أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

[ حجّية الظواهر ]

قوله : فلأنّ الاحتمال الذي يحتمله في مقام التخاطب ليس إلاّاحتمال غفلة المتكلّم عن نصب قرينة المراد ... الخ (١).

أضاف فيما حرّرته عنه قدس‌سره إلى احتمال غفلة المتكلّم ، احتمال غفلة السامع وأجاب عن ذلك بقوله ـ حسبما حرّرته عنه قدس‌سره ـ وفيه : أنّ ما أفاده من أنّ المنشأ في حجّية الظهور هو أصالة عدم الغفلة ممنوع أشدّ المنع ، بل إنّ المنشأ فيه هو أنّ المتكلّم يجري على مقتضى طبعه من إبراز مقاصده بما يلقيه إلى السامع من الألفاظ ، غافلاً عن غفلته عن القرينة وعن غفلة السامع عنها ، وهذا هو تمام الملاك في حمل الألفاظ على ظاهرها ، ولا ربط له بغفلة المتكلّم أو غفلة السامع عن القرينة ، وهذا الملاك متحقّق في حقّ من قصد إفهامه ومن لم يقصد (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٣٨.

(٢) قال في التحريرات المطبوعة في صيدا : فإنّ أصالة الظهور إنّما هي حجّة ببناء العقلاء من جهة كون الألفاظ كواشف عن المرادات الواقعية في قبال أصالة عدم الغفلة وعرضها ، ولا ربط لإحداهما بالأُخرى فضلاً عن أن تكون مدركاً لها [ أجود التقريرات ٣ : ١٥٩ ].

قلت : يمكن لصاحب القوانين أن يقول إنّ أصالة عدم القرينة وإن لم يكن لها ربط بعدم الغفلة ، إلاّ أنّ إيصال القرينة إنّما يجب بالنسبة إلى من قصد إفهامه دون من لم يقصد ، فلعلّه أوصل القرينة إلى ذاك ولم يطّلع عليها هذا ، أمّا ذاك فلا يكون احتماله وجود

٣٨١

ثمّ أفاد ما محصّله : أنّا لو سلّمنا الاختصاص لم يكن ذلك موجباً لخروج الروايات عن ذلك ، فإنّ تلك الروايات على نحوين : الأوّل أن يكون الناقل هو المخاطب ، كما هو الغالب في الروايات المتضمّنة لمثل قول الراوي : وسألته عليه‌السلام عن كذا ، فأجاب بكذا ، أو قال عليه‌السلام كذا. الثاني : أن يكون الناقل هو غير المخاطب كما في بعض الروايات المتضمّنة لمثل قوله : وسأله عليه‌السلام فلان بحضوري عن كذا فأجاب عليه‌السلام بكذا أو قال له كذا.

أمّا النحو الأوّل ، فلا يخفى أنّه لا يتأتّى فيه ما ذكره من قوّة احتمال وجود القرينة واختفائها علينا ، لأنّ الراوي لا ينسب إلى الإمام عليه‌السلام ما يرويه عنه عليه‌السلام إلاّإذا كان هذا الذي ينقله تمام ما صدر عنه عليه‌السلام بجميع ما اكتنفه من القرائن ، وإلاّ كان نسبة القول إليه عليه‌السلام تدليساً.

وإن شئت قلت : إنّ الناقل عنه عليه‌السلام كان مقصوداً بالافهام ، وهو لا ينقل إلاّما تلقّاه عنه عليه‌السلام بجميع ما اكتنف به الكلام من القرائن ، وكلّ واحد من الطبقات مشافه لمن بعده إلى أن تنتهي النوبة إلى من دوّن الرواية في كتابه ، وحينئذ يكون الكلام من قبيل تصنيف المصنّفين الذي يكون المقصود فيه بالافهام كلّ من اطّلع

__________________

القرينة إلاّمن جهة احتمال غفلته عنها ، أو غفلة المتكلّم عنها ، فيرجع في ذلك إلى أصالة عدم الغفلة.

وهذا هو الحجر الأساسي في مسلك صاحب القوانين ، فإنّه يدّعي أنّ إرادة خلاف الظاهر لابدّ أن يكون مع القرينة ، وأنّه لابدّ من إيصالها إلى من قصد إفهامه ، فينحصر احتماله إرادة خلاف الظاهر باحتمال غفلة المتكلّم أو احتمال غفلة السامع ، فلابدّ في الجواب عن ذلك بالالتزام بأنّ بناء العقلاء على عدم القرينة والأخذ بمقتضى اللفظ الموجود ، من دون فرق في ذلك بين من كان يجب إفهامه على المتكلّم ومن كان لم يجب عليه إفهامه كغير المقصود بالافهام ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

٣٨٢

عليه.

ومن ذلك يظهر لك الحال في النحو الثاني من الروايات ، فإنّه أيضاً يتضمّن نسبة القول إليه عليه‌السلام ، فيكون كاشفاً عن عدم الاعتناء باحتمال وجود القرينة ، وأنّ هذا الذي نقله كان هو تمام الصادر منه عليه‌السلام ، وأنّه لو كانت هناك قرينة أو كان احتمال وجودها ممّا يعتنى به ، لم يصحّ للناقل أن ينقل ذلك القول عنه عليه‌السلام بحيث إنّه ينسبه إليه ، انتهى.

قلت : العمدة في هذا الأخير هو بناء العقلاء على عدم القرينة عند احتمالها ولو كان ذلك من غير من قصد إفهامه ، وإلاّ فإنّ هذا الراوي الأوّل الذي روى جواب الإمام عليه‌السلام لغيره وكان سامعاً مجرّداً ، وكان المقصود بالافهام فيه هو ذلك الغير ، كان هو مورد تفصيل صاحب القوانين قدس‌سره. اللهمّ إلاّأن يقال : إنّه ليس بسامع مجرّد ، فإنّ هؤلاء الحاضرين في مجلس الإمام عليه‌السلام لا يكون الغرض لهم من حضورهم إلاّالاستفادة من أجوبة الإمام عليه‌السلام عندما يسأله السائلون ، والإمام عليه‌السلام عالم بذلك ، فهو عليه‌السلام يوجّه الجواب إلى السائل لكن على نحو يفهم الحاضرون فيكون الجميع مقصودين بالافهام.

ثمّ لا يخفى أنّ القسم الأوّل وإن أجرى هو في حقّ نفسه أصالة عدم الغفلة ، إلاّ أنّا مع ذلك نحتمل غفلته ، فلابدّ لنا من إجراء أصالة عدم الغفلة في حقّه بناءً على مسلك صاحب القوانين ، وإلاّ فنحن في غنى عن ذلك بالركون إلى أصالة عدم القرينة ، فتأمّل.

ثمّ إنّه قدس‌سره نقل عن صاحب القوانين الاستدلال على عدم حجّية ظواهر الأخبار بمعرضية الاعتماد على القرائن المنفصلة وبالعلم الاجمالي ، وأجاب عنه

٣٨٣

بأنّ مقتضاه الفحص لا السقوط (١) وذكر استدلاله أيضاً على عدم الحجّية باحتمال التقطيع ، وأجاب عنه بأنّه إنّما يسقط الأخبار المقطّعة دون ما لم يقطّع ، مع أنّ الاعتماد على عدالة من ارتكب التقطيع وفهمه وعلمه يوجب القطع بأنّه لا يوجب الخلل في الظهور ، فراجع التحريرات المطبوعة في صيدا ص ٩٣ (٢).

قلت : لكن هذا الأخير محلّ تأمّل ، لأنّ الاعتماد على علم المقطّع وعدالته لا تنافي الجهة المدعاة ، إذ ربما استفيد حكم شرعي من هذه القطعة ، لكن بعد ضمّها إلى القطعة الأُخرى يظهر أنّ القطعة الأُولى ليست في مقام بيان تلك الجهة التي بواسطتها استفيد الحكم المذكور منها ، كما مرّ عليّ بعضه في الفقه ، وإن كنت فعلاً لا أستحضر إلاّمورداً واحداً ، وهو ما رواه حمّاد عن الحلبي : « في الرجل يتزوّج إلى قوم فإذا امرأته عوراء ولم يبيّنوا له ، قال عليه‌السلام لا ترد ، إنّما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل. قلت : أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال عليه‌السلام : لها المهر بما استحقّ ( استحلّ ) من فرجها ، ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها » وصاحب الوسائل ذكر صدرها إلى قوله عليه‌السلام : « لا ترد » فيما عنونه من عيوب المرأة (٣) ، وذكر ذيلها وهو قوله عليه‌السلام : « إنّما يرد » الخ فيما عنونه من الرجوع إلى المدلّس (٤)

__________________

(١) ولا يخفى أنّ هذين المانعين لا يبتنيان على الاختصاص بمن قصد افهامه ، فلاوجه لقوله في [ فوائد الأُصول ٣ : ١٣٨ ] خصوصاً بالنسبة إلى المتكلّم الذي دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة عن الكلام الخ ، فإنّ ظاهره جعل المعرضية من ذيول مسألة الاختصاص ، فتأمّل [ منه قدس‌سره ].

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٥٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢١ : ٢١٦ / أبواب العيوب والتدليس ب ٥ ح ١.

(٤) وسائل الشيعة ٢١ : ٢١٣ / أبواب العيوب والتدليس ب ٢ ح ٥.

٣٨٤

فإنّ قوله : « أرأيت » الخ ، يحتمل رجوعه إلى مسألة البرص والجذام والجنون كما فهمه صاحب الوسائل ، ولأجل ذلك فصله عمّا قبله. ويحتمل رجوعه إلى صدر الرواية من ظهور العوار ، ويكون ذلك حينئذ من قبيل ما عن الشيخ الطوسي قدس‌سره فيما لو تبيّن أنّها كانت قد زنت من الرجوع بالمهر على المدلّس ، ولا خيار للزوج في فسخ النكاح ، غايته أنّه مع التمكين يلزمه تسليم المهر لها ، فإن لم يكن في البين دخول رجع به على الزوجة ، إذ لا يستقرّ ملكها له إلاّ بعد الدخول ، وإن كان في البين دخول رجع به على المدلّس.

وقد استدلّ الشيخ على ما صار إليه بما عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تزوّج امرأة فعلم بعد ما تزوّجها أنّها كانت قد زنت ، قال عليه‌السلام : إن شاء زوجها أخذ الصداق ممّن زوّجها ، ولها الصداق بما استحلّ من فرجها ، وإن شاء تركها » (١) وفي التهذيب زيادة وهي قوله « قال عليه‌السلام : وتردّ المرأة من العفل والبرص والجذام والجنون ، فأمّا ما سوى ذلك فلا » (٢) وهذه الزيادة ليست في الكافي (٣) ولعلّها هي التي حملت الشيخ قدس‌سره على تلك الفتوى ، وحمل قوله : « وإن شاء تركها » على تركها من حيث مطالبته بالمهر من وليّها ، لا على تركها زوجة وعدم فسخ نكاحها. وهل ذلك تقطيع من الكافي أو زيادة من الشيخ قدس‌سره قد عثر عليها في نفس تلك الرواية ، أو هي من رواية أُخرى ألحقها بهذه الرواية بقرينة فصله بقوله : « قال عليه‌السلام ».

وهذا الذي نقل عن الشيخ قدس‌سره في مسألة الزنا وإن ردّه في الجواهر ، بأنّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ٢١٩ / أبواب العيوب والتدليس ب ٦ ح ٤.

(٢) التهذيب ٧ : ٤٢٥ / ١٦٩٨.

(٣) الكافي ٥ : ٣٥٥ / ٤.

٣٨٥

الرجوع بالمهر كناية عن الفسخ ، فلا رجوع بالمهر حيث لا فسخ ، فراجع ما في الجواهر في تحرير هذه المسألة أعني مسألة الزنا (١) ، وراجع ما حرّرناه في مسألة ظهور العوار (٢).

والغرض أنّ التقطيع ربما أوجب الاختلاف في الاستظهار ، وحينئذ فلا مندوحة إلاّالرجوع إلى أصالة عدم التقطيع ، وفيه تأمّل.

أمّا ما أُفيد أوّلاً من أنّه إنّما يمنع عن حجّية ظهور المقطّع دون ما لم يقطّع ، ففيه : أنّ الغرض ليس هو إسقاط حجّية ما لم يقطّع ، بل الغرض هو الاسقاط عند احتمال التقطيع ، هذا.

ولكن لا يخفى اندفاع الإشكال ، فإنّ أقصى ما في البين هو [ أنّ ] إحدى القطعتين بمنزلة القرينة في الأُخرى ، فلا يكون احتمال التقطيع في هذه الرواية التي نريد العمل بها إلاّكاحتمال القرينة المنفصلة ، وأصالة عدم القرينة كافية في جواز العمل بهذا الموجود. نعم الإشكال كلّ الإشكال في تسويغ النقل بالمعنى الذي [ كان ] ناشئاً عن اعتقاد الراوي واجتهاده في فهم الكلمات الصادرة عن الإمام عليه‌السلام.

قوله : لأنّ أهل اللغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات ، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي ، بل هو من الأُمور الحسّية ... الخ (٣).

يمكن التأمّل فيه ، فإنّ تشخيص مورد الاستعمال ليس من الأُمور الحسّية ،

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٠ : ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

(٢) مخطوط ولم يطبع بعد.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١٤٣.

٣٨٦

إذ ليس ذلك بسماع من المتكلّم ما يفيد أنّي أردت من هذا اللفظ هذا المعنى ، بل مرجعه إلى إعمال قواعد الظهور وقرائن المقام ونحوها ممّا يفيد أنّ المتكلّم أراد بهذه اللفظة ذلك المعنى ، وهو من الأُمور الاجتهادية ، نعم هي قريبة من الإحساس على وجه يقلّ فيها الخطأ ، بخلاف استنباط الوضع وكون اللفظ موضوعاً لذلك المعنى ، فإنّه موقوف على مقدّمات أُخر مثل التبادر ونحوه ممّا يذكرونه في علائم الوضع.

ومع ذلك فإنّ خطأهم في تعيين موارد الاستعمال كثير لا يحصى ، فكثيراً ما يشتبهون ويخلطون بين المصداق والمفهوم ، فالمتكلّم يستعمل اللفظ في مصداق ينطبق عليه أحد المفاهيم ، وهم يتخيّلون أنّه قد استعمله في ذلك المفهوم ، ويعدّون ذلك المفهوم من موارد الاستعمال. ويخلطون أيضاً في المتلازمات ، فالمتكلّم يستعمل اللفظ في أحد المتلازمين وهم يتخيّلون أنّه استعمله في الملازم الآخر وهكذا ، فعلى الفقيه أن يجتهد بنفسه في ذلك ويتتبّع موارد الاستعمال ، ويجتهد في الحكم بما أراده المتكلّم ، ولا يعتمد على نقل الواحد والاثنين منهم ، بل عليه مراجعة جميع ما يتيسّر لديه من كتب اللغة ، ولا يكفيه المتأخّر والمتقدّم ، لأنّهم غالباً يأخذ بعضهم عن بعض.

أمّا اجتهاد الفقيه في تعيين الحقيقة والمجاز وتمييز الاشتراك المعنوي عن اللفظي والترادف عن التلازم أو التداخل في المفاهيم بعضها مع بعض ، فذلك مزلقة أُخرى يحتاج إلى فلسفة في اللغة ولطف قريحة وحسن سليقة ، ولابدّ من ضمّ لطف القريحة وحسن السليقة إلى الدقّة والفلسفة وإلاّ كان معوجّ الطريقة ، ومن هنا قيل : إنّ الفقيه متّهم في حدسه. ومن الله سبحانه وتعالى العصمة والتوفيق إلى الطريقة الوسطى.

٣٨٧

قوله : ويأتي لذلك مزيد توضيح في الجزء الرابع (١).

ذكر هذا التفصيل في أوائل التعادل والتراجيح (٢) ، ففرّق بين من كان همّه المراد الواقعي فيحتاج إلى أصالة عدم القرينة ، ومن كان همّه الاحتجاج فيكفيه الأصل العقلائي ، من اتّباع الظهور والاحتجاج به ، وقد علّقنا عليه هناك ما مفاده عدم الفرق ، فإنّ من كان همّه الواقع إن كان يكفي فيه الاعتماد على الأصل العقلائي ، لم يفرق في ذلك الأصل بين أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور ، وإن لم يكف فيه الأصل العقلائي لم يكفه أصالة عدم القرينة ، كما لم يكفه أصالة الظهور فراجع (٣).

قوله : الأوّل : لو حصل الوثوق من قول اللغوي بمعنى اللفظ ... الخ (٤).

لو قلنا بأنّ قول اللغوي حجّة فلا إشكال في لزوم ترتيب الأثر عليه ، لكن بعد البناء على عدم حجّيته فماذا يفيدنا الظنّ الحاصل من قوله مثلاً بأنّ الصعيد موضوع لمطلق وجه الأرض ، إلاّبدعوى كون الظنّ بصحّة ما قاله من كونه موضوعاً لمطلق وجه الأرض يكون ملازماً للظنّ بأنّ المراد به في الآية المباركة هو مطلق وجه الأرض ، ومع فرض تسليم هذه الملازمة لا يحصل بيدنا إلاّالظنّ بأنّ المراد به في الآية المباركة هو مطلق وجه الأرض ، ومن الواضح أنّ مجرّد الظنّ بالمراد من دون استناد إلى أصل عقلائي من أصالة الظهور أو أصالة عدم القرينة ، لا يكون مثبتاً للمراد.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٤٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧١٨ ـ ٧١٩.

(٣) المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب الصفحة : ٢٦ في الحاشية على فوائد الأُصول ٤ : ٧١٧.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ١٤٤.

٣٨٨

وبالجملة : أنّ مجرّد الظنّ بأنّ المراد هو المعنى الفلاني لا يلازم الظهور العقلائي الذي لابدّ أن يكون راجعاً إلى أحد الأُصول العقلائية ، هذا كلّه فيما لو كان قول اللغوي في تعيين الوضع.

أمّا لو كان في بيان مورد الاستعمال فعدم الركون إليه وعدم الاعتماد على الظنّ الحاصل منه أوضح وأظهر ، إذ لا دخل للظنّ الحاصل من قوله بأنّ الصعيد يستعمل في مطلق وجه الأرض بما أُريد به في الآية المباركة ، ولو صرّح اللغوي بأنّه في الآية المباركة مستعمل في مطلق وجه الأرض لم يكن ذلك القول منه إلاّ كقول أحد المفسّرين المتخرّصين.

وعلى كلّ حال ، أنّ قياس الظنّ الحاصل من قول اللغوي بالظنّ الحاصل من قول الرجالي ممنوع ، فإنّ ذلك الظنّ يدرج الخبر في موثوق الصدور ، بخلاف هذا الظنّ فإنّه لا يدرجه في كبرى الظهور ، وأقصى ما فيه هو حصول الظنّ بأنّ المراد هو المعنى الفلاني ، ولا دخل لذلك بكبرى الظهور وصغراه ، فتأمّل.

قوله : فإنّ الواجب على الإمام عليه‌السلام إنّما هو بيان الأحكام بالطرق المتعارفة ، وقد أدّى ما هو وظيفته ، وعروض الاختفاء لها بعد ذلك لبعض موجبات الاختفاء لا دخل له بالإمام عليه‌السلام حتّى يجب عليه إلقاء الخلاف ... الخ (١).

أفاد قدس‌سره ما محصّله : أنّ المستند في دعوى لزوم إلقاء الخلاف إنّما هو دفع اعتقاد كون مورد الإجماع حقّاً ، استناداً إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من عدم اجتماع الأُمّة على خطأ (٢) ، ولم يصحّ ذلك عندنا ما لم يكن المعصوم داخلاً فيهم.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٥٠.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٢٥ / كتاب العلم ب ٢٩ ح ٣ ، كنز العمّال ١٢ : ١٥٦ / ٣٤٤٦١ والموجود في كلا المصدرين : « على ضلالة ».

٣٨٩

قلت : وإلاّ لكان هذا الحديث هو الدليل التامّ على حجّية الإجماع كما اتّخذه العامّة كذلك ، ولم نحتج إلى شيء في كون الإجماع دليلاً ، ولنعم ما قيل من أنّ الإجماع هو الأصل لهم وهم أصله ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد الالتزام بأنّه لا يجب عليه عليه‌السلام بيان الخطأ ، لابدّ لنا من القول بأنّه لا يجب عليه ذلك حتّى لو تخيّل متخيّل من الإجماع أنّه كان على حقّ استناداً إلى ذلك الحديث ، كما أنّه عليه‌السلام لم يجب عليه ردع أُولئك المجمعين عن ذلك الباطل الذي أجمعوا عليه ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ وجوب إلقاء الخلاف إنّما ادّعي لأجل أنّ إلقاء الخلاف يكون سدّاً لباب خطأ من يتخيّل أنّ إجماعهم كان على وفق الواقع ، ومقتضاه أنّه لو فرض عدم وجود ذلك المتخيّل لم يجب عليه عليه‌السلام إلقاء الخلاف بينهم ، وحينئذ نسأل أنّه عليه‌السلام إن كان يجب [ عليه ] إرشاد الناس وجب إرشاد الضالّ وإن لم يكن إجماعاً ، وإن لم يجب عليه في حال غيبته إرشاد الناس لم يجب عليه إلقاء الخلاف حتّى لو فرض وجود ذلك المتخيّل ، إذ أقصى ما فيه أن يكون حال ذلك المتخيّل حال أُولئك المجمعين في تخيّلهم الحقّ فيما أجمعوا عليه (١)

__________________

(١) الملاّ رفيع الجيلاني من تلامذة السيّد بحر العلوم قدس‌سره له حاشية على المعالم لا بأس بها ينقل في مبحث الإجماع كلاماً مفصّلاً عن السيّد بحر العلوم بعنوان قال الأُستاذ الشريف قدس‌سره اللطيف ، وساق عبارته المشتملة على قوله في آخرها : وربما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقوله عليه‌السلام بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في هذه الغيبة ، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه فيبرزه بصورة الإجماع ، جمعاً بين الأمر بإظهار الحقّ والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق. لكن هذا على تقديره طريق آخر بعيد الوقوع ، مختصّ بالأوحدي من الناس ، لا ينتقض به ما

٣٩٠

قوله : وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحّتها ... الخ (١).

الظاهر أنّ كون الشهرة العملية التي هي عبارة عن الشهرة الاستنادية كاسرة لصحّة الرواية محلّ تأمّل ، وينحصر الكسر بالشهرة الفتوائية إذا كانت الرواية بمنظر من أُولئك المفتين بخلافها وبمسمع.

ولعلّ الأولى أن يقال : إنّ الرواية إذا كانت بمنظر وبمسمع من المتقدّمين ، فإن عملوا بها واستندوا إليها كان ذلك جبراً لها ، وإن لم يعملوا بها ولم يستندوا إليها كان ذلك إعراضاً عنها موجباً لوهنها. أمّا مجرّد الفتوى الموافقة للرواية من دون استناد إليها فلا يكون جابراً لها ، كما أنّ مجرّد الفتوى على الخلاف مع فرض احتمال عدم اطّلاعهم على الرواية فذلك لا يكون كاسراً لها ، إذ ليس ذلك إعراضاً أو طرحاً منهم لتلك الرواية ، فالشهرة الفتوائية بما أنّها فتوائية محضة لا أثر لها في الجبر ولا في الكسر ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في التقريرات المطبوعة في صيدا ما حاصله : أنّ بين الشهرة الفتوائية

__________________

قرّرناه ، انتهى كلامه زاد الله إكرامه.

قال في المقابس [ مقابس الأنوار : ١٩ ] في ترجمة السيّد قدس‌سره : ولم يبرز منه لوفور تبحّره وتوسّع علمه وإحاطته بالفنون وحقائقها وتوغّله في تنقير أعماق المطالب وكشف دقائقها وسائر العلل التي لا ينبغي ذكرها ، سوى المنظومة ـ إلى أن قال ـ وقطعة من شرحه على أوائل وافية الأُصول وكراريس كثيرة متألّفة من كتب ورسائل ومسائل وتعليقات متفرّقة أكثرها مسودة ، وقد جمعها ورتّبها بعده ولده العالم العامل والفاضل الكامل السعيد السديد المرتضى السيّد محمّد رضا وفّقه الله لما يحبّ ويرضى. [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٥٣.

٣٩١

والشهرة العملية أيضاً عموماً من وجه (١).

وفيه تأمّل ، إذ كلّ شهرة عملية بالرواية يلزمها الفتوى على طبق الرواية ، وليس كلّ شهرة فتوائية يلزمها العمل والاستناد إلى الرواية ، وحينئذ تكون الشهرة الفتوائية أعمّ مطلقاً من الشهرة العملية. نعم ربما وجدت الشهرة العملية ولم توجد الشهرة الفتوائية ، وذلك فيما لو وردت رواية ظاهرها التحريم ، ولكن المشهور حملوها على الكراهة وأفتوا بالكراهة ، وحينئذ تكون تلك الرواية معمولاً بها ، ولو كانت ضعيفة كانت مجبورة بالشهرة العملية ، ولا يكون فتواهم بالكراهة موجباً لكون الشهرة العملية على خلاف تلك الرواية ، بل أقصى ما فيه هو كون الشهرة الفتوائية على خلاف الشهرة الاستنادية.

وقد يقال في هذه الصورة : إنّه بناءً على حجّية الشهرة الفتوائية يقع التعارض بين الشهرة الفتوائية على الكراهة وبين الشهرة العملية ، وفي الحقيقة يقع التعارض بين الشهرة الفتوائية وبين الرواية المجبورة بالعمل.

ولكن لا يخفى أنّ من يقول بحجّية الشهرة الفتوائية إنّما يقول بها حيث لم يحرز بطلان المستند في تلك الفتوى الذي هو حمل الرواية الظاهرة في التحريم على الكراهة ، فتكون تلك الرواية المجبورة بالعمل أو نفس الشهرة العملية حاكمة على الشهرة الفتوائية. اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ الشهرة الفتوائية تكشف عن وجود قرينة على الكراهة ولم نطّلع عليها ، وحينئذ يكون الأمر بالعكس ، أعني أنّ الشهرة الفتوائية تكون حاكمة على الشهرة العملية ، فتأمّل. وهذا مبني على كون الشهرة الفتوائية موهنة للدلالة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٧٣.

٣٩٢

[ حجّية خبر الواحد ]

قوله : وإن شئت قلت : إنّ البحث إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر وعدم الانطباق ، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ولا وجودها ... الخ (١).

قلت : لكن انطباق السنّة على الخبر ليس إلاّانطباقاً تعبّدياً ، فهو عبارة أُخرى عن ثبوت السنّة تعبّداً بخبر الواحد ، نعم يمكن القول بنسبته إلى السنّة فيقال : هل تثبت السنّة تعبّداً بخبر الواحد ، وحينئذ يكون الثبوت التعبّدي من عوارض السنّة بعد الوجود. نعم إنّ صورة البحث في حجّية الخبر ليس كذلك ، فإنّ الواقع في البحث المزبور هو البحث عن حجّية الخبر ، خصوصاً على ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من أنّ المجعول هو الحجّية ، فلا يكون البحث في الحقيقة إلاّبحثاً عن عوارض الخبر لا عوارض السنّة ، إلاّ أنّ ذلك ليس بمهم لأنّه من قبيل الاختلاف في التعبير ، والأمر فيه سهل ، ولعلّ ما في طبعة صيدا (٢) أوضح إشكالاً ، فراجعه وراجع أوائل التحريرات (٣) تجده قريب الاعتراف بإشكال الكفاية (٤)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٣) أجود التقريرات ١ : ١٤ ـ ١٥.

(٤) كفاية الأُصول ٨ ـ ٩.

٣٩٣

قوله : مضافاً إلى أنّها من أخبار الآحاد ، ولا يصلح التمسّك بها لما نحن فيه ... الخ (١).

قلت : مضافاً إلى معارضتها بالأخبار الدالّة على الحجّية ، ولا ريب في أنّ تلك أقوى. مضافاً إلى ما سيأتي من الآيات الدالّة على حجّية الخبر ، فإنّها موجبة لسقوط الأخبار الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، فإنّها حينئذ بنفسها تسقط نفسها فتأمّل. وأمّا ما أفاده قدس‌سره فيما نقل عنه بقوله : ولا يسعنا طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار الخ (٢) ، وقوله : يلزم تعطيل كثير من الأحكام الخ (٣) ونحو ذلك ، فالظاهر أنّه غير نافع ، لإمكان الجواب عنه بالالتزام بالانسداد.

قوله : حتّى نقل عن بعضهم أنّه قال بعد ما استبصر ورجع إلى الحقّ : إنّي قد وضعت اثني عشر ألف حديثاً ... الخ (٤).

فعلاً لا أتخطّر مَن هذا القائل ، لكن في مقباس الهداية للمرحوم المامقاني في تعداد أصناف الواضعين قوله : رابعها : قوم زنادقة وضعوا أحاديث ليفسدوا بها الإسلام وينصروا بها المذاهب الفاسدة ، فقد روى العقيلي عن حمّاد بن زيد قال : وضعت الزنادقة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة عشر ألف حديث ، منهم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل وصلب في زمان المهدي بن المنصور ، قال ابن عدي : لمّا أُخذ لتضرب عنقه ، قال : وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أُحرّم فيها الحلال وأُحلّل الحرام الخ (٥).

قلت : ولعلّ هذا من سعيه في إبطال الحديث حتّى عند الموت ، ليكون ذلك القول منه موجباً لتوقّف الناس في الأخذ بالحديث.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٦٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٦٣.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١٦٣.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ١٦٣.

(٥) مقباس الهداية ١ : ٤١٢ ـ ٤١٤.

٣٩٤

قوله : وأمّا مفهوم الشرط ، فلأنّ الشرط المذكور في الآية ممّا يتوقّف عليه وجود الجزاء عقلاً ـ إلى قوله ـ فانتفاء التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ قهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع ... الخ (١).

لعلّ هذا التحرير للإشكال المزبور أولى ممّا تضمّنته عبارة الكفاية بقوله : ولا يخفى أنّه على هذا التقرير لا يرد أنّ الشرط في القضية لبيان تحقّق الموضوع ، فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع الخ (٢). وعبارة الشيخ قدس‌سره في الرسائل تقارب عبارة الكفاية ، فإنّه أشكل على الآية بأنّها مسوقة لبيان تحقّق الموضوع فلا مفهوم لها (٣) فراجع.

وتوضيح المقام هو أن يقال : إنّه قد حقّق في محلّه رجوع القضية الحقيقية الحملية إلى قضية شرطية مقدّمها من عقد الوضع وتاليها من عقد الحمل ، كما أنّ كلّ قضية شرطية يكون مقدّمها من قبيل الموضوع وتاليها من قبيل المحمول ، وحينئذ يتوهّم المتوهّم أنّ لازم رجوع القضيتين إلى مفاد واحد هو الالتزام بالمفهوم لكلّ منهما ، أو الالتزام بعدمه في كلّ منهما ، ولا وجه للتفرقة بينهما في الالتزام بالمفهوم في الثانية دون الأُولى.

ولكن التحقيق هو التفرقة بينهما ، فإنّ القضية الحملية لا مفهوم لها ، بخلاف القضية الشرطية فإنّ لها مفهوماً ، منشؤه دلالة تعليق الجزاء على الشرط على حصر علّة سنخ الحكم في ناحية الجزاء بما تضمّنه المقدّم من الشرط ، بخلاف القضية الحملية ، ولا يرفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في الحصر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٩٦.

(٣) فرائد الأُصول ١ : ٢٥٧.

٣٩٥

المذكور إلاّإذا جرّدت من ذلك الحصر ، وكانت مسوقة كالحملية لبيان تحقّق الموضوع ، كما في مثل قوله للمسافر : إذا نويت الإقامة فأتمّ الصلاة ، فإنّه مسوق مساق قوله : يجب الاتمام على المسافر المقيم ، فلا يستفاد منها المفهوم ، إذ ليست مسوقة للحصر ، ولا معنى للقول في هذه الصورة بأنّ مفهومها السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لو كان لها مفهوم لم يكن على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، بل إنّ كونها ذات مفهوم خلف لما فرضناه من كونها مسوقة لبيان الموضوع وعدم دلالتها على الحصر.

نعم ، قد يكون الشرط ممّا يتوقّف عليه الفعل في ناحية الجزاء ، كما في مثل إن حدّثك زيد فصدّقه ، فإنّ مثل هذه القضية إن جرّدناها عن الدلالة على الحصر لم يكن لها مفهوم ، وإن ادّعينا مع ذلك بقاء دلالتها على الحصر كان مفهومها السالبة بانتفاء الموضوع ، لعدم معقولية التصديق عند عدم الحديث ، فلابدّ أن يكون انتفاء التصديق عند انتفاء الحديث من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع الذي يقوم به التصديق ، فيكون حال هذا المفهوم حال قول من ليس له ولد : ابني ليس بقائم.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده في الكفاية بقوله : مع أنّه يمكن أن يقال إنّ القضية ولو كانت مسوقة لذلك ( أي لبيان تحقّق الموضوع ) إلاّ أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق ، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، فتدبّر (١). فإنّا لو أخذنا موضوع وجوب التبيّن شرطاً في وجوب التبيّن ، ليكون محصّل القضية الشرطية هو أنّه إن أخبرك الفاسق وجب عليك التبيّن عن خبره ، لم يكن مفاد مفهوم الحصر إلاّ

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٩٦.

٣٩٦

السالبة بانتفاء الموضوع ، لأنّ المفهوم حينئذ هو أنّه إن لم يخبرك الفاسق فلا يجب التبيّن عن خبره.

ولا مخلص عن ذلك إلاّبأخذ النبأ موضوعاً ، وأنّه إن جاء به الفاسق وجب التبيّن عنه ، وهو ما أفاده أوّلاً ، أو بأخذ وجوب التبيّن مجرّداً عن النبأ بأن يقال إنّه إن أخبرك الفاسق يجب التبيّن عن الواقع ولا يعتمد على إخباره ، وحينئذ لا يكون الشرط في القضية عبارة عن موضوع الحكم في الجزاء ، لأنّ موضوع الحكم في الجزاء هو الواقع والشرط هو إخبار الفاسق ، ويكون المتحصّل أنّ الواقع إن أخبرك به الفاسق وجب التبيّن عنه أي عن الواقع ، ولعلّ قوله قدس‌سره : فتدبّر ، إشارة إلى ذلك.

ثمّ لا يخفى أنّ وجوب التصديق في مثل قولك : إن حدّثك زيد فصدّقه ، أو قولك : حديث زيد يجب تصديقه ، لابدّ أن يكون في لحاظ الحاكم مجرّداً عن الاضافة إلى حديث زيد ، لأنّ ما هو في مرتبة الموضوع لا يمكن أخذه في ناحية المحمول ، وكذلك ما هو في مرتبة الشرط لا يمكن أخذه في ناحية الجزاء ، ففي القضية الحملية يكون المحكوم به هو وجوب التصديق والمحكوم عليه هو حديث زيد ، ويكون الحاصل أنّ حديث زيد محكوم بوجوب التصديق ، أو إنّ حديث زيد حديث يجب تصديقه. وفي القضية الشرطية يكون الجزاء أيضاً نفس وجوب التصديق ، ويكون الشرط هو تحقّق حديث زيد ، ويكون الحاصل هو أنّه لو حدّثك زيد كان جزاؤه وجوب التصديق.

أمّا في آية النبأ فلا نحتاج إلى تجريد الجزاء فيها عمّا هو في حيطة الشرط ، أعني وجود نبأ الفاسق ، بل يمكننا أخذ الشرط هو مجيء الفاسق بالنبأ ، ويكون المتبيّن عنه هو نفس النبأ ، ويكون الشرط هو إتيان الفاسق به ، ويكون

٣٩٧

المتحصّل هو أنّ النبأ الذي جاءكم إن كان الآتي به فاسقاً فتبيّنوا عنه ، وإن لم يكن الآتي به إليكم فاسقاً فلا تتبيّنوا عنه ، وحينئذ لا يكون الشرط ممّا يتوقّف عليه الجزاء عقلاً كي نحتاج إلى تجريده عنه في لحاظ الحاكم ، فإنّ ذلك إنّما نحتاج إليه فيما لو جعلنا الشرط هو نفس إتيان الفاسق الذي هو عبارة عن إخباره ، فإنّه يلزمه حينئذ أخذ ما هو في ناحية الشرط في ناحية الجزاء ، وهو محال إلاّ بالتجريد المذكور ، وليكن ذلك الاحتياج إلى التصرّف المذكور قرينة على كون الشرط هو كون المخبر فاسقاً ، لا أصل إخبار الفاسق.

والحاصل : أنّ التبيّن في ناحية الجزاء متعلّق بالنبأ ، ويكون الشرط في وجوبه هو إتيان الفاسق به ، فلا يكون الفعل في ناحية الجزاء متوقّفاً عقلاً على تحقّق الشرط كي يتّجه أنّ القضية مسوقة لتحقيق الموضوع ، والقرينة على ذلك هو لزوم تجريد الجزاء عمّا هو في حيّز الشرط. أمّا ما أُفيد من كون المورد وشأن النزول قرينة على ذلك ، فلم أتوفّق لفهمه ، فتأمّل.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير كون التبيّن في الآية الشريفة هو بمعنى التفحّص عن الخبر ، أمّا لو كان بمعنى التفحّص عن الواقع والتثبّت عن الاقدام حتّى يتّضح الحال ، كما يشهد به ما في المجمع من نقل قراءة الباقر عليه‌السلام تثبتوا بالثاء والتاء (١) ، لكنّا في غنى عن دفع هذه الشبهة ، أعني كون الشرط ممّا يتوقّف عليه الفعل في ناحية الجزاء ، فإنّ التثبّت عن الاقدام حتّى يتّضح الحال لا يتوقّف على إخبار الفاسق ، ولا على إخبار غيره ، ولا يكون وزانه في الآية الشريفة إلاّوزانه في آية سورة النساء أعني قوله : ( إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا )(٢) وقد قرئ هناك أيضاً بالتاء

__________________

(١) مجمع البيان ٩ : ٢١٩.

(٢) النساء ٣ : ٩٤.

٣٩٨

والثاء.

لكن ينقدح إشكال آخر ، وهو أنّ التثبّت في أمثال هذه المقامات ممّا يعود إلى القتل والنهب لازم وإن أخبر به العادل ، لكن ذلك إشكال على مورد الآية ، وأنّه من قبيل الموضوعات ، بل لو قلنا بحجّية الخبر في الموضوعات لم نقل به في أمثال هذه المقامات من الارتداد وما يلزمه من القتل والغارة والنهب والأسر وغير ذلك.

قوله : فمن الإشكالات التي تختصّ بآية النبأ هو كون المفهوم فيها على تقدير ثبوته معارضاً بعموم التعليل في ذيل الآية ... الخ (١).

هذا الإشكال ذكره الشيخ الطوسي قدس‌سره في تفسيره التبيان ، فإنّه قال فيه ما هذا لفظه : وفي الآية دلالة على أنّ خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل ، لأنّ المعنى إن جاءكم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذباً فتوقّفوا فيه ، وهذا التعليل موجود في خبر العدل ، لأنّ العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذباً في خبره ، فالأمان غير حاصل في العمل بخبره.

وفي الناس من استدلّ به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلاً ، من حيث إنّه أوجب تعالى التوقّف في خبر الفاسق ، فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح ، لأنّه استدلال بدليل الخطاب ، ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء ، ولو كان صحيحاً فليست الآية بأن يستدلّ بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلاً بأولى من أن يستدلّ بتعليلها في دفع الأمان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على أنّ خبر العدل مثله على أنّه لا يجب العمل بخبر الواحد وإن كان راويه عدلاً.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٧٠.

٣٩٩

فإن قيل : هذا يؤدّي إلى أن لا فائدة في إيجاب التوقّف في خبر الفاسق إذا كان خبر العدل مثله في الفائدة.

قلنا : والقول بوجوب العمل بخبر الواحد يوجب أنّه لا فائدة في تعليل الآية في خبر الفاسق الذي يشاركه العدل فيه ، فإذا تقابلا سقط الاستدلال بها على كلّ حال ، وبقي الأصل في أنّه لا يجوز العمل بخبر الواحد إلاّبدليل. ومن قرأ ( فَتَبَيَّنُوا ) أراد تعرّفوا صحة متضمّن الخبر الذي يحتاج إلى العمل عليه ، ولا تقدموا عليه من غير دليل ، يقال : تبيّن الأمر إذا ظهر وتبيّن هو نفسه بمعنى واحد ، ويقال أيضاً : تبيّنته إذا عرفته ، ومن قرأ « تثبّتوا » بالتاء والثاء أراد توقّفوا فيه حتّى يتبيّن لكم صحته (١).

قوله : بل الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ... الخ (٢).

قال في الكفاية : ولا يخفى أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم ، مع أنّ دعوى أنّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة (٣).

وشيخنا قدس‌سره في الدورة الأخيرة أجاب أوّلاً : بأنّ الظاهر أنّ المراد منها السفاهة وفعل ما لا يصدر من العقلاء.

وثانياً : سلّمنا بأنّه ليس المراد بالجهالة السفاهة ، لكن ذلك لا يوجب كونها بمعنى عدم العلم ، بل المراد الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه.

__________________

(١) التبيان ٩ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٧١.

(٣) كفاية الأُصول : ٢٩٧.

٤٠٠