أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

البحث والتفتيش حتّى يعلموا صحّة ما قالوه فيعملوا به ، وقد استوفينا الكلام في ذلك في كتاب أُصول الفقه لا نطوّل بذكره هنا (١). انتهى كلامه قدس‌سره ورفع مقامه.

نعم يمكن أن يقال : إنّا نقطع بأنّ الآية الشريفة أجنبية عن جعل الاحتياط ، فإنّه إن كان المدار فيه على مجرّد الاحتمال كان ذكره عقيب الإنذار لغواً إلاّباعتبار كونه أحد مثيرات الاحتمال ، وهو بعيد جدّاً لا يناسب سوق الآية الشريفة ، بل يمكن القول إنّ جعل الاحتياط الشرعي بعيد عن الذوق في آيات الأحكام والتشريع. وأمّا وجوب الفحص والنظر في المعجزة ونحو ذلك ممّا استشهد به قدس‌سره ، فالظاهر أنّه أجنبي عن سوق الآية الشريفة ، فتأمّل. وكأنّه لأجل هذه الجهات تسالموا على الظاهر على أنّ المراد بالحذر في الآية الشريفة هو العمل على طبق الإنذار على أنّه الواقع.

قوله : ولا فرق في الفتوى والرواية في أنّ كلاً منهما يشتمل على التخويف ضمناً ، فإنّ الإخبار بالوجوب يتضمّن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب ... الخ (٢).

وحينئذ تكون الآية شاملة لكلّ من الفتوى والرواية ، ولكن قرينة التفقّه لعلّها توجب الاختصاص بالفتوى. وقد تصدّى قدس‌سره لدفع هذه الشبهة في الدورة الأخيرة بما حاصله : أنّ التفقّه والاجتهاد في الصدر الأوّل لا يحتاج إلاّإلى إثبات الصدور ، وإعمال الأُصول العقلائية المشخّصة للظواهر ونحوها ممّا يسهل أمره ، وهذا نصّ ما حرّرته عنه قدس‌سره : وهو أنّ التفقّه عبارة عن تعلّم أحكام الدين ، وهو كما يتأتّى في حقّ المجتهد بإعمال قواعد السند والأُصول الجهتية ، فكذلك يتأتّى من

__________________

(١) التبيان ٥ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

٤٤١

الراوي ، إذ لا يحتاج إلى إعمال قواعد صحّة السند ، لكونه بالنسبة إليه قطعياً ، وإنّما يحتاج إلى إعمال الأُصول الجهتية وأصالة الظهور ، وأمرهما سهل بالنسبة إلى أهل اللسان خصوصاً بالنسبة إلى الصدر الأوّل ، وبذلك يتمّ دلالة الآية الشريفة على حجّية خبر الواحد وعلى حجّية فتوى المجتهد ، انتهى. وإن شئت فراجع ما حرّره السيّد في تحريره (١).

ولكن الظاهر أنّ جميع من يروي عنهم عليهم‌السلام وكذلك من يروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّهم رواة غير مجتهدين ، لأنّ السند عندهم قطعي والظهور ثابت عقلائي ، وهذا الأخذ بالظهور ليس باجتهاد ، بل أقصى ما فيه أنّه يوجب صحّة النقل بالمعنى ، وأين هذا من الاجتهاد الذي يحتاج إلى إعمال القواعد والتخلّص من التعارض وغير ذلك.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإخبار عن الرأي غير الإخبار عن الحس ، والآية لابدّ أن تكون مسوقة لأحدهما وهي بالإخبار أشبه منها بالاجتهاد ، فلا دلالة لها على حجّية الفتوى ، بل هي مختصّة بما جرت به العادة من النقل والروايات ، غايته التوسعة إلى النقل بالمعنى دون مسألة إعمال الرأي ، ولا ينافي صدق التفقّه لغة ، إذ لا مانع من صدقه على الرواية والسماع من المعصوم عليه‌السلام.

وبالجملة : أنّ عنوان التفقّه اللغوي لا يختصّ بالمجتهد ، بل هو متأت من الراوي ، حتّى الذي ينقل اللفظ بنصّه يصدق عليه أنّه متفقّه لغة ، فضلاً عمّن ينقل بالمعنى باعتبار أنّه فهم منه ما هو ظاهر فيه لكلّ أحد استناداً إلى الأُصول العقلائية بحيث إنّه يصحّ نسبة ما استفاده من اللفظ إلى المعصوم بطريق القول ، كما حقّقه

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩٢.

٤٤٢

شيخنا في الدلالة التصديقية (١).

نعم ، هناك شبهة أُخرى لدعوى اختصاص الآية الشريفة بالفتوى ، وهي ما أشار إليه الشيخ قدس‌سره بقوله : توضيح ذلك : أنّ المنذر إمّا أن ينذر ويخوّف على وجه الافتاء ـ إلى قوله : ـ وإمّا أن ينذر ويخوّف بلفظ الخبر ـ إلى قوله : ـ وأمّا الثاني فله جهتان : إحداهما جهة تخويف وإيعاد ، والثانية : جهة حكاية قول من الإمام عليه‌السلام ، ومن المعلوم أنّ الجهة الأُولى ترجع إلى الاجتهاد في معنى الحكاية ، فهي ليست حجّة إلاّعلى من هو مقلّد له ، إذ هو الذي يجب عليه التخوّف عند تخويفه ، وأمّا الجهة الثانية فهي التي تنفع المجتهد الآخر ـ إلى قوله ـ والآية لا تدلّ على وجوب ذلك على من لا يجب عليه التخوّف عند التخويف الخ (٢) ، فراجع كلامه قدس‌سره.

وهذه الشبهة قد حرّرها الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته المطبوعة ، فقال بعد تقريب الاستدلال ما هذا لفظه : وفيه أنّ إشراب جهة التخويف في الإنذار يلازم لكون جهة فهم المنذر دخيلاً فيه ، وهو يناسب مقام الفتوى والتقليد وأجنبي عن مقام حجّية خبر شخص لا يعرف معناه ، بل يحكي ما سمعه من ألفاظه ، بداهة انصراف الإنذار عن مثله ، وحينئذ ليس وجه الإشكال من هذه الجهة إلاّانصراف الإنذار عن حيث الحكاية ، واختصاصه بحيث التخويف المنوط بفهمه حتّى في صورة اجتماع جهة الحكاية مع التخويف ، بحيث تكون الحكاية المخصوصة متضمّنة للتخويف ، فضلاً عن مورد افتراق الحكاية عنه كما أشرنا إليه بالمثال ، وحينئذ فالجواب عن هذا الإشكال بأنّ التخويف أعمّ من الصراحة والضمنية

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ١٤٠.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٦.

٤٤٣

أجنبية عن مصبّ الإشكال (١).

ونزيده بياناً أنّه لو أخبرك الراوي بأنّ الإمام قال ادع عند رؤية الهلال ، وكان الراوي قد فهم منه الوجوب ، وقد أنذرك وحذّرك من تركه بكلّ ما في وسعه من الوعظ والتحذير ، لكنّك بعد أن أخذت منه متن الرواية لم تفهم منها الوجوب ، بل قد فهمت منها كون الأمر للتهديد مثلاً ، وأنّ الحاصل هو حرمة الدعاء عند رؤية الهلال ، فهل ترى من نفسك أنّك عامل بما أنذرك به وحذّرك منه ، كلاّ ثمّ كلاّ ، وحينئذ فلو كان مفاد الآية مقصوراً على وجوب الحذر ، أعني العمل على طبق إنذار المنذرين ، كان محصّلها أنّه يجب عليك الأخذ بما ارتآه ذلك الناقل لا بنفس المتن الذي رواه ، وليس ذلك إلاّعبارة عن التقليد ، هذا.

ولكنّه قدس‌سره كان في درسه قد تعرّض للإشكال المزبور ، وأجاب عنه حسبما نقلته عنه في تحريراتي عن درسه (٢) بما هذا لفظه : إلاّ أنّ عمدة الكلام أنّ هذه الجهة المأخوذة في مفهومه هل لها الدخل في ترتّب الخوف عليه ليكون من قبيل الفتوى ، أو أنّها أجنبية عن ذلك ، فيكون المدار في الخوف على مجرّد الإخبار بالواقع؟ صورة الآية الشريفة يعطي الأوّل ، حيث إنّ مقتضى (٣) أن يكون الإنذار بتمام مفهومه له الدخل في ذلك ، ولكنّا إذا رجعنا إلى وجداننا الحاكم بعدم مدخلية علم المنذر في تحقّق الخوف ، وأنّ تمام المناط فيه هو الواقع المخبر به ، لا نستفيد من الآية إلاّترتّب الخوف على نفس الإخبار عن الواقع من دون مدخلية لجهة اعتقاد المنذر بما أنذر به ، فلا تكون الآية الشريفة ظاهرة إلاّفي ذلك ،

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) ليلة الثلاثاء ٢٧ ذ ق سنة ١٣٣٩ [ منه قدس‌سره ].

(٣) [ هكذا في الأصل ، فلاحظ ].

٤٤٤

فتكون حينئذ دالّة على حجّية سائر الإخبارات ، لوجود المناط فيها وهو الحكاية عن الواقع ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

والأولى أن يجاب بما أشرنا إليه ، وهو أنّ كلّ الرواة يفهمون معنى ما ينقلونه على وجه يسوغ لهم النقل بالمعنى ونسبته إلى المعصوم عليه‌السلام بطريق القول كما حقّقه شيخنا قدس‌سره في الدلالة التصديقية (١).

ويكون نقلهم اللفظ مساوياً لنقلهم المعنى ، ويكون ما سمعه هو عين ما فهمه بالنسبة إلى غالب الرواة ، بل كلّهم. ولا فرق في ذلك بين أن يقال في مقام إبداء حجّية نقله : اعمل بما نقله وسمعه ، أو أن يقال : اعمل بما أنذرك به ممّا فهمه من لفظ المعصوم ، فإنّ فهم المعنى من اللفظ لأهل اللسان يعدّ من المحسوسات العرفية ، ويكون نقله عن المعصوم عليه‌السلام كنقل نفس ما تلفّظ به عليه‌السلام ، وحاصله

__________________

(١) والظاهر أنّ النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده منهم عليهم‌السلام كلّه من قبيل النقل بالمعنى ، كما هي عادة نقلة الفتاوى في زماننا. نعم لمّا جاء دور كتابة الحديث وهو في أواخر [ عصر ] الأئمّة المعصومين ، كان الغالب هو نقل الألفاظ وضبطها بالكتابة ، وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في أثناء الكلام على الطوائف من الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد أنّ : منها ما ورد في ترخيص النقل بالمعنى [ فرائد الأُصول ١ : ٣٠٨ ] وهذه المسألة ـ أعني مسألة النقل بالمعنى ـ قد تعرّض لها الأُصوليون منّا في ذيول مسألة حجّية خبر الواحد ، وتعرّض لها الرجاليون أيضاً ومنهم المرحوم الحاج الشيخ عبد الله المامقاني قدس‌سره في مقباس الهداية [ ٣ : ٢٢٧ ـ ٢٣٨ ] وذكر فيها أقوالاً ثمانية ، وذكر تلك الأخبار التي أشار إليها الشيخ قدس‌سره فراجعه.

وفي التقريرات عن الشيخ قدس‌سره [ مطارح الأنظار ٢ : ٤٣٣ ] في أوائل مسألة اشتراط الحياة في المفتي ما هذا لفظه : ومن هنا منع من الفتوى بعض من لم يمنع من الرواية معنى ، بل لعلّ النقل بالمعنى ممّا لم يقل بالمنع منه أحد من أصحابنا ، فإنّ المخالف في هذه المسألة أبو بكر الرازي وأتباعه ، فراجعه [ منه قدس‌سره ].

٤٤٥

حجّية النقل بالمعنى.

أمّا المثال الذي ذكره وكذلك المثال الذي ذكرناه فهما من الأفراد النادرة التي لا عبرة بها ، فلابدّ من إلحاقهما بغيرهما من الغالب الكثير الشائع ، وإجراء الحجّية عليهما بالنسبة إلى المتن المنقول ، والإعراض عن كون الراوي لم يفهم منه شيئاً ، أو أنّه قد فهم منه ما هو خلاف ما فهمناه نحن ، فتأمّل.

ومن جميع ذلك يظهر لك أنّ ما في الكفاية وكذلك فيما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره في تحرير إشكال الشيخ قدس‌سره ليس كما ينبغي ، فإنّ عمدة إشكال الشيخ قدس‌سره هو ما عرفت من جهتي الإنذار في نقل الرواية ، وأنّ الآية الشريفة إنّما هي مسوقة للحجّية من الجهة الأُولى ، أعني جهة إنذاره الراجعة إلى فهمه من الرواية ، دون الجهة الثانية الراجعة إلى النقل المحض. وليس مراد الشيخ قدس‌سره أنّ الراوي لا إنذار في روايته كي يجاب بأنّه يمكنه الإنذار وحاله حال نقلة الفتوى كما في الكفاية (١) وكما في درر المرحوم الشيخ عبد الكريم (٢) ، أو أنّ إخباره بالرواية الدالّة على الوجوب إنذار كما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره ، بل إنّ جلّ إشكال الشيخ قدس‌سره هو ما عرفت من الجهتين في الراوي المنذر ، وأنّ الآية متكفّلة بالحجّية من الجهة الأُولى وهي جهة الرأي ، دون الثانية وهي جهة النقل والحكاية الصرفة.

والذي ينبغي في الجواب عنه هو ما عرفت من أنّ هذه الجهة ـ أعني الجهة الأُولى ـ ليست براجعة إلى الفتوى ، بل هي راجعة إلى نقل المضمون الذي نعبّر عنه بالنقل بالمعنى ، وهي بواسطة سهولة فهم المعاني للمخاطبين من أهل اللسان تكون عبارة أُخرى عن النقل والحكاية ، ولا تخرجه عن حيّز الناقلين إلى منزلة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٩٩.

(٢) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٣٩١.

٤٤٦

المجتهدين والمفتين ، فراجع وتأمّل ، فإنّ الآية الشريفة وردت خطاباً لأُولئك الأعراب الذين لا يعرفون إلاّالنقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يعرفون الرأي والاجتهاد ، غايته أنّهم يتوسّعون كجاري العادي في المحاورات ، فينقلون المضامين التي يفهمونها من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله وينسبونها إليه بطريق القول ، ولا يجمدون على نقل نفس اللفظ الذي سمعوه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ربما لا يبقى في ذاكرتهم نصّ اللفظ إلاّما قلّ ممّا يكون من جوامع الكلم كالقواعد الكلّية ، مثل لا ضرر ولا ضرار ، ومثل : ما جنته العجماء جُبار (١) ، ونحو ذلك من القواعد الكلّية المشتملة على ضروب من البلاغة التي يحافظون على خصوصيات ألفاظها لبلاغتها واختصارها ، ولأجل ذلك قال الفخر ـ من علماء العامّة ـ في حديث « الخراج بالضمان » (٢) في أُصوله : إنّ هذا الحديث من جوامع الكلم لا يجوز نقله بالمعنى ، حسبما نقله المرحوم الشيخ محمّد حسن ـ عن بعض (٣) من نقله عن الفخر ـ في حاشيته على المكاسب (٤) فيما يتعلّق بهذا الحديث في مسألة ما يضمن بصحيحه.

ثمّ إنّ الأُستاذ العراقي قدس‌سره بعد أن فرغ في مقالته من عبارته السابقة قال : هذا مضافاً إلى إمكان دعوى إهمال الآية من حيث اقتضاء الإخبار ولو متضمّناً للتخويف علماً أو ظنّاً ، فلا إطلاق فيها على وجه يشمل الخبر غير العلمي (٥).

قلت : قد تقدّم الجواب عن هذا الإشكال بما حاصله نصوصية الآية

__________________

(١) جُبار : أي هدر ، راجع لسان العرب ٤ : ١١٦ مادّة ( جبر ).

(٢) سنن البيهقي ٥ : ٣٢١.

(٣) راجع الأشباه والنظائر : ١٥٠ / القاعدة العاشرة : الخراج بالضمان.

(٤) غاية الآمال ٥ : ١٢٨.

(٥) مقالات الأُصول ٢ : ٩٨.

٤٤٧

الشريفة في كون الإنذار له مدخلية في الجملة في وجوب الحذر ، ولو قيّدناه بالعلم كان تمام التأثير للعلم ، وكان ضمّ الإنذار إليه كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان. وهذا الجواب قد أوضحه هو في درسه على ما حرّرته عنه في درس ليلة الأحد ٢٥ ذ ق سنة ١٣٣٩ فراجعه (١) ، وهو الذي أجاب به شيخنا قدس‌سره فيما حرّرته عنه (٢) وفيما حرّره عنه السيّد أوّلاً في تحريراته طبع صيدا كما مرّ نقله (٣).

نعم قد يقال : إنّ الإنذار يكون سبباً للعلم ، والعلم سبب للعمل ، وحينئذ يكون للإنذار مقدار من المدخلية ، وذلك هو ما أشار إليه الشيخ قدس‌سره بقوله : فالمعنى لعلّه يحصل لهم العلم فيحذروا ، الخ (٤).

وحينئذ يكون محصّل الآية الشريفة أنّه يجب النفر ليترتّب عليه التفقّه ، ليترتّب عليه الإنذار ، ليترتّب عليه العلم ، ليترتّب عليه العمل. ولا يخفى أنّ ذلك ليس من قبيل التقييد ، بل من قبيل توليد واسطة بين الإنذار والعمل ، وظاهر الآية خلافه ، فإنّها رتّبت العمل على الانذار ، هذا.

مضافاً إلى أنّ خبر الواحد بما أنّه خبر واحد لا يعقل أن يكون مفيداً للعلم بنفسه كما أفاده شيخنا قدس‌سره ، بل إنّ حصول العلم عنده لا يكون إلاّمن قرائن خارجية أجنبية عن نفس خبر الواحد ، وبناءً عليه لا تكون هذه الواسطة المحذوفة صحيحة في حدّ نفسها وهي ترتّب العلم على الإنذار ، فتأمّل.

ثمّ قال في المقالة : وتوهّم أنّ الآية بعمومها الاستغراقي تدلّ على إنذار كلّ

__________________

(١) مخطوط ولم يطبع بعد.

(٢) مخطوط ولم يطبع بعد.

(٣) في الصفحة : ٤٣٤.

(٤) فرائد الأُصول ١ : ٢٨٢.

٤٤٨

واحد واحد فلا مجال لنفي الاطلاق ، الخ (١).

هذا كسابقه تعريض بما أفاده شيخنا قدس‌سره ، وقد عرفت (٢) أنّ الظاهر أنّ شيخنا قدس‌سره إنّما التزم بالانحلالية فراراً من دعوى أنّ إخبار الطائفة لعلّه من قبيل التواتر أو من قبيل البيّنة ، كما يمكن أن يكون فراراً عن دعوى كون الغالب في إخبار الطائفة هو حصول العلم فينزل على الغالب ، بخلاف إخبار الفرد منها فإنّ حمل الاطلاق فيه على صورة حصول العلم حمل على النادر ، كما يظهر ممّا حرّره عنه السيّد في المقدّمة الثالثة (٣).

وكيف كان ، فإنّ ما سلكه في المقالة في الردّ على هذا الانحلال من عدم ثبوت الاطلاق الأحوالي ، وأنّه يحتمل كون وجوب الإنذار الوارد على كلّ فرد من الطائفة مقيّداً بانضمام الباقين إليه لا يخفى ما فيه :

أمّا أوّلاً : فلإمكان القول بأنّ التقييد بالانضمام يقلب العموم من الاستغراقية إلى المجموعية ، وهو خلف لما هو الفرض من الاستغراقية.

وأمّا ثانياً : فلأنّه لا مجال لإنكار هذا الاطلاق الأحوالي ، فإنّ أساس هذا الانحلال هو قوله تعالى : ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ )(٤) ولا ريب في أنّ وجوب التفقّه على كلّ واحد من أفراد الطائفة ليس منوطاً بتفقّه الباقين ، فلا يكون وجوب الإنذار على كلّ واحد منها منوطاً بإنذار الباقين ، بل يكون الإنذار واجباً على كلّ واحد منهم بقول مطلق ، كما في البيّنة فإنّه يجب على كلّ من الشاهدين أداء

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٩٨.

(٢) في الحاشية المتقدّمة صفحة : ٤٣٤ وما بعدها.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ١٩٢.

(٤) التوبة ٩ : ١٢٢.

٤٤٩

الشهادة وإن لم يشهد الآخر ، غايته دلّ الدليل على اعتبار البيّنة وأنّه لو شهد أحدهما دون الآخر لم تقبل شهادته ، بمعنى عدم حكم الحاكم على طبقها ، فإنّ ذلك بالدليل الخاصّ والآية الشريفة خالصة من هذا الدليل وناطقة بوجوب العمل على إنذار المنذر ، ولم يكن فيها تقييد بأنّ وجوب العمل به مشروط بانضمام غيره إليه بعد فرض الانحلال المزبور.

وثالثاً : أنّ مناسبة الحكم والموضوع قاضية بعدم احتمال التقييد المزبور ، لأنّ الميزان في وجوب الإنذار هو إبداء ما عند المنذر المتفقّه من العلم بالأحكام ، ومن الواضح أنّ هذا الوجوب لا يناط بإبداء الآخرين ما عندهم من ذلك العلم ، ولأجل ذلك ، الاحتمال مقطوع العدم لو قلنا بأنّ الآية الشريفة مسوقة لبيان الفتوى وحجّيتها ، فتأمّل.

قوله : والإنصاف أنّ التتبّع في هذه الأخبار يوجب القطع باعتبار الخبر الموثوق به (١).

محصّل ما أفاده قدس‌سره في الدورة الأخيرة في وجه ذلك الانصاف : هو أنّ تلك الروايات الكثيرة متواترة إجمالاً ، فإنّ التواتر إمّا لفظي أو معنوي أو إجمالي. أمّا اللفظي فواضح ، وأمّا المعنوي فهو إمّا عبارة عن النقل بالمعنى أو عبارة عن اشتراك الأخبار الكثيرة في الدلالة الالتزامية على معنى واحد ، كما مثّلوا لذلك بما تواتر من شجاعة أمير المؤمنين ( صلوات الله وسلامه عليه ). والظاهر أنّ الأوّل راجع إلى التواتر اللفظي ، وانحصار التواتر المعنوي بالثاني. وأمّا التواتر الاجمالي فليس هو إلاّعبارة عن اشتراك الأخبار الكثيرة في قدر جامع يقطع بصدوره عنهم عليهم‌السلام. وهذا القسم أرجعه قدس‌سره كما في تحريرات السيّد إلى التواتر المعنوي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٩١.

٤٥٠

لرجوعه إلى اتّفاق الروايات في القدر ، وإلاّ فلا وجه للعلم بصدور البعض مع احتمال عدم الصدور في كلّ واحد.

قال السيّد في تحريراته : ولكنّه لا يخفى أنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت ، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقله ، فهو راجع إلى التواتر المعنوي ، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز كذب كلّ واحد منها في حدّ نفسه ، وعدم ارتباط بعضه ببعض ، فالحقّ هو انحصار التواتر في القسمين الأوّلين لا غير (١).

قلت : أمّا ما أفاده من رجوع الأخبار المتّفقة على قدر جامع إلى التواتر المعنوي فواضح ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ تلك الطوائف متّفقة في قدر جامع وهو حجّية الخبر في الجملة.

وأمّا ما أفاده من عدم إمكان حصول العلم بصدور البعض فيما إذا لم يكن بينها قدر جامع ، ففيه تأمّل ، لشهادة الوجدان بحصول العلم الاجمالي بصدور بعض ما هي من الكثرة بحيث يقطع بعدم كذب الجميع وإن لم ترجع إلى القدر الجامع ، لأنّ الرجوع إلى قدر جامع لا أثر له في حصول القطع بصدور البعض ، وإنّما المنشأ فيه هو الكثرة الموجبة لحصول القطع بصدور البعض ، بحيث إنّها لأجل كثرتها ينسد فيها باب احتمال كذب الجميع ، لا لأجل سبب اتّفاقي مثل أن يتّفق العلم بصدور أحد الخبرين.

والذي ينبغي أن يقال في التواتر الاجمالي هو ما يأتي إن شاء الله تعالى من دعوى العلم الاجمالي بصدور الكثير ممّا بأيدينا من الروايات الموجودة في كتبنا المعروفة ، فإنّها على كثرتها لا يمكن تطرّق الاحتمال إلى أنّ جميعها لم يصدر.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩٧.

٤٥١

كما أنّا لا يمكننا الجزم بأنّ الجميع صادر ، بل أقصى ما في البين هو العلم الاجمالي بصدور الكثير أو الأكثر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما يقتضيه هذا العلم الاجمالي (١).

وكيف كان ، فإنّي قد راجعت القوانين والفصول ومقباس الهداية للمرحوم المامقاني ، فلم أعثر على ذكر التواتر الاجمالي في أقسام التواتر ، فإنّ صاحب القوانين قدس‌سره (٢) قد أكثر من تقسيمات التواتر ولكن لم يذكر منها التواتر الاجمالي ، فما أدري من أين جاء هذا الاصطلاح الذي أشارت إليه الكفاية (٣).

وأمّا هذا الذي ذكرناه من العلم بصدور الكثير فيما بأيدينا من الكتب فهو وإن كان ناشئاً عن الكثرة ، لا أنّه سبب اتّفاقي مثل أن نعلم إجمالاً بصدور أحد هذين الخبرين ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخرج [ عن ] العلم الاجمالي بصدور البعض ، غايته أنّه ناشٍ عن الكثرة المانعة من احتمال كذب الجميع ، وهذا المقدار لا يدخله في أقسام التواتر ، لكن لا مشاحة في الاصطلاح.

وكيف كان ، فإنّ كلّ واحد من هذه الطوائف أو لا أقل من مجموعها يحصل القطع بأنّ بعضها قد صدر عنهم عليهم‌السلام ، فلابدّ من الأخذ بما هو أخصّها مضموناً. وبعد التأمّل في كلّ واحد من تلك الروايات لا نجد ما هو أخصّها مضموناً إلاّما دلّ على اعتبار وثاقة الراوي ، مثل ما ورد في التعارض من قوله عليه‌السلام وكلّهم ثقة (٤) ، ومثل ما ورد في الارجاع كقول الراوي : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه

__________________

(١) في الحاشية الآتية في الصفحة : ٤٩٥ وما بعدها.

(٢) قوانين الأُصول ١ : ٤٢٦ وما بعدها.

(٣) كفاية الأُصول : ٣٠٢.

(٤) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤١.

٤٥٢

معالم ديني (١) ، ومثل الرواية الآمرة بالرجوع إلى العمري وابنه (٢). ولا ريب أنّ وثاقة الراوي إنّما اعتبرت من حيث الطريقية للوثوق بصدور ما رواه عن المعصوم عليه‌السلام ، وبذلك يتمّ ما عليه المتأخّرون من حجّية كلّ خبر يوثق بصدوره ، ولو لأجل انجبار ضعفه بالشهرة الجابرة.

وأمّا رواية الاحتجاج التي ذكرها الشيخ قدس‌سره (٣) فلا تدخل فيما نحن فيه ، لأنّ ظاهرها كونها في مقام التقليد. على أنّ بعض فقراتها صريحة في مجرّد اعتبار عدم العلم بفسق الراوي ، فراجع ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الكلام عليها وتأمّل.

ولا يخفى أنّه بعد هذا البيان الذي أفاده قدس‌سره لا يحتاج إلى ما في الكفاية بقوله : وقضيّته وإن كان حجّية خبر دلّ على حجّيته أخصّها مضموناً ، إلاّ أنّه يتعدّى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية ، وقد دلّ على حجّية ما كان أعمّ ، فافهم (٤) فإنّه على الظاهر تصوير محض ، وإلاّ فإنّا لو بنينا على أنّ في تلك الروايات ما اعتبر الصحيح الأعلائي لسقطت الفائدة ، إذ ليس لنا في جملة تلك الروايات ما هو من قبيل الصحيح الأعلائي وقد دلّ على حجّية ما هو أعمّ ، ولعلّ قوله قدس‌سره : فافهم ، إشارة إلى ذلك ، فتأمّل فإنّ فيه إشكالاً آخر ، وهو أنّ ما هو أخصّ مضموناً إنّما يثبت حجّية خبر الواحد الصحيح الأعلائي فيما يكون مؤدّاه غير الحجّية ، أمّا ما يكون مؤدّاه هو الحجّية نفسها ، فلا يعقل أن يكون ما دلّ على حجّيته شاملاً للأخبار التي يكون مؤدّاها نفس الحجّية ، لأنّ لازم ذلك هو كون

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٧ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٣٣ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٨ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٤ وغيره.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٣٠٢ وما بعدها.

(٤) كفاية الأُصول : ٣٠٢.

٤٥٣

الحكم عين موضوعه وإن كان بنحو أعمّ فتأمّل ، فإنّ هذا نظير ما قدّمناه في الحاشية على ص ٦٢ (١) من أنّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا تشمل الإجماع المنقول عن الشيخ في حجّية خبر الواحد. وبعبارة [ أُخرى ] أنّ دليل حجّية خبر الواحد لا يشمل الخبر الواحد الدالّ على حجّية خبر الواحد.

قوله : بل يكفي عدم الردع عنها ... الخ (٢).

قال السيّد في تحريراته : وأمّا احتمال الاحتياج إلى الامضاء وعدم كفاية عدم الردع فضعيف لا يعبأ به ، إلاّأن يراد من الامضاء مطلق الرضا حتّى المستكشف من عدم الردع ، فيرجع النزاع لفظياً (٣).

قلت : لم أتوفّق لمعرفة الوجه في هذه الكلمات ، فإنّ الأثر لو كان مترتّباً على نفس الردع ، بحيث إنّه يكون بمنزلة النسخ ، لم يكن لنا معنى محصّل لاشتراط اتّصال السيرة بزمن المعصوم ، ولا لاشتراط تمكّنه عليه‌السلام من الردع. وممّا يترتّب على كون الردع بنفسه مؤثّراً وكونه من قبيل النسخ ، أنّه لو كان كذلك لكان استصحاب عدمه كافياً في الأخذ بمقتضى السيرة ، بخلاف ما لو كان الأثر مترتّباً على عدمه بما أنّه كاشف عن الرضا ، الذي ربما عبّرنا عنه بالامضاء السكوتي مع التمكّن من الردع لكان الاستصحاب المذكور مثبتاً ، فإنّ لازم عدم الردع الامضاء والرضا. بل ربما لم يكن ذلك لازماً ، لإمكان استناد عدم الردع إلى عدم التمكّن منه.

والحقّ أنّ السيرة على الحجّية ونحوها محتاجة إلى الامضاء ولو سكوتياً

__________________

(١) التي تقدّمت في الصفحة : ٤٢٤ من هذا المجلّد.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٣.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٢٠١.

٤٥٤

كاشفاً عن عدم الردع مع التمكّن منه ، وإلاّ لم تكن الحجّية شرعية ، ولا يكفي مجردّ كونها حجّة عقلائية ، فتأمّل وراجع ما حرّرناه في حواشي ص ٤٤ وما بعدها (١) وتأمّل.

نعم ، يمكن الركون إلى أصالة عدم الردع عمّا جرت عليه السيرة العقلائية في طريقة خاصّة مأخوذة من بعض مباحث دليل الانسداد ، وذلك بأن يقال : إنّ الشارع المقدّس قد جعل لنا أحكاماً ، ولا يصحّ منه أن لا يجعل لنا طرقاً توصلنا إلى تلك الأحكام ، إذ لا يحسن منه جعل الحكم وإيكالنا في الوصول إلى ذلك الحكم إلى ما يحكم به العقل من الاحتياط الناشئ عن الاحتمال أو عن العلم الاجمالي ، لما حقّق في محلّه من بطلان ذلك.

وحينئذ لابدّ أن يكون الشارع المقدّس قد جعل لنا طرقاً توصلنا إلى أحكامه ، إمّا تأسيساً أو إمضاءً لبعض ما جرت عليه الطريقة العقلائية من الطرق المتعارفة عندهم ، وحيث إنّه لم يقع ذلك التأسيس ولا الامضاء لطريق معيّن من الطرق العقلائية ، يكون ذلك إيكالاً منه لنا إلى جميع ما بأيدي العقلاء من الطرق ، ولو احتملنا أنّه قد ردع عن بعض معيّن من تلك الطرق كما صنع في القياس ، كان ذلك الردع عبارة أُخرى عن احتمال ما يشبه النسخ بالنسبة إلى ذلك الطريق ، فتكون أصالة العدم جارية فيه ولا تكون مثبتة ، لما عرفت من أنّه بعد فرض أنّه لم يؤسّس لنا طريقاً ولم يمض طريقاً معيّناً من تلك الطرق العقلائية يكون عدم ذلك التأسيس وعدم ذلك الامضاء إمضاءً لكلّ ما جرت به الطريقة العقلائية ، فلم يبق إلاّ احتمال أنّه حصل منه الردع بالنسبة إلى هذا الطريق الخاصّ العقلائي من بين

__________________

(١) الحاشية على ص ٤٤ تقدّمت في الصفحة : ٣٦١ ـ ٣٦٢ من هذا المجلّد ، وتأتي بعدها عدّة حواشٍ ، ولعلّ محلّ الشاهد منها ما ذكره قدس‌سره في الصفحة : ٣٧٣ وما بعدها.

٤٥٥

تلك الطرق العقلائية المتكثّرة ، فيكون مورداً لأصالة عدم الردع.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الطريقة في أصالة عدم الردع إنّما تجري بعد فرض إحراز أنّ الشارع لم يؤسّس لنا طريقاً جديداً ، ولم يمض طريقاً خاصّاً من هذه الطرق العقلائية ، كما يقال ذلك في الأُصول العقلائية اللفظية من أنّ الشارع لم يبتكر له طريقة خاصّة في تفهيم مراداته ، فيكون ذلك منه اعتماداً وإيكالاً إلى الأُصول العقلائية اللفظية المرادية ، فلم يبق إلاّاحتمال الردع عن أصل خاصّ من الأُصول العقلائية مثل أصالة الحقيقة ، فيكون مورداً لأصالة عدم الردع.

أمّا إذا كان كلّ من التأسيس وإمضاء بعض الطرق الخاصّة محتملاً ، وشككنا في طريق خاصّ من الطرق العقلائية ، فلا يمكننا الاعتماد على ذلك الطريق الخاص استناداً إلى دخوله تحت السيرة العقلائية ، إلاّبأصالة عدم جعل تأسيسي أو إمضائي لغير ذلك الطريق ممّا يكون وافياً بتلك التكاليف الواقعية ، ومن الواضح أنّ هذا الأصل لا يثبت لنا أنّ ذلك الطريق الخاصّ قد أمضاه الشارع إلاّ على الأصل المثبت ، وإن كانت هذه الجهة لو تمّت بالقطع بأن يحصل لنا القطع بأنّ الشارع لم يؤسّس طريقاً جديداً ولم يمض طريقاً خاصّاً من تلك الطرق العقلائية ، لجرينا على طبق الطريقة العقلائية بالنسبة إلى ذلك الطريق ، إذ لم يبق إلاّ احتمال الردع عنه بالخصوص ، فينفى بأصالة عدم الردع ، ولا يكون الأصل المذكور مثبتاً ، لأنّه يكون من مقولة أصالة عدم النسخ من دون حاجة فيه إلى إثبات الامضاء.

وإن شئت قلت : إنّه من قبيل أصالة عدم المانع ، حيث إنّ المقتضي للامضاء ـ وهو إيكال الشارع إلى الطريقة العقلائية ـ قد تحقّق ، وإنّما وقع الشكّ في المانع من ذلك وهو الردع ، فالأصل عدمه. ولكنّه أيضاً من الأُصول المثبتة كما

٤٥٦

حقّق في محلّه.

وكون الردع من قبيل النسخ ممنوع أشدّ المنع ، لأنّ ذلك إنّما يكون إذا كانت السيرة بنفسها حجّة ، وأنّ الردع يكون رافعاً لحجّيتها كما في الأحكام المنسوخة من الشرائع السابقة أو من شريعتنا ، ومن الواضح أنّ حجّية السيرة ليست من ذلك القبيل ، وأنّ المرجع في الحجّية إنّما هو الشارع ، وأنّها إنّما تكون حجّة بامضائه ، فتكون حجّيتها من المجعولات الشرعية غايته إمضاءً ، وحينئذ فالحقّ هو ما تقدّم ذكره من أنّ السيرة وحدها لا تثبت الحجّية إلاّمع القطع بالامضاء ، أو مع القطع بعدم الردع في مورد الاتّصال والتمكّن من الردع ، فتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ أصالة [ عدم ] الردع إنّما يترتّب عليها الأثر فيما لو كان جريان السيرة على الشيء غير محتاج إلى إمضاء خاصّ من الشارع ، إمّا للبناء على أنّ بناء العقلاء في نفسه حجّة بلا حاجة إلى إمضاء من الشارع ، وإمّا لصدور الامضاء العام من الشارع بالنسبة إلى كلّ ما جرت عليه سيرة العقلاء ، فإنّه حينئذ يكون الردع عن بعض ذلك بمنزلة المخصّص ، نظير ما لو قال أكرم العلماء ثمّ قال لا تكرم النحويين ، فإذا شككنا في النهي عن الصرفيين مثلاً يكون المحكّم أصالة عدم النهي إن لم تكن أصالة عدم التخصيص جارية ، ففي مثل ذلك فيما نحن فيه يكون مورداً لأصالة عدم النهي ـ أعني الردع ـ ويترتّب عليه [ الامضاء ] ، لكن لا محصّل في مثل ذلك للقول بأنّه لابدّ أن تكون السيرة متّصلة بالمعصوم ، وأنّها بمنظر منه ومسمع ، وأنّه متمكّن من الردع عنها ولم يردع.

وهذا بخلاف ما لو كان ما جرت عليه السيرة محتاجاً إلى إمضاء ، فإنّه لا أثر فيه للردع إلاّباعتبار كون تركه في مقام التمكّن يكون إمضاء ، فلو شككنا في تمكّنه من الردع لا محصّل فيه لأصالة عدم الردع ، ومع إحراز ذلك يكون أصالة

٤٥٧

عدم الردع مثبتاً ، هذا فيما لو كان ما جرت عليه السيرة محتاجاً إلى الامضاء من الشارع ، كما لو كان ما جرت به السيرة من مخترعاتهم المحتاجة إلى إمضاء من الشارع.

ومنه يظهر الحال فيما لو لم يكن ما جرت به السيرة من مخترعاتهم ، بل كان جريان سيرتهم عليه كاشفاً عن أنّهم أخذوه من الشارع ، كما عرفت في سيرة المسلمين بما أنّهم مسلمون ، بناءً على كون ذلك كاشفاً عن أنّهم أخذوه من الشارع ، نظير كشف الإجماع عنه ، فلا ريب في عدم الاعتماد في مثل ذلك على أصالة عدم الردع ، إذ لا أثر لعدم الردع في ذلك إلاّباعتبار كون عدم إنكاره عليهم ملازماً لأنّهم أخذوه منه ، فيكون حاله أسوأ من عدم الردع الكاشف عن الامضاء والرضا بما اخترعوه من أنفسهم ، فإنّ القطع بعدم الردع في هذه الصورة مع تمكّنه منه يوجب القطع بالامضاء والرضا بما جروا عليه ، وهذا بخلاف ما يكون من سيرة المسلمين كاشفاً عن أخذه من المعصوم ، فإنّ القطع بعدم ردعهم لا يكون نافعاً في إثبات ذلك الأخذ ، ما لم يكن نفس سيرتهم وحسن الظنّ بهم كاشفاً في حدّ نفسه عن أنّهم أخذوه منه عليه‌السلام.

وعلى أي حال ، لابدّ في سدّ باب الردع في المقامين من القطع بعدمه وأصالة عدم الردع غير مجدية في كلّ منهما.

قوله : ولو سلّم أنّه يمكن تحقّق السيرة بلا أمر منه ، فلا أقل من أنّها تكشف عن رضاه ، وإلاّ كان عليه الردع ... الخ (١).

لا يخفى أنّ سيرة المسلمين بما أنّهم مسلمون لابدّ أن تكون كاشفة عن الأخذ منه عليه‌السلام ، فلا يحتمل الردع عنها ، ولو لم تكن كاشفة عن الأخذ منه عليه‌السلام فلا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٢.

٤٥٨

تكون من قبيل سيرة المسلمين ، بل هي سيرة العقلاء ، غايته أنّها سيرة طائفة خاصّة من العقلاء ، وهذه يحتمل الردع عنها ، وهي تحتاج إلى الامضاء ولو بعدم الردع مع التمكّن منه.

أمّا الأُولى فلا تحتاج إلى إمضاء ، بل هي كاشفة عن الأخذ منه عليه‌السلام ، ولا يجتمع احتمال الردع مع هذا الكشف ، فتأمّل. وحينئذ فلا يكون حال هذه السيرة إلاّ حال الإجماع في كونه كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام في أنّه غير مربوط بالامضاء ، ولا بالردع أو عدم الردع.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في بعض كلماتهم في بعض الفروع الفقهية ، مثل استدلالهم على الحكم بطهارة الصغير في يد آسره المسلم ، وعلى طهارة بعض آلات العصير ونحو ذلك بالسيرة ، يعني سيرة المسلمين ، ويناقشون في تلك السيرة هل هي متّصلة بالمعصوم عليه‌السلام ، وهل كان يتمكّن من الردع ولم يردع ، إلى غير ذلك من الإشكالات التي لا تناسب كون حجّية السيرة من باب الكشف عن رأي المعصوم ، وإنّما تناسب السيرة العقلائية باعتبار توقّفها على الامضاء أو على عدم الردع.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ مدرك حجّية سيرة المسلمين وإن كان هو الكشف عن أخذهم من المعصوم عليه‌السلام ، إلاّ أنّها لو كانت متأخّرة عن زمانه لم تكن كاشفة عن الأخذ منه. وكذلك الحال فيما لو [ كانت ] متّصلة بزمانه لكنّه لم يكن متمكّناً من الردع ، لأنّ تلك السيرة أيضاً لا تكون كاشفة عن رأيه عليه‌السلام ، لجواز كونها مخالفة لرأيه ، لكنّه لم يتمكّن من الانكار عليهم بما حاصله أنّي لم أقل هذا القول ، فمن أين جئتم به ، فلاحظ.

أمّا التفصيل الذي أُفيد في الإجماع فلا يخلو من غموض ، حيث إنّ

٤٥٩

الإجماع العملي في المسألة الفرعية مثل جلسة الاستراحة إن كان من المقلّدين فهو كاشف عن فتوى من يقلّدونه ، وإن كان من المجتهدين فهو كاشف عن رأي إمامهم عليه‌السلام نعم إنّ المواظبة عليها هل يكشف عن وجوبها ، أو أنّ ذلك لا يدلّ إلاّ على استحبابها مثلاً ، وهذا عين الإشكال في إجماعهم على العمل بخبر الواحد في عدم كشفه عن الوجه في حجّيته.

قوله : نعم لا يبعد الحاجة إلى الامضاء في باب المعاملات ، لأنّها من الأُمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها ، ولو كان المعتبر غير الشارع فلابدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الاطلاق. وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع ، كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان بـ « البيمة » ، فإنّها إذا لم تندرج في عموم ( أَحَلَّ اللهُ ) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ونحو ذلك فلا يجوز ترتيب آثار الصحّة عليها (١).

لم أتوفّق لمعرفة الخصوصية في باب المعاملات التي أوجبت الحاجة فيها إلى الامضاء وعدم الاكتفاء بعدم الردع مع التمكّن منه ، المفروض كونه إمضاء لما جرت عليه السيرة.

وما أفاده من تعليل ذلك بأنّها من الأُمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها الخ ، ليس هو من خواص المعاملات ، بل هو جارٍ في كلّ أمر شرعي أردنا إثباته بالسيرة ، فإنّ حجّية قول الثقة ـ مثلاً ـ أيضاً من الأُمور الاعتبارية التي تتوقّف صحّتها على اعتبارها ، بحيث لو كان المعتبر للحجّية هو غير الشارع لكنّا محتاجين إلى إمضاء الشارع لها ، فلو كان عدم الردع مع التمكّن منه كافياً في الامضاء كان كافياً فيها وفي المعاملات ، وإن لم يكن كافياً لم يكن كافياً فيهما.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٩٣.

٤٦٠