أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

خبر العادل فيه حجّة غير محتاج إلى الانضمام. وفيه تأمّل ، لأنّ ذكر العام حينئذ لا يكون بياناً لحكم المورد. وفيه تأمّل ، إذ لم يتّضح الفرق بين كون المحتاج إلى التقييد هو المورد وحده وبين كون الجميع محتاجاً إلى التقييد حتّى المورد ، مثل ما لو ورد أكرم العلماء في مورد السؤال عن الفقيه ثمّ بعد ذلك ورد التقييد بأن قال : أكرم العلماء إن كانوا عدولاً ، أو قال : لا تكرم فسّاق العلماء. هذا كلّه لو كان المورد هو مجرّد الإخبار بالارتداد.

أمّا لو كان المورد هو خبر الواحد بالارتداد ، وأنّه إذا كان المخبر الواحد فاسقاً فلا يقبل ، وإذا كان ذلك المخبر الواحد عادلاً فيقبل ، فلا يكون التقييد بالانضمام إلاّإخراجاً لمورد العام الذي هو خبر الواحد العادل ، فتأمّل. هذا كلّه مضافاً إلى ما عرفت من كون مصبّ العموم منطوقاً ومفهوماً هو الإخبار بالارتداد كما عرفته فيما تقدّم (١) ، فتأمّل.

والذي تلخّص من هذه المباحث : أنّ إشكال خروج المورد لا يندفع بما أفاده شيخنا قدس‌سره ولا بما أفاده الشيخ قدس‌سره ، لكن قد تقدّم (٢) أنّ إشكال خروج المورد لا مجال له لو تمّت الطريقة السابقة التي ذكرناها في الجواب عن إشكال معارضة المفهوم بعموم التعليل ، فراجع.

ولكن الاعتماد عليه لا يخلو عن تأمّل ، فالمتعيّن في جواب الإشكال هو ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا قدس‌سره من رجوع المفهوم إلى حجّية البيّنة لامكان الجواب عنه بأنّ المفهوم إنّما هو حجّية خبر العادل ولزوم الأخذ به وعدم طرحه ، فإن كان مورده الأحكام فلا إشكال ، وإن كان مورده الموضوعات

__________________

(١) في الصفحة : ٤٠٦ وما بعدها.

(٢) في الصفحة : ٤٠٦.

٤٢١

الخارجية كان الحكم بلزوم الأخذ به مقيّداً بانضمام عادل آخر إليه ، والتقييد وإن أوجب إلحاقه بالبيّنة ، إلاّ أنّه في خصوص كون مورده هو الموضوعات دون الأحكام.

قوله : وما ربما يقال من أنّ الآيات الناهية مختصّة بصورة التمكّن من العلم وبما عدا البيّنة ، وبعد تخصيصها بذلك تنقلب النسبة بينها وبين المفهوم إلى العموم من وجه ... الخ (١).

يمكن القول بأنّه لا دليل على خروج صورة عدم التمكّن من العلم عن الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، فإنّ مجرّد عدم التمكّن من تحصيل العلم لا يوجب حجّية الظنّ ، بل يكون المرجع هو ما تقتضيه الأُصول العملية ، كما في موارد فقد النصّ ونحوه. وكذلك لو تمّت مقدّمات الانسداد من عدم إمكان الرجوع إلى الأُصول العملية وعدم إمكان الاحتياط ، ولكن قلنا بالحكومة ، فإنّ ذلك أيضاً لا يوجب القول بحجّية الظنّ. نعم لو قلنا بالكشف لكان ذلك موجباً للقول بحجّية الظنّ والخروج عن عموم الآيات الناهية واختصاصها بما عدا تمامية مقدّمات الانسداد على الكشف ، لكن تمامية تلك المقدّمات عبارة أُخرى عن عدم الدليل على حجّية خبر العادل ، فلا معنى للقول بأنّ الآيات المذكورة في هذه الصورة ـ أعني تمامية المقدّمات على الكشف ـ معارضة لما دلّ على حجّية خبر العادل ، لأنّ فرض الصورة المذكورة عبارة أُخرى عن عدم وجود ما يدلّ على حجّية خبر العادل ، فتأمّل.

مضافاً إلى إمكان القول بأنّ المخرج من عدم حجّية الظنّ لصورة عدم التمكّن من تحصيل العلم لو سلّم فإنّه حكم عقلي ، وقد تحقّق في محلّه أنّ

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٦.

٤٢٢

المخصّص العقلي حكمه حكم المخصّص المتّصل ، فيكون موجباً لانقلاب النسبة.

وأمّا خروج البيّنة عن عموم الآيات فهو غير موجب لانقلاب النسبة بينها وبين ما دلّ على حجّية خبر العادل ، ألا ترى أنّ هذه العمومات بعد تخصيصها بالبيّنة لا تنقلب النسبة بينها وبين ما يدلّ على حجّية الشهرة.

إلاّ أن يقال : إنّ أدلّة حجّية خبر العادل شاملة لما إذا كان وحده ولما إذا انضمّ إليه عادل آخر ، وهذه الصورة ـ أعني صورة الانضمام ـ غير مشمولة للآيات الناهية بعد تخصيصها بالبيّنة ، فتكون النسبة حينئذ بين عموم الآيات وبين أدلّة حجّية خبر العادل عموماً من وجه ، لانفراد عموم الآيات بالشهرة مثلاً ، وانفراد حجّية خبر العادل بصورة الانضمام أعني البيّنة ، واجتماعهما في خبر العادل منفرداً.

لكن ذلك كلّه مبني على شمول أدلّة خبر العادل للبيّنة. وفيه تأمّل ، فإنّ الخارج من عمومات الآيات الناهية

هي صورة اعتبار الانضمام والاجتماع على وجه يكون المجموع حجّة واحدة لا حجّتين ، وهذه الصورة لا تتكفّلها أدلّة حجّية خبر العادل ، فإنّ مقتضاها هو كون صورة الانضمام من قبيل الحجّتين ، بمعنى أنّ كلّ واحد من الخبرين يكون حجّة في نفسه وجد الآخر أو لم يوجد ، وهذا المضمون أخصّ من العمومات المذكورة حتّى بعد إخراج البيّنة منها ، فتأمّل.

والحاصل : أنّ معنى كون خبر العادل حجّة سواء انضمّ إليه عادل آخر أو لا ، هو كون الحجّية قائمة بخبر العادل ، وأنّه لا أثر لانضمام الآخر إليه ولا لعدمه ، فيكون متعرّضاً لحجّية الخبر لا البيّنة التي يعتبر فيها الانضمام. ولا محصّل للقول

٤٢٣

بأنّ مفاد حجّية خبر الواحد هو أنّه حجّة سواء اعتبر فيه الانضمام أو لم يعتبر ، لكونه من قبيل التناقض ، لأنّ ما يعتبر فيه الانضمام لا يكون خبر الواحد حجّة فيه ، فلا يدخل تحت عموم حجّية خبر العادل.

أمّا الفتوى فلا إشكال في أنّ خروجها عن العمومات الناهية لا يوجب انقلاب النسبة بينها وبين أدلّة حجّية خبر العادل.

قوله : ومضافاً إلى معارضته بالإجماع الذي أخبر به الشيخ ... الخ (١).

لنفرض إجماع الشيخ وإجماع السيّد بمنزلة روايتين ، إحداهما رواية الشيخ أنّ خبر العادل حجّة ، والأُخرى رواية السيّد أنّ خبر العادل ليس بحجّة ، فهاتان الروايتان مع قطع النظر عن دليل آخر يدلّ على حجّية خبر العادل من الآية الشريفة ونحوها لا عبرة بهما كي يقال إنّهما متعارضان ، أمّا لو تمّت الأدلّة على حجّية خبر العادل من غيرهما كالآية الشريفة ونحوها ، فينبغي القطع بعدم شمول تلك الأدلّة لكلّ من خبري الشيخ والسيّد. أمّا الشيخ ، فلأنّ معنى حجّيته هو إثبات ما أخبر به ، والمفروض أنّ ما أخبر به الشيخ هو نفس الحجّية ، فتكون حجّية خبر الشيخ مثبتة لنفسها. وأمّا خبر السيّد فلما أُفيد من أنّ اعتباره يلزم [ منه ] عدم اعتباره. مضافاً إلى أنّ إخبار السيّد بعدم حجّية خبر العادل يكون إخباراً بعدم حجّية نفس إخباره بناءً على أنّ القضية شاملة لنفسها ، فيكون من قبيل كلّ خبري فهو كاذب.

ومع قطع النظر عن ذلك كلّه نقول : إنّ هذين الإخبارين من قبيل [ ما ] لو قال لك زيد إنّ جميع ما يخبرك به عمرو فهو صادق ، ثمّ قال لك عمرو إنّ كلّ ما حدّثك به زيد فهو كاذب ، فيلزم من الحكم بصدق قول زيد كذبه ، فلا يمكن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٧.

٤٢٤

الحكم بشمول قول زيد المذكور لذلك القول من عمرو ، إذ لو شمله لزم من الحكم بصدق زيد كذبه ، فيكون حال إخبار الشيخ بالنسبة إلى إخبار السيّد كحال قول زيد بالنسبة إلى قول عمرو ، فتأمّل.

قوله : الأوّل : دعوى انصراف الأدلّة عن الإخبار بالواسطة ، وهذا الوجه ضعيف غايته ، فإنّه لا موجب للانصراف. مع أنّ كلّ واسطة من الوسائط إنّما تخبر عن الخبر السابق عليها ، فكلّ لاحق يخبر عن سابقه بلا واسطة ... الخ (١).

فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال في توجيه دعوى الانصراف هو أنّ ظاهر مفهوم الآية الشريفة هو أنّه إذا جاءكم العادل بنبأ فصدّقوه ، والمفروض أنّ هذه الوسائط لم يتحقّق فيها مجيء العادل بالنبأ لنا.

وفيه : ما لا يخفى ، لأنّ مثل هذا الظرف لم يكن قيداً معتبراً في حجّية خبر العادل ، بل إنّ تمام الموضوع هو نفس إخبار العادل ، وحكمه هو الحجّية أو لزوم التصديق ، وهذا الحكم يتبع واقع الإخبار وإن لم يكن إخباراً لنا ، بل هو إخبار لنا بواسطة إخبار الشيخ الذي جرت في حقّه الحجّية.

قوله : ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني ، وهو دعوى أنّه لا يترتّب على خبر الوسائط أثر شرعي يصحّ التعبّد به ... الخ (٢).

توضيح ذلك : هو أنّ هذه الوسائط وإن كان كلّ واحد منها مخبراً ، وكان لكلّ خبر منها أثر شرعي ، وهو الحجّية أو لزوم التصديق ، إلاّ أنّ مجرّد هذا الأثر الشرعي لا ينفع في تطبيق دليل حجّية الأمارة ما لم يترتّب عليه أثر عملي ، والمفروض أنّ الأثر العملي لا يترتّب على إخبار هذه الوسائط ، وإنّما يترتّب الأثر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٧.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٧ ـ ١٧٨.

٤٢٥

العملي على إخبار من يحكي عن نفس الإمام عليه‌السلام بلا واسطة ، وهو الصفّار في المثال المفروض ، دون من تأخّر عنه في سلسلة السند.

وفيه : أنّه يكفي في صحّة تطبيق دليل الحجّية للأمارة ترتّب الأثر العملي على مؤدّاها وإن كان بألف واسطة ، فيكفي في ترتّب الأثر العملي على حجّية إخبار الشيخ ومن بعده من الوسائط هو كونه مقدّمة إعدادية للعمل الحاصل بإخبار الأخير وهو الصفّار.

والأولى في جواب الإشكال الأوّل وهو دعوى الانصراف هو الالتزام بالانصراف المذكور ، لكنّه إن كان بمعنى أن يكون ما أخبر به المخبر إخباراً عنه بلا واسطة ، فلا ريب في أنّ كلّ واسطة إنّما يخبر باخبار من قبله وهو إخبار له بلا واسطة ، وإن كان بمعنى أنّ إخباره لنا بلا واسطة ، فلا ريب في أنّ إخبار الشيخ إخبار لنا بلا واسطة ، أمّا إخبار المفيد فهو أيضاً إخبار لنا بلا واسطة ، غايته أنّه إخبار لنا بالتعبّد ، نظير ما لو قامت البيّنة بأنّ المفيد أخبرنا.

أمّا الإشكال الثاني ، وهو أنّه لابدّ من أثر يترتّب على المخبر به فنلتزم به أيضاً ، لكن نقول إنّ الأثر لا ينحصر بما يفيده قول الإمام عليه‌السلام من الحرمة أو الوجوب ونحو ذلك من الأحكام الشرعية ، بل الأثر هو الحكم الشرعي المترتّب على المخبر به ، وكلّ مخبر به في هذه الوسائط هو إخبار من قبله ، وهذا ـ أعني إخبار من قبله ـ له أثر شرعي وهو وجوب التصديق ، حتّى الخبر الأخير الذي ينقل قول الإمام عليه‌السلام فإنّ أثره وجوب التصديق ، ووجوب تصديقه هو عبارة عن الحكم بأنّ الإمام عليه‌السلام قال ذلك القول كما لو سمعناه منه عليه‌السلام ، وأثر ذلك هو وجوب الأخذ بمدلوله. والحاصل : أنّ المسألة لا تحتاج إلى أنّ أثر الأثر أثر ولو بألف واسطة ، فلاحظ.

٤٢٦

قوله : الوجه الثالث : دعوى أنّه يلزم اتّحاد الموضوع بالحكم بالنسبة إلى الوسائط ... الخ (١).

توضيح هذا الإشكال وما بعده من الإشكالات يحتاج إلى مقدّمة : وهي أنّه لا ريب في كون كلّ واحد من هذه الإخبارات المتدرّجة موضوعاً للحجّية أو وجوب التصديق ، ولكن ذلك الوجوب أو الحجّية المجعولة لكلّ واحد من تلك الإخبارات هل هو حكم واحد وإن تعدّدت مصاديق موضوعه ، أو أنّ الحكم يتعدّد حسب تعدّد مصاديق موضوعه؟ ولا ريب أنّ الحقّ والتحقيق هو الوجه الثاني ، لكون القضية حقيقية انحلالية ، ولكن لو قلنا بالوجه الأوّل المفروض الفساد ، وأنّه لا يساعد عليه العرف والشرع والعقل ، ينفتح لنا أبواب وجهات من الفساد :

الجهة الأُولى : أن نقول إنّ إجراءنا هذا الحكم ـ وهو صدّق العادل ـ في حقّ المفيد ، وكذا من تقدّمه حتّى زرارة المتّصل بالإمام عليه‌السلام ، يتوقّف على إحراز كونه أعني المفيد مخبراً ، وإحراز كونه مخبراً إنّما يكون بواسطة وجوب تصديق الشيخ ، والمفروض أنّ وجوب التصديق في حقّ الشيخ هو عين وجوب التصديق في حقّ المفيد ، فيكون هذا الحكم أعني وجوب التصديق في حقّ المفيد محرزاً لموضوع نفسه ، ولا ريب في بطلانه ، لأنّ الحكم لا يحرز موضوع نفسه.

الجهة الثانية : أنّه موجب للدور ، لأنّ جريان هذا الحكم في حقّ المفيد يتوقّف على إحراز موضوعه وهو كون المفيد مخبراً ، وذلك ـ أعني كون المفيد مخبراً ـ يتوقّف على جريان هذا الحكم وهو وجوب التصديق في حقّ الشيخ ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٨ [ لا يخفى أنّ المذكور في المصدر هو : يلزم إثبات الموضوع ... وفي الطبعة القديمة : يلزم بلغات الموضوع ، وهو خطأ من الناسخ ].

٤٢٧

والمفروض أنّ وجوب التصديق في حقّ الشيخ هو عين وجوب التصديق في حقّ المفيد ، فيكون الحاصل أنّ إجراء هذا الحكم في حقّ المفيد يتوقّف على نفسه.

لكن سيأتي إن شاء الله تعالى (١) ما يظهر منه عدم تمامية الدور المذكور حتّى لو قلنا بوحدة الحكم ، لأنّ جريان الحكم في حقّ المفيد وإن توقّف على كونه مخبراً ، إلاّ أنّ كونه مخبراً لا يتوقّف على جريان الحكم في حقّ الشيخ. نعم إنّ إحراز كونه مخبراً يتوقّف على ذلك لا كونه مخبراً في الواقع. وعلى كلّ حال ، فهاتان الجهتان راجعتان إلى الإشكال في الواسطة بالنسبة إلى من تأخّر عنه ، فلا تجريان في حقّ الشيخ.

الجهة الثالثة : أن نقول إنّ جريان صدّق العادل في حقّ الشيخ يتوقّف على أن يكون ما أخبرنا به الشيخ ذا أثر ، والمفروض أنّ ما أخبرنا به إنّما هو إخبار المفيد ، وأنّ أثره منحصر بهذا الحكم وهو صدّق العادل المفروض كونها في حقّ المفيد هي عين صدّق العادل في حقّ الشيخ ، فيكون جريان صدّق العادل في حقّ الشيخ متوقّفاً على نفسه.

وبتقريب آخر : أنّ جريان صدّق في حقّ الشيخ عبارة أُخرى عن الحكم بوجوب ترتيب الأثر الشرعي المجعول لما أخبرنا به ، فكان أثر ما أخبرنا به الشيخ موضوعاً للحكم في حقّه ، والمفروض أنّ ما أخبرنا به وهو إخبار المفيد لا أثر له إلاّ نفس هذا الحكم وهو صدّق الذي هو بمعنى رتّب الأثر ، وحيث إنّ صدّق في ناحية المفيد هي عين صدّق في ناحية الشيخ ، ينتهي الأمر بالأخرة إلى أنّ موضوع الحكم في حقّ الشيخ وهو الأثر الشرعي يكون عين الحكم ، فكان الحكم عين

__________________

(١) في الصفحة : ٤٣٢.

٤٢٨

موضوعه.

الجهة الرابعة : أن نقول إنّ جريان صدّق في حقّ الشيخ يكون موجباً لتحقّق كون المفيد مخبراً الذي هو موضوع وجوب تصديق المفيد ، فكان صدّق في حقّ الشيخ حاكماً على صدّق في حقّ المفيد ، لكون الأوّل موجباً لتحقّق موضوع الثاني ، نظير حكومة الأمارة القائمة على موت زيد بالنسبة إلى أدلّة قسمة مواريث الميّت. وإن شئت قلت : إنّه نظير حكومة « الطواف بالبيت صلاة » بالنسبة إلى أدلّة الصلاة.

وبعبارة أوضح : يكون [ صدّق ] في حقّ الشيخ محقّقاً لموضوع صدّق في حقّ المفيد ، فيكون صدّق الشيخ حاكماً على صدّق المفيد ، وحيث إنّهما واحد يكون المتحصّل أنّ الحكم الواحد حاكم على نفسه.

الجهة الخامسة : أنّه لو أخبرنا زيد بموت عمرو وحكمنا بلزوم قسمة ميراث عمرو ، كان دليل الحجّية في إخبار زيد حاكماً على ما دلّ على قسمة ميراث الشخص عند موته ، فإنّ إخبار زيد يكون محقّقاً لموت عمرو تعبّداً ، فيكون حاكماً على ما دلّ على قسمة الميراث بالموت ، أو ما دلّ على بقاء المال على ملكه ما دام في الحياة ، والأوّل حكومة محقّقة لموضوع الحكم ، والثانية رافعة لموضوع الحكم ، والمفروض أنّ ما أخبرنا به الشيخ إنّما هو إخبار المفيد ، والأثر الواقعي اللاحق لإخبار المفيد هو وجوب التصديق ، فيكون صدّق في حقّ الشيخ محقّقاً لموضوع صدّق في حقّ المفيد ، ومع فرض اتّحاد الحكمين يكون الحكم الواحد حاكماً على نفسه ، وجوابه ما عرفت من التعدّد في هذه الأحكام.

وبالجملة : أنّ جميع هذه الإشكالات الخمسة إنّما نشأت من ذلك المبنى الفاسد ، وهو وحدة الحكم وعدم الانحلالية ، أمّا بناءً على ما هو الحقّ والتحقيق

٤٢٩

من تعدّد الحكم حسب تعدّد مصاديق موضوعه ، فلا يتوجّه شيء من الإشكالات المزبورة.

قوله : ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّه بناءً على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجّية ، أمّا بناءً على ما هو المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات ، فلا إشكال حتّى نحتاج إلى التفصّي عنه ... الخ (١).

فيه تأمّل ، فإنّ الظاهر أنّه لا فرق في توجّه هذا الإشكال الذي هو الإشكال الرابع بين كون المجعول هو الحجّية أو كون المجعول هو الأحكام التكليفية ، فإنّ انطباق دليل الحجّية على إخبار الشيخ يتوقّف على ترتّب الأثر على ما أخبرنا به ، والمفروض أنّه لا أثر لما أخبرنا به وهو إخبار المفيد إلاّالحجّية ، فإذا فرضنا أنّ الحجّية المجعولة لإخبار المفيد هي عين الحجّية المجعولة لإخبار الشيخ ، جاء الإشكال الرابع بحذافيره ، وهو كون أثر الحجّية في حقّ إخبار الشيخ مثلاً هو الحجّية نفسها ، أعني حجّية إخبار المفيد ، وهكذا.

وأمّا ما يظهر منه قدس‌سره في آخر الكلام من أنّه يكفي في ترتّب الأثر على حجّية إخبار الشيخ الانتهاء إلى العمل بقول الإمام عليه‌السلام وإن كان ذلك بتلك الوسائط ، ففيه : أنّ ذلك الأثر العملي الذي هو العمل بقول الإمام عليه‌السلام ليس أثراً ابتدائياً لإخبار الشيخ ولا لحجّية إخباره ، وإنّما يكون أثراً له بالواسطة ، حيث إنّ أثر الأثر أثر وحينئذ فلابدّ لنا أوّلاً من أن نصحّح أنّ حجّية إخبار المفيد تكون أثراً لحجّية إخبار الشيخ ، وهكذا إلى أن تتمّ الوسائط وينتهي الأثر إلى العمل بقول الإمام عليه‌السلام ، والمفروض أنّه يستحيل أن تكون حجّية إخبار المفيد أثراً لحجّية إخبار الشيخ ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٨٠ ـ ١٨١.

٤٣٠

فلا محيص حينئذ من الركون إلى ذلك الأمر المحقّق الذي هو تعدّد الأحكام بتعدّد مصاديق موضوعها ، فلا يكون مانع من كون حجّية إخبار المفيد أثراً لحجّية إخبار الشيخ ، لأنّ الثانية غير الأُولى ، هذا.

ولكن بقي في المقام إشكالان آخران لا يندفعان بما ذكرنا من انحلال القضية وتعدّد الأحكام حسب تعدّد مصاديق الموضوع :

الإشكال الأوّل : أن نقول : إنّه قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ جريان الحجّية أو صدّق العادل في حقّ الشيخ يكون موجباً لتحقّق إخبار المفيد ، وبعد تحقّق إخبار المفيد يجري فيه الحجّية ووجوب التصديق. وهذا الحكم في حقّ المفيد وإن كان هو غير الحكم في حقّ الشيخ ، إلاّ أنّه مترتّب عليه وواقع في طوله ، حيث إنّ الحكم إنّما يترتّب على موضوعه ، المفروض ترتّبه وطوليته بالنسبة إلى الحكم في حقّ الشيخ ، والظاهر أنّه لا يمكن الجمع في عبارة واحدة ، فإنّ العناوين الكلّية وإن أمكن أن تكون شاملة للأفراد الطولية ، مثل عنوان السبب والعلّة فإنّه شامل للأسباب والعلل المترتّبة التي يكون الأوّل منها سبباً وعلّة للثاني ، والثاني يكون سبباً وعلّة للثالث وهكذا ، إلاّ أنّ المطلب فيما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فإنّ الحكم وإن تعدّد حسب تعدّد مصاديق موضوعه ، إلاّ أنّ مجموع تلك الأحكام لا تكون منشأة إلاّبانشاء واحد ، ولا يعقل إيجاد الأحكام الطولية التي يكون كلّ واحد منها مولّداً لموضوع ما بعده بانشاء واحد.

وبالجملة : أنّ العنوان الكلّي الذي هو مورد الحكم وإن أمكن أن يكون شاملاً للأفراد الطولية ، إلاّ أنّ الأحكام الطولية لا يعقل انشاؤها بانشاء واحد ، ولذلك قالوا إنّه لا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري بانشاء واحد كما في مثل كلّ شيء لك حلال أو طاهر ، وما نحن فيه من هذا القبيل أعني

٤٣١

من قبيل الطولية بين الحكمين ، لما عرفت من كون صدّق المفيد في طول صدّق الشيخ ، فلا يعقل انشاؤهما بانشاء واحد.

والجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّه مبني على الخلط بين مقام الإثبات ومقام الثبوت ، فإنّ حجّية الإخبار في كلّ واحد من هذه الوسائط تكون في مقام الثبوت تابعة لواقعها ، وليست حجّية المتأخّر معلولة لحجّية المتقدّم ، لأنّ كون المفيد مخبراً في الواقع وفي مقام الثبوت لا يتوقّف على حجّية إخبار الشيخ. نعم إنّ إثبات كون المفيد مخبراً يتوقّف على جريان الحجّية في حقّ الشيخ ، ولا ريب أنّ الحاكم في مقام جعل الحجّية إنّما يجعلها لواقع المخبرين ، لا للإخبار التعبّدي الثابت بحجّية إخبار من تأخّر عنه. ومن ذلك يتّضح لك الجواب عن :

الإشكال الثاني : وهو إشكال الدور ، بأن يقال : إنّ جريان الحجّية في حقّ إخبار المفيد يتوقّف على كونه مخبراً ، وكونه مخبراً يتوقّف على جريان الحجّية في حقّ الشيخ ، وجريان الحجّية في حقّ الشيخ يتوقّف على ترتّب الأثر على ما أخبرنا به وهو إخبار المفيد ، والمفروض أنّ أثر إخبار المفيد هو الحجّية ، فتكون النتيجة أنّ الحجّية في حقّ المفيد متوقّفة على نفسها.

والجواب عن هذا الدور واضح ممّا تقدّم في دفع الإشكال الأوّل ، فإنّ جريان الحجّية في حقّ المفيد وإن توقّف على كونه مخبراً في الواقع ، إلاّ أنّ كونه مخبراً في الواقع لا يتوقّف على جريان الحجّية في حقّ الشيخ. نعم إنّ إحراز كون المفيد مخبراً يتوقّف على الحجّية في حقّ الشيخ ، لكن حجّية إخبار المفيد إنّما تتوقّف على كونه مخبراً في الواقع لا على إحراز كونه مخبراً.

ومن ذلك يتّضح لك الجواب عن إشكال آخر ربما يتوهّم في المقام بأن يقال : إنّ إحراز كون المفيد مخبراً يتوقّف على حجّية إخبار الشيخ ، وحجّية إخبار

٤٣٢

الشيخ يتوقّف على حجّية إخبار المفيد ، فكان إحراز كون المفيد مخبراً يتوقّف على حكمه الذي هو حجّيته ، وقد تقدّم أنّه محال فيما تقدّم من الجهات السابقة.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ ما تقدّم من المحالية إنّما هو كون الحكم محقّقاً لموضوع نفسه ، وأمّا أنّ إحراز الموضوع يتوقّف على حكمه الواقعي فهذا ليس بمحال ، بل إنّ جميع الموارد التي يحرز بها موضوع الحكم ، سواء كان ذلك بأمارة أو أصل إحرازي ، يكون إحراز موضوع ذلك الحكم متوقّفاً فيها على الحكم ، لأنّه إذا لم يكن الموضوع ذا حكم واقعي لا يجري فيه دليل الإحراز فتأمّل.

قوله : الأمر الأوّل : كلمة « لعلّ » مهما تستعمل تدلّ على أنّ ما يتلوها يكون من العلل الغائية ... الخ (١).

لا يخفى أنّ هذا أعني تبعية ما بعد لعلّ الغائية لما قبلها في الحكم إذا كانت اختيارية ، إنّما يتمّ فيما لو كانت من أفعال فاعل ذي الغاية ، مثل قولك اقطع المسافة لعلّك تدخل المسجد ، أمّا إذا لم تكن من أفعاله بل كانت من أفعال غيره مثل قولك عظ زيداً لعلّه يتّعظ ، وقولك أخبره لعلّه يقبل منك ، أو لعلّه يعمل بما تخبره به ، فلا دليل على أنّه تابع في الحكم لما قبلها ، بل هو من قبيل الغاية غير الاختيارية بالنسبة إلى المخاطب بذي الغاية. وحينئذ لابدّ في دعوى دلالة الآية الشريفة على وجوب الحذر الذي هو عبارة عن العمل من سلوك طريق آخر غير هذا الطريق الذي تضمّنته هذه المقدّمة ، وذلك مثل دعوى كون « لعلّ » في المقام دالّة على الوجوب ، أو لا أقل من حسن الحذر الملازم لوجوبه ، ونحو ذلك ممّا يذكرونه للدلالة على وجوب الحذر ، أمّا مجرّد أنّه لو لم يقبل الانذار لغى وجوبه ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٨٥.

٤٣٣

فيمكن المناقشة فيه بما قيل من أنّه لو لم يكن القبول لازماً لم يكن وجوب الانذار لغواً ، إذ لعلّ حكمته كثرة المبلّغين ليحصل العلم للسامعين ، فتأمّل.

قوله : وأنت خبير بأنّه بعد ما عرفت من أنّ المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الإشكال ، فإنّه أيّ إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (١).

الأولى أن يقال : إنّه لا شكّ في ظهور الآية الشريفة في مدخلية الإنذار في وجوب الحذر ، والقيد الذي ينفى بالاطلاق هو ما لا يكون على تقدير اعتباره منافياً لمدخلية الانذار في وجوب الحذر ، كما لو احتملنا التقييد بعدالة المنذر ، أمّا ما يكون على تقدير اعتباره منافياً لتلك المدخلية فهو منفي بنفس ظهور الآية في المدخلية المزبورة ، وذلك مثل دعوى كون وجوب الحذر مقيّداً بحصول العلم ، فإنّ هذا القيد وهو حصول العلم لو كان معتبراً لكان وجوب الحذر ناشئاً عنه لا عن الانذار ، ولكان الانذار أجنبياً عن وجوب الحذر ، بحيث إنّه حينئذ لا يكون له المدخلية في وجوب الحذر ، ويكون ذكره من قبيل ضمّ الحجر في جنب الإنسان خصوصاً بالنظر إلى أنّ خبر الواحد بنفسه لا يفيد [ العلم ] ، وإنّما يفيده بواسطة القرائن الخارجية.

وهذا الجواب هو المتحصّل ممّا حرّرته عنه قدس‌سره وممّا أُفيد في التحريرات المطبوعة في صيدا (٢) ممّا أجاب به أوّلاً عن الإشكال المزبور. والجواب الثاني هو أنّ الحمل على صورة حصول العلم حمل على النادر. وفيه تأمّل ، فإنّ الخبر المفيد للعلم خصوصاً في العصر الأوّل هو الغالب. نعم بالنسبة إلى عصرنا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٨٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٤.

٤٣٤

بواسطة كثرة الوسائط وكثرة الوضّاعين وغير ذلك أوجب عدم حصول العلم بخبر الواحد.

ثمّ لا يخفى أنّ الالتزام بانحلال الطائفة إلى أفرادها إنّما هو من جهة إخراج المسألة عن التواتر المفيد للعلم أو عن البيّنة.

ولكن لا يخفى أنّ اتّفاق الطائفة على الخبر لا يوجب كونه متواتراً ، فإنّ الطائفة قد لا تكون واصلة إلى حدّ التواتر.

فالأولى أن يقال : إنّ المراد به هو إخراجه عن حدّ البيّنة ، وإن كان الذي يظهر ممّا حرّره عنه السيّد في المقدّمة الثالثة هو الفرار عن كون المنذر هو مجموع الطائفة ، لأنّ الحمل حينئذ على صورة إفادة العلم لا يكون حملاً على الفرد النادر ، بخلاف ما لو حملناه على كون المنذر هو الآحاد فإنّه يوجب الحمل على الفرد النادر ، فقد قال : الثالثة أنّ صدر الآية وهو قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ )(١) وإن كان لا يأبى عن حمله على العموم المجموعي ، إلاّ أنّ قوله تعالى : ( لِيَتَفَقَّهُوا ) إلى آخره ، ظاهر في العموم الاستغراقي ، وأنّ الإنذار إنّما يكون بتفقّه كلّ واحد منهم الراجع إلى قومه الذي لا يحصل العلم من قوله غالباً (٢).

وأمّا ما استشهد به الشيخ قدس‌سره (٣) لاعتبار قيد العلم ، من استشهاد الإمام عليه‌السلام بالآية الشريفة لوجوب النفر على من كان في البلدان البعيدة عند وفاة الإمام ، ليطّلعوا على من نصّ عليه بعده ، ففيه أوّلاً : ما أشار إليه الشيخ نفسه في آخر كلامه (٤)

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٢.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨٢.

(٤) لاحظ فرائد الأُصول ١ : ٢٨٦.

٤٣٥

من أنّها أخبار آحاد ، فلا تصلح لصرف الآية عن ظاهرها. وثانياً : أنّها لا تعرض في الاستشهاد إلاّلوجوب النفر ، أمّا ما يكون الحكم بالنسبة إلى الباقين فلا تعرض له في الروايات المذكورة ، فتأمّل.

قوله : لأنّ قول المنذر إذا جعل طريقاً إليها ومحرزاً لها فيجب اتّباع قوله والبناء على أنّه هو الواقع ... الخ (١).

لا يخفى أنّ كون الإنذار محرزاً للواقع إنّما هو آتٍ من ناحية وجوب العمل الذي قد عبّر عنه بوجوب الحذر ، فإذا فرضنا الشكّ في وجوب العمل من جهة الشكّ في كون ذلك الإنذار إنذاراً بالحكم الواقعي ، فكيف يمكننا إحراز كونه إنذاراً بالواقع بالحجّية الموقوفة على وجوب العمل.

وبالجملة : أنّ منشأ الإشكال هو كون الإنذار مقيّداً بكونه إنذاراً بالدين الذي مثلاً هو الوجوب الواقعي ، فإذا أخبرنا المنذر بأنّ الحكم هو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وقال لنا الشارع إنّه يجب عليكم التحذّر والعمل عند الإنذار بالوجوب الواقعي ، لقلنا إنّه لا يلزمنا العمل بهذا الإنذار للشكّ في كونه إنذاراً بالوجوب الواقعي. فمحصّل الإشكال : أنّ التمسّك باطلاق وجوب العمل يكون تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية ، كما قرّره في التحريرات المطبوعة في صيدا (٢).

ومن هذا التقرير يظهر أنّه لا يمكن الجواب عنه بما أُفيد في التحريرات المذكورة من قوله : وجوابه أنّ إحراز كون الإنذار بما تفقّه في الدين أي بنفس الأحكام الشرعية ، إنّما يثبت بنفس وجوب التحذّر الدالّ على الحجّية ، لا مع قطع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٨٨.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٥.

٤٣٦

النظر عنه الخ (١).

لما عرفت من أنّ الإشكال إنّما هو في انطباق وجوب التحذّر على المورد للشكّ في كونه إنذاراً بالحكم الواقعي ، وليس المقام من قبيل ما أشار إليه بقوله : وهذه المغالطة إنّما نشأت من أخذ عقد الحمل في عقد الوضع الخ (٢) إذ ليس منشأ الإشكال هو أخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، بل إنّما عمدة الإشكال هو كون الإنذار الذي يجب العمل عنده هو الإنذار والإخبار بالواقع ، والمفروض أنّ هذه الجهة المأخوذة قيداً في الموضوع ـ أعني كونه إنذاراً بالواقع ـ مشكوكة ، وليس لهذا القيد ـ أعني كونه إنذاراً بالحكم الواقعي ـ تعلّق بالمحمول الذي هو وجوب العمل ، كي يقال إنّه من قبيل أخذ المحمول قيداً في الموضوع.

بل يمكن أن يقال : إنّ ما ذكر في الصحيح والأعمّ من الإشكال ليس مبنياً على أخذ المحمول في الموضوع ، بل على الخلط بين المصداق والمفهوم ، فإنّ الأعمّي إنّما يقول بالوضع للجامع بين الواجد للجزء أو الشرط الفلاني والفاقد ، لا أنّه موضوع للقدر الجامع بين الصحيح والفاسد الذي هو المأمور به وغير المأمور به ، وحينئذ يكون مورد الشكّ مصداقاً لذلك القدر الجامع ، وبعد جريان الاطلاق فيه تثبت صحّته وأنّه مأمور به ، لا أنّ الأمر أو الامضاء متعلّق بالصحيح أو بالمأمور به.

فالأولى في الجواب هو دعوى تجريد الموضوع من القيد المذكور ، فإنّ حاصل القضية هو أنّه عند إنذار المنذر بالحكم الواقعي يجب العمل بذلك الإنذار وحينئذ فإن صرفنا وجوب العمل إلى نفس الواقع الذي أنذرنا به المنذر على أن يكون الإنذار مأخوذاً من قبيل الطريقية الصرفة بالنسبة إلى وجوب العمل ، لتأتّى

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٥.

٤٣٧

الإشكال بكونه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

مضافاً إلى أنّ هذا الوجوب ـ أعني وجوب العمل ـ لو كان تمام موضوعه هو الواقع لكان إرشادياً محضاً نظير وجوب الاطاعة ، بل هو هو بعينه ، فتخرج الآية حينئذ عن ظاهرها من كون الأمر المستفاد من كلمة لعلّ مولوياً كما لا يخفى.

وكذلك الحال لو أخذناه جزء الموضوع ، بأن كان الحكم وهو وجوب العمل مترتّباً على الواقع الذي أنذرنا به المنذر ، فإنّه أيضاً يكون من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية ، ويكون إلقاء مثل هذا العموم لغواً ، ويكون الحكم منحصراً بصورة العلم بالحكم الواقعي ، وحينئذ يكون ذكر الإنذار من قبيل ضمّ الحجر في جنب الإنسان ، سواء أخذناه طريقاً صرفاً وأنّ الحكم وهو وجوب العمل مترتّب على الواقع ، أو أخذناه جزء الموضوع وأنّ الحكم وهو وجوب العمل مترتّب على الواقع المقيّد بالإنذار ، وحينئذ فالمتعيّن هو أخذ الإنذار بالنسبة إلى هذا ـ وهو وجوب العمل ـ تمام الموضوع ، فلا يكون التمسّك باطلاق وجوب العمل حينئذ عند الشكّ المذكور تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ كون المخبر به هو الواقع إنّما هو بالقياس إلى نظر المخبر لا بالقياس إلى نظر المنقول له ، فإنّك لو قلت لزيد : إن حدّثك عمرو عن الواقع فصدّقه ، يكون محصّله هو كون إخباره عن الواقع في نظره شرطاً في وجوب تصديقه ، وأين هذا من لزوم إحراز كونه عن الواقع بالنسبة إلى المنقول إليه.

تنبيه : أنّ أساس ما ذكر في تقريب دلالة الآية الشريفة على حجّية خبر الواحد ، هو كون الحذر بمعنى العمل على ما أنذر به المنذر على أنّه هو الواقع. ويمكن المناقشة في ذلك بأخذ الحذر على معناه الأصلي ، وهو التحذّر والتحرّز

٤٣٨

عن الوقوع في خلاف الواقع وهو الاحتياط ، فينطبق على الاحتياط ، فلو قلنا بدلالة الآية على وجوبه عند الإنذار لم يكن فيها أزيد من وجوب الاحتياط عند الإنذار ، وأين هذا من الحجّية.

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّه لا معنى للحذر الاحتياطي ، لحكم العقل بقبح العقاب بدون بيان ، فلابدّ من صرفه إلى الحذر الحجّتي ، كما ربما يستفاد ذلك ممّا حرّرته عن درس الأُستاذ العراقي قدس‌سره فإنّه قال في تقريبات دلالة الآية ما هذا لفظه (١) : الثالث : أنّه رتّب الحذر على الانذار فلابدّ أن يكون الانذار حجّة ، إذ مع عدم الحجّية لا معنى للحذر ، لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان الخ ، فإنّه ربما يستفاد منه أنّه مع فرض عدم حجّية الإنذار يكون الاحتياط ساقطاً ، لحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ العقل وإن حكم بقبح العقاب بلا بيان عند عدم الحجّة ، إلاّ أنّ الشارع إذا حكم بوجوب التحذّر والاحتياط في خصوص مورد الانذار ، كان ذلك وارداً على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ لا تكون الآية الشريفة دالّة على حجّية الانذار ، بل أقصى ما فيها هو الدلالة على وجوب الاحتياط عنده.

ولم أجد من تعرّض للإشكال بذلك على الاستدلال بهذه الآية الشريفة لحجّية خبر الواحد ، لكن راجعت التبيان فوجدت الشيخ قدس‌سره يومئ إليه أو يصرّح به ، فالأولى نقل عبارته قدس‌سره برمّتها ليتّضح مراده للقارئ.

قال قدس‌سره : واستدلّ جماعة بهذه الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ، بأن قالوا : حثّ الله تعالى الطائفة على النفور والتفقّه حتّى إذا رجعوا إلى غيرهم

__________________

(١) حسبما حرّرته عنه في درس ليلة الأحد ٢٥ ذي القعدة سنة ١٣٣٩ [ منه قدس‌سره ].

٤٣٩

لينذروهم ليحذروا ، فلولا أنّه يجب عليهم القبول منهم لما وجب عليهم الإنذار والتخويف ، والطائفة تقع على جماعة لا يقع بخبرهم العلم ، بل تقع على واحد ، لأنّ المفسّرين قالوا في قوله تعالى : ( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )(١) : إنّه يكفي أن يحضر واحد.

وهذا الذي ذكره ليس بصحيح ، لأنّ الذي يقتضيه ظاهر الآية وجوب النفور على الطائفة من كلّ فرقة ، ووجوب التفقّه والإنذار إذا رجعوا. ويحتمل أن يكون المراد بالطائفة الجماعة التي يوجب خبرهم العلم (٢).

ولو سلّمنا أنّه يتناول الواحد أو جماعة قليلة ، فلِمَ إذا وجب عليهم الإنذار وجب على من يسمع القبول ، والله تعالى إنّما أوجب على المنذرين الحذر ، والحذر ليس من القبول في شيء ، بل الحذر يقتضي وجوب البحث عن ذلك حتّى يعرف صحّته من فساده بالرجوع إلى الأدلّة ، ألا ترى أنّ المنذر إذا ورد على المكلّف وخوفه من ترك النظر ، فإنّه يجب عليه النظر ولا يجب عليه القبول منه قبل أن يعلم صحّته من فساده ، وكذلك إذا ادّعى مدّعٍ النبوّة وأنّ معه شرعاً وجب عليه أن ينظر في معجزه ، ولا يجب عليه القبول منه وتصديقه قبل أن يعلم صحّة نبوّته ، فكذلك لا يمتنع أن يجب على الطائفة الإنذار ويجب على المنذرين

__________________

(١) النور ٢٤ : ٢.

(٢) قلت : وكأنّ شيخنا المرتضى قدس‌سره [ في فرائد الأُصول ١ : ٢٨٢ ] أخذ إشكاله الأوّل من هذه الجملة وحاصله : أنّ الآية مسوقة لوجوب التفقّه والإنذار ، وليست مسوقة لوجوب التحذّر والعمل بما ينذر به المنذر ، فلا يكون إطلاقه في الآية مسوقاً في مقام البيان من هذه الجهة ، أعني جهة وجوب التحذّر والعمل ، كي ينتفي بذلك الاطلاق احتمال مدخلية العلم في وجوب العمل [ منه قدس‌سره ].

٤٤٠