أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

وكذلك لم أتوفّق لمعرفة الوجه فيما فرّعه على ذلك من عدم صحّة المعاملات المستحدثة مثل « البيمة » ، فإنّ الظاهر أنّ الكلام في المعاملات المستحدثة ليس مبنيّاً على مسألة [ أنّ ] السيرة العقلائية الجارية على المعاملة يكفي فيها عدم الردع أو لابدّ من الامضاء ، إذ لا ريب في أنّ السيرة العقلائية إنّما تكون حجّة إذا كانت متّصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام وكان عليه‌السلام متمكّناً من الردع عنها كما قيّده به ، وأين ذلك من المعاملات المستحدثة.

نعم ، لو قلنا إنّ السيرة بنفسها تقتضي الأخذ بمقتضاها ، والردع عنها يكون مانعاً من ذلك ورافعاً له نظير النسخ ، لكان اللازم هو الحكم بصحّة تلك المعاملات ، لكن ذلك لا يمكن الالتزام به ، لما عرفت من أنّ السيرة لابدّ أن تتّصل بزمان المعصوم مع عدم الردع منه عليه‌السلام عنها في صورة تمكّنه من ذلك ، وهذا ممّا يكشف [ كشفاً ] قطعياً أنّ عدم الردع إنّما يعتبر من جهة كشفه عن الرضا وأنّه يكون إمضاء.

نعم ، لو قلنا بأنّ أمثال هذه الأُمور من الاعتبارات الحاصلة بمثل العقود ونحوها من الاعتبارات العقلائية كالحجّية ونحو ذلك من الموضوعات الاعتبارية التي لها تحقّق في عالم الاعتبار العقلائي ، نظير اعتبارهم المالية للأوراق النقدية ونحو ذلك من الاعتبارات ، على وجه لا نلتزم بأنّها من الأحكام الشرعية إمضاءً أو تأسيساً ، بل هي أُمور عقلائية منوطة بالاعتبار العقلائي ، وإن كانت بعد الاعتبار وبعد تحقّقها في وعائها من الاعتبار العقلائي تترتّب عليها آثار شرعية أو عقلية أو عرفية ، على وجه لا تحتاج إلى جعل شرعي لا إمضائي ولا تأسيسي ، لم يكن عدم الردع عنها إلاّمن باب عدم مخالفة الشارع لذلك الاعتبار العقلائي ، وكان مجرّد الاعتبار العقلائي كافياً في تحقّقها وفي ترتّب الأثر عليها حتّى الآثار الشرعية إلاّإذا

٤٦١

ردع الشارع عنها ، وحينئذ يكون عدم العلم بالردع أو أصالة عدم الردع كافياً في ترتّب الأثر عليها ، وإن لم يكن كاشفاً عن الامضاء والانفاذ لذلك الاعتبار العقلائي.

وعلى كلّ حال ، لو قلنا بذلك لم يكن حينئذ فرق بين المعاملات وباقي ما جرت عليه السيرة العقلائية من تلك الأُمور العقلائية ، كالحجّية والظهور ونحوهما ممّا يرجع إلى ذلك ، لكن أنّى لنا بإثبات ذلك ، وكيف يمكننا إخراج الأحكام الوضعية بأسرها عن كونها من الأحكام الشرعية وإرجاعها إلى الموضوعات الاعتبارية العقلائية ، نظير ماليات الأشياء الجعلية كالأوراق النقدية ، ولو بنينا على ذلك لتغيّر الفقه في باب المعاملات ، وكان لنا فقه آخر وأدلّة أُخرى غير ما نسلكه في أحكامنا الفقهية في أبواب المعاملات ، إنّ هذا ممّا يقطع بفساده ، ولا أظنّ أحداً يقدر على الالتزام به ويعدّ نفسه فقيهاً.

أمّا اندراج المعاملة المذكورة في العمومات مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٢) ونحوهما ، فهو موقوف على دعوى العموم لكلّ عقد وتجارة ، وفيه تأمّل لاحتمال اختصاصه بما يكون معروفاً مألوفاً في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نعم ، يمكن أن يقال بأنّها راجعة إلى الصلح ، بناءً على ما هو التحقيق من كونه عبارة عن التسالم على أمر مقرّر بين المتعاقدين ما لم يكن موجباً لتحليل الحرام أو تحريم الحلال ، وكنت حرّرت في مسألة اليانصيب والبيمة رسالة مفصّلة فراجعها (٣)

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

(٢) النساء ٤ : ٢٩.

(٣) مخطوطة لم تطبع بعدُ.

٤٦٢

وربما يستدلّ على بطلان المعاملة المستحدثة حتّى إذا لم تكن مشتملة على نحو من القمار كما في اليانصيب بقوله عليه‌السلام : « لا يحلّ مال إلاّمن وجه أحلّه الله » في جملة رواية مفصّلة ذكرها في الوسائل في كتاب الخمس في باب وجوب إيصال حصّة الإمام عليه‌السلام إليه (١).

وفيه : مضافاً إلى إمكان كونها ناظرة إلى خصوص مثل أخذ ماله عليه‌السلام ونحو ذلك بلا جهة تقتضي صحّة الأخذ من إذن أو عقد ونحوه ، دون ما نحن فيه من أخذه برضا صاحبه ولكن بمعاملة غير داخلة في إحدى المعاملات المعهودة ، ليكون خارجاً عن قبال أصالة الاباحة في الأموال ، أن دخول هذه المعاملة في عمومات ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) أو لا أقل من عمومات الصلح ، يخرج المال المأخوذ بها عن كونه من وجه لم يحلّه الله تعالى فتأمّل ، ويدخله في

__________________

(١) قال في الوسائل في الباب المشار إليه : وعن محمّد بن الحسن وعلي بن محمّد جميعاً عن سهل عن أحمد بن المثنّى عن محمّد بن يزيد ( زيد ) الطبري ، قال : « كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام يسأله الإذن في الخمس ، فكتب عليه‌السلام إليه : بسم الله الرحمن الرحيم ، إنّ الله واسع كريم ، ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهم ، لا يحلّ مال إلاّمن وجه أحلّه الله ، إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا ، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته ، فلا تزووه عنّا ، ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه ، فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم ، وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم ، والمسلم من يفي لله بما عهد إليه ، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف بالقلب ، والسلام » [ وسائل الشيعة ٩ : ٥٣٨ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ٢ ].

قال في المستمسك ١ : ٢٤٥ : والأمر في سهل سهل ، لكن أحمد بن المثنّى مهمل ، ومحمّد بن زيد الطبري مجهول ، ولأجل ذلك يشكل الاعتماد على الخبر والخروج به عن قاعدة الحل ، الخ [ منه قدس‌سره ].

٤٦٣

جملة الوجوه التي أحلّها الله تعالى.

فالعمدة هو شمول العمومات لهذه المعاملة ، أو دخولها في باب الصلح ، فإن تمّ ذلك فهو ، وإلاّ كانت أصالة عدم ترتّب الأثر كافية في الحكم بالفساد ، فتأمّل.

قوله : وأمّا طريقة العقلاء فهي عمدة أدلّة الباب ، بحيث إنّه لو فرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلّة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة ... الخ (١).

إنّ السيرة العقلائية التي هي محلّ الكلام إنّما هي السيرة التي جروا عليها قبل الشريعة ، ولم يكن آنئذ أحكام شرعية. نعم بعد أن وجدت الشريعة المقدّسة بقي العقلاء على تلك السيرة وأجروها في الأحكام الشرعية ، بحيث إنّهم قبلوا الروايات التي تنقل إليهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمّة عليهم‌السلام في الأحكام الشرعية ، وصاروا يعملون عليها كما أنّهم يعملون بذلك في أُمور معاشهم ، ولم يردعهم الشارع المقدّس عن ذلك ، مع كون عملهم على ذلك وبنائهم عليه بمنظر منه ومسمع مع فرض تمكنه من الردع ، وهذا كلّه واضح لا ينبغي الريب فيه.

لكن يبقى الإشكال في أخبار الآحاد في الموضوعات ، فإنّها داخلة في السيرة المزبورة ، بل يمكن القول بأنّ الإخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعنهم عليهم‌السلام أيضاً هو من قبيل الإخبار بالموضوعات في نظر العقلاء ، باعتبار كونه نقلاً لقوله عليه‌السلام أو فعله وإن كان ذلك يتضمّن النقل للحكم بواسطة نقل ذلك القول أو الفعل ، فإنّ من الواضح أنّ المراد من نقل الحكم ليس هو النقل بلا واسطة نقل الموضوع الذي هو نفس قوله عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، وإلاّ لكان اجتهاداً أو نبوّة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٤.

٤٦٤

والحاصل : أنّا بعد فرض جريان السيرة على قبول أخبار الثقة مطلقاً ، نحتاج إلى دليل يخرج الموضوعات الخارجية التي ليست نقلاً لقول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ، مثل موت زيد وحياته والأهلّة وغير ذلك من الموضوعات الخارجية.

فنقول بعونه تعالى : أمّا ما كان من ذلك راجعاً إلى مقام الترافع والقضاء ، فلا إشكال في تحقّق الردع عنه ، لأنّ دليل نفوذ القضاء قد حصره في الأيمان والبيّنات وأمّا ما لم يكن راجعاً إلى ذلك المقام فيمكن الاستناد في الردع عنه إلى مضمون رواية مسعدة « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة » (١) بناءً على أنّ المراد من الأشياء هو الموضوعات الخارجية ، فيكون حصر الطريق فيها بالاستبانة أو قيام البيّنة دليلاً على عدم الاكتفاء بغيرهما.

لكن قد يتأمّل في ذلك ، أمّا أوّلاً : فلأنّ هذا إنّما يتمّ في مورد الرواية الذي هو الاستناد إلى قاعدة الحل أو الأُصول النافية ، فلا يشمل ما كان خبر الواحد نافياً للتكليف في قبال استصحاب الموضوع المثبت للتكليف ، كما في خبر الواحد على التطهير في قبال استصحاب النجاسة ، والأولوية ممنوعة ، اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ المراد بقوله عليه‌السلام : « والأشياء كلّها على هذا » هو أنّ الأشياء تبقى على مقتضى الوظيفة الجارية فيها مطلقاً حتّى في مثل موارد اليد وموارد الاستصحاب النافي أو المثبت حتّى يستبين خلافه أو تقوم البيّنة على خلاف مقتضى تلك الوظيفة وحينئذ تكون دالّة على عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات مطلقاً ، فتأمّل.

وثانياً : أنّا لو أغضينا النظر عن ذلك ، لقلنا إنّ جريان السيرة على حجّية خبر الواحد يوجب دخوله في الاستبانة ، فيكون حاكماً على دليل اعتبار الاستبانة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

٤٦٥

لكونه محقّقاً للاستبانة التعبّدية ، كما يكون حاكماً على دليل النهي عن الأخذ بغير العلم لكونه علماً تعبّدياً. لكن يبعّده أنّ خبر الواحد لا يكون مقابلاً للبيّنة ، بل إنّ عطف البيّنة على الاستبانة قرينة على أنّ المراد بالاستبانة الاستبانة الوجدانية غير الشاملة للاستبانة التعبّدية ، فإنّها حاصلة بالبيّنة ، فلا تصح المقابلة إلاّإذا أُخذت الاستبانة استبانة وجدانية.

قوله : ويمكن أن يكون ما ورد من الأخبار المتكفّلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدّمة كلّها إمضاءً لما عليه بناء العقلاء ، وليست في مقام تأسيس جواز العمل به ... الخ (١).

الظاهر أنّ هذا ، أعني الاحتياج إلى دليل يستفاد [ منه ] إمضاء ذلك البناء العقلائي لابدّ منه ، وإلاّ فلو بقينا نحن وذلك البناء العقلائي لم يمكننا الجري عليه والحكم بحجّية خبر الواحد شرعاً ، وكان الخبر على ما هو عليه من الشكّ في الحجّية ، لما عرفت من عدم الاعتماد على أصالة عدم الردع في إثبات الجهة المطلوبة ، وهي الامضاء والرضا بما جرت عليه السيرة العقلائية ، إلاّأن يدّعى القطع بعدم الردع كما أفاده بقوله : ولو كان قد ردع عنها لنقل ذلك إلينا ، لتوفّر الدواعي إلى نقله الخ (٢). ولا يخفى ما فيه من تطرّق المنع إلى القطع بعدم الردع بمجرّد عدم النقل.

ثمّ لا يخفى أنّ كلاً من الردع والامضاء يحتاج إلى حجّة ، ولا يكفي فيه أخبار الآحاد ، لأنّ الكلام في حجّيتها. وبالجملة : أنّ خبر الواحد ساقط في المقام ، سواء كان مفاده الامضاء أو كان مفاده الردع ، لأنّ الكلام إنّما هو في حجّية

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٣.

٤٦٦

خبر الواحد ، فكيف يمكننا الاعتماد في إمضاء السيرة أو الردع عنها على نفس خبر الواحد.

فالعمدة حينئذ في الدليل على حجّية خبر الواحد هو ما عرفت من طوائف الأخبار المتقدّمة الراجعة إلى التواتر ، وما عرفت من دلالة آية النفر ، سواء قلنا إنّ ذلك من قبيل الامضاء أو من قبيل التأسيس. ولا يخفى انحصار مفادها بما يكون راجعاً إلى الأحكام ، وعدم شمولها لأخبار الآحاد في الموضوعات الخارجية وحينئذ نكون في راحة من تكلّف إخراجها ، لأنّ السيرة العقلائية وإن جرت على قبولها في الموضوعات الخارجية ، إلاّ أنّه لا دليل لنا على إمضاء هذه السيرة ، وأصالة عدم الردع لا تكفي ، لما عرفت من كونها مثبتة ، بل إنّه لا ملازمة بين عدم الردع وبين الامضاء ، لاحتمال عدم التمكّن من الردع.

نعم ، لو قلنا بأنّه يستفاد من تلك الأدلّة عموم الحجّية لخبر الواحد ولو بنحو الالحاق ، أو قلنا بتمامية دلالة آية النبأ الشاملة للموضوعات الخارجية ، أو قلنا بحجّية السيرة العقلائية وأنّه يكفي في لزوم الجري على طبقها أصالة عدم الردع كنّا محتاجين في إخراج الموضوعات الخارجية عن تلك العمومات أو الردع عن تلك السيرة إلى مثل رواية مسعدة ، بجعلها رادعة عن السيرة الجارية في الموضوعات الخارجية ، ولا يتأتّى فيها ما ذكرناه من عدم إمكان الركون في الردع عن السيرة إلى خبر الواحد ، وذلك لأنّ هذه الرواية بنفسها تتضمّن حكماً كلّياً ، وهي حاكية عنه لا عن موضوع خارجي ، فتكون حجّة لكونها مشمولة للطوائف المتقدّمة ولآية النفر وآية النبأ ، وهذا الحكم الكلّي الذي تضمّنته الذي له شاهد فيما نحن فيه هو المستفاد من الحصر ، أعني عدم حجّية خبر الواحد في الموضوعات الخارجية ، فيكون هذا الحكم الكلّي رادعاً عن السيرة الجارية على

٤٦٧

قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجية ، ومخصّصاً لعموم آية النبأ.

وحينئذ يبقى الكلام في الدلالة المذكورة على وجه تكون كافية في الردع عن القبول في جميع الأخبار الحاكية عن الموضوعات الخارجية ، أو أنّها منحصرة بخصوص ما يكون في قبال أصالة الاباحة مثلاً ، وقد عرفت التفصيل في ذلك فلا نعيده.

وينبغي مراجعة ما حرّرناه جديداً على العروة الوثقى في درس الفقه عند الكلام على قوله في المسألة ٦ ممّا يتبع ماء البئر : تثبت نجاسة الماء كغيره بالعلم وبالبيّنة وبالعدل الواحد الخ (١) ، فقد شرحنا هناك حكومة أدلّة حجّية خبر العادل وذي اليد على ما يستفاد من رواية مسعدة بن صدقة ، فراجع (٢).

قوله : وينبغي أوّلاً بيان المراد من الانسداد الصغير ثمّ نعقّبه بما أُفيد في المقام فنقول : قد تقدّم أنّ استفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقّف على أُمور ... الخ (٣).

هذه المقدّمة وإن كانت لا بأس بها بالنسبة إلى معرفة ضابط موارد الانسداد الصغير والانسداد الكبير ، إلاّ أنّه يمكن القول بأنّها لا أهميّة لها بالنسبة إلى محلّ الكلام ، أعني الدليل الأوّل من الأدلّة العقلية التي ذكرها الشيخ قدس‌سره (٤) ، فإنّ العمدة في الدليل الأوّل إنّما هو دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى العلم الاجمالي الصغير ، وبعد تمامية الانحلال المزبور لا حاجة إلى إجراء مقدّمات الانسداد في أطراف ذلك العلم الاجمالي الصغير ، أعني دائرة ما بأيدينا من الأخبار الموجودة

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ٩٨.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٦.

(٤) فرائد الأُصول ١ : ٣٥١ وما بعدها.

٤٦٨

في مجاميعنا ، لما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى من إمكان الاحتياط في تلك الأطراف ، فلا تصل النوبة إلى الالتزام بما هو مظنون الصدور منها فقط.

ومنه يظهر الخدشة في الانسداد الصغير المعمول في الظواهر بعد فرض انسداد باب العلم فيها ، فإنّ الانسداد في تشخيص ظاهر من الظواهر مثل لفظ الصعيد ونحوه لا يوجب الانتقال إلى إعمال الظنون الحاصلة من أقوال اللغويين ، بل يكون المرجع في ذلك هو الأُصول العملية ولو كان هو التخيير العقلي فيما لو دار الأمر في الظهور بين المحذورين ، إذ لا يلزم محذور من الرجوع إلى الأُصول العملية في بعض تلك الظواهر التي انسدّ فيها باب العلم. نعم لو كانت جميع الظواهر كذلك كان ذلك محقّقاً للانسداد الكبير.

وكذلك لو فرضنا تحقّق الظهور في تلك الظواهر ولكن باب العلم بحجّيتها قد انسدّ علينا ، ولو بمثل دعوى اختصاص حجّيتها بخصوص المشافهين ونحو ذلك من التسويلات ، فإنّها لو تمّت تكون موجبة لتحقّق الانسداد الكبير.

وبالجملة : أنّ الانسداد الصغير كأنّه من الكبريات التي لا صغرى لها. نعم لو تمّت دعوى انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى ما بأيدينا من الأخبار ، وتمّت دعوى عدم إمكان الاحتياط ، لكان المصير إلى العمل بما ظنّ صدوره ، فهذا لو سمّيناه بالانسداد الصغير لم يكن بذلك بأس ، لكن قد أشرنا إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى من منع الدعوى الثانية ، وهي عدم إمكان الاحتياط لو سلّمنا الدعوى الأُولى ، وهي انحلال الكبير إلى الصغير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ذلك مفصّلاً (٢)

__________________

(١) في الصفحة : ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

(٢) المصدر السابق.

٤٦٩

قوله : وعلى كلّ حال ، المقصود من الوجه الأوّل من وجوه تقرير حكم العقل بحجّية الخبر الواحد هو إجراء مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى خصوص جهة الصدور لإثبات حجّية مطلق الظنّ به ، وبيانه : هو أنّه لا إشكال في أنّا نعلم بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ... الخ (١).

حيث كان أصل هذا الاستدلال هو ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، فالأولى أوّلاً هو نقل كلام الشيخ قدس‌سره في بيانه ، وإجالة النظر فيه وفي الوجوه التي أشكل بها عليه ، ثمّ بعد ذلك نتعرّض إن شاء الله تعالى لما أفاده شيخنا قدس‌سره في ذلك.

فنقول بعونه تعالى : قال الشيخ قدس‌سره في بيان الوجه الأوّل الراجع إلى العلم الاجمالي بصدور الكثير ممّا بأيدينا من الأخبار ، بعد أن أطال الكلام على كيفية اهتمام أصحابنا في تنقيح الأخبار ، وذلك في الأزمنة المتأخّرة عن زمان الرضا عليه‌السلام كما أشار إليه قبل هذه العبارة ، ما هذا لفظه : وظهر ممّا ذكرنا أنّ ما علم إجمالاً من الأخبار الكثيرة من وجود الكذّابين ووضع الأحاديث ، فهو إنّما كان قبل زمان مقابلة الحديث وتدوين علمي الحديث والرجال بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، مع أنّ العلم بوجود الأخبار المكذوبة إنّما ينافي دعوى القطع بصدور الكل التي تنسب إلى بعض الأخباريين ، أو دعوى الظنّ بصدور جميعها ، ولا ينافي ما نحن بصدده من دعوى العلم الاجمالي بصدور أكثرها أو كثير منها ـ إلى أن قال ـ فإذا ثبت العلم الاجمالي بوجود الأخبار الصادرة ، فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصدور ، لأنّ تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم ، تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه توصّلاً إلى العمل بالأخبار الصادرة ، بل ربما يدّعى وجوب العمل بكلّ واحد منها مع عدم المعارض والعمل بمظنون الصدور

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٤٧٠

أو بمظنون المطابقة للواقع من المتعارضين (١).

قلت : لا يخفى أنّ مورد العلم الاجمالي الذي يترتّب عليه الأثر إنّما هو الأخبار المثبتة ممّا بأيدينا ، ففي صورة التعارض بين الخبرين المثبتين من تلك الأخبار التي بأيدينا لابدّ من الأخذ بالتخيير في المسألة الفرعية إن أمكن ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب الشيء والآخر دلّ على حرمته. أمّا إذا لم يكن التخيير في المسألة الفرعية ممكناً ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب نفقة الجدّ الأعلى مثلاً على ابنه ، ودلّ الآخر على وجوبها على ابن ابنه ، كان العمل على ما هو الأقرب صدوراً أو ما هو الأقرب مطابقة للواقع ، وإن كان الظاهر الملازمة بين كون الخبر أقرب صدوراً وكونه أقرب مطابقة للواقع ، فإنّ الصادر عن المعصوم لابدّ أن يكون مطابقاً للواقع بعد طي مرحلة الظهور وجهة الصدور من عدم احتمال التقية إلاّ إذا كان أحد الخبرين مخالفاً للشهرة ، فإنّ الشهرة توجب الظنّ بعدم مطابقته للواقع وإن كان مظنون الصدور ، فتكون الشهرة على خلافه موجبة للظنّ بالتصرّف في دلالته ، كما سيأتي (٢) إن شاء الله توضيحه فيما أفاده الشيخ من الايراد عليه بقوله : وثانياً (٣). ولكن يمكن القول بأنّ كلاً من الأب والابن يكون الخبران متعارضين فيه تعارض النفي والاثبات ، فيلزم كلّ منهما بالاحتياط والعمل بالخبر المثبت في حقّه ، هذا في صورة التعارض.

وأمّا في غيرها ، فالمتعيّن على الظاهر هو العمل بكلّ خبر مثبت للتكليف ، وهو ما أفاده قدس‌سره بقوله : بل ربما يدّعى وجوب العمل بكلّ واحد منها الخ ، وهو

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٢) في الصفحة : ٤٧٣ ـ ٤٧٥.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٣٥٩.

٤٧١

الذي جرى عليه في الكفاية (١).

أمّا الوجه الأوّل وهو ما أفاده قدس‌سره بقوله : فيجب بحكم العقل العمل بكلّ خبر مظنون الصدور الخ ، وعليه جرى شيخنا قدس‌سره (٢) ، فلم أتوفّق للاهتداء إلى وجهه. وما أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : لأنّ تحصيل الواقع الذي يجب العمل به إذا لم يمكن على وجه العلم تعيّن المصير إلى الظنّ في تعيينه توصّلاً إلى العمل بالأخبار الصادرة انتهى ، قابل للتأمّل في وجهه ، ولماذا لا يمكن العمل بالاحتياط في الجميع حتّى نلتزم بالرجوع إلى الظنّ بالتعيين بعد فرض أنّه لا علم لنا بوجود الأخبار الكاذبة المثبتة للتكليف في جملة تلك الأخبار ، ولو فرض أنّا علمنا أيضاً بوجود الكاذب غير الصادر فأيّ مانع يمنع من العمل بالجميع من باب الاحتياط ، إلاّإذا علمنا بأنّ ذلك الكاذب الموجود بينها يكون على ضدّ الحكم الواقعي ، بأن يكون مثبتاً للوجوب والواقع هو التحريم أو بالعكس ، لا مجرّد أنّه مثبت للتكليف والواقع لا تكليف بل الحكم هو الترخيص ، وأنّى لنا بأن نعلم أنّ في جملة تلك الأخبار التي بأيدينا ما هو ضدّ الواقع لا مجرّد المناقضة للواقع.

ومن ذلك كلّه يظهر إمكان الخدشة فيما أفاده شيخنا قدس‌سره حسبما نقله عنه السيّد سلّمه الله في تحريراته بقوله : إذ العمل بالاحتياط مع القطع بوجود أخبار مخالفة للأحكام الصادرة عن الأئمّة ( سلام الله عليهم ) غير ممكن (٣) لما عرفت أوّلاً : من منع دعوى القطع بوجود الكاذب. وثانياً : من منع العلم بأنّ تلك

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٠٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٩.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٤٧٢

المخالفة مخالفة ضدّية لا مخالفة تناقضية (١).

ومنه أيضاً يظهر التأمّل فيما نقله عنه قدس‌سره المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله بقوله : ولا يجب الاحتياط فيها لعدم إمكانه أو تعسّره (٢) وما أدري كيف عملنا بجميع تلك الأخبار بعد فرض قيام الأدلّة على حجّيتها بالخصوص ، وهل لزم من ذلك عسر أو حرج فضلاً عن عدم الامكان.

والحاصل : أنّه لا عسر ولا حرج في العمل بجميع ما بأيدينا من الأخبار الموجودة في كتبنا الأخيرة أعني الوسائل ، بل ولو ضممنا إليها مستدرك الوسائل ، والشاهد على ذلك قوله بعد هذه العبارة : فلابدّ حينئذ من الأخذ بمظنون الصدور فقط ، أو مع مشكوك الصدور أو مع الموهوم أيضاً حسب اختلاف مراتب العلم الاجمالي (٣) فإنّا إذا عملنا بما هو مظنون الصدور ومشكوكه وموهومه ، فأيّ شيء أبقيناه من الأخبار التي بأيدينا ولم نعمل به تخلّصاً من عدم إمكان الاحتياط بالعمل بجميع ما بأيدينا من الأخبار ، أو تخلّصاً من تعسّره ، هذا عجيب.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الشيخ قدس‌سره بقوله : وثانياً أنّ اللازم من ذلك العلم الاجمالي هو العمل بالظنّ في مضمون تلك الأخبار ، لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم الله الذي يجب العمل به ، وحينئذ فكلّما ظنّ بمضمون خبر منها ولو من جهة الشهرة يؤخذ به ، وكلّ خبر لم يحصل الظنّ بكون مضمونه حكم الله لا يؤخذ به ولو كان مظنون الصدور

__________________

(١) وهكذا الحال فيما نقلته عنه قدس‌سره بقولي : وعدم إمكان الاحتياط بالعمل بجميع ما يحتمل صدوره ، للعلم بعدم صدور بعضها. فراجع ص ١٠٦ من تحريراتي عنه قدس‌سره [ وهي مخطوطة لم تطبع بعد ].

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٩.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٩.

٤٧٣

فالعبرة بظنّ مطابقة الخبر للواقع ، لا بظنّ الصدور (١).

فإنّك قد عرفت أنّه لا تصل النوبة إلى الظنّ بالصدور كي يحصل التزاحم بين الظنّ بالصدور والظنّ بمطابقة الخبر للواقع ، ليكون المدار على الظنّ الثاني دون الظنّ الأوّل ، بل إنّ مقتضى العلم الاجمالي هو لزوم العمل بجميع ما بأيدينا من الأخبار المثبتة. مضافاً إلى أنّا لو سلّمنا الانتقال إلى الظنّ بالصدور ، وأنّه إنّما يلزم العمل بما هو مظنون الصدور باعتبار كونه موجباً للظنّ بمطابقة مضمونه للواقع ، لقلنا إنّ الظنّ بصدور الخبر عن المعصوم عليه‌السلام يوجب الظنّ بكونه مطابقاً للواقع ، فلا يعقل تحقّق الظنّ بالصدور مع عدم الظنّ بكونه مطابقاً للواقع حتّى لو كانت الشهرة مثلاً على خلاف مضمون ذلك الخبر المظنون الصدور ، إذ لا يجتمع الظنّ بالصدور مع عدم الظنّ بالواقع إلاّمن جهة الظنّ بصدوره تقية ، أو من جهة الظنّ بأنّ المراد خلاف الظاهر منه ، بحيث تكون الشهرة مثلاً على خلاف مؤدّى الخبر موجبة للتصرّف في الأصل الجهتي أو التصرّف في أصالة الظهور ، وإلاّ فلا يعقل اجتماع الظنّ بصدور هذا الخبر مع الظنّ بأنّ مضمونه مخالف للواقع.

وبعبارة أُخرى : لا يجتمع الظنّ بالصدور مع عدم الظنّ بمطابقته للواقع إلاّ من هذه الناحية ، ناحية التصرّف في دلالة ذلك الخبر ، ولا ريب حينئذ في الحكم بالغاء ذلك الاحتمال استناداً إلى أصالة الجهة فيه وأصالة الظهور ، بمعنى أنّ ذلك الخبر لو كان صادراً لكان مورداً لأصالة الظهور ، وكان احتمال إرادة خلاف الظاهر منه محكوماً بالالغاء استناداً إلى الأصل اللفظي أو الأصل الجهتي. نعم سيأتي (٢) الإشكال في إجراء الأصل الجهتي والأصل المرادي فيما إذا لم يحرز أصل

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣٥٩.

(٢) في الصفحة : ٥٠٠ وما بعدها.

٤٧٤

الصدور ، وحينئذ يتمّ ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّه بعد وصول النوبة إلى تبعيض الاحتياط في دائرة الأخبار يكون المدار على ظنّ مطابقة المضمون للواقع ، فربما كان الخبر المظنون الصدور غير واجب العمل لأنّه لا يظنّ بمطابقة مضمونه للواقع ، لكونه مخالفاً للشهرة مثلاً ، وربما كان الخبر المشكوك الصدور أو الموهوم الصدور واجب العمل لحصول الظنّ بمطابقة مضمونه للواقع بواسطة كونه مطابقاً للشهرة.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ الخبر الأوّل وإن كان بالنظر إلى نفس سنده مظنون الصدور ، إلاّ أنّ مخالفة مضمونه للشهرة توجب كونه موهوم الصدور ، وكذلك الخبر الثاني فإنّه وإن كان بالنظر إلى سنده موهوم الصدور أو مشكوكه ، إلاّ أنّ موافقته للشهرة توجب الظنّ بصدوره ، كلّ ذلك نظراً إلى أنّ الشهرة موهنة للسند القوي ومقوّية للسند الضعيف. نعم في الأوّل ربما يقال : إنّ الشهرة على خلافه توجب التصرّف في دلالته دون سنده ، فيكون مظنون الصدور غير مظنون المضمون ، لكن ذلك ـ أعني كون الشهرة موجبة للتصرّف في الدلالة ـ إنّما هو بعد تمامية السند من حيث الحجّية ، دون ما نحن فيه ممّا لم يثبت حجّية سنده وإن كان صدوره في حدّ نفسه مظنوناً ، فإنّ الشهرة على خلاف مضمونه تقلب الظنّ بصدوره إلى الظنّ بعدم صدوره ، فتأمّل.

أمّا ما أفاده الشيخ قدس‌سره في ضمن قوله : وثالثاً ، وهو قوله : وكذلك لا يثبت به حجّية الأخبار على وجه ينهض لصرف ظواهر الخ (١) ، فهو الإيراد الوحيد الذي اعتمده في الكفاية فقال : وفيه أنّه لا يكاد ينهض على حجّية الخبر بحيث يقدّم

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣٦٠.

٤٧٥

تخصيصاً الخ (١).

وأمّا قول الشيخ قدس‌سره في الايراد المذكور : وأمّا الأخبار الصادرة النافية للتكليف فلا يجب العمل بها ، نعم يجب الإذعان بمضمونها وإن لم تعرف بعينها الخ (٢) ، فقوله : نعم الخ ، ناظر إلى وجوب الموافقة الالتزامية بناءً عليها ، لكن الظاهر أنّ ذلك على تقديره وعلى تقدير عدم الاكتفاء بالالتزام الاجمالي بما هو الصادر من مجموع تلك الأخبار على ما هو من المقدار في المثبتات والنافيات ، أنّه إنّما يتمّ لو كانت الأخبار النافية ممّا يعلم إجمالاً بوجود الصادر في جملتها ، وإلاّ فمجرّد كونها طرفاً للعلم الاجمالي بالصدور لا يوجب الموافقة الالتزامية بالنسبة إلى النافية ، مع فرض احتمال كون الصادر بتمامه في طرف المثبتة ، اللهمّ إلاّ أن يلتزم في هذه الصورة بلزوم الالتزام في النافي ، نظراً إلى أنّ كلاً من المثبت والنافي يجب الالتزام به ، وحيث قد علم إجمالاً بصدور الكثير من المجموع ، وجب الالتزام بمضمون المجموع حتّى النافي لكونه من أطراف ما علم إجمالاً بوجوب الالتزام فيه.

أمّا قول صاحب الكفاية قدس‌سره : وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب ، بناءً على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه ، وإلاّ لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال (٣) ، فلعلّه ناظر إلى الصورة الأُولى ، أعني ما لو

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٠٥.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٣٦٠.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٠٥.

٤٧٦

كانت النافية ممّا علم إجمالاً بصدور بعضها ، ليكون مورد الاستصحاب المثبت في قبال الخبر النافي من قبيل أحد الأطراف التي قام الدليل في بعضها إجمالاً على انتقاض الحالة السابقة فيه ، مثاله ما لو قلنا باستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيير ، ووردت رواية تدلّ على طهارته بذلك ، ومثله ما لو تنجّس الماء القليل وأتممناه كرّاً بطاهر ، فيجري استصحاب النجاسة ، ووردت رواية تدلّ على طهارته بذلك كما ادّعي دلالة قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثاً » (١) بأن يكون المنفي هو مطلق الحمل حدوثاً وبقاءً. وبالجملة : يكون ذلك نظير جريان استصحاب النجاسة في أحد الأطراف النجسة التي قامت البيّنة على تطهير بعضها في الجملة. ومثال أصالة الاشتغال في قبال الخبر النافي ما لو قلنا بالاحتياط في موارد الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، ووردت رواية من تلك الروايات تدلّ على عدم وجوب الجزء المشكوك. ومثاله أيضاً ما لو دار الأمر بين الجمعة والظهر في زمان الغيبة ، ووردت رواية تدلّ على عدم وجوب الجمعة في زمان الغيبة.

ثمّ لا يخفى أنّه إذا لم يكن في البين أصل مثبت للتكليف في قبال الخبر النافي ، لا يكون المقام من جواز العمل بالخبر النافي ، بل يكون من قبيل الاعتماد على الأصل النافي في تلك المسألة ، حيث إنّ المورد إذا لم يكن فيه محلّ للأصل المثبت يكون قهراً من موارد الأُصول النافية ، إذ لا أقل من البراءة الشرعية أو العقلية.

والحاصل : أنّه يرد على ما في الكفاية أوّلاً : أنّه لا يتمّ المنع من الاستصحاب المثبت في قبال الخبر النافي إلاّبعد فرض العلم الاجمالي بصدور

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ٦ ( مع إضافة يسيرة ).

٤٧٧

بعض الأخبار النافية.

وثانياً : أنّ مفهومه أنّه في مورد عدم الاستصحاب المثبت وعدم أصالة الاشتغال يجوز العمل بالخبر النافي ، وليس الأمر كذلك ، بل يكون العمل حينئذ على الأصل النافي.

وثالثاً : المناقشة في أصل المبنى ، وهو أنّ مجرّد العلم أو ما يقوم مقامه بانتقاض الحالة السابقة لا يكون مانعاً من جريان الاستصحاب في بعض الأطراف كما حقّق في محلّه (١).

وأمّا ما أفاده الشيخ قدس‌سره (٢) من الايراد على هذا الدليل أوّلاً ، فهو الحجر الأساسي ، وهو راجع إلى دعوى عدم انحلال العلم الاجمالي الكبير إلى هذا العلم الاجمالي الصغير ، التي تكون أطرافه هي ما بأيدينا من الأخبار الموجودة في مجاميع أصحابنا ( رضوان الله تعالى عليهم ) فإنّ ذلك العلم الاجمالي الكبير وإن انحل إلى العلم الاجمالي المتوسّط الذي تكون أطرافه هي تلك الأخبار وباقي الأمارات ، إلاّ أنّ هذا العلم الاجمالي المتوسّط لا ينحلّ إلى العلم الاجمالي الصغير الذي تكون أطرافه منحصرة بخصوص ما بأيدينا من الأخبار دون باقي الأمارات.

وهذه الدعوى ـ أعني عدم الانحلال ـ هي العمدة في المطلب ، وحيث قد تعرّض لها شيخنا قدس‌سره مع باقي الإيرادات الثلاثة ، فنحن نتعرّض لما أفاده قدس‌سره ونوضّح مراده وكيفية انطباقه على ما أفاده الشيخ قدس‌سره من الايرادات الثلاثة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) راجع المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٥٨ وما بعدها ، وراجع أيضاً المجلّد الحادي عشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٤٣ وما بعدها.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٣٥٧.

٤٧٨

قوله : قلت : هذه الدعوى ممّا يكذّبها الوجدان ، بداهة أنّ الأمارات الظنّية ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلّقة للعلم الاجمالي ، فلا أقل من كونها من أطراف العلم الاجمالي ، لأنّ متعلّق العلم الاجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقيّة الأمارات الظنّية ، وهذا لا ينافي أن تختصّ الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها ... الخ (١).

ينبغي لتوضيح هذا المقام أن نقدّم مقدّمة هي مثال خارجي ثمّ نتبعه بتطبيقه على ما نحن فيه ، فنقول بعونه تعالى : لو كان لنا قطيع من الغنم مائة رأس ، خمسون منها سود وخمسون بيض ، فالعلم الاجمالي بتحريم بعض هذا القطيع يمكن أن يكون على صور أربع :

الأُولى : أن يعلم بحرمة خمسة من مجموع ذلك القطيع سوده وبيضه ، لكن يحصل لنا علم إجمالي ثانٍ ، وهو وجود خمسة محرّمة في خصوص السود يحتمل أنّها هي المعلومة الأُولى ، وفي هذه الصورة لا إشكال في انحلال العلم الاجمالي المتعلّق بالمجموع إلى العلم الاجمالي المتعلّق بخصوص السود ، ويكون المعلوم بالاجمال غير مختلف المقدار. ولو عزلت السود عن البيض كان مقدار ذلك المعلوم في السود لم ينقص ، وكانت البيض خالية من العلم بالمحرّم بينها ، كما أنّك لو خلطتها وجاءت ظلمة أوجبت عدم التمييز بينها لم يزد ذلك المعلوم عن ذلك المقدار الذي هو الخمس ، ولو فرضنا أنّك عزلت خمساً من السود وضممت باقي السود إلى البيض ، لم يكن لك علم إجمالي بوجود المحرّم فيها. وفي الحقيقة لا يكون ذلك من باب الانحلال ، بل من باب عدم تأثير العلم الاجمالي الأوّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

٤٧٩

الصورة الثانية : أن يعلم بوجود سبعة محرّمة في مجموع القطيع ، لكن خمسة منها في خصوص السود واثنان في خصوص البيض ، ولا ريب حينئذ في أنّ لنا دائرتين من العلم الاجمالي ، الأُولى السود ومعلومها خمسة ، والثانية البيض ومعلومها اثنان ، فلو فصلت السود وأبقيت البيض وحدها كانت البيض مشتملة على العلم الاجمالي ، غايته أنّه بمقدار اثنين ، وكانت السود أيضاً مشتملة على العلم الاجمالي بمقدار خمسة ، ولو جمعتها ازداد المعلوم بالاجمال فكان سبعة ، ولا إشكال في عدم الانحلال في هذه الصورة.

الصورة الثالثة : أن يعلم إجمالاً بوجود سبعة محرّمة في المجموع ، لكن يعلم إجمالاً أيضاً بوجود خمسة في السود ، ووجود اثنين مردّدة بين البيض وباقي السود ما عدا الخمسة المحرّمة فيها. وفي هذه الصورة لا يكون العلم الاجمالي بوجود خمسة محرّمة في السود موجباً لانحلال العلم الاجمالي بحرمة السبعة في مجموع القطيع ، وفي هذه الصورة لو فصلت السود عن البيض وإن كان لم يبق لك علم بالحرام في البيض ، إذ لم تكن البيض بنفسها مورداً للعلم الاجمالي ، لكن لو عزلت خمسة من السود وضممت باقي السود إلى البيض تجد العلم الاجمالي بينها بحرمة اثنين ، ولو عزلت السود بتمامها عن البيض نقص المعلوم الاجمالي المتعلّق بالمجموع ، فإنّه بعد أن كان سبعة يعود إلى الخمسة ، ولو جمعت السود إلى البيض ازداد معلومك من الخمسة إلى السبعة.

الصورة الرابعة : مؤلّفة من الصورتين الأخيرتين ، بأن يحصل لنا العلم بأنّ في القطيع تسعة محرّمة ، خمسة منها في خصوص السود واثنان في خصوص البيض (١) ، واثنان مردّدة بين كونها في البيض أو في السود أو واحدة في البيض

__________________

(١) [ في الأصل : السود ، والصحيح ما أثبتناه ].

٤٨٠