أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

كالضدّين ، إذ لا يصلحه حينئذ اختلاف الرتبة. أمّا إصلاحه بالتأكّد فهو أيضاً غير تامّ ، إذ لا يمكن تأكّد السابق في الرتبة بما يكون متأخّراً عنه.

نعم ، من جمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية باختلاف الرتبة بحيث إنّه أجاب عن التدافع بينهما باختلاف الرتبة ، يتوجّه عليه الإشكال بذلك ، وأنّه ينبغي أن يسوغ للحاكم أن يقول : إذا قطعت بحرمة الخمر جاز أو وجب عليك شربها ، أو حرم عليك شربها بحرمة ثانية مماثلة للأُولى. ولا يمكنه الجواب عنه بأنّه تناقض أو اجتماع مثلين في نظر القاطع ، فلأجل ذلك لم يصحّ ذلك الجعل الثاني.

ولكن لا يخفى أنّه بعد فرض أنّ اختلاف الرتبة مسوّغ لذلك الجمع كيف يكون ذلك تناقضاً بنظر القاطع ، فتأمّل.

نعم ، أجاب عنه المرحوم الشيخ عبد الكريم قدس‌سره في أوائل القطع بأنّ القطع بالحكم يحقّق موضوع الاطاعة والمعصية في نظر القاطع ، ومع تحقّقهما في نظر القاطع يكون الحكم على خلاف ما قطع به ترخيصاً في ترك الاطاعة وفي فعل المعصية ، وهو قبيح عقلاً ، لا من جهة التناقض بين الحكمين (١).

ولا يخفى أنّا لو سلّمنا ذلك كلّه يبقى الإشكال في الحكم المماثل ، فإنّه لا يشتمل على ما ذكره من الترخيص في ترك الطاعة وفعل المعصية. كما أنّه لا وجه فيه للاندكاك ، لأنّ المفروض اختلاف الرتبة المانع من الاندكاك. اللهمّ إلاّ أن يلتزم فيه بكون ذلك من قبيل اجتماع العنوان الأوّلي والثانوي ، لكن لازمه الالتزام بالكسر والانكسار في الحكم المضادّ أو المناقض ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٣٢٧ ـ ٣٢٩ ( نُقل بالمضمون ).

٤١

ولشيخنا قدس‌سره في هذا المقام كلمات حرّرناها فيما علّقناه ص ٢٤ (١) ، وراجع ما في التحريرات المطبوعة في صيدا ، فإنّه قال في التحريرات المزبورة : بقي هناك شيء وهو أنّ موضوع الحكم إذا كان مرسلاً وغير مقيّد بكونه معلوماً ، فهل يمكن أخذ القطع به في موضوع حكم آخر مثله أو ضدّه أم لا؟ أمّا بالنسبة إلى الضدّ فلا إشكال في عدم جوازه ، لما فيه من اجتماع الضدّين ، وامتناع امتثال المكلّف في الخارج. وأمّا بالنسبة إلى الحكم المماثل فربما يقال فيه بالجواز ، نظراً إلى عدم ترتّب محذور على ذلك إلاّما يتوهّم من استلزامه لاجتماع المثلين ، وهو لا يكون بمحذور في أمثال المقام أصلاً ، فإنّ اجتماع عنوانين في شيء واحد يوجب تأكّد الطلب ، وأين ذلك من اجتماع الحكمين المتماثلين ، وقد وقع نظير ذلك في جملة من الموارد ، كما في موارد النذر على الواجب وأمثاله.

ولكن التحقيق هو استحالة ذلك أيضاً ، فإنّ القاطع بالخمرية مثلاً إنّما يرى الخمر الواقعي ، ولا يرى الزجر عمّا قطع بخمريته إلاّزجراً عن الواقع ، فليس عنوان مقطوع الخمرية عنده عنواناً آخر منفكّاً عن الخمر الواقعي ومجتمعاً معه أحياناً حتّى يمكن تعلّق حكم آخر عليه في قبال الواقع ، كما في موارد اجتماع وجوب الشيء في حدّ نفسه مع وجوب الوفاء بالنذر وأمثاله ، ومع عدم قابلية هذا العنوان لعروض حكم عليه في نظر القاطع لا يمكن جعله له حتّى يلتزم بالتأكّد في موارد الاجتماع (٢).

وبنحو ذلك صرّح فيما حرّرته ، قال : بقي في المقام مطلب متعلّق بما تقدّم من إمكان أخذ العلم قيداً أو مانعاً بالنسبة إلى ما تعلّق به من الحكم على نحو

__________________

(١) لعلّ المقصود بذلك تحريراته قدس‌سره المخطوطة.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٤ ـ ٣٥.

٤٢

نتيجة التقييد ، فاتتنا الاشارة إليه في محلّه ، وهو أنّ ذلك العلم المتعلّق بحكم من الأحكام لا يعقل أن يكون موضوعاً لحكم آخر يماثله أو يضادّه. أمّا الثاني فواضح ، لكونه موجباً لاجتماع الضدّين. وأمّا الأوّل فقد يتوهّم أنّه لا بأس به فيكون من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية ، بأن يكون الأوّلي لاحقاً لنفس موضوعه ، ويكون الحكم الثانوي لاحقاً له بعنوان كون ذلك الحكم معلوماً ، ويندك أحد الحكمين بالآخر ، ويتأكّد الأوّل بالثاني.

وفيه : ما لا يخفى من الفرق الواضح بين العنوان الثانوي الذي يكون من قبيل النذر ، وبين ما إذا كان من قبيل العلم ، فإنّ الأوّل يصلح لأنّ يكون علّة في إيجاد حكم ثانٍ ، بخلاف الثاني ـ أعني العلم ـ فإنّه لا يصلح لذلك ، حيث لا يكون النظر فيه إلاّمن جهة الكشف عن متعلّقه ، فلا يكون مؤثّراً في الواقع أصلاً ، فلا يعقل أن يكون له المدخلية في شيء أصلاً ، ولا يمكن أن يكون مؤثّراً في المصالح والمفاسد الواقعية ، فهو غير صالح لأن يكون مؤثّراً في جعل حكم على موضوع الحكم الذي تعلّق به لا ملاكاً ولا خطاباً ، فتأمّل.

قلت : وبين التحريرين فرق ، في أنّ الأوّل مسوق لبيان أنّ العلم المتعلّق بموضوع ذي حكم واقعي لا يمكن أخذه في موضوع آخر يماثل حكم متعلّقه أو يضادّه ، والثاني مسوق لبيان أنّ العلم المتعلّق بحكم واقعي لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم آخر يماثل متعلّقه أو يضادّه.

ولا يخفى أنّ التأكّد لا يتأتّى في الفرض الثاني ، وهو أخذ القطع بالحكم الواقعي موضوعاً لحكم آخر يضادّه أو يماثله ، كما هو آت في أخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر يضادّ حكم متعلّقه أو يماثله ، إذ لا يمكن تصحيح أخذه في المماثل بالتأكّد ، لما عرفت من أنّ التأكّد إنّما يتأتّى في اتّحاد

٤٣

الرتبة كما في نذر الفعل الواجب ، فإنّ ذلك الفعل المنذور في حدّ نفسه يكون واجباً ، وبواسطة تعلّق النذر به يكون واجباً بوجوب آخر ، فنلتزم بتأكّد الوجوبين لكونهما معاً في رتبة واحدة ، حيث إنّ تعلّق النذر بذات الفعل المفروض كونه واجباً لا يكون متأخّراً في الرتبة عن نفس وجوبه الأوّلي ، بخلاف العلم بنفس الوجوب ، فإنّه لو أُخذ في وجوب مماثل لما تعلّق به العلم المذكور ، كان الوجوب الثاني متأخّراً في الرتبة عن الوجوب الأوّل ، ولا يمكن أن يكون الثاني منهما مؤكّداً للأوّل.

نعم ، يتأتّى ذلك في الأوّل ، وهو أخذ العلم بموضوع ذي حكم واقعي موضوعاً لحكم آخر مماثل للحكم الأوّل ، مثل أن يقول : إذا علمت بكون الشيء خمراً ـ المفروض كونه حراماً في الواقع ـ فقد حرم شربها.

وما أفاده قدس‌سره في التحريرات المشار إليها من الجواب عنه بما يرجع إلى استحالته من جهة أنّ القاطع بالخمرية إنّما يرى الخمر الواقعي ، قابل للتأمّل ، فإنّ لازمه هو عدم إمكان أخذ القطع بشيء موضوعاً لحكم من الأحكام ، من جهة أنّ القاطع لا يرى إلاّمتعلّق قطعه. وكذلك الحال فيما نقلناه عنه قدس‌سره من كون العلم غير قابل للتأثير في عالم المصالح والمفاسد.

والخلاصة : أنّه على الظاهر لا مانع من أخذ العلم بموضوع ذي حكم موضوعاً لما يماثل حكم ذلك الموضوع.

لا يقال : إذا سوّغتم اجتماع المتماثلين ودفعتم الإشكال بالتأكّد ، فلِمَ لم تسوّغوه في الضدّين أو المتناقضين وتدفعوا الإشكال فيه بالكسر والإنكسار ، بناءً على ما ذكرتموه من كون عنوان القطع مؤثّراً في الصلاح والفساد.

لأنّا نقول : إنّما لم نلتزم بذلك لأنّه موجب للغوية الحكم الواقعي ، إذ لا أثر

٤٤

له إلاّعند قيام الحجّة عليه التي هي القطع أو الظنّ المعتبر القائم مقامه ، فإذا قلنا إنّ هذه العناوين موجبة لقلب الواقع ، كان ذلك الحكم الواقعي لغواً في مورد قيام القطع أو الظنّ المعتبر على تحقّق موضوعه.

نعم ، في مثل ما لو قال : إذا قطعت بخمرية الشيء ـ المفروض كون حكمها الواقعي هو الحرمة ـ فقد حرمت عليك ، لو كان أخذ القطع المذكور في الحرمة الثانية على نحو تمام الموضوع ، واتّفق خطأ ذلك القطع بأن كان ذلك الشيء ماءً مطلقاً وحكمه الواقعي الأوّلي هو الجواز ، يكون اللازم هو اجتماع النقيضين بالنسبة إلى ذلك القاطع ، فلابدّ في مثل ذلك من الالتزام بالكسر والانكسار ، فتأمّل.

والخلاصة : أنّ ما نقلناه عنه قدس‌سره من أنّ القطع بالخمرية مثلاً لا يعقل أن يكون مؤثّراً في صلاح أو فساد ، لعلّه سدّ لباب القطع الموضوعي بالمرّة.

وأمّا ما نقله عنه قدس‌سره في التحريرات المشار إليها من أنّ القاطع بالخمرية مثلاً إنّما يرى الخمر الواقعي ، ولا يرى الزجر عمّا قطع بخمريته إلاّزجراً عن الواقع الخ ، يمكن القول بأنّه من باب المغالطة الناشئة عن اشتباه المفهوم بالمصداق ، فإنّ الذي لا يرى نفس القطع إنّما هو القاطع في مرتبة عروض قطعه ، والذي يأخذ القطع موضوعاً إنّما هو الحاكم ، غايته أنّه في حال جعل الحكم يلاحظ القطع حاكياً عمّا في الخارج من القطع الواقع آلة للحاظ متعلّقه ، ومن الواضح أنّ الحاكم في مرتبة لحاظه القطع حاكياً عمّا هو في الخارج آلة للحاظ متعلّقه ، لا يكون القطع بالنسبة إليه حاكياً عن متعلّقه ، بل لا يكون إلاّحاكياً عن نفسه كما عرفت (١) في تصوير أخذ القطع من حيث الطريقية تمام الموضوع.

__________________

(١) في الصفحة : ٢٠ قوله : وثانياً.

٤٥

لا يقال : إنّ القاطع إذا فرض أنّه لا يرى من قطعه إلاّ الواقع ، كيف يلتفت إلى قطعه المفروض كونه موضوعاً للحكم.

لأنّا نقول : هذا أمر سهل ، فإنّه بعد مرتبة عروض القطع بالخمرية يلتفت إلى أنّه قد قطع بها وصارت معلومة لديه ، وبذلك يتحقّق عنده موضوع الحكم الثاني.

وأمّا ما أفاده لبرهان المنع من أخذ القطع بالموضوع موضوعاً لحكم يكون ضدّاً لحكم ذلك الموضوع ، بقوله : أمّا بالنسبة إلى الضدّ فلا إشكال في عدم جوازه ، لما فيه من اجتماع الضدّين وامتناع امتثال المكلّف في الخارج الخ (١) فيمكن القول بأنّ المسألة لا تنتهي إلى اجتماع الضدّين ، لأنّ الموضوع مختلف ، حيث إنّ موضوع الحكم الأوّل هو نفس الخمر مثلاً ، وموضوع الحكم الثاني هو العلم بالخمرية ، فلا يكون اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد. نعم إنّ الخمر بعنوانها الأوّلي تكون محكومة بالحرمة ، وبعنوانها الثانوي تكون محكومة بالوجوب أو الجواز مثلاً ، وحينئذ يكون المقام من قبيل الكسر والانكسار ، كما هو الشأن في اجتماع العناوين الأوّلية مع العناوين الثانوية ، وحيث يكون الغالب هو ذا العنوان الثانوي ، يكون الحكم اللاحق للعنوان الأوّلي لغواً كما عرفت. وأمّا التعليل بعدم المقدورية على التكليفين ، فهو إنّما يتأتّى فيما لو كان كلّ من الحكمين إلزامياً ، أمّا إذا لم يكونا إلزاميين ، مثل أن يكون الأوّل هو الكراهة والثاني هو الاباحة ، أو كان أحدهما إلزامياً والآخر غير الزامي ، فلا يتأتّى التعليل ، لعدم إمكان اجتماعهما بعدم القدرة على امتثالهما.

واعلم أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره أشار إلى بعض صور هذه المسألة فقال : الأمر

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٤.

٤٦

الرابع : لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين ، ولا ضدّه للزوم اجتماع الضدّين. نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضدّه الخ (١) فلم يذكر إلاّصورة أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر يماثله أو يضادّه.

وشيخنا قدس‌سره حسبما نقله في التحرير المشار إليه (٢) لم يذكر إلاّ الصورة الثانية ، وهي صورة أخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر يماثل حكم متعلّقه أو يضادّه.

وكيف كان ، فقد يقال في الصورة الأُولى بالصحّة ، نظراً إلى اختلاف الرتبة ، وبذلك جمع هذا القائل بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية ، غير أنّه منعه في صورة العلم لكونه تناقضاً في نظر القاطع.

وفيه : أنّه لو كان اختلاف الرتبة مصحّحاً لاجتماع النقيضين أو الضدّين ، لم يكن ذلك تناقضاً حتّى في نظر القاطع ، وحينئذ يتعيّن عليه أن يقول في الجواب عن صورة العلم بالحكم الواقعي إنّ المانع منه هو عدم القدرة.

وعلى كلّ حال ، أنّ الجواب بالتناقض أو عدم القدرة إنّما يحسن في صورة أخذ القطع بحكم موضوعاً لحكم آخر يضادّ ذلك الحكم الذي تعلّق به القطع.

أمّا صورة أخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً لحكم آخر يضادّ حكم ذلك المتعلّق ، فالأولى في الجواب عنها بأنّها من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية الموجبة للكسر والانكسار ، الموجب للغوية الجعل الأوّل إن كان هو المغلوب ، أو الجعل الثاني إن كان هو المغلوب.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٣٤ ـ ٣٥.

٤٧

وحينئذ لا يكون الأمر منتهياً إلى اجتماع الضدّين ، ولا إلى عدم القدرة ، بل يكون عمدة الإشكال هو لزوم اللغوية. نعم بناءً على أنّ ذلك من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية يكون اللازم في صورة المماثل هو الالتزام بالتأكّد ، فتأمّل (١).

هذا كلّه مبني على أنّ الحكم الآتي من ناحية القطع في الصورة الثانية غير متأخّر في الرتبة عن الحكم الواقعي للموضوع الذي تعلّق به القطع المذكور وحينئذ يكون مورداً للتأكّد لو كان الحكم الثاني مماثلاً للأوّل ، وللكسر وللانكسار لو كان مضادّاً له ، بخلاف الصورة [ الأُولى ] فإنّ الحكم الثاني الآتي من ناحية القطع لمّا كان متأخّراً في الرتبة عن الحكم الذي تعلّق به القطع المذكور ، لم يمكن الالتزام فيه بالاندكاك والتأكّد فيما لو كان مماثلاً ، ولا بالكسر والانكسار لو كان مضادّاً ، لأنّهما لأجل اختلافهما في الرتبة لا يعقل فيهما الاندكاك والتأكّد ، ولا

__________________

(١) [ وجدنا هنا ورقة منفصلة ذكر قدس‌سره فيها ما يلي : ] وخلاصة البحث : أنّ العلم المتعلّق بحكم أو بموضوع ذي حكم لا يمكن جعله موضوعاً لحكم آخر مماثل لمتعلّقه أو لحكم متعلّقه ولا مضادّ له ، للزوم اجتماع المثلين أو الضدّين ، واختلاف الرتبة لا يدفع الغائلة. ولو التزمنا بالتأكّد في المثلين كان ذلك تخريجاً على العناوين الثانوية بالنسبة إلى العناوين الأوّلية ليكون قولنا إذا قطعت بحرمة الخمر حرمت عليك ، أو إذا قطعت بأنّ هذا خمر الذي هو حرام واقعاً حرم عليك ، من قبيل حرمة شرب النجس ، وأنّه لو كان مغصوباً كان شربه حراماً. وإذا ألحقنا ما نحن فيه بذلك الباب أعني باب العناوين الأوّلية ، كان اللازم هو الالتزام بالكسر والانكسار في صورة كون الحكم الآخر مضادّاً للحكم الأوّل ، وحينئذ يكون جعل الحكم الأوّل لغواً ، لأنّه لا أثر له عند عدم العلم ، وعند العلم به يتأكّد بالحكم الآخر أو يرتفع بذلك الحكم الآخر. نعم يمكن ذلك في الجهل بالنسبة إلى الحكم الأوّلي المجعول للذات ، بجعل الجهل عنواناً ثانوياً رافعاً لحكم الذات ، ولا يكون موجباً للغوية جعل الحكم الأوّل ، لتحقّقه وترتّب الأثر عليه عند العلم به ، فلاحظ وتأمّل.

٤٨

يعقل فيهما الكسر والانكسار أيضاً.

ولكن هذا الفرق لا يخلو من تأمّل ، فإنّ الحكم الآتي من القطع في الصورة [ الثانية ] أيضاً يكون متأخّراً في الرتبة عن الحكم الذي هو لاحق للموضوع الذي تعلّق به القطع المزبور ، فإنّ الحكم الواقعي للخمر الواقعي لا شبهة في تأخّره رتبة عن موضوعه الذي هو الخمر ، كما أنّ العلم بالخمرية أيضاً يكون متأخّراً عن نفس الخمرية ، فيكون العلم بالخمرية مع الحرمة اللاحقة للخمر في رتبة واحدة ، لكون كلّ منهما متأخّراً رتبة عن نفس الخمرية ، فالحكم الآخر الآتي من ناحية العلم بالخمرية لابدّ أن يكون متأخّراً عن الحكم الأوّل اللاحق لنفس الخمرية ، لكونه متأخّراً عن العلم بها الواقع في رتبة الحرمة اللاحقة لنفس الخمرية ، لأنّ ما هو متأخّر رتبة عن الشيء يكون متأخّراً رتبة عمّا هو في رتبة ذلك الشيء ، مثلاً لو كان للعلّة الواحدة معلولان وكان أحد المعلولين علّة لمعلول آخر ، يكون ذلك المعلول الثالث واقعاً في رتبة المعلول الآخر الذي هو في الرتبة توأم مع علّته ، وبناءً على ذلك تتّحد الصورتان في عدم إمكان الالتزام فيهما بالتأكّد في صورة المماثلة والكسر والانكسار في صورة المضادّة.

لا يقال : إنّ الحكم الواقعي أعني الحرمة اللاحقة للخمر لمّا كان موضوعها وهو الخمر مطلقاً من ناحية العلم به إطلاقاً لحاظياً ، كانت الحرمة المذكورة واردة على كلّ من الخمر المعلوم الخمرية والخمر المجهول الخمرية ، فتكون الحرمة المذكورة متأخّرة رتبة عن العلم والجهل بالخمرية ، فتكون في عرض الحكم الآتي من ناحية العلم بالخمرية ، فيكون الحكمان في رتبة واحدة.

لأنّا نقول : ليس مفاد الاطلاق اللحاظي هو كون العلم بالخمرية والجهل بها واقعين تحت الحكم بالحرمة المذكورة ، على وجه يكونان جزء موضوعها لتكون

٤٩

متأخرة رتبة عنهما ، بل مفاده هو أنّ هذا الحكم وهو الحرمة وارد على ذات الخمر ولا دخل للجهل ولا للعلم بالخمرية في موضوعيته للحرمة المذكورة ، فلا يكون العلم بالخمرية متقدّماً رتبة على حكم الخمر واقعاً ، كي يكون الحكم الثاني الحاصل من العلم واقعاً في عرض الحكم الأوّل ، بل هو متأخّر عنه لكونه واقعاً في مرتبة ما هو متأخّر عنه ، لأنّ ما هو متأخّر عن الشيء يكون متأخّراً عمّا هو في رتبة ذلك الشيء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ما هو متأخّر رتبة عن الشيء لا يلزم أن يكون متأخّراً في الرتبة عمّا هو في عرض ذلك الشيء ، وكما أنّه ليس بمتأخّر عنه فهو أيضاً ليس بمقدّم عليه ، بمعنى أنّه ليس بينهما تأخّر ولا تقدّم رتبي ، إذ لا علّية ومعلولية بينهما ، ومجرّد كونه واقعاً في عرض علّته لا يوجب كونه متأخّراً عنه ، كما أنّه ليس بمقدّم عليه.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ التأخّر الرتبي يمنع من التأكّد كما يمنع من الكسر والانكسار ، لكنّه لا يصحّح الاجتماع ، لأنّ ما يحكم بمحاليته هو الاجتماع في الزمان الواحد وهو حاصل وجداناً ، واختلافهما في الرتبة لا يرفع غائلة اجتماعهما في الزمان.

لا يقال : إنّ اختلاف الرتبة يرفع غائلة الاجتماع كاختلاف الزمان ، كما في العلّة والمعلول فإنّهما مجتمعان في الزمان الواحد ، مع أنّ المعلول معدوم في مرتبة العلّة ، كما أنّ العلّة ليست متحقّقة في رتبة المعلول ، فيلزم من ذلك اجتماع النقيضين أعني وجود العلّة يعني في الرتبة السابقة على المعلول ، وعدمها يعني في رتبة المعلول ، وهكذا الحال في المعلول فإنّه معدوم يعني في رتبة العلّة ، وموجود يعني في الرتبة المتأخّرة عن العلّة ، فكان كلّ منهما موجوداً ومعدوماً في

٥٠

زمان واحد. لكن المصحّح لهذا الوجود والعدم بالنسبة إلى كلّ منهما هو الاختلاف في الرتبة.

لأنّا نقول : هذه مغالطة ناشئة عن خلط الوجود بالتحقّق في الرتبة ، إذ لا إشكال في وجود العلّة مع المعلول ، وليست هي بمعدومة معه ، فلا يصحّ أن يقال إنّها ليست بموجودة معه ، إذ ليست هي بمنعدمة بعد وجودها. نعم رتبة تحقّقها قبل رتبة تحقّقه ، وأين هذا من انحصار وجودها بما قبل وجوده على وجه تكون عند وجوده منعدمة. وهكذا الحال في ناحية المعلول فإنّه ليس بمنعدم في حال وجود العلّة ، بل هو موجود معها. وإن شئت فقل : هما موجودان معاً ، وليس أحدهما منعدماً عند وجود الآخر ، غاية الأمر أنّ ذات العلّة متقدّمة على ذات المعلول ، لا أنّ وجودها يكون متقدّماً على وجود المعلول على [ نحو ] يكون وجود الثاني بعد وجود الأوّل ، فإنّه خلف لما ذكرناه من كونهما موجودين معاً في زمان واحد.

والحاصل : أنّ اجتماع وجود الشيء مع عدمه في الزمان الواحد محال عقلاً ، وهو حاصل في المتناقضين المختلفين رتبة الموجودين في زمان واحد. نعم هذا التأخر الرتبي يمنع من التأكّد والاندكاك في صورة التماثل والكسر والانكسار في صورة التضادّ. وقد تعرّضنا لهاتين الجهتين ـ وهما أنّ ما هو متأخّر عن رتبة الشيء يكون متأخّراً عمّا يكون في عرضه ، وأنّ النقيض لا يكون إلاّفي رتبة نقيضه ـ في أوائل مسألة الضدّ فيما علّقناه على التحرير المطبوع في صيدا ص ٢١٦ (١) فراجعه تجد فيه اختلافاً مع ما حرّرناه هنا ، والمسألة بعدُ عندي في

__________________

(١) وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٢٨ ومابعدها.

٥١

غاية الإشكال.

أمّا مسألة تأخّر الشيء رتبة عمّا هو في عرض علّته ، أعني بذلك معلول أحد معلولي العلّة الواحدة ، فالتأمّل فيها من ناحية إمكان كون الواحد علّة للاثنين ، فإنّهم منعوا من ذلك ، وحينئذ لابدّ من فرض ذلك الشيء الواحد ذا جهتين يؤثّر بإحداهما في أحد المعلولين وبالأُخرى في الآخر ، وحينئذ يكون كلّ واحد من المعلولين مستنداً إلى علّة مستقلّة ، فلا يكون بينهما اتّحاد في الرتبة ، إذ لا ربط بينهما ولا بين علّتيهما ، غاية [ الأمر ] أنّه قد اجتمع علّتاهما في زمان واحد ، وهذا لا يوجب اتّحاد الرتبة بين العلّتين ولا بين المعلولين.

وأمّا مسألة العلّة والمعلول ، وأنّ العلّة معدومة في مرتبة المعلول ، كما أنّ المعلول منعدم في مرتبة العلّة مع أنّهما موجودان معاً في زمان واحد فيلزم اجتماع النقيضين ، فإنّك وإن عرفت الجواب عنه فيما تقدّم من كونه من قبيل الخلط بين الوجود ( الرتبي والوجود الزماني ، فهو في الحقيقة راجع إلى حصر التناقض بالوجود والعدم الزماني ، وأنّ أحد النقيضين لو كان رتبياً والآخر زمانياً لم يكن ذلك من التناقض ) (١) إلاّ أنّ نفسي لا تكاد تطمئن به وتركن إليه ، لأنّ ذلك إن رجع إلى أنّ انعدام المعلول في صقع العلّة ليس بانعدام ، فهو خلاف المعلوم بالوجدان ، إذ لا ريب في أنّ المعلول في مرتبة العلّة منعدمٌ ، وإلاّ لكان هو متحقّقاً في مرتبة العلّة. وإن كان مرجعه إلى أنّه انعدام للمعلول لكنّه ليس بنقيض لوجود المعلول في صقع نفسه ، بل إنّ نقيضه هو وجود المعلول في ذلك الصقع أعني صقع العلّة ، كما أنّ وجود المعلول في صقع نفسه لا يكون نقيضه إلاّعدمه في ذلك الصقع أعني صقع نفسه ، فلم يجتمع النقيضان في صقع ، وإن جمعهما زمان

__________________

(١) [ العبارة ما بين القوسين ضرب عليها المصنّف قدس‌سره خط المحو ، فلاحظ ].

٥٢

واحد ، فذلك هو عين ما يقال من أنّه يكفي في رفع التناقض اختلاف الرتبة وإن اتّحد الزمان.

نعم ، هنا شيء وهو أنّ نسبة المعلوم إلى العلم المتعلّق به ليس هو عين نسبة العلّة إلى معلولها ، فلا تكون الحرمة الواقعية علّة حقيقية بالنسبة إلى العلم بها (١) ، لما نشاهده من تحقّق الحرمة الواقعية مع عدم تحقّق العلم بها.

وبالجملة : أنّ تلك الحرمة الواقعية لا تكون علّة حقيقية للعلم بها ، بل إنّ ذلك من قبيل المعروض والعارض ، وحينئذ لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربها ، لا تكون الحرمة الواقعية علّة حقيقية للعلم بها ، فلا يكون تأخّر العلم بالحرمة الواقعية عن نفس تلك الحرمة من قبيل تأخّر المعلول عن علّته.

نعم ، إنّ العلم بالحرمة الواقعية وإن لم يكن في حدّ نفسه علّة حقيقية لوجوب شربها ، إلاّ أنّه بعد أن جعله الشارع موضوعاً للوجوب المذكور ، يكون علّة شرعية للوجوب المذكور ، فيكون تأخّر الوجوب المذكور عن العلم بالحرمة الواقعية من قبيل تأخّر المعلول عن علّته ، لكن تأخّر العلم المذكور عن متعلّقه الذي هو الحرمة الواقعية ليس من قبيل تأخّر المعلول عن علّته ، لما عرفت من عدم كون المعلوم علّة حقيقية للعلم ، وإلاّ لكان المعلوم محقّقاً للعلم ، واستحال تأخّر العلم زماناً عن المعلوم ، بل هما من قبيل المعروض والعارض ، وليس بينهما تأخّر رتبي خارجي.

نعم ، إنّهما في مقام التصوّر واللحاظ يكون الأوّل منهما وهو الحرمة

__________________

(١) [ في الأصل وردت العبارة هكذا : فلا تكون الخمرية الواقعية علّة حقيقية بالنسبة إلى حرمتها. لكن سياق العبارة يقتضي ما أثبتناه ].

٥٣

المعلومة متقدّماً على الثاني وهو العلم بها ، فإنّك عند تصوّرك لهما لا تتصوّر كلاً منهما في عرض الآخر ، بل تتصوّرهما متدرّجين ، فترى ذات المعلوم وهو الحرمة الواقعية ، وترى نفس العلم متعلّقاً وترى بينهما اثنينية ، وترى الثاني متعلّقاً بالأوّل منهما ، كما هو الشأن في كلّ معروض وعارضه ، من دون أن يكون بينهما في الخارج تقدّم وتأخّر رتبي. وهذا بخلاف العلّة الحقيقية ومعلولها ، فإنّهما وإن اجتمعا في الزمان إلاّ أنّ الأوّل منهما وهو العلّة متقدّم في الرتبة على الثاني الذي هو المعلول تقدّماً واقعياً ، لا بحسب مجرّد التصوّر واللحاظ ، بل تدرّج في الوجود الخارجي وإن كان الزمان واحداً.

وحينئذ نقول : لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربها ، لم يكن الوجوب متأخّراً في الرتبة عن الحرمة الواقعية ، فإنّه وإن سلّمنا تأخّره عن العلم بالحرمة الواقعية ، إلاّ أنّ العلم بالحرمة الواقعية ليس بمتأخّر عن نفس تلك الحرمة ، وإنّما أقصى ما في البين أنّ تصوّر العلم بالحرمة المذكورة يكون متأخّراً عن تصوّر نفس الحرمة المذكورة ، ومن الواضح أنّ التأخّر التصوّري ليس هو عين التأخّر الواقعي ، كي يقال إنّ العلم بالحرمة يكون متأخّراً رتبة عن الحرمة المذكورة واقعاً ، كما أنّه متأخّر عنها زماناً.

على أنّ في النفس شيئاً من هذا التقدّم الرتبي الواقعي حتّى في مقام العلّة والمعلول ، فإنّه ليس بتقدّم واقعي أو خارجي ، مضافاً إلى أنّه ليس بتقدّم زماني ، بل ليس هو إلاّعبارة عن أنّك ترى الاثنينية بينهما ، وترى في مقام التصوّر واللحاظ أنّ الأوّل منهما سابق على الثاني ، فلا يكون ذلك إلاّعبارة عن أنّ لحاظ العلّة قبل لحاظ المعلول. وبعبارة أُخرى : يكون الوجود الذهني للعلّة سابقاً على الوجود الذهني للمعلول مع كون وجود أحدهما في الخارج مقارناً لوجود الآخر.

٥٤

وحاصل ذلك : أنّك في مرتبة لحاظك للعلّة ونظرك إليها لا ترى المعلول ، وفي مرتبة لحاظك للمعلول لا ترى العلّة ، مع أنّ وجود أحدهما في الخارج كان مقروناً بوجود الآخر ، وحينئذ فلندع العلم بالحرمة جانباً ونقول : إذا [ قال ] المولى إذا حرم عليك شرب الخمر وجب عليك شربها ، كان الحكم الأوّل موضوعاً للثاني ، فيكون الثاني متأخّراً رتبة عن الأوّل على حذو تأخّر المعلول عن العلّة (١) ، فلو تحقّق حرمة شرب الخمر في الخارج تحقّق فيه وجوب شربها ، فهل ترى من نفسك أنّ اجتماعهما جائز لمجرّد أنّك في حال لحاظك لحرمة الشرب لا ترى وجوبه ، وفي لحاظك وجوبه لا ترى حرمته ، فيكونان مختلفين في الرتبة مع كونهما موجودين في الخارج معاً على وجه لا تقدّم خارجاً لأحدهما على الآخر ، كلاّ ثمّ كلاّ ، وما ذلك إلاّمن جهة أنّ هذا التقدّم الرتبي المقصور على مقام اللحاظ لا تندفع به غائلة التدافع الخارجي بين الحكمين ، فلاحظ وتأمّل.

ولو صحّ ما ذكر من أنّ التقدّم الرتبي مصحّح لاجتماع النقيضين ، لبطل ما قالوه من استحالة كون موضوع الحكم معدماً لنفسه ، مثل أن يقول إذا حرم عليك شرب الخمر لم تحرم عليك ، إذ مع كون اختلاف الرتبة مصحّحاً لاجتماع النقيضين لا يكون مانع من صحّة هذا القول ، لأنّ رتبة حرمة شرب الخمر فيه تكون متقدّمة على عدم حرمتها ، ولا ريب في بطلان ذلك القول ، أعني قوله : إذا حرم عليك شرب الخمر لم يكن شربه حراماً عليك.

وبالجملة : أنّ الشيء لا يعقل أن يكون موضوعاً لضدّه ولا لنقيضه ، لاستحالة كون وجود الشيء علّة لوجود ضدّه أو لوجود نقيضه. وكما يبطل هذا فليبطل قوله : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربه ، لأنّه لو كان الأمر

__________________

(١) [ في الأصل : تأخّر العلّة عن المعلول ، وهو من سهو قلمه الشريف ].

٥٥

كما يزعمون من أنّ الحرمة الواقعية علّة للعلم بها والعلم بها علّة لوجوب شربها ، وحينئذ تكون الحرمة الواقعية لشرب الخمر علّة لضدّها الذي هو وجوب شربها. وهكذا الحال في قوله : إذا علمت بالخمرية وجب عليك شربها ، لأنّ المفروض أنّ الخمرية الواقعية علّة لحرمة شربها ، لكونها حسب الفرض موضوعاً لحرمة الشرب واقعاً ، كما أنّها ـ أعني الخمرية الواقعية ـ علّة للعلم بها ، وبهذا القول صار العلم بها علّة لوجوب شربها ، فصار الخمر الواقعي علّة في كلّ من حرمة شربه ووجوب شربه. بل وهكذا الحال في قوله : إذا جهلت بحرمة شرب الخمر وجب عليك شربها ، لأنّ الواقع الذي هو الحرمة الواقعية كما يكون علّة للعلم به فكذلك يكون علّة للجهل به ، لأنّ المفروض تأخّرهما رتبة عن الواقع ، فلازم هذا القول هو أن تكون الحرمة الواقعية علّة لوجوب شربها الذي هو ضدّها. وهكذا الحال في قوله : إذا جهلت بخمرية الشيء جاز لك أو وجب شربها مع فرض كون الحرمة الواقعية لاحقة لنفس الخمر بقول مطلق ، سواء كانت الخمرية معلومة أو كانت مجهولة ، وحينئذ تكون الخمرية الواقعية علّة لحرمة شربها ، كما أنّها علّة للجهل بها ، والجهل بها علّة لوجوب شربها ، وبالأخرة تكون الخمرية الواقعية علّة لكلّ من حرمة شربها ووجوب شربها.

وخلاصة المبحث : أنّ هذا التأخّر الرتبي لا يصحّح اجتماع الضدّين والنقيضين ، لأنّه مقصور على الوجود الذهني ، والأحكام لاحقة لما هو الموجود الخارجي ، والمفروض أنّه لا تعدّد فيه ولا تقدّم فيه ولا تأخّر.

ومن ذلك يظهر لك أنّ عدم المعلول في صقع العلّة إنّما هو في وجودها الذهني ، بمعنى أنّ عدم المعلول ذهناً إنّما هو في الوجود الذهني للعلّة ، فإنّك في مرتبة لحاظك العلّة لا تلاحظ وجود المعلول ، فالمنعدم في مرتبة لحاظك العلّة

٥٦

إنّما هو لحاظك المعلول لا وجوده الخارجي ، والموجود مع العلّة إنّما هو الوجود الخارجي للمعلول لا الوجود الذهني للمعلول ، ومن المعلوم أنّ عدم الوجود الذهني للمعلول إنّما يناقض وجوده الذهني ، ولا يناقض وجوده الخارجي ، فليس العدم الذهني مناقضاً للوجود الخارجي كي يقال إنّ المصحّح لاجتماعهما هو اختلاف الرتبة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ الحكم اللاحق للعلّة لا يعقل كونه مناقضاً أو مضادّاً للحكم اللاحق للمعلول ، وإن كان الموضوعان أعني العلّة والمعلول مختلفين رتبة ، إذ لا أثر لهذا الاختلاف في الرتبة إلاّتقدّم الوجود الذهني للأوّل على الوجود الذهني للآخر ، والمفروض أنّ الحكم اللاحق للأوّل وكذلك الحكم اللاحق للثاني إنّما يلحق الوجود الخارجي الذي لا تقدّم فيه لأحدهما على الآخر فلا يخرج بذلك عن اجتماع الضدّين أو النقيضين ، فلاحظ وتأمّل.

واعلم أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره منع من تصحيح الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية بتعدّد الرتبة. لكن منعه من ذلك ليس من جهة ما ذكرناه من أنّ هذا التعدّد إنّما هو في الوجود الذهني ، وأنّه لا يجدي في الجمع بين الحكمين المتضادّين أو المتناقضين ، لأنّ موردهما هو الوجود الواقعي الخارجي ، بل لم يكن [ منعه ] من ذلك إلاّمن جهة دعوى أنّ الحكم الظاهري وإن كان في المرتبة المتأخّرة عن الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون متحقّقاً في مرتبة الحكم الظاهري ، فإنّه قال : كما لا يصحّ ( التوفيق ) بأنّ الحكمين ( يعني الواقعي والظاهري ) ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ، ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين ، وذلك لا يكاد يجدي ، فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أنّه ( يعني الحكم الواقعي ) يكون في مرتبته أيضاً ( يعني في

٥٧

مرتبة الحكم الظاهري ) وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (١) ( يعني مرتبة الحكم الظاهري ).

وحاصله : أنّ الحكم الظاهري وإن كان في المرتبة متأخّراً عن الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون متحقّقاً في مرتبة الحكم الظاهري ، فالظاهري وإن لم يصعد إلى مرتبة الحكم الواقعي ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي ينزل إلى مرتبة الحكم الظاهري.

ولا يخفى ما فيه من الخلف ، لأنّه بعد فرض كون مرتبة الحكم الظاهري متأخّرة عن مرتبة الحكم الواقعي ، كيف يمكن أن يكون الحكم الواقعي متحقّقاً في مرتبة الحكم الظاهري. ولعلّه يدّعي إطلاق الحكم الواقعي وشموله لكلّ من الجهل والعلم به ولو إطلاقاً ذاتياً.

ولا يخفى أنّ هذا الاطلاق لا يقتضي إلاّكونه مجتمعاً معه في الزمان ، لا أنّه ـ أعني الواقعي ـ متحقّق في مرتبة الحكم الظاهري المفروض كونها متأخّرة عن مرتبة الحكم الواقعي ، بل لا يكون حالهما إلاّكحال العلّة والمعلول في كونهما مجتمعين في الوجود الزماني ، مع كون الأوّل وهو العلّة متقدّماً ذاتاً على المعلول.

وقد أومأ المرحوم الشيخ عبد الكريم إلى شرحه بقوله : فإن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر ، فعند ملاحظة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ ، فلا يعقل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات (٢). وأجاب عنه بما حاصله : أنّ الذات التي هي موضوع الحكم الأوّلي لا يعقل أن تكون موجودة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٩.

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٣٥٣.

٥٨

في رتبة الذات المتأخّرة عن الحكم الأوّلي ، فراجعه.

ونظير هذا الإشكال ما ذكره في مبحث الترتّب بقوله : قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آت في طلبهما كذلك ، فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما ، إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها ، مع فعلية الأمر بغيره أيضاً ، لتحقّق ما هو شرط فعليته فرضاً (١).

أمّا شيخنا قدس‌سره (٢) فلم يكن التزامه بصحّة الترتّب لمجرّد التأخّر الرتبي ، بل لعدم المطاردة بين الأمر بالضدّين إذا كان الثاني منهما مشروطاً بعصيان الأوّل. بل وهكذا ما حرّرته عن المرحوم الأُستاذ العراقي في مسألة الترتّب ، وفي مسألة اجتماع الحكم الظاهري مع الواقعي ، فإنّه أيضاً مصرّح بأنّ اختلاف الرتبة وحده لا ينفع في صحّة الجمع ، قال : وإلاّ لصحّ في قوله : إذا وجب عليك إزالة النجاسة وجبت عليك الصلاة ، بل لأجل عدم المطاردة بينهما بالنحو الذي قُرّر من تعدّد الأعدام. فراجع ما حرّرناه عنه في مسألة الترتّب ومسألة الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية (٣) وتأمّل.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٤.

(٢) فوائد الأُصول ١ ـ ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، أجود التقريرات ٢ : ٧٠ وما بعدها.

(٣) مخطوط لم يطبع بعد. نعم قد أشار المصنّف قدس‌سره إلى ذلك في بحث الترتّب ، فراجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : ٣١١ وما بعدها ، كما يشير إليه أيضاً في بحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فراجع الصفحة : ٣٣٥ وما بعدها من هذا المجلّد.

٥٩

ولكن شيخنا قدس‌سره مع هذا كلّه أجاب عن الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية باختلاف الرتبة بعين ما أجاب به صاحب الكفاية قدس‌سره فراجع ذلك البحث وما علّقناه عليه (١) وتأمّل.

قوله : الجهة الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، حيث إنّ العلم بوجود الأسد مثلاً في الطريق يقتضي الفرار عنه ، وبوجود الماء يوجب التوجّه إليه إذا كان العالم عطشاناً ، ولعلّه لذا سمّي العلم اعتقاداً ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ هذا التحرير لا يخلو عن إجمال ، إذ ربما يتوهّم منه أنّ المرتبة الثالثة هي مرتبة الجري العملي على وفق القطع ، وحينئذ يتوجّه عليه أنّ الجري العملي من الأحكام العقلية المترتّبة على القطع ، وهو غير قابل بنفسه للتصرّف ليكون الأصل الاحرازي قائماً مقام القطع في ذلك ، على وجه يكون المجعول هو مجرّد الجري العملي ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس هو مراد شيخنا قدس‌سره.

بل مراده أنّ الجهة الثالثة هي الاعتقاد ، وهي المعبّر عنها بمرتبة عقد القلب على الواقع المعلوم ، وأثر هذه المرتبة هو الجري العملي ، والأُصول الاحرازية تقوم مقام العلم في هذه الجهة ، أعني عقد القلب والبناء على أحد طرفي الشكّ وأثر هذا البناء هو الجري العملي على طبق ذلك الطرف ، فإنّه قدس‌سره قال فيما حرّرته عنه في بيان هذه المرتبة ما هذا لفظه : وهي مرتبة عقد القلب ، ويعبّر عنها بالاعتقاد ، وكأنّ من فسّر العلم بالاعتقاد قد نظر إلى هذه المرتبة ، وهذه المرتبة

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ١١٣ ، وراجع أيضاً الصفحة : ٣٠٩ وما بعدها من هذا المجلّد.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧.

٦٠