أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

أصالة الظهور وجهة الصدور ، لأنّ حاصل علمنا الاجمالي هو أنّ كثيراً من هذه المتون الموجودة في هذه الأخبار هو صادر عن المعصوم عليه‌السلام ، وهذه المتون المفروضة الصدور لا نتكلّم في حجّيتها من حيث السند ، لأنّ المفروض هو العلم بصدورها ، وإنّما يتكلّم فيها من حيث ظهورها وجهة صدورها ، إذ لا يمكننا الحكم على طبقها إلاّبعد إحراز أنّ المتكلّم بها أراد ما هو الظاهر منها ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية ، ولا يمكننا إحراز ذلك إلاّبأصالة الظهور وأصالة جهة الصدور ، ومعنى أصالة الظهور في الكلام هو البناء على أنّ المتكلّم أراد به ما هو الظاهر منه ، ومعنى أصالة جهة الصدور هو البناء على أنّه أراد بذلك الظاهر بيان الواقع لا لتقية ، ومن الواضح أنّ إجراء هذين الأصلين إنّما يكون بعد إحراز صدور ذلك الكلام من ذلك المتكلّم ، ليصحّ لنا أن نقول إنّ المتكلّم بذلك الكلام أراد به ظاهره ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية.

وحينئذ نقول : إنّ المفروض هنا هو أنّه ليس لنا إلاّالعلم الاجمالي بأن ألف متن من هذه المتون صادرة عنهم ( صلوات الله عليهم ) من دون أن نعرف هذه المتون بعينها ، بل إنّ تلك الألف المعلومة إجمالاً مندمجة في جملة متون مختلفة ، فبعضها عام وبعضها خاص ، وبعضها مطلق وبعضها مقيّد ، وبعضها مجمل وبعضها مبيّن ، وبعضها يتضمّن الحكم الوجوبي لشيء وبعضها يتضمّن التحريم لشيء آخر أو لذلك الشيء ، وبعضها يتضمّن الاستحباب وبعضها الكراهة وبعضها معارض لآخر منها ، إلى غير ذلك من الاختلافات والأنحاء التي تشتمل عليها تلك المتون ، فهل يصحّ لنا أن نحكم بأنّ المتكلّم بتلك الألف التي لا نعرفها بأعيانها ، وهي مندمجة في ذلك البحر التيّار المترامي الأطراف المتدافع الأمواج أراد بها ما هو الظاهر منها ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية ، كلاّ ثمّ كلاّ ،

٥٠١

وليت شعري ما هو ذلك الظاهر حتّى نحكم بأنّ المتكلّم أراده ، وأنّه أراده لبيان الواقع ، هذا ممّا يقطع بعدم جريان الطريقة العقلائية عليه ، التي هي مدرك حجّية هذين الأصلين ، بل بما قد عرفت من كون ذلك الصادر مندمجاً في ذلك المجموع ، أنّ الحكم بأنّ المتكلّم أراد ظاهره ربما عدّ من الممتنعات فضلاً عن المستهجنات. هذا إذا أردنا تحكيم أصالة الظهور وجهة الصدور في نفس تلك الألف الواقعية التي لا نعرفها بأعيانها.

ولو أُريد إجراء ذلك الأصل في كلّ واحد من تلك المتون الموجودة التي هي أطراف ذلك العلم الاجمالي بصدور ألف منها ، بأن نأخذ كلّ متن من تلك المتون التي فرضنا العلم بصدور ألف منها ، ونحكم عليه بأنّ المتكلّم أراد به ظاهره ، وأنّه أراده لبيان الواقع لا لتقية ، كان ذلك محالاً من ناحية أُخرى ، إذ مع فرض أنّ هذا المتن الخاص الذي هو بأيدينا فعلاً غير معلوم الصدور من المعصوم عليه‌السلام ، كيف يمكننا أن نحكم بأنّه عليه‌السلام أراد به ظاهره وأراد به بيان الواقع لا لتقية ، إذ لا يكون ذلك الحكم ممكناً إلاّبعد إحراز صدور ذلك المتن منه عليه‌السلام ، وذلك لا يكون إلاّبحجّية السند ، والمفروض أنّا لا نقول بذلك ، إذ لو قلنا بحجّيته لم نحتج إلى تطرّق هذا العلم الاجمالي.

وإذا سقطت أصالة الظهور وجهة الصدور في هذه المتون الموجودة في مجاميعنا ، لم يكن أثر للعلم الاجمالي بصدور الكثير منها منهم عليهم‌السلام ، إذ مع فرض سقوط أصالة الظهور فيها لا يمكننا العمل بشيء من متونها. نعم لو كانت كلّها نصوصاً قطعية الدلالة ، بحيث إنّها لم تكن في دلالتها محتاجة إلى شيء من الأصلين المزبورين ، لكان للعلم الاجمالي المتعلّق بصدور الكثير منها أثر عملي وهو وجوب العمل بها أجمع ، لكن أنّى لنا بهذه الدعوى.

٥٠٢

وبالجملة : أنّ الاستراحة من حيث السند لا توجب قطعية الحكم ، لعدم كون الدلالة قطعية ، وإلاّ لكانت الآيات الشريفة والأخبار المتواترة قطعية الدلالة ، ولازم ذلك هو عدم التمكّن من تحكيم بعضها على بعض من حيث الدلالة ، وهذا ممّا لا يرتضيه كلّ من له أدنى تحصيل ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال لو تمّ لتوجّه على التوجيه الأوّل أيضاً ، فإنّ العلم الاجمالي بوجود أحكام واقعية في دائرة ما بأيدينا من الأخبار إنّما هو عبارة أُخرى عن العلم الاجمالي بمطابقة الكثير منها للواقع ، ولا ريب أنّ ذلك ـ أعني العلم بمطابقة الكثير من تلك الأخبار للواقع ـ يتوقّف على الأخذ بظهورها ، وإلاّ فكيف نعرف أنّها مطابقة للواقع.

ثمّ إنّه بعد الغضّ عن ذلك كيف تكون نتيجة ذلك العلم الاجمالي بوجود التكاليف الواقعية في ضمن دائرة الأخبار ، أليست هي إلاّوجوب العمل بتلك الأخبار ولو من باب الاحتياط لاحتمال انطباق المعلوم الاجمالي عليها ، فإذا فرضنا أنّ أصالة الظهور لا تجري فيها ، فكيف يمكننا العمل بها ، بل لو تمّ الإشكال المزبور لجرى فيما مثّلنا من قيام أحد الخبرين على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، والآخر على وجوب جلسة الاستراحة مع العلم بحجّية أحدهما وعدم حجّية الآخر ، فإنّك لا يمكنك إحراز صدور هذا الخبر ولا ذلك الخبر حتّى لو تمّت حجّية خبر العادل بالأدلّة الخاصّة ، للعلم الاجمالي بخروج أحدهما عن تلك الأدلّة ، فكيف يمكننا العمل بهما ولو من باب الاحتياط مع فرض توقّف العمل على إحراز ظهورهما بأدلّة أصالة الظهور ، مع أنّه قدس‌سره قد صرّح في مبحث التعادل والتراجيح (١) باجراء أحكام العلم الاجمالي في مثل ذلك فراجع. وسيأتي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٠٣.

٥٠٣

إن شاء الله تعالى مزيد توضيح له في البحث مع صاحب الفصول القائل باختصاص مقدّمات الانسداد بحجّية الظنّ بالطريق فيما علّقناه على هذا التحرير ص ١٠٤ (١).

فالأولى في دفع هذا الإشكال عن جميع هذه المقامات وأمثالها هو أن يقال : إنّ حجّية الصدور وحجّية الظهور وإن توقّفت إحداهما على الأُخرى ، إذ لا أثر للتعبّد بصدور ما ليس له ظاهر ، كما أنّه لا أثر للتعبّد بظهور ما ليس بصادر ، ولابدّ في دفع الدور بأنّه دور معيّ ، وحاصله : أنّه يكفي في التعبّد بالظهور لزوم الأخذ بظهور هذا المتن لو كان صادراً ، ويكفي في التعبّد بالصدور (٢) لزوم الأخذ بصدوره لو كان له ظاهر ، فإذا جرت أصالة الظهور وأصالة الصدور تمّ المطلب.

وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إنّه يكفي في التعبّد بظهور هذا المتن فرض صدوره عن المعصوم عليه‌السلام ، ونحن وإن لم نحرز صدوره بالدليل الخاص ، إلاّ أنّه لمّا كان ذلك المتن من أطراف ما علم صدوره ، وكان العقل حاكماً بلزوم ترتيب آثار الصدور على كلّ واحد من تلك المتون ، كان ذلك الحكم العقلي كافياً في تصحيح إجراء أصالة الظهور فيه. نعم لو لم يكن في البين ما يقتضي لزوم ترتيب آثار الصدور على متن من المتون ، من حكم الشرع بصدوره بالدليل الخاص ، أو حكم العقل بترتيب آثار الصدور عليه ولو لأجل كونه طرفاً للعلم الاجمالي بالصدور ، لم يمكن الحكم فيه بأصالة الظهور لكونه حينئذ لغواً صرفاً.

ولكنّه مع هذا كلّه لا ينفع فيما نحن فيه ، من جهة حاجة تلك المتون إلى تحكيم بعضها على بعض ولو من حيث العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ،

__________________

(١) راجع المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : ٦١.

(٢) [ في الأصل : التعبّد بالظهور ، والصحيح ما أثبتناه ].

٥٠٤

ومع احتمال عدم صدور الخاص كيف نحكّمه على العام الذي نحتمل صدوره ، ولا يكفينا في هذا أن نقول إنّ هذا الخاص لو كان صادراً لكان محكّماً على العام ، إذ مع احتمال كون الخاص غير صادر وكون العام صادراً ، يكون تحكيم ذلك الخاص على ذلك العام على خلاف الاحتياط ، ولعلّ هذا هو أحد أسباب عدم إمكان الاحتياط ، الموجب لما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) وشيخنا قدس‌سره (٢) من لزوم التنزّل إلى ما هو مظنون الصدور.

ثمّ لا يخفى أنّه قد حقّق في محلّه (٣) أنّ للظهور مرتبتين : الأُولى مرتبة كون اللفظ في حدّ نفسه ظاهراً في المعنى الفلاني. المرتبة الثانية : مرتبة الحكم على المتكلّم بأنّه أراد ذلك الظاهر. وهذه المرتبة الثانية هي المعبّر عنها بالدلالة التصديقية ، وهي المتوقّفة على صدور ذلك اللفظ من ذلك المتكلّم دون المرتبة الأُولى ، ومن الواضح أنّ هذه المرتبة الثانية لا يكفي فيها التعليق ، بأن يقال : إنّ هذا المتن لو كان صادراً من المعصوم عليه‌السلام لكان المراد به هذا المعنى ، لأنّ ذلك لا يكفي في النسبة الفعلية بأن يقال إنّه عليه‌السلام أراد به هذا المعنى.

والأولى أن يقال : إنّ المرتبة الثانية وإن توقّفت على الصدور إلاّ أنّ الحكم بالصدور ولو بالدليل العام لا يتوقّف على المرتبة الثانية ، وأقصى ما هنالك أنّه موقوف على المرتبة الأُولى ، فإذا كان اللفظ ظاهراً في حدّ نفسه في شيء حكم بصدوره ، وإذا حكم بصدوره كان ظهوره حجّة الذي هو المرتبة الثانية من

__________________

(١ و ٢) تقدّم نقل كلماتهما قدس‌سرهما والمناقشة فيها في الحاشية المذكورة في الصفحة : ٤٧٠ وما بعدها.

(٣) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٧١٦ ـ ٧١٧ ، وراجع أيضاً ما تقدّم في المجلّد الخامس من هذا الكتاب في الصفحة : ٩٥.

٥٠٥

الظهور ، أمّا العلم الاجمالي بأنّ هذا المتن من جملة متون نعلم بصدور بعضها منه عليه‌السلام فهو لا يكفي في تحقّق الدلالة المزبورة ، أعني الحكم بأنّه عليه‌السلام أراد هذا المعنى من هذا المتن. نعم إنّ نتيجة العلم الاجمالي بالصدور هو العلم الاجمالي بأنّه عليه‌السلام أراد جملة من هذه الظواهر ، وهذا الأخير هو منشأ الأثر ، وهو الموجب للاحتياط بالعمل بجميع تلك المتون.

لا يقال : إنّ ذلك لازم للقول بالحجّية من باب الأدلّة الخاصّة ، للعلم الاجمالي بعدم صدور بعض تلك الأخبار التي قامت على حجّيتها الأدلّة الخاصّة.

لأنّا نقول : إنّ الذي قامت عليه الأدلّة بالخصوص هو الخبر الموثوق به ، والعلم بأنّ بعض الأخبار الموثوق بها غير صادر ممنوع. ولو سلّمنا ذلك لم يكن ذلك العلم بعدم صدور البعض موجباً لسقوط أصالة الظهور في تلك الأخبار ، لأنّ كلّ واحد منها في حدّ نفسه محرز الصدور ببركة أصالة الصدور التي أخذناها من الأدلّة الخاصّة ، غايته أنّه يقع الإشكال في نفس أصالة الصدور ، وأنّ هذا الأصل منتقض في بعض تلك الأخبار ، وهذا المقدار من العلم بخلاف ذلك الأصل في بعض مجاريه لا يوجب سقوطه بالمرّة ، كما أنّ علم الشخص بأنّ بعض ما يأخذ به من أصالة الظهور منتقض في الجملة ، إذ لا شكّ في أنّه يعلم بأنّ بعض هذه الظواهر التي يحكم بها في مقام التفاهم مع غيره في تمام عمره ، أو في تمام هذه السنة مثلاً ، قد أراد المتكلّمون بها خلاف ما هو الظاهر ، بل هو جارٍ في البيّنات ، فإنّ الإنسان أو المجتهد يعلم إجمالاً بأنّ بعض هذه البيّنات التي تقام عنده في تمام مدّة تولّيه القضاء غير مطابق للواقع ، بل إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّ بعض إخبارات المخبرين له فيما يعود إلى الحوادث اليومية غير مطابق للواقع ، ولا يوجب ذلك التوقّف في تصديقه لكلّ من يخبره بخبر مع فرض كونه من

٥٠٦

الموثوق به.

وبالجملة : أنّ هذه العلوم الاجمالية لا يعتني بها العقلاء في إسقاط ما بأيديهم من الأُصول العقلائية ، بل إنّ الفقيه نفسه ربما علم إجمالاً بأنّ بعض فتاواه الموجودة في رسالته العملية غير مطابق للواقع ، لكنّه لا يعتني بذلك ، لأنّ هذا المقدار من العلم ممّا لا يعتني به العقلاء في قبال ما لديهم من الحجج الفعلية في الموارد الخاصّة ، سواء كانت تلك الحجج شرعية أو كانت عقلائية.

نعم ، لو قلنا إنّ جميع ما في الوسائل من الأخبار ممّا قامت على حجّيته الأدلّة الخاصّة ، لكان العلم الاجمالي المتعلّق بعدم صدور البعض ممّا هو محصور فيما بين الدفّتين مسقطاً للحجّية في كلّ واحد منها ، لكونه من أطرافٍ علم بعدم صدور بعضها ، لكن قد عرفت أنّ القائل بالحجّية بالأدلّة الخاصّة إنّما يقول به في خصوص الموثوق به ، وذلك ـ أعني الخبر الموثوق به فيما بين الدفّتين من الوسائل ـ لا علم لنا بكون بعضه غير صادر. نعم لو أخذنا ذلك قاعدة كلّية ، وقلنا بحجّية كلّ خبر موثوق به سواء كان في الوسائل أو غيرها ممّا لا حصر له ، لأمكن دعوى العلم الاجمالي بعدم صدور بعضه ، إلاّ أنّ هذا المقدار من العلم الاجمالي بالنسبة إلى هذه الدائرة الوسيعة لا يعتني به العقلاء ، وهو السرّ في عدم لزوم الاجتناب في أطراف الشبهة غير المحصورة ، هذا كلّه فيما أورده قدس‌سره أوّلاً على التوجيه المزبور.

وأمّا ما أورده قدس‌سره عليه ثانياً : من أنّ العلم الاجمالي بوجود الأحكام الظاهرية بعد فرض عدم إمكان الاحتياط في جميع الأطراف ، لا يكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي المتوسط ، لفرض عدم تنجّز ذلك العلم الاجمالي بوجود الأحكام

٥٠٧

الظاهرية في تمام الأطراف ، وأنّ فرض المسألة هو التنزّل إلى مظنون الصدور ، وهو أقلّ ممّا هو معلوم بالاجمال بالعلم الاجمالي المتوسط.

فيمكن الجواب عنه أوّلاً : بأنّ جميع ما لدينا من الأخبار الموجودة في المجاميع مظنون الصدور ، ومن الواضح أنّ ما علم إجمالاً من الأحكام الظاهرية بينها بمقدار المعلوم بالاجمال.

وثانياً : أنّا لو سلّمنا أنّ بعض تلك الأخبار غير مظنون الصدور ، فلا وجه لاسقاط الاحتياط والتزام خصوص ما هو مظنون الصدور منها ، لما عرفت من إمكان العمل بالاحتياط الكلّي في جميع تلك الأطراف ، أعني الأخبار الموجودة في المجاميع ، ولا يلزم منه التعذّر ولا العسر والحرج ولا غير ذلك ممّا تقدّم تفصيل الكلام فيه (١). نعم في خصوص تحكيم بعضها على بعض لا يكون الاحتياط ممكناً كما عرفت تفصيله.

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا عدم إمكان الاحتياط في تمام ما بأيدينا من الأخبار ولو من جهة توقّف العمل بها على تحكيم بعضها على بعض ، ولزم التنزّل إلى ما هو مظنون الصدور فيها من باب تبعيض الاحتياط ، لأمكننا القول بأنّ ما هو مظنون الصدور من تلك الأخبار يكون بمقدار المعلوم إجمالاً بالعلم الاجمالي المتوسط ، فإنّه قدس‌سره قد التزم بانحلال العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي المتوسط ، مع أنّ الاحتياط في تمام أطراف العلم الاجمالي المتوسط يأتي فيه ما يأتي في العلم الاجمالي الصغير ، الذي هو العلم بوجود الأحكام الظاهرية في خصوص الأخبار مِن تعذّر الاحتياط في تمام أطرافه ولزوم التنزّل إلى الظنّ ، وحيث إنّه يندفع هذا

__________________

(١) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٧٠ وما بعدها.

٥٠٨

الإشكال على العلم الاجمالي المتوسط بأنّ مظنوناته بمقدار المعلوم إجمالاً بالعلم الاجمالي الكبير ، فكذلك نقول : إنّ مظنونات العلم الاجمالي الصغير هي بمقدار المعلوم الاجمالي المتوسط. ودعوى كون مظنونات الصغير أقلّ من مظنونات المتوسّط لا شاهد عليها بعد ما شرحناه سابقاً (١) من قلّة الأمارات التي هي غير الأخبار ، فراجع وتأمّل.

قوله : فإن قلت : الأخذ بمظنون الصدور فيما بأيدينا من الأخبار إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال مجال ، وأمّا إن كان من باب أنّ الشارع جعل الظنّ بالصدور حجّة وطريقاً إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار ، فلا محالة ينحلّ العلم الاجمالي المتعلّق بالمجموع من الأخبار والأمارات الظنّية ـ إلى قوله ـ قلت : هذا إذا تمّت المقدّمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة ، فتكون النتيجة حجّية الظنّ ، وأنّ الشارع جعل الظنّ طريقاً إلى ما صدر ... إلخ (٢).

لا يخفى أنّه بعد أن أفاد في جواب « إن قلت » الأولى ما نصّه : لأنّ مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية الخ (٣) ، لا يكون مظنون الصدور موجباً لانحلال العلم الاجمالي ولو تمّت مقدّمات الانسداد على الكشف ، بل ولو كانت مظنونات الصدور حجّة بالخصوص ، لفرض أنّها أقلّ من المعلوم بالاجمال فتأمّل.

__________________

(١) في الصفحة : ٤٨٤.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢١١.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٠.

٥٠٩

قوله : بل كان ممّا سكت الله تعالى عنه وأمر الحجج بعدم تبليغه إلى الأنام ، ولكن دون حصول الشكّ أو الظنّ بذلك خرط القتاد ، بل من المحالات العادية ... الخ (١).

لا يقال : إنّ احتمال كون مدلول الشهرة لم يكن مقول قول المعصوم عليه‌السلام وأنّه لم يصدر عنه عليه‌السلام ، لا يلزمه احتمال أنّ الواقعة لا حكم فيها قد بلّغه المعصوم كي يدخل بذلك في المحالات العادية ، بل يجوز أنّ الحكم في تلك الواقعة قد بلّغه المعصوم ولكن قامت الشهرة على خلافه ، بأن تقوم الشهرة على كون الحكم في الواقعة هو الاباحة مثلاً ، ولكن يكون الحكم الواقعي الذي بلّغه المعصوم هو الحرمة.

لأنّا نقول : مراده قدس‌سره أنّ الظنّ [ بالحكم ] الحاصل من الشهرة [ الذي ] هو الاباحة ملازم لكون ذلك الحكم الذي هو الاباحة قد بلّغه المعصوم ، فيكون موجباً للظنّ بأنّه مدلول السنّة ، فلا خصوصية للظنّ الحاصل من خبر الواحد ، إلاّ إذا كان الظنّ الحاصل من الشهرة منفكّاً عن الظنّ بالسنّة ، بأن يظنّ أو يشكّ في كون ذلك الحكم الذي قامت عليه الشهرة لم يبلّغه المعصوم ، وهو محال عادةً.

ثمّ لا يخفى أنّ دعوى الضرورة على الرجوع إلى الكتاب والسنّة إنّما يتمّ في خصوص قطعي الدلالة ، أمّا ما يحتاج منهما إلى إعمال قواعد الظهور والأُصول العقلائية فليس ممّا قامت الضرورة عليه ، وحينئذ نحتاج إلى دعوى العلم الاجمالي بوجود الأحكام في ضمن تلك الظواهر ، أو دعوى العلم الاجمالي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٢.

٥١٠

بحجّية بعض تلك الظواهر ، وحينئذ يكون هذا الوجه محتاجاً إلى الوجه السابق في أحد تقريبيه حتّى لو كان المراد من السنّة هو السنّة الواقعية ، أعني نفس قول المعصوم ، ولا خصوصية لذلك بما أُريد من السنّة الخبر الحاكي لها كما أفاده قدس‌سره.

وبالجملة : أنّ المكلّف محتاج إلى الحكم الظاهري ، سواء كان المراد من السنّة نفس قول المعصوم أو كان المراد بالسنّة ما يعمّ الخبر الحاكي لها ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يكون من ناحية الظهور فقط ، بخلافه على الثاني فإنّه من ناحية الظهور ومن ناحية الصدور ، فتأمّل. وعليه فتكون النتيجة هي احتياج هذا الوجه إلى الوجه السابق ، سواء كان المراد من السنّة هي نفس قول المعصوم ، أو كان المراد بها هو الخبر الحاكي لها.

قوله : وعمدتها الطريقة العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها ... الخ (١).

قد عرفت أنّ عمدتها إنّما هي الأخبار المتواترة إجمالاً ، ويتلوها في الدلالة آية النفر ، وأنّ الطريقة العقلائية محتاجة إلى دليل الامضاء ، وأنّ عدم الردع لا أثر له إلاّمن ناحية كونه إمضاء ، فعند الشكّ في الردع لا يكون أصالة عدم الردع نافعاً لكونه حينئذ من الأُصول المثبتة ، فراجع (٢) وتأمّل.

قوله : فيرجع هذا الوجه إلى الانسداد الكبير ... الخ (٣).

أو يرجع إلى الوجه السابق الذي هو دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى ما بأيدينا من الأخبار.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٤.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٥٤ وما بعدها ، وكذا الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٦٦ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

٥١١

قوله : لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، بل المشكوك ، بل الموهوم أيضاً إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأُخروي ... الخ (١).

ومن ذلك يظهر لك لو تمّ هذا الدليل لم يكن للظنّ خصوصية ، بل كان نتيجته لزوم العمل باحتمال التكليف ، وهو عبارة عن الاحتياط في كلّ مورد يحتمل فيه التكليف ولو موهوماً ، لأنّ احتماله ملازم لاحتمال العقاب ، ودفع الضرر المحتمل لازم بحكم العقل.

قوله : لا إشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما أنّه لا إشكال في استقلال العقل بلزوم دفع ضرر العقاب الموهوم ، فضلاً عن المشكوك ، فضلاً عن المظنون ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ التعبير في هذا المقام بأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان حاكمة أو واردة على قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل لا يخلو عن تسامح ، فإنّ كلاً من الورود والحكومة والتخصيص والتقييد وغير ذلك من طرق الجمع الدلالي إنّما هو في مقام الاثبات لا في مقام الثبوت ، ومقامنا في الأحكام العقلية إنّما هو مقام الثبوت ، لأنّ الحكم إنّما هو للعقل ، وحينئذ فيكون الحاصل هو أنّ العقل بعد الفحص يحكم بالمعذورية ، وقبله لا يحكم بذلك بل يحتمل العقاب ، وليس معنى الحكم العقلي إلاّالإدراك ، فيكون الحاصل أنّ المكلّف بعد الفحص وعدم قيام الحجّة يقطع بعدم العقاب والمعذورية ، بخلافه قبل الفحص فإنّه يحتمل العقاب.

نعم ، هناك مناقشات صغرى كما في الشبهات الموضوعية ، فإنّ الاحتمال

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٥.

٥١٢

فيها موجود ، لكن يدّعى الإجماع على جريان البراءة الشرعية فيها قبل الفحص ، ولو تمّ لكان بمنزلة خبر يصرّح برفع التكليف في تلك الموارد. كما أنّه قد يدّعى لزوم الاحتياط في مورد القطع بعدم قيام الحجّة على التكليف ، كما في الشكّ في مدخلية قصد القربة في الغرض بعد فرض عدم إمكان التكليف الشرعي بها ، كما هو مدّعى الكفاية في مسألة التعبّدي والتوصّلي (١) ، وأنّ احتمال المدخلية في الغرض موجب للاحتياط ، بناءً على حكم العقل بلزوم تحصيل ما يتوقّف عليه الغرض من الأمر وإن لم يكن دخيلاً في المأمور به.

قوله : الأمر الثاني : قد تقدّم في بعض المباحث السابقة أنّ ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية ... الخ (٢).

قد ذكرنا في مبحث البراءة (٣) فيما علّقناه على هذا التقسيم ، أنّ التكليف المشكوك إن كان من قبيل القسم الأوّل ، كان مورداً للزوم الاحتياط ، ولا مورد فيه للبراءة العقلية ولا الشرعية ، وإن كان من قبيل الثاني كان العقل فيه حاكماً بالمعذورية ، بل قد يقال : إنّه لا مورد فيه للبراءة الشرعية وإن أمكن كونه مورداً للبراءة العقلية.

إلاّ أنّ التحقيق هو قابلية المورد لكلّ من البراءة العقلية والشرعية ، لأنّ عدم قابلية تأثير الارادة في مقام الشكّ فيها لا يخرج المقام عن احتمال التكليف الواقعي ، فنحتاج إلى نفي ذلك الاحتمال بالبراءة ، إذ ليس معنى ذلك هو

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٦.

(٣) لعلّ المقصود بذلك ما يأتي في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٢٢ وما بعدها.

٥١٣

اختصاص الارادة الواقعية بخصوص العالمين بها ، وإلاّ للزم انسداد باب الاحتياط الاستحبابي في ذلك فتأمّل ، فإنّ هذا المقدار لا يرفع الإشكال بحذافيره ، لأنّ الاقتصار في إجراء البراءة على هذه الصورة مع فرض إخراج الصورة الثالثة يوجب انحصار البراءة بالموارد التي يقطع فيها بعدم وجوب الاحتياط ، دون الموارد التي نحتمل فيها وجوب الاحتياط ، وهي موارد الصورة الثالثة ، أعني ما لو تردّد ذلك التكليف المشكوك الوجود بين كونه من الأوّل أو الثاني ، فقد يقال إنّها لا تكون مورداً لكلّ من [ البراءة ] العقلية والبراءة الشرعية نظراً إلى تحقّق احتمال الملاك القوي.

والحقّ هو جريان البراءة في ذلك ، فإنّ ملاك وجوب الاحتياط الشرعي وموضوعه هو التكليف القوي الملاك عند احتماله ، فلابدّ في إجراء وجوبه من إحراز قوّة ذلك التكليف المحتمل ، ولا يكفي في ذلك احتمال قوّته. نعم لو كان ملاك وجوب الاحتياط هو مجرّد احتمال وجود التكليف القوي الملاك ، على وجه تكون قوّة الملاك داخلة في الاحتمال كأصل وجود التكليف ، كان اللازم هو الرجوع إلى الاحتياط.

والحاصل : أنّ احتمال التكليف إنّما يكون موجباً لجعل الشارع إيجاب الاحتياط في خصوص ما لو كان ملاك ذلك التكليف المحتمل قوياً ، فلابدّ في التزام المكلّف بالاحتياط من إحرازه قوّة الملاك.

ثمّ إنّ الخارج ليس هو عنوان « قوي الملاك » كي يقال إنّ التمسّك بعموم دليل البراءة تمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل الخارج إنّما هو عناوين خاصّة مثل الدماء والفروج ، وبعد خروجها نحكم بطريق الانّ بكون ملاكها قوياً ، فذلك نظير ما لو خرج من عمومات أوفوا بالعقود العقد الفارسي مثلاً ، فإنّه بعد

٥١٤

ثبوت خروجه نحكم بفساده ، لا أنّ الخارج هو عنوان الفاسد كي يكون التمسّك بالعموم بالنسبة إلى العقد الذي كان إيجابه بصورة المضارع مثلاً تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، فراجع ما حرّرناه في مباحث البراءة وتأمّل.

قوله : وإن كان الضرر دنيوياً فالذي يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره في مبحث البراءة هو أنّ الظنّ في المضار الدنيوية يكون طريقاً مجعولاً ... الخ (١).

ينبغي أن يعلم أوّلاً : أنّ الضرر الدنيوي الذي يحكم العقل بلزوم دفعه هو ما يرجع إلى النفس ونحو ذلك من الأضرار المهمّة ، دون مثل الجرح الطفيف وإتلاف المال القليل ونحوهما ، وتمام الكلام فيه في قاعدة لا ضرر.

ثمّ بعد فرض كون الضرر الدنيوي ممّا يكون دفعه لازماً بحكم العقل نقول : إنّه لا فرق بينه وبين العقاب الأُخروي في كون حكم العقل بلزوم الاجتناب عنه طريقياً ، لا يترتّب عليه سوى الوقوع في الضرر لو صادف الواقع ، ولكن وقع النزاع في أنّ حكم العقل بلزوم دفع الضرر سواء كان أُخروياً أو كان دنيوياً هل هو بملاك واحد ، سواء كان الضرر معلوماً أو كان محتملاً ، نظير حكمه بقبح الكذب والتشريع ، أو أنّه بملاكين نظير حكمه بقبح الظلم ، فيكون حكمه في مورد العلم واقعياً وفي مورد الاحتمال طريقياً تحرّزياً ، ولا يبعد أن يكون الوجه هو الثاني من دون فرق في ذلك بين الأضرار الدنيوية والأضرار الأُخروية ، ولا فرق على الظاهر بين الحكم العقلي في كلّ من الموردين.

نعم ، إنّ حكم العقل بالفرار من العقوبة لا يستتبع حكماً شرعياً ، بخلاف حكمه بالفرار من الضرر الدنيوي فإنّه يستتبع حكم الشرع بلزوم الفرار عن ذلك ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٧.

٥١٥

فلا يكون الحكم الشرعي المستكشف به إلاّطريقياً. نعم قد يؤخذ الظنّ بالضرر أو احتماله موضوعاً في بعض الأحكام ، مثل وجوب الاتمام ولزوم التيمّم ولزوم الافطار ونحو ذلك ، وذلك كلّه أجنبي عن الحكم الشرعي المستكشف بطريق الملازمة من حكم العقل بلزوم الفرار من الضرر.

ومنه يظهر لك أنّه لا وجه لتقدّمه على الاستصحاب. نعم لو قلنا إنّه موضوعي وأنّه بملاك واحد ، كان حاله حال التشريع ، وحينئذ يكون مقدّماً على استصحاب الضرر ، كما يقدّم حرمة التشريع على استصحاب عدم الحجّية ، لكن يكون حاله بالنسبة إلى استصحاب عدم الضرر كحال حرمة التشريع بالنسبة إلى استصحاب الحجّية في كون الاستصحاب مقدّماً عليه ، كما مرّ الكلام في ذلك في أوائل مبحث الظنّ (١).

لكن سيأتي منه قدس‌سره في الايراد الثالث على الشيخ قدس‌سره في أوّل ص ٨٢ (٢) أنّ حكم العقل بدفع الضرر المظنون وارد أو حاكم على البراءة والاستصحاب ، سواء كان موضوعياً أو كان طريقياً ، وقد عرفت أنّه لا وجه لحكومته أو وروده على الاستصحاب فيما لو كان طريقياً (٣) ، وكذلك لا وجه لحكومته أو وروده على استصحاب عدم الضرر فيما لو قلنا إنّه موضوعي. والمراد من استصحاب عدم الضرر في المقام هو استصحاب عدم التكليف ، فإنّه يحكم بعدم الضرر ، وهكذا

__________________

(١) في الصفحة : ٣٦٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٣) وينبغي ملاحظة ما أفاده في الجزء الثاني ص ١٦٨ وما علّقناه هناك [ منه قدس‌سره. راجع فوائد الأُصول ٤ : ٤٥٧ ، وراجع الحاشية على ذلك ، الآتية في المجلّد التاسع من هذا الكتاب الصفحة : ٤٩٢ وما بعدها ].

٥١٦

الحال في كلّ حكم شرعي يكون موضوعه الاحتمال أو الخوف ، فإنّ الاستصحاب يكون حاكماً عليه إلاّإذا كان ذلك الحكم وارداً في مورد الاستصحاب ، كما في خوف فوت الوقت بالنسبة إلى وجوب التيمّم ، فإنّه قد ورد في مورد استصحاب بقاء الوقت. ومنه يظهر لك الإشكال فيما ذكره في العروة في مبحث التيمّم في مسألة ٢٧ (١).

قوله : فإنّه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل كان اللازم حصولها بمجرّد الأمر ، ولم يبق موقع للامتثال ... الخ (٢).

قد يقال : إنّ القائل بكون المصلحة في نفس الأمر لا يلتزم بعدم وجوب الامتثال على العبد ، وعدم قيامه بمقتضى عبوديته. نعم يرد عليه أنّ تعيين الفعل الفلاني لكونه متعلّقاً للأمر من بين سائر الأفعال يكون ترجيحاً بلا مرجّح ، وتمام الكلام في محلّه من البحث عن قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقاعدة الملازمة فراجع (٣).

قوله : بل ينبغي القطع بعدم العقاب ، لاستقلال العقل بقبحه (٤).

تقدّمت (٥) الاشارة إلى أنّ ذلك ـ أعني احتمال العقاب ـ لو كان متحقّقاً لكانت النتيجة هي حجّية احتمال التكليف ولو كان موهوماً ، ولا خصوصية للظنّ به من بين سائر الاحتمالات.

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٢١٩.

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ١٥٤ وما بعدها.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٠.

(٥) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥١٢ على فوائد الأُصول ٣ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

٥١٧

قوله : فإن كان من العبادات فالمصلحة فيها تدور مدار قصد الامتثال وهو يدور مدار العلم بالتكليف ... الخ (١).

فيه تأمّل ، فإنّ المصلحة إنّما تتوقّف على العلم حيث يكون ممكناً ، أمّا مع عدم إمكانه فلا تتوقّف المصلحة المزبورة على العلم ، بل يكفي في حصولها الاتيان بالفعل بداعي الاحتياط لاحتمال كونه مأموراً به ، فإنّ المصلحة في العبادات تابعة لقصد القربة لا لقصد الوجه ، فيكون هذا البحث راجعاً إلى البحث عن إمكان الاحتياط في العبادات ، وقد حقّق في محلّه أنّه عند تعذّر حصول العلم بمكان من الامكان ، بل تقدّم في بعض مباحث القطع توجيه إمكانه حتّى في صورة التمكّن من تحصيل العلم فراجع (٢). ولكن إمكان الحصول على المصلحة بالاحتياط إنّما هو من باب الامتثال الاحتمالي ، والمطلوب هو حجّية الظنّ بالامتثال الظنّي.

والحاصل أنّ إمكان الاحتياط لا ينتج إلاّوجوب العمل بالاحتمال والمطلوب إنّما هو العمل بالظنّ. وإن شئت فقل كما تقدّم سابقاً : إنّ هذا الدليل لا ينتج حجّية الظنّ ، بل إنّما ينتج حجّية الاحتمال.

قوله : وإن لم يكن الحكم المظنون من العبادات ، فإن كان من الأحكام النظامية فالظنّ بها لا يلازم الظنّ بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، فإنّ الأحكام النظامية ... الخ (٣).

يمكن أن يقال : إنّا بعد أن فرضنا المصالح والمفاسد من قبيل الضرر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٠.

(٢) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة في الصفحة : ١٧١ وما بعدها ، وكذا راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٠١ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢١.

٥١٨

الدنيوي ، لم يفرّق فيها بين إضرار الشخص بنفسه المعبّر عنه بالضرر الشخصي وبين إضراره بغيره المعبّر عنه بالضرر النوعي ، بل يمكن القول بأنّ الحكم في الضرر النوعي آكد وأقوى منه في الشخصي ، لأنّه تعدٍ على الغير ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الضرر الشخصي ربما حكم العقل بجوازه إذا كان طفيفاً ، بخلاف الاضرار بالغير المعبّر عنه بالضرر النوعي ، فإنّه لا يجوز عقلاً وإن كان طفيفاً ، ويدخل في باب قبح الظلم والعدوان ، فتأمّل.

ويمكن التفصيل بين احتمال حرمة الفعل ، فيكون الاقدام على فعله موجباً لالقاء النوع في المفسدة التي هي الضرر النوعي ، فلا يصحّ عقلاً ولا شرعاً الاقدام على ذلك الفعل ، وبين احتمال الوجوب فلا يحكم العقل بلزوم الاقدام عليه ، إذ أقصى ما في البين هو أنّ تركه يوجب تفويت أو فوات المصلحة على النوع ، ومن الواضح أنّ العقل لا يكون ملزماً بفعل يكون تركه مفوّتاً للمصلحة على النوع فتأمّل.

نعم ، إنّ شخص المكلّف من جملة النوع ، فيكون تفويته المصلحة على النوع تفويتاً على نفسه أيضاً ، فتدخل المسألة حينئذ في أنّ تفويت المصلحة ضرر يحكم العقل باجتنابه ، أو أنّ إدراك المصلحة يكون العقل حاكماً بلزوم ما يكون موجباً لتحصيلها بارتكابه.

قوله : ولا يصغى إلى ما قيل من أنّه يمكن أن تكون المصلحة والمفسدة في نفس الأمر لا في المأمور به ، فالظنّ بالحكم لا يلازم الظنّ بالمصلحة والمفسدة الشخصية ... الخ (١).

لا يخفى أنّه بعد أن فرضنا كون المصلحة من الأضرار الدنيوية لا يكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢١.

٥١٩

مجرّد إمكان كونها في نفس الأمر مانعاً من احتمال كونها في المأمور به ، وحينئذ تدخل المسألة في احتمال الضرر الدنيوي ، إلاّأن يدّعى القطع بأنّه لا مصلحة في نفس المأمور به ، وأنّها منحصرة بالأمر نفسه ، وهو مجازفة في مجازفة. نعم يمكن ادعاء ذلك فيما لو ورد النسخ قبل حضور وقت العمل ، وهو خارج عمّا نحن فيه من دعوى لزوم دفع الضرر المحتمل أو المظنون ، فتأمّل.

قوله : بل المصالح والمفاسد إنّما تكون في نفس المتعلّقات ، فإن قلنا إنّ فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر ، فلا محالة يلزم التحرّز عنه بفعل ما ظنّ وجوبه وترك ما ظنّ حرمته ... الخ (١).

قد حرّرت عن درس الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مباحث البراءة ما هذا لفظه : إنّ مجرّد حكم العقل بوجوب دفع الضرر لا يكفي في وجوب الاجتناب عمّا يشكّ في كونه ضرراً ، فلا يكون ذلك الحكم العقلي ـ أعني وجوب الاجتناب عن الضرر ـ منجّزاً في مورد الشكّ في تحقّق موضوعه. نعم يحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، ولكن حكمه بذلك صرف إرشاد إلى التجنّب عن الوقوع في الضرر ، فلا يكون مستلزماً لاستحقاق العقاب على تقدير المصادفة كي يكون بياناً الخ.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ هذا المقدار من الحكم العقلي يمكن أن يكون حجّة عقلية ، بحيث يكون قاطعاً للعذر ومصحّحاً للعقاب على مخالفة الواقع لو صادف ، فبواسطة حكم العقل بلزوم الاجتناب عن المفسدة المحتملة المفروض كونها من الضرر الدنيوي ، تكون المسألة خارجة عن قاعدة قبح العقاب على التكليف الواقعي بلا بيان.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢١.

٥٢٠