أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

ما يحتمل فيه أنّه إضرار بالنفس فهو وإن قبّحه العقل ومنع منه ، إلاّ أنّ منعه منه يكون طريقياً وتحرّزاً عن الضرر الواقعي الذي هو القبيح الواقعي الأوّلي.

أمّا ما استشهد به شيخنا لتقوية كون المنع من الضرر من ذي الملاك الواحد بما يستفاد من كلماتهم في كون السفر مع احتمال الضرر من قبيل سفر المعصية وكون حكمه الواقعي هو الاتمام (١) ، فهو محتاج إلى التأمّل ، لأنّ ذلك تابع للدليل الشرعي الدالّ على حرمة السفر شرعاً ، وأنّ موضوعه هو خوف الضرر كما في مسألة خوف الضرر من الطهارة المائية ، وكما في خوف فوت الوقت ، وكما في خوف الضرر في حرمة الصوم ، ونحو ذلك ممّا يكون المتّبع فيه هو دلالة الدليل الشرعي ، وأين هذا ممّا نحن فيه من الحكم العقلي الصرف ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : وقد يقرّر الأصل بوجه آخر وهو استصحاب عدم الحجّية ، لأنّ حجّية الأمارة من الحوادث ، وكلّ حادث مسبوق بالعدم ... الخ (٢).

ربما يقال ـ كما تضمّنه ما حرّرته عنه قدس‌سره ـ : إنّ استصحاب عدم الحجّية إنّما يجري في خصوص ما تكون حجّيته المشكوكة تأسيسية دون الامضائية ، لما عرفت في محلّه من أنّه يكفي للامضاء عدم الردع ، ومن الواضح أنّه لا يكون مجرى لاستصحاب عدم الحجّية بل يكون مجرى لاستصحاب عدم الردع.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ عدم الردع إنّما اعتبر من حيث كشفه عن الرضا بما جرت به السيرة العقلائية ، فلا يكون إلاّمن الأُصول المثبتة ، لأنّ الأصل عدم تحقّق الرضا والامضاء ، وحينئذ يكون راجعاً إلى أصالة عدم الحجّية ، فتأمّل.

وقد يقال : إنّ مجرّد عدم الردع كافٍ في لزوم الجري على طبق ما جرت به

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٦.

٣٦١

السيرة العقلائية على الأخذ بالظهور مثلاً ، من دون حاجة إلى إثبات الرضا والامضاء. فالأولى أن يقال : إنّ الحجّية الامضائية خارجة عن محلّ الكلام ، فإنّ جريان السيرة مع عدم الردع مخرج للأمارة عن كونها مشكوكة الحجّية ، ويكون ذلك ـ أعني السيرة المقرونة بعدم الردع ـ من أدلّة حجّية ما قامت السيرة العقلائية على حجّيته.

وفيه تأمّل واضح ، فإنّ السيرة محتاجة إلى الامضاء ، فراجع ما حرّرنا في حاشية ص ٦٩ (١) وتأمّل.

قوله : والحجّية وإن كانت من الأحكام الوضعية ـ إلى قوله ـ والآثار المترتّبة عليها ، منها : ما يترتّب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجّزة للواقع عند الاصابة وعذراً عند المخالفة. ومنها ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها ، كحرمة التعبّد بها وعدم جواز إسناد مؤدّاها إلى الشارع ... الخ (٢).

إدراج حرمة التعبّد في هذه الآثار لا يخلو من خدشة ، لإمكان القول بأنّ جواز العمل أو وجوبه وحرمته من الآثار التابعة للحجّية بوجودها الواقعي. لكن الأمر سهل ، لأنّ المراد من حرمة التعبّد هو حرمة الأخذ بمودّاها على أنّه هو الواقع فيكون عبارة أُخرى عن حرمة الاسناد الذي هو التشريع ، وحاصل المراد هو أنّ المنجّزية وصحّة الاسناد لا تتبع الحجّية بوجودها الواقعي ، وإنّما هي تابعة للعلم بالحجّية ، وإذا انتفى العلم بالحجّية فقد حصل القطع بانتفاء موضوع هذه الآثار ويلزمه القطع بعدم ترتّب تلك الآثار ، وحينئذ فلا يكون الركون إلى استصحاب

__________________

(١) وهي عدّة حواشٍ ، فراجع الحاشية الآتية في الصفحة : ٤٥٤ وما بعدها ، وكذا الحاشية الآتية في الصفحة : ٤٦٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٩.

٣٦٢

عدم الحجّية إلاّلأجل أنّه محصّل تعبّداً للعلم بعدم الحجّية ، وهو ـ أعني العلم التعبّدي بعدم الحجّية ـ ملازم للتعبّد بانتفاء موضوع تلك الآثار الذي هو العلم بالحجّية ، وذلك ـ أعني انتفاء العلم ـ وجداني ، فيكون من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً. مضافاً إلى كونه مثبتاً ، فإنّ العلم التعبّدي بعدم الحجّية يلازم العلم التعبّدي بانتفاء العلم بالحجّية الذي هو موضوع تلك الآثار ، هذا بالنسبة إلى تنجيز الواقع ونحوه من آثار العلم بالحجّية.

وكذلك الحال بالنسبة إلى حرمة النسبة والقول بما لم يعلم بناءً على أنّه من آثار عدم العلم ، غايته أنّ استصحاب عدم الحجّية في النحو الأوّل يكون موجباً للاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان وهو انتفاء الموضوع. وفي الثاني يكون الاستصحاب المذكور إحرازاً تعبّدياً لما هو محرز بالوجدان ، وهو موضوع التحريم الذي هو عدم العلم ، هذا لو قلنا بأنّ هناك حرمة موضوعها عدم العلم.

أمّا لو قلنا بأنّه ليس في البين إلاّجواز النسبة وموضوعه العلم والاحراز ، فلا يكون في البين إلاّالعلم ، ولا يكون المحرز بالوجدان إلاّانتفاءه ، ولا يكون الاستصحاب إلاّعلماً تعبّدياً بعدم الحجّية ، ويلزمه التعبّد بعدم العلم ، وهو ـ أعني عدم العلم ـ محرز بالوجدان ، فلا يكون حال التشريع وحرمته إلاّحال التنجيز في كون الاستصحاب إحرازاً تعبّدياً لانتفاء موضوع الحكم الذي هو ـ أعني الانتفاء ـ محرز بالوجدان.

ولا يخفى أنّ صاحب الكفاية وإن ناقش الشيخ بهذا الذي نقله عنه شيخنا ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو في حاشيته على الرسائل (١) ، والبحث معه في ذلك راجع إلى

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٤٣.

٣٦٣

الجهة الرابعة من الجهات التي ذكرها شيخنا قدس‌سره. أمّا في الكفاية (١) فالظاهر منه هو تسليم ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، لكنّه في خصوص الآثار العقلية مثل تنجيز الواقع ، فإنّ عدم العلم بالحجّية يوجب القطع بعدمه ، أمّا الأثر الآخر الذي هو صحّة النسبة إلى الشارع ففي الكفاية أنكر كونه من آثار الحجّية ، والبحث معه في ذلك راجع إلى الجهة الثالثة التي ذكرها شيخنا قدس‌سره ، أمّا الجهة الأُولى والثانية فالظاهر أنّه لا مدخل لهما فيما نحن فيه. نعم هما راجعان إلى حرمة التشريع في العبادة وأنّه يوجب فسادها ، بدعوى سراية حرمة الاعتقاد إلى حرمة العمل ، فتكون العبادة منهياً عنها فتفسد.

ولا يخفى أنّ إشكاله الأوّل الذي ذكره في الحاشية هو أنّه تخيّل أنّ الشيخ يطالب بالأثر الشرعي ، فأجابه بأنّ الحجّية هي أثر شرعي فلا تحتاج إلى أثر شرعي ، ومن الواضح أنّ ذلك لا دخل له بما في كلمات شيخنا من الأثر العملي.

نعم إنّ الشيخ لا يطالب بالأثر الشرعي ، وإنّما يطالب بالأثر العملي المترتّب على استصحاب العدم في هذا الأثر الشرعي الذي هو الحجّية ، ولأجل ذلك جاءت كلمات شيخنا قدس‌سره حول الأثر العملي.

قوله : وبذلك تمتاز الأُصول من الأمارات ، فإنّ الأمارة تقتضي الثبوت الواقعي ، ولا يتوقّف التعبّد بها على أن يكون المؤدّى ممّا يقتضي الجري العملي ، بل يكفي في التعبّد بها أن يترتّب عليها أثر عملي ولو بألف واسطة لكي لا يلزم اللغوية (٢).

لا يخفى أنّ ترتّب الثمرة العملية لازمة في كلّ جعل ، سواء [ كان ]

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٨.

٣٦٤

المجعول هو الحكم الشرعي الواقعي أو كان المجعول هو الموضوعي ، من دون فرق في ذلك بين الأمارات والأُصول ، وهذه الألف واسطة الفارقة بين الأمارات والأُصول إنّما هي بعد أن تحكّمت الأمارة في موردها ، أو بعد أن يحكّم الأصل في مورده ، لابدّ من النظر في المورد ، فإن كان حكماً شرعياً وكان لذلك الحكم الشرعي لوازم طولية كان اللازم هو ترتيب تلك اللوازم ، كما لو قام الأصل أو الأمارة على وجوب الصلاة فيلزمه وجوب مقدّمته ، ويلزم وجوب المقدّمة النهي عن ضدّها ، ويلزم النهي عن ضدّها فساده لو كان عبادة ، ويلزم فسادها بطلان الاجارة عليها ، إلى غير ذلك من اللوازم ، ولا فرق في ذلك بين الأمارة والأصل.

نعم لو كان المؤدّى موضوعاً له أثر شرعي ترتّب عليه ذلك الأثر ، سواء في ذلك الأصل أو الأمارة. أمّا الأثر الشرعي المترتّب على اللوازم العقلية لذلك المؤدّى ففي الأصل لا يحكم به ، لكنّه في الأمارة يحكم به ، وإن كانت الوسائط بينه وبين نفس المؤدّى تزيد على الألف واسطة ، أمّا الأثر العملي فلا دخل له في هذا المقام ، بل هو لازم للأثر الشرعي في أي صقع وقع ، لما عرفت من لغوية الأثر الشرعي بدون أثر عملي. نعم لا يشترط في ذلك الأثر العملي أن يكون مترتّباً على الأثر الشرعي بلا واسطة ، بل يكفي الانتهاء إلى العمل ولو بألف واسطة ، من دون فرق في ذلك الأثر الشرعي بين المجعول الواقعي أو المجعول التعبّدي ، في الأمارات كان ذلك الجعل أو كان في الأُصول ، كان مؤدّى الأمارة أو الأصل حكماً شرعياً أو كان موضوعاً ذا حكم شرعي ، فلاحظ وتدبّر.

ثمّ إنّ الذي يظهر من شيخنا قدس‌سره أنّه جعل مركز الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً ، هو أثر الحجّية وحكمها أعني حرمة العمل ، فقال : إذ ليس لإثبات عدم الحجّية أثر إلاّحرمة التعبّد بها ، وهو حاصل بنفس الشكّ في الحجّية

٣٦٥

وجداناً الخ (١).

ولا يخفى أنّ محلّ الاحراز التعبّدي إنّما هو عدم الحجّية ، لا حكم الحجّية الذي هو حرمة التعبّد. فالأولى هو ما عرفت من جعل التعبّد هو موضوع الأثر الذي هو التنجيز أو صحّة النسبة ، وذلك الموضوع هو العلم بالحجّية ، وهذا يكون عدمه وجدانياً عند الشكّ ، فلا وجه للتعبّد بعدمه بأصالة عدم الحجّية القاضي بالتعبّد بالعلم بالعدم ، الملازم للتعبّد بعدم العلم بالحجّية الذي هو موضوع تلك الآثار ، فلاحظ وتأمّل.

قوله في الحاشية : أنّه قد يختلج في البال أنّ المنع عن جريان استصحاب عدم الحجّية يقتضي المنع عن جريان استصحاب بقاء الحجّية عند الشكّ في نسخها ... إلخ (٢).

ولذلك مثال هو محلّ الابتلاء ، وهو استصحاب حجّية فتوى الميّت كما يستدلّ به القائلون بجواز البقاء على تقليد الميّت. وقد تعرّضنا لهذا الاستصحاب في مباحث التقليد (٣) فراجعه. وملخّص الجواب عنه : بالفرق بينه وبين استصحاب عدم الحجّية ، لأنّ استصحاب عدم الحجّية مرجعه إلى إزالة الشكّ تعبّداً والحكم بتحقّق الاحراز التعبّدي لعدم الحجّية ، والمفروض أنّ الأثر وهو حرمة التشريع مرتّب على عدم الاحراز الذي هو القدر الجامع بين الشكّ وإحراز العدم ، فيكون الحكم التعبّدي باحراز العدم إخراجاً تعبّدياً من فرد وجداني لموضوع الأثر إلى التعبّد بالفرد الآخر وهو إحراز العدم ، ولا ريب أنّ إحراز العدم لا يترتّب عليه الأثر

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٩.

(٢) فوائد الأُصول ٣ ( الهامش ) : ١٢٩.

(٣) مخطوط ولم يطبع بعد.

٣٦٦

من حيث إنّه إحراز العدم ، بل إنّما يترتّب عليه من حيث عدم الاحراز المفروض تحقّقه وجداناً بمجرّد الشكّ ، فيكون من قبيل التعبّد بما هو محرز وجداناً ، وهذا بخلاف استصحاب الحجّية فإنّه إخراج إلى موضوع آخر ، وهو إحراز الحجّية المصحّح لنسبة المؤدّى إليه تعالى ، الموجب لخروجه عن موضوع التشريع وجداناً ، وهكذا الحال في الأمارة القائمة على الحجّية.

وبالجملة : أنّ تقدّم استصحاب الحجّية على ما يقتضيه الشكّ في الحجّية من القطع بعدم تلك الآثار ، لا يكون إلاّمن قبيل الورود ، فإنّ تلك الآثار ـ أعني الكذب والتشريع ونحوهما ـ إنّما تلحق الشكّ باعتبار عدم المستند ، واستصحاب الحجّية وكذلك الأمارة على الحجّية كافٍ في تحقّق المستند ، فيكون تقدّمهما على ما يقتضيه الشكّ المزبور نظير تقدّمهما على قاعدة قبح العقاب بلا بيان في كونهما رافعين للموضوع رفعاً وجدانياً ، فيكون هذا التقدّم من قبيل الورود ، وإن لم يكن من قبيل التخصّص الذي هو تقدّم العلم الوجداني على البراءة الشرعية ، فلا يتوهّم الدور في المقام بأن يقال : إنّ جريانهما موقوف على ارتفاع الشكّ ، وارتفاعه موقوف على جريانهما.

بيان دفع التوهّم : هو أنّ جريانهما لا يتوقّف على ارتفاع الشكّ ، بل إنّما يتوقّف على تحقّق موضوعهما وهو متحقّق وجداناً. بل إنّ القول بعدم جريانهما يتوقّف على بقاء الشكّ الذي هو عدم المستند ، وبقاء عدم المستند متوقّف على عدم جريانهما. ولو فتحنا هذا الباب وقلنا إنّ استصحاب الحجّية أو الأمارة القائمة على الحجّية لا تكون موجبة للعلم التعبّدي بالحجّية الرافع لعدم العلم ، لانسدّ علينا باب الفتوى بالمرّة ، لأنّ جميع الفتاوى لا يكون المستند فيها إلاّالأمارة القائمة على الحكم الشرعي أو الاستصحاب القائم عليه ، فلو كان قيام أحدهما

٣٦٧

غير موجب للعلم لكانت الفتوى المذكورة قولاً بغير علم ، وكانت تشريعاً محرّماً.

وهناك فرق آخر بين استصحاب عدم الحجّية واستصحاب الحجّية ، فإنّ الأوّل لا يتأتّى فيه دليل الاستصحاب ، لأنّ مفاد مثل استصحاب الطهارة عند الشكّ في طروّ الحدث ، هو أنّ الشكّ في طروّ الحدث يكون ناقضاً وجداناً لليقين بالطهارة ، فالشارع يحكم تعبّداً بعدم نقض ذلك اليقين بالطهارة بالشكّ فيها ، وهذا المعنى لا يتأتّى في استصحاب عدم الحجّية ، لأنّ اليقين السابق بعدم الحجّية لا ينقضه وجداناً حصول الشكّ بالحجّية ، إذ لا يكون هذا الشكّ ناقضاً لليقين بعدم الحجّية ، لأنّ الأثر الوجداني المترتّب على اليقين بعدم الحجّية ـ وهو قبح التشريع أو حرمته ـ مرتّب على القدر الجامع بين اليقين بعدم الحجّية والشكّ في الحجّية ، وهو مجرّد عدم العلم بالحجّية ، فلا يكون شكّه في الحجّية ناقضاً وجداناً ليقينه بعدم الحجّية كي يكون مورداً للحكم الشرعي بعدم نقض اليقين بالشكّ ، فإنّ الشكّ في بقاء عدم الحجّية وإن كان ناقضاً وجداناً لليقين السابق بعدم الحجّية ، إلاّ أنّ ذلك اليقين السابق لمّا لم يترتّب عليه الأثر باعتبار كونه يقيناً بالعدم ، بل إنّما يترتّب عليه الأثر باعتبار كونه مصداقاً لعدم اليقين بالحجّية ، فالشكّ المتأخّر وإن كان ناقضاً له من حيث نفسه إلاّ أنّه ليس بناقض له باعتبار ترتّب الأثر عليه ، فلا يكون الموضوع إلاّعدم اليقين وهو حاصل سابقاً ولاحقاً ، فلا معنى فيه لكون اللاحق ناقضاً للسابق.

وهذا بخلاف استصحاب الحجّية ، فإنّ اليقين السابق المتعلّق بالحجّية الموجبة لصحّة النسبة إليه تعالى يكون منتقضاً وجداناً بالشكّ فيها ، فيكون مورداً للحكم الشرعي بالمنع من نقض اليقين بالشكّ ولزوم البناء على الحجّية المتيقّنة سابقاً ، ويصحّ الحكم التعبّدي باحراز الحجّية ، وبه يرتفع تعبّداً موضوع التشريع

٣٦٨

الذي هو الشكّ في الحجّية ، فلا يرد عليه أنّه من قبيل الاحراز التعبّدي لنقيض ما هو المحرز وجداناً بالشكّ في الحجّية أعني قبح التشريع أو حرمته.

أمّا ما أُفيد في الحاشية المذكورة من كيفية تقرير الإشكال وتقرير الجواب عنه ، فالظاهر أنّه أجنبي عن الإشكال المزبور وعن جوابه فلاحظ وتأمّل ، إذ ليس منشأ الإشكال هو أنّه إذا كان التعبّد بعدم الحجّية غير ممكن يلزمه أن يكون التعبّد بالحجّية غير ممكن ، من جهة أنّ عدم القدرة على أحد النقيضين يوجب عدم القدرة على النقيض الآخر ، كي يجاب عنه بامكان التفكيك في التعبّديات ، وإن لم يكن ممكناً في الواقعيات ، بل إنّ الإشكال هو ما عرفت من كون المقام من قبيل الاحراز التعبّدي لنقيض ما هو محرز وجداناً ، هذا.

مضافاً إلى أنّه ليس ما نحن فيه من قبيل النقيضين ، وأيّ ربط لجعل الحجّية في مقام المسبوقية باليقين بها بجعل عدم الحجّية في مقام المسبوقية باليقين بعدمها ، نعم في خصوص هذا المقام الثاني يتناقضان ، لكنّه غير ما نحن بصدده. مضافاً إلى عدم التناقض بينهما حتّى في هذه الصورة ، أعني صورة الشكّ في الحجّية المسبوق باليقين بعدمها ، إذ ليس المراد هو جعل الحجّية واقعاً وجعل عدمها واقعاً ، فإنّ كلاً منهما ممّا تناله يد القدرة الشرعية ، إذ لا ريب في أنّ للشارع أن يجعل الحجّية في هذا الحال جعلاً واقعياً ، كما له أن يجعل عدم الحجّية أيضاً ولو بالسكوت وعدم نقض العدم ، ويكون كلّ من الجعلين جعلاً واقعياً في خصوص هذا الحال أو فيه وغيره.

وإنّما الكلام في الجعل الظاهري ، بأن ينظر إلى الشاكّ في الحجّية بعد اليقين بعدمها ويحكم عليه بشيء من الأمرين حكماً ظاهرياً ، فنقول : إنّ جعل عدم الحجّية ظاهراً وإن كان غير ممكن للشارع لكونه إحرازاً بالتعبّد لما هو محرز

٣٦٩

بالوجدان ، إلاّ أنّه يمكنه جعل الحجّية الظاهرية ، كما يمكنه السكوت عن الحكم الظاهري لهذا الشكّ وإيكاله إلى ما يحكم به عقل المكلّف ، فلا يكون جعل الحجّية الظاهرية مناقضاً للحكم الظاهري بعدمها ، لتمكّنه من الشقّ الثالث وهو عدم الحكم ، فيكونان من الضدّين اللذين لهما ثالث ، فتأمّل. ومنه يظهر لك الحال في الصورة الأُولى ، فتأمّل.

قوله في الحاشية : وقد يختلج في البال أيضاً أنّ ذلك يقتضي عدم جواز قيام الأمارة المعتبرة على عدم حجّية أمارة ... الخ (١).

هذا النقض تعرّض له شيخنا قدس‌سره في الدورة الأخيرة ، فراجع ما حرّر عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : فإن قلت : إذا لم يجر الاستصحاب الخ (٢) وقد حرّرت ذلك عنه قدس‌سره ، وملخّص ما أفاده قدس‌سره في الجواب عن النقض المذكور : هو الفرق بين الأمارة القائمة على عدم حجّية أمارة أُخرى ، مثل أن يدلّ خبر الواحد على عدم حجّية الشهرة القائمة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وبين استصحاب عدم حجّية الشهرة المذكورة من جهتين :

الجهة الأُولى : أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ ، فيكون واقعاً في رتبة ذلك الحكم الوجداني أعني قبح التشريع ، لكون موضوعه أيضاً هو الشكّ ، فيكون المتحصّل من استصحاب عدم الحجّية هو الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً ، وهذا بخلاف الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة مثلاً ، فإنّ موضوعها غير مقيّد بالشكّ ، فتكون رافعة تعبّداً للشكّ الذي هو موضوع ذلك الحكم الوجداني.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ ( الهامش ) : ١٣٠.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٥١.

٣٧٠

قلت : وفيه تأمّل ، فإنّ هذه الجهة أعني كون موضوع الأمارة غير مقيّد بالشكّ بخلاف الاستصحاب ، إنّما تنفع في حكومتها على الاستصحاب ، لأنّ الواقع وإن كان هو كون كلّ منهما وارداً في مورد عدم العلم ، إلاّ أنّ لسان الدليل في أحدهما وهو الأمارة لمّا لم يكن مشتملاً على التقييد بالشكّ أو بعدم العلم ، يكون حاكماً على الآخر الذي أُخذ في لسان دليله الشكّ ، لأنّ هذه الجهة أعني الاختلاف في لسان الدليل بما ذكر يكفي في تقدّم أحد الأمرين على الآخر ، وهو نافع في استصحاب الحجّية والأمارة القائمة على الحجّية ، فإنّ كلّ واحد منهما حاكم على قاعدة الشكّ في الحجّية ، وناقل للمكلّف من عدم إحراز الحجّية الذي هو موضوع القاعدة إلى إحراز الحجّية.

وهذا بخلاف ما نحن فيه من تقديم دليل الأمارة الدالّة على عدم حجّية الشهرة على ذلك الحكم الوجداني ، أعني قبح التشريع وحرمته عند الشكّ في الحجّية وعدم العلم بها ، فإنّ أقصى ما في دليل الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة أن يخرج ذلك المكلّف من الشكّ الوجداني إلى الحكم التعبّدي باحراز عدم الحجّية ، وجعل المكلّف عالماً تعبّداً بعدم حجّية الشهرة ، والمفروض أنّ ذلك الحكم الوجداني لاحق للقدر الجامع بين العلم بعدم الحجّية وبين الشكّ فيها الذي هو مطلق عدم العلم.

وبالجملة : بعد فرض أنّ ذلك الحكم الوجداني لاحق لمجرّد عدم العلم بالحجّية ، فأيّ أثر للحكم التعبّدي على ذلك المكلّف بأنّك عالم بعدم الحجّية بعد فرض كون العلم الوجداني بعدم الحجّية إنّما يترتّب عليه الأثر باعتبار كونه مصداقاً لعدم العلم بالحجّية ، فلا يكون نقل ذلك المكلّف من موضوع الشكّ إلى موضوع إحراز عدم الحجّية إلاّنقلاً من موضوع وجداني لذلك الأثر إلى موضوع

٣٧١

تعبّدي لذلك الأثر ، وحاصله التعبّد بذلك الأثر في مورد تحقّقه وجداناً ، إذ ليس التعبّد بالموضوع إلاّعبارة عن التعبّد بالأثر.

الجهة الثانية ممّا أفاده قدس‌سره من (١) الفرق هي ما أشار إليه في التحريرات المشار إليها بقوله : وأيضاً الجري العملي هو المجعول في الأصل ، وأمّا المجعول فيها فهو المحرزية ويتبعها الجري العملي الخ (٢).

ولا يخلو أيضاً عن تأمّل ، فإنّ كون المجعول في الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة هو إحراز عدم حجّية الشهرة ، بخلاف استصحاب عدم الحجّية من جهة أنّ المجعول فيه هو الجري العملي ، إنّما يؤثّر على التفرقة بينهما في حجّية المثبت في الأمارة دون الاستصحاب ، ولا يكون ذلك الفرق مصحّحاً للاحراز التعبّدي لعدم الحجّية في الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، لما عرفته من كون ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

فالأولى في الجواب عن هذا النقض هو أن يقال : إنّه لا إشكال في عدم جريان دليل استصحاب عدم الحجّية ، لا لمجرّد كونه إحرازاً تعبّدياً لما هو محرز بالوجدان ، بل لجهة أُخرى وهي ما أشرنا إليه فيما تقدّم (٣) في النقض السابق ، وهي عدم كون الشكّ في الحجّية ناقضاً لليقين بعدم الحجّية ، وهذه الجهة غير موجودة في الأمارة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، وإنّما الإشكال فيها ممحض للجهة الأُولى ، وهي الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

__________________

(١) ولعلّه يومئ إلى ذلك بقوله في هذا التحرير [ يعني فوائد الأُصول ٣ : ١٢٨ ] فإنّ الأمارة تقتضي ـ إلى قوله ـ فلا مانع من قيام الأمارة على عدم الحجّية الخ [ منه قدس‌سره ].

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٥١.

(٣) في الصفحة : ٣٦٨.

٣٧٢

والذي ينبغي هو النظر في نفس ما يحكيه الخبر الواحد عن المعصوم عليه‌السلام من عدم حجّية الشهرة ، أعني بذلك نفس قوله عليه‌السلام : إنّ الشهرة ـ مثلاً ـ ليست بحجّة ، فإن كان ذلك القول منه عليه‌السلام صادراً في قبال بناء عقلائي على حجّية الشهرة ، بحيث يكون ذلك القول منه عليه‌السلام ردعاً لما عليه السيرة ، كان ذلك منه عليه‌السلام تصرّفاً شرعياً وإنشاءً لحكم شرعي ، وأثره هو عدم صحّة نسبة مؤدّى الشهرة إليه تعالى ، وأنّ تلك النسبة بعد ذلك الردع تكون تشريعاً ، وحينئذ يكون للتعبّد بالخبر الحاكي عنه عليه‌السلام ذلك المنع والردع أثر تعبّدي ، وهو إخراج المكلّف من العلم إلى عدم العلم ، إذ لو كانت الشهرة ممّا جرت بها السيرة العقلائية كانت علماً ، ولم يكن القول بمؤدّاها قولاً بعدم العلم ، وبعد ورود الرواية بالردع عن تلك السيرة يكون التعبّد بتلك الرواية موجباً لخروج المكلّف من العلم إلى عدم العلم ، ومحقّقاً لموضوع التشريع بعد أن لم يكن موضوعه محقّقاً.

أمّا إذا لم يكن صدور ذلك القول منه عليه‌السلام في قبال سيرة عقلائية ، فلا يكون حينئذ قوله عليه‌السلام : إنّ الشهرة ليست بحجّة ، من قبيل التصرّف الشرعي ، بل لا يكون إلاّ إخباراً واقعياً عن أمر واقعي ، وهو عدم جعل الشارع الحجّية للشهرة ، كما أنّ العقلاء أيضاً لم يجعلوها حجّة ، وحينئذ لا يترتّب أثر شرعي على خبر الواحد الحاكي عنه عليه‌السلام ذلك القول ، فلا تشمله أدلّة حجّية خبر الواحد.

ولو قلنا بأنّ قوله عليه‌السلام في ذلك المقام : إنّ الشهرة ليست بحجّة ، أيضاً تصرّف شرعي ولو باعتبار إبقاء عدم حجّيتها وعدم نقضه لذلك العدم بجعل حجّيتها ، في قبال توهّم أنّه جعل حجّيتها ، فإن اكتفينا في الأثر الشرعي المترتّب على خبر الواحد الحاكي عنه عليه‌السلام ذلك القول بذلك المقدار من الأثر ، وهو دفع توهّم احتمال الحجّية ودفع احتمال أنّ الشارع قد نقض عدم الحجّية وجعلها

٣٧٣

حجّة ، الموجب لصحّة [ نسبة ] مؤدّى الشهرة إليه تعالى فذاك ، ولا أقل من اختصاص حجّية ذلك الخبر بمن تخيّل أنّ الشهرة حجّة شرعية ، أمّا من لم يتخيّل ذلك بل كان في حدّ نفسه شاكّاً في الحجّية ، فلا يكون ذلك الخبر بالنسبة إليه مشمولاً لحجّية أخبار الآحاد ، كما هو غير بعيد ، فإنّ هذا الأثر وهو عدم صحّة النسبة حاصل لذلك الشخص وجداناً مع قطع النظر عن التعبّد بحجّية ذلك الخبر ، فيكون التعبّد بحجّية ذلك الخبر بالنسبة إلى ذلك الشخص من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا التفصيل الذي ذكرناه مبني على كفاية عدم الردع في حجّية السيرة ، فإنّه بناءً عليه يتمّ التفصيل المذكور ، ومعه لا يكون أثر للرواية الدالّة على عدم الامضاء ، ولا لاستصحاب عدم الامضاء. أمّا لو قلنا بالاحتياج إلى الامضاء ، وأنّ مجرّد عدم الردع غير نافع في حجّية السيرة ، فلا يتمّ التفصيل المذكور ، بل يكون حال الخبر القائم على عدم حجّية الشهرة التي جرت بها السيرة العقلائية أو على عدم إمضائها كحاله فيما إذا لم تكن الشهرة ممّا جرت بها السيرة العقلائية ، في أنّه لا أثر له إلاّبالنسبة إلى من تخيّل حجّية الشهرة ، أو تخيّل إمضاء الشارع للسيرة الجارية بها. كما أنّ استصحاب عدم الامضاء حينئذ يكون حاله حال استصحاب عدم الحجّية في مورد عدم المسبوقية بالسيرة ، في عدم صحّة جريانه للجهتين المذكورتين ، أعني الاحراز الوجداني وعدم تحقّق النقض وجداناً ، فتأمّل.

وقد كنت وجّهت ما أفاده قدس‌سره من الفرق بالجهة الثانية بما هذا نصّه ، وهو : أنّه لو قامت الشهرة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وقام خبر الواحد على عدم حجّية الشهرة ، كان ما نحرزه بخبر الواحد هو عدم حجّية الشهرة ، وهذا

٣٧٤

ـ أعني عدم حجّية الشهرة ـ في حدّ نفسه لا يترتّب عليه أثر عملي بلا واسطة ، لأنّ عدم الاستناد وعدم صحّة النسبة حاصلان وجداناً بمجرّد الشكّ ، لكن لمّا كان ما تحرزه الشهرة ـ وهو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ له أثر عملي وهو الجري على طبق ذلك الوجوب ، كان ذلك الأثر العملي كافياً في جريان التعبّد في دليل حجّية خبر الواحد ، لأنّ أثر الأثر أثر.

وبعبارة أُخرى : يكون عدم لزوم الدعاء عند رؤية الهلال أثراً عملياً لحجّية خبر الواحد ، لكنّه لا يترتّب على مؤدّاه بلا واسطة ، بل يكون ترتّبه عليه بواسطة أدائه إلى عدم حجّية الشهرة ، وأثر عدم حجّية الشهرة هو عدم لزوم الدعاء ، فكان التعبّد بمؤدّى خبر الواحد منتهياً إلى الأثر العملي بواسطة عدم حجّية الشهرة ، وقد حقّق في محلّه أنّه يكفي في الأثر العملي المترتّب على حجّية الأمارة أن يكون مترتّباً على مؤدّاها وإن كان بألف واسطة. وهذا بخلاف الاستصحاب القائم على عدم حجّية الشهرة ، فإنّ مفاد حجّية الاستصحاب لمّا كان هو التعبّد بحجّيته من حيث الجري العملي على طبق المتيقّن السابق ، فلابدّ في الأثر العملي المصحّح لجريانه من كونه مترتّباً على نفس ذلك المتيقّن ، ولا يكفي فيه الآثار العملية التي لا تترتّب عليه إلاّبالواسطة ، ومن الواضح أنّ المتيقّن فيما نحن فيه ليس هو إلاّ عدم حجّية الشهرة ، وليس له أثر عملي إلاّعدم صحّة الاستناد إلى الشهرة ، والمفروض تحقّقه وجداناً بمجرّد الشكّ ، فلا يكون إلاّمن قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. وأساس هذا الفرق هو عدم حجّية الاستصحاب المثبت ، وحجّية الأمارة المثبتة ، انتهى مع بعض التلخيص.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ هذا الأثر العملي وهو عدم لزوم الدعاء لا يلحق الخبر الواحد القائم على عدم حجّية الشهرة ولو بألف واسطة ، إذ لا يثبت به عدم

٣٧٥

لزوم الدعاء وعدم وجوبه بقول مطلق ، على وجه يستغني المكلّف عن إجراء أصالة البراءة فيه ، بل أقصى ما يترتّب على الخبر المذكور هو عدم ثبوت وجوب الدعاء ، وهذا المقدار حاصل في الاستصحاب القائم على عدم حجّية الشهرة.

والحاصل : أنّ الثابت بالخبر المذكور بواسطة دلالته على عدم حجّية الشهرة هو عدم لزوم الدعاء الآتي من ناحية الشهرة ، وبعبارة أُخرى : الثابت بالخبر المذكور بواسطة دلالته على عدم حجّية الشهرة هو مجرّد عدم ثبوت الوجوب ، وهو حاصل بالاستصحاب ، لا ثبوت عدم الوجوب كي يقال إنّ الاستصحاب لا يحصّله ، فتأمّل.

وبالجملة : أنّ عدم ثبوت الوجوب من الآثار الوجدانية اللاحق لعدم العلم بالحجّية ، سواء كان من مجرّد الشكّ أو كان من العلم بالعدم ، فيكون حاله حال بقيّة الآثار ، أعني عدم صحّة النسبة وعدم صحّة الاستناد.

ثمّ إنّه قدس‌سره في الدورة الأخيرة تعرّض لكيفية توقّف الحجّية على العلم بها وإشكال الدور في ذلك ، لأنّ الحجّية وهي الوسطية في الاثبات تتوقّف على العلم بها ، والعلم بها يتوقّف عليها ، ضرورة توقّف العلم على المعلوم.

وأجاب : بأنّ الموقوف على العلم بالحجّية هو الحجّية الحقيقية ، أعني الوسطية في الاثبات ، والذي يتوقّف عليه العلم ليس هو الحجّية الحقيقية ، بل هو الحجّية الانشائية ، ومن الواضح أنّ الحجّية الانشائية لا تتوقّف على العلم بها ، فيكون الحاصل أنّ الذي يحصل العلم بعدمه عند الشكّ في الحجّية هو الحجّية الحقيقية أعني الوسطية في الاثبات ، والمشكوك إنّما هو الحجّية الانشائية. ونظّر المسألة بمسألة الايجاب والقبول في باب البيع ، فإنّ حقيقة البيع وإن توقّفت على القبول ، إلاّ أنّ القبول لا يتوقّف على البيع الحقيقي التامّ ، بل على البيع الانشائي

٣٧٦

الحاصل بالايجاب ، فراجع ما حرّرته عنه قدس‌سره (١) وما حرّره عنه قدس‌سره في المطبوع في صيدا بعنوان « وهم ودفع » (٢).

وحاصل ما أُفيد هو أنّ الحجّية الحقيقية التي هي الوسطية في الاثبات تتوقّف على العلم بالحجّية الانشائية ، فيكون متعلّق العلم الذي تتوقّف عليه الحجّية الحقيقية هو الحجّية الانشائية ، ومن الواضح أنّ هذا العلم إنّما يتوقّف على متعلّقه الذي هو الحجّية الانشائية ، ولا يتوقّف على الحجّية الحقيقية التي هي متوقّفة عليه ، وبناءً على هذا التنويع وأنّ المتوقّف على العلم هو النوع الأوّل والذي يتعلّق به العلم هو النوع الثاني ، لا يكون في البين صورة دور كي يحتاج إلى الجواب عنه بأنّ الموقوف على العلم غير الذي توقّف عليه العلم.

ومنه يظهر لك الخدشة في توهّم الدور في البيع ، فإنّ المتوقّف على القبول إذا كان هو تمامية البيع ، وكان القبول متوقّفاً على إيجاب الموجب وإنشائه البيع فأين الدور حتّى يجاب عنه بالمغايرة بين الموقوف والموقوف عليه ، هذا.

مضافاً إلى أنّ تمامية البيع لا تحصل بالقبول ، بل لا يحصل بالمجموع من الايجاب والقبول إلاّالبيع الانشائي ، وأمّا البيع الحقيقي فيتوقّف تماميته على جهات أُخر راجعة إلى جامعيته للشرائط المعتبرة شرعاً.

وعلى كلّ حال ، نقول بعونه تعالى : إنّ تنويع الحجّية إلى الانشائية والحقيقية محتاج إلى التأمّل ، والمطلب أوضح من الاحتياج إلى هذا التنويع وإلى التنظير بالايجاب والقبول ، وذلك لأنّ الحجّية بعد فرض كونها من الأحكام الشرعية الوضعية المجعولة للشارع ، فلا محيص من القول بأنّ لها وجوداً واقعياً

__________________

(١) مخطوط ولم يطبع بعدُ.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٥٢.

٣٧٧

يشترك فيه العالم بها والجاهل ، بحيث لايكون ثبوت الحجّية للأمارة مثلاً متوقّفاً على العلم. نعم إنّ هذا الحكم الشرعي وهو الحجّية له آثار عقلية ، وهي تنجيز الواقع في مورد الاصابة ، والعذر في مورد الخطأ ، وصحّة الاستناد إليها ، وجواز البناء على أنّ المؤدّى هو حكم الله تعالى ، وصحّة نسبته إليه تعالى ، وعدم كون ذلك تشريعاً محرّماً ، وهذه الآثار العقلية مقيّدة بالعلم بالحجّية.

وبالجملة : أنّ حجّية الأمارة مثلاً من قبيل وجوب الصلاة ، فكما أنّ وجوب الصلاة حكم شرعي يتبعه أحكام عقلية هي حسن الاطاعة ولزومها لدى العقل ، وقبح المعصية ومنع العقل منها ، وهذه الأحكام العقلية منوطة بالعلم بذلك الوجوب ، فكذلك الحجّية بالنسبة إلى ما يتبعها من الأحكام العقلية حرفاً بحرف ، فيكون الحاصل هو : أنّ عدم العلم بأنّ الشارع جعل الحجّية لخبر الواحد مثلاً ، أو عدم العلم بقيام خبر الواحد على حرمة شرب التتن مثلاً ، لا يخرج الحجّة المزبورة عن كونها حجّة شرعية واقعاً ، وإنّما يخرجها عن العلم بالحجّية الذي هو مورد حكم العقل بالأحكام المزبورة ، من دون فرق في ذلك بين كون الجهل المذكور متعلّقاً بأصل الحكم الذي هو الحجّية ، أو أن يكون متعلّقاً بموضوعه الذي هو الخبر القائم على حرمة شرب التتن مثلاً.

نعم ، يمكن أن يقال بخروج النحو الثاني عن أصل الحجّية ، بتقريب : أنّ الحجّية لخبر الواحد إنّما جعلت على من قام عنده الخبر ، فمن علم بحجّية الخبر شرعاً لكن لم يقم عنده الخبر لعدم اطّلاعه على ذلك الخبر الذي يكون مفاده حرمة شرب التتن مثلاً ، لا يكون ذلك الخبر حجّة شرعية في حقّه ، لعدم دخوله تحت عموم من قام عنده الخبر ، ويكون حاله من هذه الجهة حال البيّنة في أنّ حجّيتها مشروطة بأداء الشهادة.

٣٧٨

وإن شئت [ قلت ] إنّ الحجّية مجعولة للاخبار ، ولا يتحقّق الاخبار إلاّبأن يخبرك المخبر ، وأنت إذا لم تطّلع على وجود ذلك الخبر لم يصدق عليك أنّ المخبر قد أخبرك فتأمّل ، هذا.

ولعلّ الذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام أخصر وأبعد عن الإشكالات المزبورة ، وهذا نصّه :

فإن قلت : فعلى ما حرّرتموه لابدّ أن تكون الحجّية مختصّة بحال العلم بها ، فإن كان على نحو نتيجة التقييد كان محتاجاً إلى جعل ثانٍ يكون متمّماً للجعل الأوّل ، كما في باب الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، وهو متوقّف على ثبوت الدليل عليه ، وإن لم يكن بنحو نتيجة التقييد ، بل كان أصل جعل الحجّية مقيّداً بحال العلم ، كان مستلزماً للدور.

قلنا : يمكن أن يلتزم بالاختصاص المذكور مع عدم الالتزام بالتقييد ولا بما هو نتيجته ، بأن يكون أثر الحجّية وهو صحّة الاستناد وعدم لزوم التشريع مترتّباً على نفس الجعل وعلى العلم به ، فالشارع يجعل نفس الحجّية الواقعية وهي غير مقيّدة بالعلم ، لكن ترتّب الأثر المذكور يتوقّف على العلم بها ، فيكون أشبه شيء بما قلناه في باب العقود من توقّف تماميتها على المجموع من الايجاب والقبول مع أنّ الموجب لا ينشئ إلاّنفس المعاملة التي هي عبارة عن المجموع من إنشائه وقبول طرفه ، انتهى.

قلت : وبناءً على ذلك تكون الحجّية المجعولة هي مجرّد جعل الاحراز التعبّدي وتكميل الانكشاف ، وأثره هو صحّة كونها وسطاً في الإثبات ، وخروج الاخبار بما أدّت إليه عن الكذب والتشريع ، وهذه الآثار منوطة بالعلم بذلك الجعل الشرعي ، لا أنّ الحجّية تكون مؤلّفة من الجعل الشرعي والعلم به كما ربما

٣٧٩

يعطيه التنظير بباب البيع. على أنّ المنظّر فيه وهو البيع ليس كما أُفيد ، بل الظاهر أنّ الموجب لا ينشئ إلاّالمبادلة بين المالين ، فإذا قبله القابل تمّ البيع ، وقد شرحنا ذلك في أوائل مباحث البيع (١) ، فراجع.

وعلى كلّ حال ، أنّ الموجب لا ينشئ ما هو فعله وفعل القابل. نعم إنّه ينشئ المعاملة المتقوّمة بهما ، والقابل يقبلها ، فليس الموجب منشئاً لفعل كلّ منهما ، كما أنّه ليس إنشاؤه من قبيل الايقاع ليكون البيع مؤلّفاً من إيقاع وقبول ، بأن يبدّل كتابه بدرهم من المشتري والقابل يقبل ذلك ويرضى به ، فراجع وتأمّل.

__________________

(١) مخطوط ولم يطبع بعدُ.

٣٨٠