند قدس‌سره في منعه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية باختلاف الرتبة ٥٧

رفع الابهام عمّا ذكر في الجهة الثالثة من جهات القطع........................... ٦٠

٥٣٢

الكلام في قيام الأمارات والأُصول مقام القطع................................... ٦٢

ذكر الوجوه المحتملة في حجّية الأمارة.......................................... ٦٧

وقفة مع صاحب الكفاية قدس‌سره في توجيه قيام الأمارة مقام القطع................... ٧٧

التأمّل فيما أفاده المحقّق النائيني قدس‌سره من جعل صفة المحرزية والكاشفية للأمارة....... ٨٢

كيفية أخذ العلم في الشهادة وهل هو على نحو الصفتية أو الطريقية................ ٨٩

كيفية أخذ العلم في مسألة الركعتين الأُوليين.................................. ١٠١

الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية من تصحيح القيام بتنزيلين................... ١٠٧

أقسام الظنّ ........................................................ ..... ١١٥

الكلام في التجرّي.................................................................

التعليق على دعوى شمول الخطابات الأوّلية لصورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته. ١٢٠

عدم جريان هذه الدعوى في التجرّي في الشبهة الحكمية........................ ١٢٤

دعوى أنّ القطع بشيء من العناوين المغيّرة لجهة الحسن والقبح.................. ١٢٩

توجيه الخطاب إلى المتجرّي بعنوانه........................................... ١٣٢

دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب بحكم العقل................................. ١٣٤

دعوى حرمة التجرّي من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار..................... ١٤٤

دعوى الإجماع على استحقاق العقاب لتأخير الصلاة بظنّ ضيق الوقت.......... ١٤٧

دعوى الإجماع على حرمة سلوك طريق مظنون الضرر......................... ١٤٩

وقفة مع صاحب الفصول في دعاواه في المقام.................................. ١٥٠

هل التجرّي يخلّ بالعدالة؟.................................................. ١٥٣

الكلام فيما نُسب إلى الأخباريين من عدم حجّية الدليل العقلي.................. ١٥٤

تحقيق الحال في مسألة التحسين والتقبيح العقليين............................... ١٥٦

٥٣٣

تحقيق الحال في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع......................... ١٦١

قطع القطّاع............................................................... ١٦٣

مباحث العلم الاجمالي..............................................................

المقام الأوّل : في سقوط التكليف بالامتثال الاجمالي على وجه الاحتياط.......... ١٦٥

دعوى اعتبار قصد الوجه في صحّة العبادة.................................... ١٦٥

وقفة مع صاحب الكفاية في نفي اعتبار قصد الوجه............................ ١٦٨

إمكان تصرّف الشارع في كيفية الاطاعة والامتثال............................ ١٧١

تحقيق مفصّل حول الأصل الجاري عند الشكّ في اعتبار شيء في كيفية الاطاعة عقلاً أو شرعاً ١٧٢

المنع من الاحتياط المستلزم للتكرار........................................... ١٨٧

الكلام في مراتب الامتثال................................................... ١٩٢

الإشكال في تقدّم الظنّ المطلق عند الإنسداد على الاحتياط...................... ١٩٢

الإشكال على ما ذكره المحقّق النائيني قدس‌سره من مراتب الامتثال................... ١٩٨

جريان أصالة الاشتغال مع الشكّ في كفاية الاطاعة الاجمالية.................... ٢٠١

انحصار المانع عن الاحتياط في الشبهات الوجوبية مع تنجّز التكليف.............. ٢٠٢

فائدة : حكاية أقوال بعض العلماء في الاحتياط في مسألة الزكاة................. ٢٠٤

المقام الثاني : في ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي................................ ٢١٠

هل المانع من جريان الأُصول في أطراف العلم هو قصور أدلّة الأُصول؟.......... ٢١٠

هل العلم بنفسه مانع عن جريان الأصل في أحد أطراف العلم الاجمالي؟.......... ٢١١

وقفة عند مسألة الجنابة المردّدة بين شخصين.................................. ٢١٢

تحقيق الحال ونقل أقوال بعض العلماء في مسألة الاقتداء مع تردّد الجنابة بين الإمام والمأموم ٢١٣

تحقيق الحال في مسألة تنصيف درهم الودعي.................................. ٢٢٥

٥٣٤

التعرّض لمسألة الإقرار بالملكية............................................... ٢٣٠

تردّد المعلوم بالاجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر أو بوجوده العلمي...... ٢٣٧

الكلام في الظنّ...................................................................

الكلام في إمكان التعبّد بالظنّ ودفع شبهة ابن قبة.............................. ٢٤٧

تحقيق مفصّل في معنى انفتاح باب العلم وانسداده.............................. ٢٤٨

المراد بأقربية الأمارات إلى الخطأ............................................. ٢٥٩

كلام حول المصلحة التسهيلية............................................... ٢٥٩

كيفية دفع الإشكال عن التعبّد بالأمارات لمن كان في زمن الحضور.............. ٢٦٣

أقسام السببية ورجوع الأوّل منها إلى التصويب الأشعري...................... ٢٦٧

كلام مفصّل حول المصلحة السلوكية........................................ ٢٧١

ما هو الأولى في دفع إشكال ابن قبة.......................................... ٢٨٦

وجوه التفصّي عن إشكال التضادّ والتناقض بين الحكم الواقعي والظاهري........ ٢٩٤

الكلام في مسلك الشيخ قدس‌سره القائل بأنّ الحجّية منتزعة عن الأحكام التكليفية..... ٢٩٦

حلّ الإشكال في باب الأُصول المحرزة......................................... ٢٩٩

تحقيق كيفية حجّية الاستصحاب والفرق بينه وبين الأمارة...................... ٣٠٠

حكومة الأمارات على الأُصول الاحرازية وحكومة الاحرازية على غيرها......... ٣٠٤

رفع غائلة التضادّ بين الحكمين باختلاف الرتبة................................ ٣٠٩

تحقيق مفصّل حول حقيقة المجعول في الأُصول غير الاحرازية وكيفية الجمع بينها وبين الأحكام الواقعية ٣١٢

نقل كلمات صاحب الكفاية في المقام والتأمّل فيها............................. ٣٣٧

تأسيس الأصل عند الشكّ في اعتبار الأمارة والاستدلال عليه بالآية والرواية...... ٣٥١

٥٣٥

الاستدلال على أصالة عدم الحجّية بعموم ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ....... ٣٥٢

جهات البحث عن قبح التشريع وحرمته...................................... ٣٥٥

كلام مفصّل حول استصحاب عدم الحجّية................................... ٣٦١

حجّية الظواهر....................................................................

التفصيل بين من قُصد إفهامه ومن لم يُقصد................................... ٣٨١

حجّية قول اللغوي......................................................... ٣٨٦

مدرك حجّية الإجماع....................................................... ٣٨٩

الكلام في الشهرة الجابرة لضعف الرواية والكاسرة لصحّتها..................... ٣٩١

حجّية خبر الواحد................................................................

كون البحث عن حجّية خبر الواحد بحثاً أُصولياً............................... ٣٩٣

ردّ الاستدلال بالسنّة على نفي حجّية الخبر................................... ٣٩٤

الإشكالات التي سجّلوها على الاستدلال بآية النبأ............................. ٣٩٥

نقل كلمات أجود التقريرات في المقام والتعليق عليها........................... ٤١٣

حول الإشكالات التي لا تختصّ بآية النبأ..................................... ٤٢٢

إشكال شمول أدلّة الحجّية للإخبار مع الواسطة................................ ٤٢٥

الاستدلال بآية النفر على حجّية خبر الواحد ودفع الإشكالات عنه.............. ٤٣٣

الاستدلال بالسنّة على حجّية خبر الواحد..................................... ٤٥٠

الاستدلال بالسيرة العقلائية وسيرة المتشرّعة على حجّية خبر الواحد............. ٤٥٤

إثبات حجّية خبر الواحد بالإنسداد الصغير والمناقشة فيه........................ ٤٦٨

المناقشة في الوجه الذي ذكره صاحب الحاشية قدس‌سره لإثبات حجّية الخبر.......... ٥١٠

حجّية مطلق الظنّ.......................................................... ٥١٢

فهرس الموضوعات.......................................................... ٥٣٢

٥٣٦