أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

وثالثاً : أنّا لو سلّمنا كونها بمعنى عدم العلم لقلنا إنّ المفهوم مقدّم على عموم التعليل لكونه حاكماً عليه ، فراجع ما حرّرته عنه قدس‌سره (١) وما حرّره عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا (٢).

والذي يتلخّص : أنّ الجهالة لها معانٍ ثلاثة : الأوّل كونها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل. الثاني : كونها بمعنى الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه. الثالث : كونها بمعنى عدم العلم. وقد فرّق بين الأوّل والثاني ، فقال فيما حرّرته عنه ما ملخّصه : أنّه إذا كان المراد الجهالة بمعنى عدم العلم يكون التعليل بأمر تعبّدي ، وهو أعمّ من المفهوم ، أمّا إذا كانت بالمعنى الأوّل أو الثاني ، فيكون التعليل بأمر عقلائي ، غير أنّه على الأوّل يكون من الأُمور الواضحة التي لا تصدر من العقلاء ، فلا تناسب إقدام الصحابة ، بخلافه على الثاني فإنّه ليس من الوضوح بحيث يعدّ مخالفه سفيهاً ، بل يحتاج إلى إعمال نظر في الجملة ، ولكنّه مع ذلك لا يخرج عن كونه تعليلاً بأمر عقلائي ، وهو عدم الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، الخ.

قلت : لم أعثر فيما حضرني من كتب اللغة والتفسير على كون السفاهة أو فعل ما لا ينبغي من معاني الجهل أو الجهالة ، نعم قال في المصباح : وجهل على غيره : سفه وأخطأ (٣). وقال في أقرب الموارد : وجهل عليه : تسافه ، كذا في الأساس (٤)

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٣) المصباح المنير ١ ـ ٢ : ١١٣ ( جَهِلْتُ ).

(٤) أقرب الموارد ١ : ١٤٦ ( جَهِلَهُ ) ، أساس البلاغة : ٦٧ ( ج هـ ل ).

٤٠١

ولا يخفى أنّ هذا المعنى أعني كون الجهل بمعنى السفه كما في المصباح أو التسافه كما نقله الأقرب عن الأساس ، لا ينطبق على ما نحن فيه ، لأنّ ذلك في الجهل المتعدّي بلفظ على. مضافاً إلى أنّ صاحب القاموس لم يفسّره بالسفه ولا بالتسافه ، بل فسّره بالتجاهل ، فقال : وعليه أظهر الجهل كتجاهل (١).

نعم ، نقل في التاج عن الراغب أنّ الجهل على ثلاثة أقسام ، الأوّل : هو خلوّ النفس من العلم ، وهذا هو الأصل. الثاني : اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه.

الثالث : فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أم فاسداً كتارك الصلاة عمداً ، وعلى ذلك قوله تعالى : ( أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ )(٢) فجعل فعل الهزؤ جهلاً. وقوله تعالى : ( فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ )(٣) انتهى (٤).

ولعلّ هذا هو المنشأ في تفسير الجهالة في الكفاية (٥) بالسفاهة ، أو تفسير شيخنا (٦) بما لا ينبغي الركون إليه.

وكيف كان ، فلو سلّمنا أنّ الجهل أو الجهالة يأتي بمعنى السفه أو فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل ، أو الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه ، فلا ينبغي لنا أن نطبّقه على المورد ، لأنّ المقدم في المسألة هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يذكره المفسّرون

__________________

(١) القاموس المحيط ٣ : ٣٥٣ ( جَهِلَهُ ).

(٢) البقرة ٢ : ٦٧.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٤) تاج العروس ٧ : ٢٦٨ ( جَهِلَ ) ، مفردات ألفاظ القرآن : ١٠٢ ( جهل ).

(٥) كفاية الأُصول : ٢٩٧.

(٦) فوائد الأُصول ٣ : ١٧١.

٤٠٢

ـ وإن كنت غير واثق بذلك ـ فراجع التفاسير المتضمّنة لشرح القصّة من غضبه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما رواه في الكشّاف لمّا حضروا عنده وكذّبوا الوليد قال لهم : لتنتهنّ أو لأرسل إليكم رجلاً هو عندي كنفسي يقاتل مقاتلتكم ويسبي ذراريكم وضرب بيده على كتف علي عليه‌السلام وفي رواية أُخرى : أنّه أرسل إليهم خالد بن الوليد (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ ذلك كلّه ليس من الاقدام على الإيقاع بهم ، بل هو من قبيل التفحّص عن حالهم. لكن ذلك لا يتأتّى في الرواية الأُخرى التي رواها في مجمع البيان (٢) في شأن النزول ، وهي قصّة مارية وإرساله صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام ليقتل ابن عمّها ، فراجع.

ونحن قد جرينا في هذا المقام تبعاً لما ذكره المفسّرون ، وإلاّ فإنّ مقام النبوّة أعلى وأجلّ من هذه الكلمات ، حتّى لفظ عدم العلم ، لكن لعلّ في الواقع حِكَماً ومصالح لم نعلم بها كسائر الحِكَم في أقواله وأفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله الجارية على العادة البشرية.

ومع ذلك أقول كما أشرت إليه : من أنّي غير واثق بصدور شيء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجري على ما أخبر به الوليد ، إذ ليس في الآية الشريفة ما يدلّ على ذلك ، وليس فيها إلاّ التبكيت على الصحابة ، فإنّ الجملة مذيّلة بقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) الخ (٣)

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٥٥٩ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) مجمع البيان ٩ : ٢٢٠.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٧.

٤٠٣

قال في الكشّاف : الجملة المصدّرة بلو لا تكون كلاماً مستأنفاً ، لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متّصلاً بما قبله حالاً من أحد الضميرين في ( فِيكُمْ ) المستتر المرفوع أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أنّ فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها ، أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهي أنّكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره التابع له فيما يرتئيه ، المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك لعنتم أي لوقعتم في العنت والهلاك ـ إلى أن قال ـ وهذا يدلّ على أنّ بعض المؤمنين زيّنوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وأنّ نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأنّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله تعالى : ( وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) أي إلى بعضكم ، ولكنّه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن لها إلاّالخواص. وعن بعض المفسّرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى : وقوله : ( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي أُولئك المستثنون هم الراشدون يصدّق ما قلتُه (١) وقوله « يصدّق ما قلتُه » خبر عن لفظ « قوله » في « وقوله : أُولئك الخ » فراجع كلماته إلى آخرها.

وبنحو ذلك صرّح في تفسير أبي السعود المطبوع على هامش تفسير الرازي ، فإنّه ذكر عين مطلب صاحب الكشّاف ـ إلى أن قال ـ وفيه إيذان بأنّ

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٥٦٠ ـ ٥٦١ [ في معظم نسخ الكشّاف التي راجعناها : « بصدق ماقلته » لكن في بعض النسخ : « يصدق ما قلته » وهو الصحيح ، فراجع الكشّاف ( ط مطبعة الاستقامة بالقاهرة ) ٤ : ٣٦١ ].

٤٠٤

بعضهم زيّنوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد ، وأنّه عليه الصلاة والسلام لم يطع رأيهم ـ إلى أن قال ـ وقوله تعالى : ( وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) الخ تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك ، بياناً لبراءتهم من أوصاف الأوّلين وإحماداً لأفعالهم (١) ، فراجعه. أمّا الرازي فقد نقل كلام الزمخشري بالمعنى واستحسنه وشرحه وأوضحه ، وزاد عليه توجيهاً آخر لقوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ ) فراجعه (٢).

وحيث إنّ هذه الصفة المذمومة في بعضهم كانت من أظهر صفات عمر بن الخطّاب ، لما شاع عنه من كثرة الاعتراض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقامت المحشّي أحمد الأشعري وأقعدته ، ورمى الزمخشري بالتعريض بالصحابة وبسوء رأيه فيهم فراجع الحاشية المذكورة على هامش الكتاب (٣).

أمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من أنّ حمل الجهالة على عدم العلم يوجب كون التعليل بأمر تعبّدي ، فقابل للتأمّل ، لأنّ العمل على غير العلم مذموم للعقلاء ، غايته أنّ لهم طرقاً يجرونها مجرى العلم. أمّا طريقة الحكومة التي أفادها قدس‌سره ثالثاً فقابلة للتأمّل ، حيث إنّه بعد البناء على أنّ المراد بالجهالة هو عدم العلم لصحّ الجواب بالتخصيص ، وقد منعه قدس‌سره.

وبالجملة : أنّ المفهوم ناشٍ عن دلالة القضية الشرطية على الحصر ، فهو في طول الدلالة على الحصر ، وعموم العلّة يمنع من ذلك الحصر والاختصاص ، لدلالته على وجود علّة أُخرى توجب التوقّف والتثبّت وعدم القبول ، وهي فيما لو

__________________

(١) تفسير أبي السعود ( المطبوع مستقلاً ) ٨ : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) راجع التفسير الكبير ٢٨ : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٣) الكشّاف ٣ : ٥٦٠ ـ ٥٦١.

٤٠٥

كان المخبر به من قبيل الارتداد الذي يكون أثره لزوم القتل والنهب ونحو ذلك ممّا لا يجوز الاقدام عليه مع عدم العلم فيكون ذلك موجباً لسقوط المفهوم ، وتكون الحكومة بالعكس.

نعم ، لو دلّت الآية ابتداءً على حجّية خبر العادل بلا توسّط الحصر ، لكان ما تفيده ابتداءً من حجّية خبر العادل مخصّصاً لعموم العلّة أو حاكماً عليه. لكنّك قد عرفت أنّ دلالتها على ذلك إنّما هو بطريق المفهوم ، الذي هو في طول دلالتها على الحصر ، وعموم التعليل مانع من ذلك الحصر ، فيكون رافعاً لموضوع المفهوم ، فتأمّل.

ويمكن أن يقال : إنّ عموم التعليل وإن أوجب رفع اليد عن ظهور الشرطية في انحصار العلّة بخبر الفاسق ، إلاّ أنّ أقصى ما فيه أن يكون ذلك ـ أعني كون المخبر به من قبيل الارتداد ـ علّة أُخرى لوجوب التثبّت مع بقاء الشرطية على الانحصار فيما عدا ذلك ، ويكون ضمّ التعليل إلى الشرطية من قبيل اجتماع الشرطين على الجزاء الواحد ، ويكون حاصل القضية هو أنّ النبأ إن جاء به الفاسق أو كان المخبر به من قبيل الارتداد وجب التبيّن ، على أن يكون الشرط في التثبّت هو أحدهما على نحو الانحصار ، وعند انتفاء الفسق وانتفاء كون المخبر به من قبيل الارتداد تبقى القضية الشرطية بحالها من الدلالة على الانحصار ، فتكون قاضية بالمفهوم ، وذلك من موجبات العمل وعدم التثبّت ، وهذه الطريقة لو تمّت لا تبقي مجالاً للإشكال بخروج المورد الذي هو الإخبار بالموضوعات أو بخصوص الارتداد ، فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّ في العلّة المذكورة في الآية الشريفة إشكالاً آخر ، وهو أنّ الظاهر من النبأ ليس هو مطلق النبأ ، بل المراد به نبأ خاصّ ، وهو ما يكون أثره الغارة والأسر

٤٠٦

والقتل والنهب ، وكأنّه لأجل ذلك فسّره في المجمع وكذا في التبيان بقولهما : أي بخبر عظيم الشأن (١). وتوضيحه يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ تعليل الحكم بعلّة كما يوجب تعميمه إذا كانت العلّة عامّة ، فكذلك يوجب تخصيصه لو كانت العلّة خاصّة ، فلو قال : لا تأكل الرمّان لأنّه حامض ، فكما أنّا نسري هذا الحكم إلى مطلق الحامض ولو كان من غير الرمّان ، فكذلك نحكم باختصاص ذلك الحكم بخصوص ما كان من الرمّان حامضاً ، بحيث إنّه لا يشمل الرمّان الحلو.

وحينئذ نقول : لو قال القائل : إن حدّثك الفاسق فلا تقبل حديثه وتفحّص عن الواقع مخافة أن تخرج إلى خارج البلد ولا تجد شيئاً ممّا حدّثك به ، فعلى الظاهر أنّه لا ينبغي الريب في أنّ هذا الحكم ـ وهو عدم قبول الحديث المذكور ـ يكون مختصّاً بما إذا كان الحديث متعلّقاً بشيء خارج البلد ، لما ذكرناه من أنّ خصوصية علّة الحكم توجب خصوصية المعلول الذي هو الحكم.

إذا عرفت [ ذلك ] فاعلم أنّ المفسّرين أعربوا قوله تعالى : ( بِجَهالَةٍ ) أنّه في موضع نصب على الحالية ، كما في الجلالين (٢) والكشّاف (٣) ومجمع البيان (٤) ، وفسّروا الجهالة بعدم العلم ، وحينئذ فلا يكون قوله تعالى : ( بِجَهالَةٍ ) متعلّقاً بقوله تعالى : ( تُصِيبُوا ) بل يكون ظرفاً مستقرّاً في موضع الحال ، ويكون المتعلّق لقوله تعالى : ( تُصِيبُوا ) هو الأنفس والأموال كما في المجمع ، فإنّه فسّر قوله تعالى : ( تُصِيبُوا ) بقوله رحمه‌الله : أي حذراً من أن تصيبوا قوماً في أنفسهم وأموالهم

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٢٠ ، التبيان ٩ : ٣٤٣.

(٢) تفسير الجلالين : ٦٨٣.

(٣) الكشّاف ٣ : ٥٦٠.

(٤) مجمع البيان ٩ : ٢٢٠ ، ٢٢١.

٤٠٧

بغير علم بحالهم ، وما هم عليه من الطاعة والإسلام (١).

وبناءً عليه تكون هذه الإصابة من قبيل قوله :

أظلوم إنّ مصابكم رجلاً

أبدى السلام تحيّةً ظلم

في كونها من قبيل الاصابة بالنفس بالقتل ونحوه ، ويكون حاصل الآية الشريفة هو أنّه إذا جاءكم فاسق بنبأ عظيم يتعلّق بما يوجب الاصابة بالقتل والنهب ، فلا تأخذوا بخبره وتثبّتوا وتفحّصوا عن الواقع ، مخافة أن تصيبوا قوماً بالقتل والنهب. ولا ريب في عدم حجّية خبر العادل في مثل ذلك ، ولا يكون ذكر الفاسق حينئذ في الآية الشريفة إلاّلمحض التنبيه على المورد ، وهو أنّ ذلك المخبر فاسق ، وبناءً عليه لا يكون التعميم إلى خبر العادل في خصوص هذا النبأ المتعلّق بالقتل والارتداد محتاجاً إلى عموم العلّة ، كي يتكلّم في أنّه حاكم على المفهوم ، أو أنّ المفهوم حاكم عليه ، بل إنّ خصوص العلّة ـ وهي خوف الوقوع في قتل من لا يستحقّ القتل ـ يكون موجباً لاختصاص النبأ بما يكون أثره القتل والنهب ، ويكون هذا الاختصاص هو الموجب لتعميم الحكم لخبر العادل ، ويكون الحكم في المنطوق مختصّاً بذلك النبأ الذي لا يفرّق فيه بين الفاسق والعادل ، ولا يكون ذكر الفاسق إلاّلنكتة إظهار فسق ذلك المخبر الخاص.

ولو سلّمنا دلالة الآية في حدّ نفسها على المفهوم ليكون حاصل الآية منطوقاً ومفهوماً هو أنّه [ إن ] أخبركم الفاسق بارتداد طائفة من الناس فلا تقبلوا خبره ، وإن أخبركم العادل بذلك فاقبلوا خبره ، لكان اللازم علينا رفع اليد عن ظهورها في ذلك المفهوم ، لا لعموم العلّة أعني عدم العلم ، بل لأجل الإجماع القطعي على عدم قبول خبر العادل في الارتداد ولو قلنا بحجّيته في الموضوعات

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢٢١.

٤٠٨

الخارجية ، فتأمّل.

وهذا الإشكال ليس براجع إلى إشكال خروج مورد الآية عن العموم ، بل هو راجع إلى دعوى كون المنطوق مختصّاً بالخبر عن الارتداد ، فلا يكون مفهومه إلاّ قبول خبر العادل في الارتداد وهو مخالف للإجماع ، فلابدّ من إسقاطه. ولو أغضينا النظر عن الإجماع المذكور لم يكن المفهوم المذكور دالاً على ما هو المطلوب من حجّية خبر العادل بقول مطلق ، بل أقصاه أن يدلّ على حجّيته في خصوص الخبر عن ارتداد.

ومن ذلك يظهر لك أنّا لو التزمنا بما أفاده الشيخ قدس‌سره (١) من التقييد بانضمام عادل آخر ، بناءً على إمكان تقييد المفهوم مع بقاء إطلاق المنطوق ، ليكون من قبيل إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجس بملاقاة النجاسة سواء كان وارداً أو موروداً ، ومفهومه إذا كان الماء قليلاً ينجس بالملاقاة ، فإنّه مقيّد بما إذا كان موروداً ، فإنّ ذلك لو سلّمناه لم يكن نافعاً في حجّية خبر العادل وحده بالارتداد ، فضلاً عن غيره من الموارد ، إذ لا يكون مفاد المفهوم حينئذ إلاّحجّية خبر العادل في خصوص الارتداد إذا انضمّ إليه عادل آخر وهو غير المطلوب ، فتأمّل.

قوله : ومن الإشكالات التي تختصّ بآية النبأ أيضاً هو أنّه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ... الخ (٢).

هذا الإشكال مبني على عموم النبأ في قوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ )(٣) لكلّ نبأ ، سواء كان في الارتداد كما هو مورد الآية أو غيره من

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٢٧١.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٣.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٦.

٤٠٩

الموضوعات أو الأحكام ، وحينئذ يتّجه الإشكال بخروج المورد الذي هو الارتداد ، وإن قلنا بحجّية خبر العادل في الموضوعات. أمّا بناءً على ما تقدّم (١) من كون النبأ المذكور في الآية الشريفة مختصّاً بخصوص النبأ بالارتداد ، فلا يكون الإشكال من قبيل الإشكال بخروج المورد ، بل يكون المفهوم بنفسه ساقطاً لكونه بنفسه مخالفاً للإجماع ، وبناءً عليه فلا دافع للإشكال بالتقريب المزبور.

أمّا دفعه بالتقريب الذي جروا عليه ، وهو كونه من قبيل خروج المورد بعد البناء على عموم النبأ لكلّ إخبار ، فقد تصدّى شيخنا قدس‌سره لدفعه بقوله فيما حرّر عنه في هذا الكتاب : وفيه أنّ المورد إنّما كان إخبار الوليد الفاسق بارتداد بني المصطلق ، والآية الشريفة إنّما نزلت في شأنه لبيان كبرى كلّية ـ إلى قوله ـ وأمّا المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود والتحقّق ، لأنّه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية الخ (٢).

وفيه تأمّل ، إذ ليس المفهوم دليلاً مستقلاً في عرض [ المنطوق ] كي يمكن الالتزام بتخصيصه وحده دون المنطوق ، بل ليس هو إلاّتابعاً للمنطوق وناشئاً عنه ، ولا يمكننا التصرّف فيه بدون التصرّف في المنطوق.

والحاصل : أنّه لو كان المنطوق والمفهوم كلّ منهما قضية على حدة ، بحيث يمكن أن يكون المورد مورداً لإحداهما دون الأُخرى ، صحّ ما أفاده قدس‌سره. لكن الظاهر أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ مجموع المنطوق والمفهوم عبارة عن قضية واحدة ذات شعبتين إيجابية وسلبية كما في الحصر ، بل ليس المفهوم إلاّالحصر

__________________

(١) في الصفحة : ٤٠٦.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٤.

٤١٠

نفسه المستفاد من حصر الجزاء على الشرط ، ألا ترى أنّه لو قال القائل إنّما قام زيد أو ما قام إلاّزيد ، كان محصّله أنّ القيام صدر من زيد ولم يصدر من غيره ، فكما لا يكون ذلك إلاّقضية واحدة ، فكذلك المفهوم فيما نحن فيه خصوصاً بعد البناء على ما أفاده قدس‌سره من وجود القدر الجامع بين منطوق الآية ومفهومها وهو مطلق النبأ ، وأنّ حاصل الآية الشريفة أنّ النبأ إن جاء به الفاسق وجب التبيّن ، وإن جاء به العادل لم يجب التبيّن ، فكانت عبارة عن قضية واحدة حملية موضوعها هو مطلق النبأ ومحمولها القضيّتان الشرطيتان ، فلا يمكننا إخراج نبأ الارتداد من الثانية دون الأُولى ، بل لابدّ من إخراجه من الموضوع لكلّ من هاتين القضيتين الشرطيتين ، أعني مطلق النبأ الذي أُخذ موضوعاً لمجموعهما ، فتأمّل.

قوله : وممّا ذكرنا ظهر فيما أجاب به الشيخ قدس‌سره عن الإشكال بقوله : وفيه أنّ غاية الأمر ... الخ (١).

الذي يظهر من صدر عبارة الشيخ قدس‌سره (٢) أنّه يريد التخلّص من الإشكال بالإلتزام بطريقة التقييد ، بأن يكون المفهوم وهو كون خبر العادل حجّة في المورد أيضاً وهو مورد الارتداد إلاّ أنّه مقيّد بانضمام عدل آخر ، وهذا التقييد لا يوجب خروج المورد. لكن ذيل العبارة يوهم الالتزام بخروج المورد عن عموم المفهوم ، ويقول إنّه ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء. اللهمّ إلاّأن يريد بذلك أنّ تقييد المفهوم وإن أوجب خروج المورد فيما لم يكن القيد موجوداً ، بأن كان خبر العادل واحداً ، إلاّ أنّ هذا الاخراج الناشئ عن التقييد ليس بالاخراج المستهجن ، فتأمّل.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٤.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٤١١

وقد أورد عليه الأُستاذ قدس‌سره بما حاصله : أنّ محصّل كون الارتداد مورداً للمفهوم الذي هو حجّية خبر العادل ، هو كون ذلك الحكم العام المستفاد من المفهوم كبرى لصغرى المورد ، فلو قيّدناه بالانضمام كان مفاد ذلك الحكم العام هو حجّية البيّنة لا مطلق خبر العادل ، فيتألّف من ذلك شكل أوّل صغراه المورد وكبراه العام الوارد في ذلك المورد ، وهذا هو المنشأ في قبح إخراج المورد وفي دعوى كون العام نصّاً في مورده ، لأنّ إخراج المورد يمنع من تأليف الشكل الأوّل الذي عرفت أنّه هو المتحصّل من ورود العام في ذلك المورد.

وتوضيح ذلك فيما نحن فيه هو أن يقال : إنّا إذا ألّفنا الصغرى من المورد والكبرى من ذلك العام ، يكون الشكل هكذا : العادل أخبرنا بالارتداد ، وكلّ ما أخبرنا به العادل فهو حجّة فيه ، وتكون النتيجة أنّ إخبار العادل بالارتداد حجّة فيه ، فهذا القيد وهو قيد الانضمام إن أخذناه في الصغرى وقلنا العادل أخبرنا بالارتداد منضمّاً مع غيره ، فهو خلاف المورد ، لأنّ المورد هو كون المخبر واحداً ، وإن أخذناه في الكبرى وقلنا إنّ كلّ ما أخبرنا به العادل فهو حجّة إذا انضمّ إليه غيره ، كانت الكلّية لحجّية البيّنة لا لخبر العادل ، ولا يصحّ أخذها في النتيجة من دون أن تؤخذ في إحدى المقدّمتين ، وما يتخيّل من أخذه قيداً في انطباق الكبرى على المورد الذي هو الصغرى لا يخفى فساده ، فإنّ أخذه في الانطباق من دون أخذه في الصغرى ولا في الكبرى لعلّه محال ، ولو أخذ الصغرى بهذه الصورة وقلنا إنّ المورد مورد ارتداد ، وكلّما كان المورد مورد الارتداد ، فخبر الواحد العادل حجّة فيه إن انضمّ إليه غيره ، لم يكن مفاده إلاّحجّية البيّنة في خصوص مورد الارتداد ، فتأمّل.

ولعلّ الشيخ قدس‌سره لا يريد التقييد على هذا النحو الذي حرّرناه ، بل يريد ما

٤١٢

أفاده الأُستاذ قدس‌سره من كون المورد إنّما هو مورد للمنطوق دون المفهوم ، كما ربما يفهم من بعض عباراته ، فراجع وتأمّل.

ويمكن القول بأنّه لا تقييد في الصغرى ولا في الكبرى ، بل إنّ التقييد إنّما هو لدليل خارج ، وهو إنّما يكون لاحقاً للنتيجة ، وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى بأنّه لا يخلو من قبح تخصيص المورد ، لأنّ ذكر العام مطلقاً في المورد المحتاج إلى التقييد قبيح أيضاً كاخراج المورد.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا الإشكال تعرّض له شيخنا قدس‌سره في الدورة الأخيرة ، ولكنّه كأنّه بنحو آخر إشكالاً وجواباً ، وكان تعرّضه لذلك في ضمن درسين لم أتوفّق للكتابة عنه فيهما ، ولكن السيّد سلّمه الله في تحريراته المطبوعة في صيدا قد حرّر ذلك عنه قدس‌سره ، فلزمنا التعليق على المواقع التي هي محلّ التأمّل ، فنقول بعونه تعالى :

قال سلّمه الله : ومن المعلوم أنّ تخصيص العام بالمورد إن كان بعنوان معلوم منطبق عليه ، فلا محالة يوجب ذلك تقييد مصبّ العموم ، وإلاّ يكون موجباً لإجماله الخ (١).

الظاهر أنّ هذه القاعدة لا تجري في تخصيص المورد ، وإنّما تجري في غيره كما أفاده من المثال ، فإنّ زيداً العالم إذا علمنا بخروجه عن عموم أكرم العلماء ، فإن كانت العلّة في خروجه هي ذاته لا عنوان منطبق عليه ، اقتصرنا على إخراجه ، وينحصر الحكم العام بما عداه ، ولا يتقيّد العام بعنوان خاصّ غير عنوان ما عدا زيد. وإن كانت العلّة في خروجه هي عنوان خاصّ منطبق عليه ، وكان ذلك العنوان معلوماً كعنوان الفسق مثلاً ، كان الخارج هو عنوان الفاسق ، وكان ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٨٩.

٤١٣

موجباً لتقيّد العام بقيد العدالة أو بغير الفاسق. وإن لم يكن ذلك العنوان الذي أوجب خروجه معلوماً ، بل أقصى ما عندنا أنّه خرج لأجل عنوان منطبق عليه ، كان ذلك موجباً لتقيّد العام بما عدا ذلك العنوان المجهول ، فيكون العام حينئذ مجملاً.

هذا كلّه إذا لم يكن زيد المذكور مورداً لذلك العام ، أمّا إذا كان مورداً له ، فحيث إنّ العام نصّ في مورده ، لا يمكننا الحكم باخراجه بقول مطلق ، سواء كان اخراجه بذاته أو كان بعنوان خاصّ ، إذ لا يتحقّق الاخراج كي نقول إنّ إخراجه لمّا كان بالعنوان الفلاني المنطبق عليه يكون موجباً لتقيّد ذلك العام بما عداه ، سواء كان ذلك العنوان معلوماً لدينا أو كان مجهولاً.

فالأولى في تقريب الإشكال أن يقال : إنّ المورد الذي خرج عن العموم الوارد فيه إن كان خروجه عنه مطلقاً في جميع حالاته ، لم يمكننا الحكم بخروجه. وإن كان خروجه في حالة دون حالة ، أوجب ذلك تقيّد العام بما عدا تلك الحالة ففيما نحن فيه نقول : إنّ خبر الارتداد خرج عن عموم المفهوم القائل إنّ خبر العادل حجّة مع فرض كونه وارداً في مورده ، لكن خروجه لم يكن مطلقاً ، بل في خصوص حالة واحدة وهي كون خبر العادل فيه منفرداً ، دون ما لو كان منضمّاً إلى عادل آخر ، فلا محيص حينئذ من تقييد ذلك الحكم العام الوارد في ذلك المورد بالانضمام ، فتكون حجّية خبر العادل مقيّدة بالانضمام ، فلا يكون مفادها إلاّحجّية البيّنة.

قال السيّد : وأمّا إذا كان المفهوم جملة أُخرى مستفادة من إطلاق القضية الشرطية ـ كما هو الصحيح ـ فلا موقع للإشكال الخ (١).

الظاهر أنّه لا فرق بين المسلكين في كون المفهوم تابعاً للمنطوق بحسب

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٨٩.

٤١٤

المورد ، خصوصاً على ما أفاده قدس‌سره من كون النبأ هو القدر الجامع بين القضيتين كما عرفت فيما تقدّم.

قال : وثانياً أنّ الحكم بوجوب التبيّن في الآية لم يكن من جهة ردع الصحابة عن الحكم بارتداد بني المصطلق لأجل إخبار الوليد بذلك ، بل من جهة ترتيب الأثر على قوله في الجملة ، فإنّهم عزموا على الخروج عليهم ، فإن رأوهم أنّهم لا يصلّون ولا يؤذّنون الخ (١).

لا يخفى أنّ هذا المقدار من الخروج [ إلى ] بني المصطلق واستكشاف حالهم ، هو عين التبيّن الذي أمرهم به تعالى ، فلا وجه للقول بأنّ ذلك هو المردوع عنه في إخبار الفاسق.

ثمّ لو سلّمنا أنّ ذلك هو المردوع عنه في إخبار الفاسق ، لم يكن مفهومه حينئذ إلاّ أنّ ذلك الاحتياط واستكشاف الحال غير ممنوع عنه في إخبار العادل ، فلا يكون المفهوم دالاً على حجّية خبر الواحد.

قال : إلاّ أنّه نقول : إنّ الإخبار عن الارتداد ليس قيداً مأخوذاً في القضية ( بحيث يكون محصّل القضية أنّ نبأ الارتداد إن جاء به الفاسق الخ ) وإنّما هو مورد لها (٢).

بمعنى أنّ النبأ في الآية مطلق شامل للارتداد وغيره ، فيكون العموم في ناحية المفهوم ـ أعني حجّية خبر العادل ـ شاملاً للارتداد وغيره ، غايته أنّ مورد ذلك العام هو الارتداد ، وحيث إنّ خبر العادل لا يكون حجّة في هذا المورد ، ولا يمكن إخراجه عنه بالمرّة لأنّه من تخصيص المورد ، كان من اللازم تقييد ذلك العام في مقام تطبيقه على ذلك المورد بالانضمام إلى عادل آخر ، هذا غاية ما

__________________

(١ و ٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٠.

٤١٥

فهمته من العبارة.

قلت : وفيه تأمّل ، أمّا أوّلاً : فلأنّ ذلك هو عين ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، لأنّ الشيخ لا يريد تقييد العام بالتمام وإنّما يريد تقييده في خصوص المورد الخاص وهو الارتداد ، فلا يكون الخارج هو الارتداد بقول مطلق ، بل الخارج إنّما هو ما لو كان خبر الواحد العادل فيه منفرداً ، فلا يكون القيد قيداً للعام بتمامه ، ولا يكون الخارج هو الارتداد بقول مطلق ، ولعلّه أشار إلى ذلك بقوله : وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء (١) فتأمّل. وحينئذ يتّجه عليه ما أفاده قدس‌سره في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي من أنّ هذا القيد إن أخذ في الصغرى كان خلاف الواقع ، وإن أخذ في الكبرى كانت النتيجة حجّية البيّنة (٢) ، فتأمّل ، لإمكان الجواب عنه من قبل الشيخ بأن نقول إنّ هذا القيد لا نأخذه في الصغرى ولا في الكبرى ، وأقصى ما فيه أن تكون النتيجة مطلقة ، وهي حجّية خبر الواحد العادل في الارتداد ، لكن الإجماع أوجب تقييد تلك النتيجة بالانضمام ، إذ لا يكون ذلك أسوأ حالاً ممّا إذا ورد دليل بالخصوص يدلّ على حجّية خبر العادل في الارتداد ، فإنّه لا مانع من تقييده بحكم الإجماع بقيد الانضمام.

وأمّا ثانياً : فلأنّ ذلك التزام بخروج المورد عن العموم الذي مفاده حجّية خبر العادل ، فإنّ مفاده حجّية البيّنة فيه. وإن شئت قلت : إنّ مورد العام هو الارتداد مع كون المخبر واحداً ، فإخراجه وإدخال الارتداد الذي يكون المخبر به متعدّداً إخراج للمورد وإدخال غيره.

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٢٧٢.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٥.

٤١٦

قال : ونظير ذلك ما إذا ورد أكرم العلماء وعلم بخروج زيد النحوي لكونه فاسقاً ، فإنّ غاية ما يقتضيه العلم بخروج هذا الفرد هو تقيّد وجوب إكرام العالم النحوي بغير الفسق لا مطلقاً الخ (١).

لا يخفى أنّ العلم بكون علّة خروج زيد المذكور هي فسقه يوجب تقيّد العام بعدم الفسق ، إلاّأن يدّعى أنّ لفسق النحوي خصوصية توجب خروجه ، فيكون التقييد بعدم الفسق مختصّاً بخصوص النحويين دون غيرهم من العلماء ، كما نقول إنّ انفراد العادل في خصوص كون المخبر به هو الارتداد له خصوصية توجب خروجه عن عموم حجّية خبر العادل ، فيكون التقييد بعدم الانفراد ـ أعني الانضمام ـ مختصّاً بخصوص الارتداد.

ولكنّه مع ذلك لا يخلو عن الإشكال ، لأنّ ذلك لو سلّم فإنّما يسلّم فيما إذا لم يكن محلّ التقييد هو مورداً لذلك العام كما في المثال المذكور ، أمّا لو كان مورداً لذلك العام كما فيما نحن فيه فهو في غاية الإشكال. ألا ترى أنّه لو تذاكر الصحابة بحضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أنّه بماذا يثبت الارتداد على وجه يترتّب عليه الغارة والنهب والقتل والأسر ، فألقى إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الجملة وهي : أنّ خبر العادل حجّة ، فهل يصلح لك أن تقول إنّا نقيّد حجّية خبر العادل في خصوص ذلك المورد بما إذا انضمّ إليه عادل آخر ، ونبقي العام على إطلاقه بالنسبة إلى غيره من الموارد ، أم لابدّ لنا أن نقول إنّ العلم الخارجي بأنّ خبر العادل وحده في الارتداد غير مقبول يوجب تقييد ذلك العام في تمام موارده.

وهذه الجهة وهي لزوم تقييد العام هي المنشأ في الإشكال ، وإلاّ فلو ورد دليل يدلّ بالخصوص على حجّية خبر العادل في الارتداد ، فلا مانع من تقييده

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩٠.

٤١٧

بعدم الانفراد والانضمام فيما لو قام دليل آخر يدلّ على اعتبار الانضمام ، هذا كلّه فيما لو كان المورد هو مجرّد خبر الارتداد.

أمّا لو أخذنا في المورد الانفراد ، كما لو أخبرهم عادل واحد بارتداد طائفة من الناس ، فألقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الجملة وهي : أنّ خبر العادل حجّة ، فلو قيّدناه بالانضمام كان من إخراج المورد الذي هو خبر العادل منفرداً ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ مورد المنطوق هو كون المخبر بالارتداد واحداً ، ومحصّل المنطوق هو أنّه لو كان ذلك المخبر الواحد فاسقاً فليس بحجّة ، وبناءً على وحدة المفهوم مع المنطوق في المورد يكون مورد ذلك المفهوم هو إخبار الواحد بالارتداد ، وأنّه لو كان ذلك المخبر الواحد عادلاً فهو حجّة ، وحينئذ يقبح التقييد في خصوص ذلك المورد ، لأنّ مرجعه إلى إخراج خبر العادل المنفرد ، وهو من قبيل إخراج المورد.

والظاهر أنّه لا مانع من تقييد المفهوم بتمامه مع بقاء إطلاق المنطوق بحاله ، كما عرفت في مثل « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » إذا قام الدليل على أنّ القليل الوارد على النجاسة لا يتنجّس بها ، وإنّما الكلام في جعل التقييد مختصّاً بخصوص أحد مصاديق المفهوم الذي كان ذلك المفهوم مورداً له ، فإنّ قيام الدليل على تقييد ذلك المصداق يوجب تقييد المفهوم بتمامه ، لقبح تقييد مورد العام كما يقبح إخراجه ، بل قد عرفت أنّ التقييد بمثل الانضمام فيما نحن فيه عبارة أُخرى عن الاخراج ، لأنّ مرجعه إلى عدم حجّية خبر الواحد العادل في ذلك المورد ، وأنّ الحجّة فيه إنّما هي البيّنة ، فتأمّل.

مضافاً إلى ما عرفت من أنّ المورد ليس هو مجرّد خبر الارتداد ، بل هو خبر الواحد بالارتداد ، فالالتزام بالتقييد بالانضمام ولو في خصوص المورد يوجب

٤١٨

خروج المورد عن العموم ، لأنّ المورد هو خبر الواحد بالارتداد لا مجرّد الإخبار بالارتداد ، فتأمّل.

وخلاصة المبحث أو توضيحه : أنّ هذا الإجماع على عدم قبول إخبار العدل الواحد في مورد الآية الشريفة ـ أعني الارتداد ـ وقف عثرة في طريق استفادة حجّية خبر العادل الواحد من الآية الشريفة بطريق المفهوم ، فإنّا بعد البناء على أنّ مورد المفهوم هو مورد المنطوق ، يكون المفهوم كعام مستقل وارد في خصوص مورد الارتداد ، فلنفرض أنّ الشارع في مورد الإخبار بالارتداد أفاد هذا الحكم الكلّي ، وهو أنّ خبر العادل حجّة ، فإن التزمنا بخروج المورد المذكور عن هذا العموم لزم إخراج مورد العام ، وإن لم نلتزم بطريقة الاخراج وأردنا التخلّص من الإشكال بطريقة التقييد بالانضمام ، فإن جعلنا هذا القيد مأخوذاً في العام الذي هو الكبرى بناءً على إمكان التقييد في المفهوم مع بقاء المنطوق على إطلاقه كما عرفت من مثال الكرّ ، خرج العموم عن حجّية خبر العادل وصار مفاده حجّية البيّنة. وإن لم نأخذ هذا القيد في الكبرى ، بل أخذناه في خصوص المورد الذي هو الصغرى ، لم تكن الكبرى منطبقة على الصغرى.

لا يقال : إنّا لا نأخذ القيد في الصغرى ولا في الكبرى ، وأقصى ما في البين أن تكون النتيجة حينئذ هي حجّية خبر العادل في الارتداد ، وهذه النتيجة نقيّدها بالانضمام ، لأنّ الحكم الكبروي في المنطوق هو أنّ العمل مشروط بالتبيّن إذا كان المخبر فاسقاً ، وفي المفهوم أنّ العمل غير مشروط بالتبيّن إذا كان المخبر عادلاً ، فتكون النتيجة أنّ خبر العادل في الارتداد لا يشترط فيه التبيّن ، ومقتضى هذا الاطلاق في هذه النتيجة أنّه يكون مقبولاً بقول مطلق ، وأنّه يجب العمل به بلا تبيّن ، فيكون حاصل ذلك الاطلاق هو حجّية خبر العادل بالارتداد ، لكن الإجماع

٤١٩

قام على تقييد هذه النتيجة بالانضمام ، ويكون حال ما نحن فيه حال ما لو قال الشارع إنّ خبر العادل حجّة في الارتداد ، فإنّه لا مانع من جعل الإجماع المذكور موجباً لتقييد ذلك القول بالانضمام.

لأنّا نقول أوّلاً : أنّ ذلك غير صحيح حتّى في مثل المثال ، لأنّ قيد الانضمام يقلب المسألة من حجّية خبر العادل إلى حجّية البيّنة ، ففي الحقيقة أنّ ذلك التقييد إلغاء لمفاد القول الأوّل وهو حجّية خبر العادل ، وموجب لقلب المسألة من حجّية خبر العادل إلى حجّية البيّنة.

وثانياً : لو سلّمنا صحّة ذلك التقييد فيما فرض من المثال ، أعني قوله خبر العادل حجّة في الارتداد ، فلا نسلّم صحّته فيما نحن فيه من ذكر الحكم العام في ذلك المورد ، لأنّه مستهجن ، بل لعلّه في الاستهجان مساوٍ لتخصيص المورد ، إذ مع فرض كون حجّية خبر العادل مقيّدة بالانضمام في خصوص المورد ، يكون ذكر ذلك الحكم الكبروي في المورد لغواً ، إذ لا يكون حكم المورد مأخوذاً من ذلك العام الذي هو حجّية خبر العادل بقول مطلق.

نعم ، لو كان بعض أفراد العام الذي هو غير مورده مقيّداً بقيد خاص ، لم يكن في ذلك مانع من تقييد النتيجة فيه ، كما إذا قال أكرم العلماء ، وعلمنا من الخارج أنّ زيداً بخصوصه لا يجب إكرامه في حال سفره ، وإنّما يجب إكرامه في حال حضره لخصوصية فيه لا تسري إلى غيره ، فلا مانع من القول ببقائه تحت وجوب الإكرام لكنّه في حالة مخصوصة وهي ما لو كان حاضراً دون ما لو كان مسافراً ، لكن ذلك لا ربط له بما نحن فيه ، لأنّ زيداً المذكور لم يكن مورداً للعام ، بخلاف ما نحن فيه ممّا يكو ن محل التقييد هو مورد العام الذي ورد فيه ، فإنّ ذكر العام فيه يكون لغواً ، إلاّأن يدّعى أنّ الفائدة فيه راجعة إلى غير المورد ممّا يكون

٤٢٠