أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

موصلاً لها إلى درجة التنجّز ، بخلاف التكليف الواقعي فيما نحن فيه ، فإنّه قبل القطع به غير واصل إلى درجة الارادة والكراهة التي هي درجة الفعلية ، فلا يكون تعلّق القطع به موجباً لتنجّزه ، إلاّإذا جعلنا القطع به سبباً لوصوله إلى درجة الارادة والكراهة التي هي درجة الفعلية ، فيكون القطع به سبباً لتعلّق الارادة والكراهة ولتنجّزه.

ومن ذلك أيضاً يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه الخ (١) فإنّه إن أراد بقوله : وكونه فعلياً ، وصوله إلى درجة الارادة والكراهة ، ففيه أوّلاً : أنّه منافٍ لما قدّمه من الالتزام بعدم انقداح الارادة والكراهة في بعض المبادئ العالية الخ. وثانياً : أنّ الوصول إلى درجة الارادة والكراهة لا يجتمع مع الإذن في المخالفة ، كما قدّمه بقوله : فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً كما فيما صادف الحرام وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه الخ (٢). وإن أراد من الفعلية بقوله : وكونه فعلياً الخ ، هي الفعلية التعليقية ، بمعنى أنّه لو علم به لصار فعلياً وصار منجّزاً ، فهو ما قدّمناه من أنّ لازمه أنّه قبل العلم به أو ما يقوم مقامه لا يكون في البين إرادة ولا كراهة ، ولا يكون إلاّالاقتضاء والعلم بالصلاح ، فلا فعلية قبل العلم أو ما يقوم مقامه.

وبالجملة : أنّ لازم توجيه الترخيص بهذا التوجيه الذي سرّاه أخيراً إلى جميع موارد الطرق والأمارات والأُصول المخالفة للواقع ، كما أفاده بقوله : فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في موارد الأُصول والأمارات فعلياً الخ (٣) هو انحصار التكاليف الواقعية التي هي عبارة عن الارادة والكراهة بمن حصل له العلم بها أو ما يقوم مقامه ، أمّا غيره فلا إرادة في حقّه ولا

__________________

(١ـ٣) نفس المصدر.

٣٤١

كراهة كما لا تنجّز في حقّه. ولكن مع ذلك هو قدس‌سره يقول إنّ الحكم فعلي في حقّه ، بمعنى أنّه لو علم به لتنجّز ، ولم نتوفّق لمعرفة المراد من هذه الفعلية الفاقدة حسب الفرض للارادة والكراهة.

قال المرحوم الشيخ علي القوچاني في حاشيته على قوله في الكفاية : فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام الخ ، ما هذا لفظه : لا يخفى أنّ ما ذكرناه من عدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات فعلياً بقول مطلق ، وأنّه على وجه لو علم به لتنجّز ، لا نريد منه شأنية الحكم الواقعي بالنسبة إلى الفعل المتعلّق به الحكم ، بل بالنسبة إلى الفاعل ، بمعنى عدم كونه متوجّهاً إلى المكلّف ، بيان ذلك : هو أنّ عدم توجيه البعث إلى المكلّف قد يكون من جهة عدم تطبيق الارادة للفعل بذات الفعل لأجل مجامعة ما يقتضيها مع المانع ، كما في جميع الأحكام الانشائية الشأنية ، فإنّه لا طلب في موردها ولا إرادة أصلاً لانتفاء شرطه أو لوجود مانعه ، وقد يكون لا من جهة ذلك ، بل لأجل قصور في المكلّف مانع من الطلب عنه عقلاً أو بنظر الشارع مع كمال حبّه للفعل واشتياقه إليه ومطلوبيته له ، فمن جهته لا يبعث نحوه.

والفرق بين القسمين هو أنّه في الأوّل لا إرادة أصلاً ، وإنّما تتحقّق بعد فرض انتفاء المانع ، بخلاف الثاني فإنّها فيه متحقّقة ، إلاّ أنّها بالنسبة إلى الفعل دون الفاعل ، فإنّ الارادة كما أنّ لها تعلّقاً بالفعل كذلك لها نوع تعلّق بالفاعل ، فالمراد من كون الحكم بحيث لو علم به لتنجّز ، كون الفعل مطلوباً للشارع بحيث لا يريد إلاّوقوعه في الخارج ، وإنّما لا يبعث به نحو المكلّف ولا يطلب منه لأجل جهله بالحكم المانع في نظر الشارع عن البعث إليه والزجر عنه ، فحيث إنّ هناك مانعاً عن الطلب عنه فعلاً ، جاز له ترخيصه في ترك الفعل مع كمال إرادته له

٣٤٢

واشتياقه إليه ، ولذلك بمجرّد علم المكلّف به وارتفاع المانع ـ أعني الجهل ـ يتنجّز في حقّه التكليف لأجل عدم قصور فيه بل في الفاعل ، ومن حيث إنّ الارادة بالنسبة إلى الفعل موجودة وإن لم تتحقّق بعدُ بالنسبة إلى الفاعل ، جاز للشارع حينئذ جعل أمارة مؤدّية إليه دائماً أو غالباً ، إذ لا يعتبر في صحّة جعل الطريق والحجّة أزيد من كون الفعل محبوباً فعلاً ومتعلّقاً بنفسه للارادة الحتمية ، وإن لم يبعث به نحو المكلّف لأجل المانع ، والمفروض كونه كذلك في المقام ، ولذلك لو علم به تنجّز تلك الارادة والطلب المتعلّق بنفس الفعل انتهى ، فراجعه إلى آخر ما أفاده في الحاشية (١).

قلت : لا يخفى أنّه يلزم التأمّل والنظر في حال ذلك الفعل قبل علم المكلّف بوجوبه ، فإن قلنا إنّه قد تعلّقت به الارادة والطلب الشرعي فمن هو المراد منه والمطلوب صدور الفعل عنه مع فرض كون ذلك المكلّف لا تتعلّق به الارادة والطلب ، وهل يمكن وجود الطلب والارادة بلا أن يكون في البين مطلوب منه ولا مراد عنه ، بل وهكذا الحال لو قلنا إنّ الفعل في ذلك الحال غير مراد ، لكنّه كان الشارع مشتاقاً إليه كمال الاشتياق ، كما ربما يظهر لك من الأُستاذ المحقّق العراقي في مقالته المطبوعة ، وذلك قوله : إذ مرجع الأمر الطريقي كلّية إلى الترخيص في تفويت المرام في ظرف الجهل به عند المخالفة ، من دون اقتضائها لنفي اشتياقها وحبّها حتّى في ظرف الجهل بها من إطلاق قيام المصلحة بالذات المحفوظ في جميع المراتب ، إذ نتيجة الترخيص المزبور سلب إرادة المولى في هذه المرتبة ، وهو لا ينافي بقاء اشتياقه حتّى في هذه المرتبة بحاله معاً لاطلاق

__________________

(١) كفاية الأُصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه‌الله ) ٢ : ٨٤ ـ ٨٥ / تعليقة ٢٢.

٣٤٣

مصلحته الخ (١) فراجع كلماته السابقة على هذه الجملة ولاحظها.

ولا يخفى عليك ما في هذه الجملة فضلاً عن سابقها ولاحقها ، فإن تحقّق الشوق إلى نفس صدور الفعل من دون تحقّق من يصدر عنه ، كنفس تعلّق الارادة به من دون تحقّق من هو المراد صدوره عنه. ولو سلّمنا تحقّق الشوق إلى نفس الفعل مع فرض عدم تحقّق من يصدر منه ، على وجه كان الشارع مشتاقاً إلى الفعل من دون تعلّق إرادته به وصدور طلبه ، لأمكننا القول بأنّه لا أثر لذلك الاشتياق ما لم يبلغ درجة الطلب والارادة ، وحينئذ لا يصحّ في ذلك الحال جعل الطرق والأمارات بالنسبة إلى ذلك الفعل ، لأنّه قبل الطريق إليه لا إرادة ولا طلب ، فلا تقوم الأمارة حينئذ إلاّعلى كون ذلك الفعل قد اشتاق إليه الشارع من دون تعلّق إرادته وطلبه به.

وبالجملة : يكون العلم وما يقوم مقامه سبباً لتعلّق الارادة بذلك الفعل ، فيكون الحاصل انحصار الحكم الشرعي الذي هو الطلب والارادة بمن حصل له العلم بذلك الشوق. ولا يخفى خروجه عن الطريقة الوسطى التي هي طريقتنا في التخطئة.

والحاصل : أنّ الارادة من الفاعل الجاهل متحقّقة كاملة العيار ، غير أنّها لم تكن منجّزة على وجه توجب مخالفتها استحقاق العقاب ، ولا أثر للجهل سوى ذلك ، وهو المعبّر عنه بالمعذورية ، مع فعلية الخطاب والارادة والبعث والزجر والطلب من جميع الجهات ، ولم يتّضح لنا معنى صحيح للفعلية بمعنى لو علم به لتنجّز ، وحينئذ يكون إشكال اجتماع الترخيص مع ذلك الطلب الفعلي باقياً بحاله إلاّ على ما قدّمناه ، فراجع وتأمّل.

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٤٨ ـ ٤٩.

٣٤٤

والذي حرّرته عن درس أُستاذنا المرحوم السيّد أبي الحسن قدس‌سره في تفسير هذه الفعلية هو : أنّ الالزام الفعلي يكون مقيّداً بعدم الإذن ، وإذا حصل الإذن منه لأجل الجهل وعدم مصلحة تقتضي جعل الاحتياط ، لا يكون ذلك الالزام فعلياً ، ويكون معنى كون الالزام فعلياً على هذا التقدير أنّه لو علم به لتنجّز ، فما دام الجهل موجوداً يكون ذلك الالزام غير منجّز ، وفي هذه المرحلة ـ أعني مرحلة الجهل ـ لا مانع من كونه غير فعلي ، لأنّ فعليته تكون مقيّدة بعدم الإذن ، وفي تلك المرحلة يكون مأذوناً فيه لأجل الجهل ، فيكون الالزام غير فعلي ، فلم يجتمع الإذن والترخيص مع الالزام الفعلي.

والحاصل : أنّ الجهل يصيّر الالزام الفعلي غير منجّز ، فيكون مأذوناً في مخالفته ، وإذا كان مأذوناً فيه كان غير فعلي ، لما عرفت من أنّ فعليته مقيّدة بعدم الإذن. نعم إذا ارتفع الجهل كان الالزام منجّزاً ، فلا يكون مأذوناً فيه فيكون فعلياً وهذا معنى تفسيره الفعلية بما لو علم به لتنجّز ، فتأمّل انتهى.

قلت : لا ريب على الظاهر عند صاحب الكفاية قدس‌سره ومن تبعه في أنّ الحكم ما لم يبلغ إلى الدرجة الفعلية المعبّر عنها بمرحلة التحصيل من المكلّفين ، قابل للترخيص الشرعي على خلافه ، إذ لا مانع من الترخيص الشرعي في مخالفة الحكم الاقتضائي أو الشأني ، بل الانشائي إذا لم يصل إلى درجة التحصيل من المكلّفين ، كما أنّه لا ينبغي الريب في أنّ وصوله إلى الدرجة المزبورة مقيّد عقلاً بما إذا لم يكن في البين ترخيص بالمخالفة ، فتكون فعلية الأحكام مقيّدة عقلاً بعدم الترخيص المزبور ، ويكون هذا الترخيص موجباً لبقائها على حالها من محض الاقتضاء أو الشأنية أو الانشائية ، وهذا الترخيص إن كان ناشئاً عن عدم كمال الصلاح في الأمر الواقعي أو وجود مانع فأمره واضح ، حيث إنّ تدرّج

٣٤٥

التكليف الواقعي في هذه الدرجات من الاقتضائية إلى الشأنية إلى الانشائية إلى الفعلية تابع للمصلحة في متعلّقه ، وعدم المانع من تأثيرها في الوصول إلى الدرجة التالية ، وإن كان هذا الترخيص لأجل جهل المكلّف بالحكم الواقعي ، كان موجباً لعدم الفعلية أيضاً ، إلاّ أنّه لا مانع من وصفه بالفعلية معلّقاً على ارتفاع الترخيص بارتفاع سببه الذي هو الجهل ، فيقال إنّه فعلي بمعنى أنّه لو علم به كان فعلياً وكان منجّزاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الترخيص الوارد في مقام الجهل لابدّ أن يكون عن مصلحة ولو في نفس الجعل ، وهذه المصلحة ولو هي في نفس جعل الترخيص ، تكون مزاحمة للمصلحة الواقعية في اقتضائها تدرّج التكليف الواقعي من المراتب السابقة إلى المرتبة [ اللاحقة ] ، وحيث إنّها ـ أعني مصلحة الترخيص ـ أقوى في هذه الجهة ، كانت موجبة لعدم تأثير المصلحة الواقعية في وصول التكليف إلى الدرجة الفعلية ، وأنّه يبقى على حاله من الدرجات السابقة ، ففي الحقيقة لا يكون التكليف الواقعي في مقام الجهل به إلاّاقتضائياً شأنياً إنشائياً ، ولا يكون فعلياً أصلاً. ولا يكون تسميته فعلياً بمعنى كونه لو علم به لتنجّز إلاّكتسمية سائر الأحكام الشأنية المقرونة بالمانع من تأثير الصلاح في فعليتها فعلياً بمعنى أنّه لو ارتفع ذلك المانع لصارت فعلية.

نعم ، غاية الفرق هو أنّ ارتفاع ذلك المانع يكون أثره مقصوراً على فعليتها لكنّه لا يوجب تنجّزها ، بل يحتاج تنجّزها إلى جهات أُخر ، بخلاف ارتفاع الجهل فإنّه مضافاً إلى كونه موجباً لفعليتها يكون موجباً لتنجّزها أيضاً ، فذلك التكليف في حال الجهل يكون مشاركاً للأحكام الفعلية غير المنجّزة كما في موارد الجهل المركّب كالقطع بعدم التكليف مع فرض وجوده واقعاً ، في أنّ العلم به يكون

٣٤٦

موجباً لتنجّزه ، وإن خالفها في أنّه في حال الجهل ليس بفعلي أيضاً مضافاً إلى كونه غير منجّز ، وهذا بخلاف الحكم الانشائي غير الواصل إلى درجة الفعلية لمانع يمنع من فعليته المعبّر عنها بانقداح الارادة في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير الجهل فإنّ العلم به لا يوجب تنجّزه كما لا يوجب فعليته ، بل هو باق على مرتبته من الاقتضاء أو الانشاء ، ولا يصل بواسطة تعلّق العلم به إلى درجة الفعلية ولا إلى درجة التنجّز ، فإنّ ذلك الحكم الانشائي الذي أُوحي به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن المانع من فعليته المعبّر عنها بانقداح الارادة في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الجهل ، كي يكون العلم به موجباً لفعليته وتنجّزه ، بل كان المانع من ذلك شيئاً آخر هو موجود في كلا حالتي الجهل والعلم ، وحينئذ يكون ذلك الحكم الانشائي غير واصل إلى درجة الفعلية والتنجّز في كلّ من حالتي الجهل والعلم به.

وقد تلخّص : أنّ الحكم الانشائي بالنسبة إلى تعلّق العلم به يكون على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يكون فعلياً لكن الجهل منع من تنجّزه ، ولابدّ أن يكون الجهل في هذه الصورة جهلاً مركّباً ، بمعنى القطع بعدم التكليف ، وحيث إنّها ليست مورداً للترخيص الشرعي لم يكن في حال الجهل المذكور ما يوجب ويمنع (١) من فعليته وأقصى ما في البين أنّ الجهل المذكور مانع من تنجّزه.

الثاني : الجهل المقرون بالشكّ ، وهذه الصورة هي مورد الترخيص الشرعي المانع من فعليته.

الثالث : ما كان المانع من فعليته شيئاً آخر غير الترخيص الشرعي. ويشترك الأوّلان في هذه القضية ، وهي أنّ ذلك الحكم لو علم به لتنجّز ، بخلاف الصورة

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، فلاحظ ].

٣٤٧

الثالثة.

قوله في الكفاية : فانقدح بما ذكرنا أنّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الأُصول والأمارات فعلياً ... الخ (١).

يمكن إصلاح هذا التوجيه بنحو ما أفاده في الأُصول الترخيصية ، بأن يقال إنّ الحكم الواقعي إنّما يكون فعلياً في مورد الجهل به إذا لم يكن في البين أمارة أو أصل على خلافه ، لأنّ المصلحة الموجبة لجعل الحكم على خلافه مانعة من تأثير المصلحة الواقعية في تحقّق الارادة في النفس النبوية ، وهذا بخلاف ما لو كان الأصل أو الأمارة موافقة له ، فإنّه حينئذ لا مانع من انقداح الارادة في تلك النفس العالية ، فيكون الحكم الواقعي فعلياً في تلك الموارد ، ويكون ذلك الحكم الواقعي الفعلي منجّزاً في حقّ المكلّف بواسطة قيام الأمارة أو الأصل عليه. واحتمال عدم إصابتها لا يوجب عدم تنجيزها الواقعي الفعلي ، لأنّ هذا الاحتمال محكوم بالغائه شرعاً بواسطة دليل حجّيتها ، فيلزم العمل على كلّ أمارة أو أصل ، غايته أنّا نقول إنّ بعضها لو كان مخطئاً يكون الحكم الواقعي في مورده غير فعلي. وحاصل ذلك هو الالتزام بعدم فعلية الأحكام الواقعية في خصوص الأمارات والأُصول المخالفة دون الموافقة.

ومنه يظهر لك أنّ تقريب هذا التوجيه بهذا التقريب لا يحتاج إلى دعوى كون الحكم الواقعي ينقلب إلى الفعلية بواسطة قيام الأمارة ، ليرد عليه ما أفاده قدس‌سره بقوله : فإنّه يقال الخ (٢) لما عرفت من كون الحكم الواقعي في حدّ نفسه يقتضي الفعلية ، ولا يخرج عنها إلاّإذا كانت الأمارة أو الأصل على خلافه.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٧٨.

٣٤٨

نعم ، يرد على هذا التوجيه ما أفاده شيخنا قدس‌سره (١) فيما شرحناه مراراً من معنى الفعلية ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّه يقال : لا يكاد يحرز بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة ولا تعبّداً إلاّحكم إنشائي تعبّداً ، لا حكم إنشائي أدّت إليه الأمارة ... الخ (٢).

توضيحه : أنّا لو التزمنا بأنّ الأحكام الواقعية قبل قيام الأمارة عليها تكون إنشائية ، وبواسطة قيام الأمارة عليها تكون فعلية ، يكون الحاصل حينئذ هو أنّ الفعلية من آثار الحكم الانشائي الحقيقي الذي قامت عليه الأمارة ، فيكون موضوع الفعلية هو الحكم الانشائي الحقيقي الذي قامت عليه الأمارة ، ويكون موضوعها حينئذ مركّباً من الحكم الانشائي الحقيقي المقيّد بقيام الأمارة عليه ، فلو قامت الأمارة على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، لم يكن قيامها محقّقاً لذلك الموضوع المركّب حقيقة ، لأنّ قيام الأمارة على ذلك لا يوجب كونه وجوباً حقيقياً ، بل أقصى ما فيه أنّه وجوب إنشائي تعبّداً ، فلا يكون قيامها محصّلاً إلاّ للتعبّد بالجزء الأوّل من موضوع الفعلية ، ويبقى الجزء الثاني منه ـ وهو كونه ممّا قامت الأمارة عليه ـ لم يجر فيه التعبّد.

إلاّ أن ندّعي أنّ التعبّد في الجزء الأوّل لمّا كان بلا أثر كان لغواً ، فاخراجاً له عن اللغوية نقول إنّ الشارع قد أجرى التعبّد في الجزء الثاني ، فيكون ما نحن فيه من قبيل ما لو كان لنا أثر يترتّب على موت زيد مقيّداً بيوم السبت ، وقامت الأمارة على موته ، فإنّها لا يتحقّق منها إلاّالتعبّد بالجزء الأوّل وهو نفس الموت ، وأمّا

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٧٨.

٣٤٩

التعبّد بالجزء الثاني وهو كونه واقعاً في يوم السبت فلا تعبّد فيه ، إلاّبأن نقول : إنّ التعبّد بالجزء الأوّل بدون التعبّد بالجزء الثاني يكون لغواً ، وحينئذ يكون دليل التعبّد بالجزء الأوّل دليلاً على التعبّد بالجزء الثاني ، وهذا إنّما يكون إذا لم يكن للتعبّد بالجزء الأوّل أثر أصلاً ، أمّا إذا كان له أثر آخر مترتّب على نفس الموت ، فلا مجال فيه للغوية.

والذي يظهر من الكفاية بقوله : لكنّه لا يكاد يتمّ إلاّإذا لم يكن للأحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلاً الخ (١) أنّ للأحكام الواقعية الانشائية في حدّ نفسها أثراً مصحّحاً لجريان التعبّد فيها ، وفيه تأمّل.

أمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : وأُخرى الخ (٢) فالظاهر عدم وروده على هذا التوجيه ، لأنّ القائل به لابدّ له أن يلتزم بسدّ باب احتمال فعلية الأحكام الواقعية فراراً من احتمال النقيضين ، فكيف يورد عليه بأنّه يحتمل كون الحكم الواقعي فعلياً ليلزم احتمال اجتماع النقيضين ، فتأمّل.

وكذلك ما أفاده في الايراد على الوجه الثاني الراجع إلى تعدّد المرتبة بقوله : فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي ، إلاّ أنّه يكون في مرتبته أيضاً الخ (٣) فإنّ الظاهر أنّه غير وارد ، فإنّه بعد تسليم كون الحكم الظاهري في طول الجهل بالحكم الواقعي الذي هو في طول الحكم الواقعي ، على وجه يكون الحكم الظاهري متأخّراً عن الحكم الواقعي برتبتين ، كيف يكون الحكم الواقعي موجوداً في مرتبة الحكم الظاهري ، وهل ذلك [ إلاّ ] من قبيل قولنا إنّ المعلول لم يكن موجوداً في مرتبة العلّة ، إلاّ أنّ العلّة موجودة في مرتبة المعلول. ونظير هذا

__________________

(١ـ٣) كفاية الأُصول : ٢٧٩.

٣٥٠

الإشكال ما أشكله (١) على الترتّب من أنّ الأمر بالمهم وإن لم يكن موجوداً في مرتبة الأمر بالأهمّ ، إلاّ أنّ الأمر بالأهمّ موجود في مرتبة الأمر بالمهم. وحينئذ فالعمدة في الجواب هو أنّ اختلاف الرتبة لا يصحّح اجتماع النقيضين ، وقد أوضحنا ذلك بما لا مزيد عندنا عليه ، فراجع (٢) وتأمّل.

قوله : ولو سلّم عدم شمول الافتراء لما لا يعلم موضوعاً ، فلا أقل من شموله حكماً ، لأنّه جعل في مقابل الإذن ، فتدلّ الآية الشريفة على أنّ كلّ ما لم يؤذن فيه فهو افتراء إمّا موضوعاً وإمّا حكماً (٣).

لا يخفى أنّ مقابلة الإذن إنّما تكون قرينة على أنّ المراد بالافتراء هو ما لم يؤذن فيه ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يوجب التوسعة لما لم يعلم الإذن فيه. مضافاً إلى أنّه لو أوجب التوسعة لذلك كان ما لم [ يعلم ] الإذن فيه داخلاً في موضوع الافتراء ، لا أنّه من باب مجرّد الدخول في الحكم.

فالأولى أن يقال : إنّ المراد من قوله تعالى : ( قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ )(٤) هو التقرير باحراز الإذن ، فيكون مقابله عدم إحراز الإذن ، فيكون شاملاً للقول عليه تعالى بغير علم ، ويكون ذلك داخلاً في موضوع الافتراء لا من مجرّد الدخول في الحكم ، فتأمّل.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ١٣٤.

(٢) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٠٩ وما بعدها ، وراجع أيضاً الحاشية المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : ٤٠ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١١٩ ـ ١٢٠.

(٤) يونس ١٠ : ٥٩.

٣٥١

قوله : بناءً على كون التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم ، لا لأجل التصدّي للقضاء مع عدم كونه أهلاً له (١).

يمكن أن يقال : إنّ القضاء ليس من باب الافتاء والحكاية عن الحكم الواقعي ، بل هو من باب الانشاء والجعل من قبل القاضي ، غايته أنّه لابدّ في ذلك من كونه مطابقاً للحكم الشرعي ، سواء كان في الشبهات الحكمية أو كان في الشبهات الموضوعية ، فلا يكون التوبيخ عليه مع فرض عدم العلم بأنّه مطابق للحكم الشرعي دليلاً على حرمة النسبة إليه تعالى والحكاية عنه تعالى مع عدم العلم بذلك ، وإن اشترك البابان في الحرمة مع عدم العلم ، فإنّه كما تكون الحكاية والفتوى مع عدم العلم حراماً ، فكذلك الحكم الانشائي القضائي في مقام فصل الخصومة مع عدم العلم ، لأنّ الشرط في جواز القضاء هو العلم بأنّ ما يقضي به مطابق للواقع ، فتأمّل.

واعلم أنّه قد استدلّ على أصالة عدم الحجّية بعموم ما دلّ على المنع عن العمل بالظنّ ، ولم يخرج عنه إلاّما ثبت اعتباره بالخصوص ، فبقي الباقي تحت العموم المذكور. وقد تعرّض له شيخنا قدس‌سره في الدورة الأخيرة ، فقال فيما حرّرته عنه قدس‌سره ما هذا نصّه : وفيه أنّ خروج ما ثبت اعتباره بالخصوص لم يكن بالتخصيص ، بل كان بالتخصّص ، حيث إنّ دليل الحجّية لمّا كان متكفّلاً لإلغاء احتمال الخلاف ، لم يكن الأخذ به والاستناد إليه استناداً إلى الظنّ ، بل كان استناداً إلى العلم بذلك الدليل الدالّ على إلغاء احتمال الخلاف ـ إلى أن قال : ـ فإذا شككنا في حجّية ظنّ بالخصوص كان ذلك عبارة أُخرى عن الشكّ في إلغاء احتمال الخلاف فيه ، فيكون التمسّك بذلك العموم في مقام الشكّ المذكور من قبيل

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٠.

٣٥٢

التمسّك بالعموم في مورد الشكّ في انطباق عنوان العام عليه ، وهو ممّا لا إشكال في عدم جوازه الخ. فراجع ما حرّره عنه قدس‌سره في التحريرات المطبوعة في صيدا ص ٨٧ (١).

قلت : يمكن أن يتأمّل في ذلك بأن يقال : إنّ الشكّ في الحجّية وإن أوجب في المرتبة الأُولى الشكّ في دخوله تحت عمومات النهي عن العمل بغير العلم ، إلاّ أنّه في الرتبة الثانية ـ أعني رتبة عدم العلم بالحجّية ـ يكون مشمولاً لأدلّة المنع من الأخذ بغير العلم ، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات.

وبالجملة : يكفي في دخوله تحت عموم عدم العلم ، عدم العلم بأنّه حجّة ، وإنّما يخرج عن موضوع عدم العلم إذا كانت حجّيته محرزة ، فإنّه لا معنى للشكّ في كون هذا القول قولاً بغير العلم أو كونه قولاً بالعلم ، بل إنّ الشكّ في الحجّية يوجب القطع بأنّه قول بغير علم ، فتأمّل. والتعبير في كثير من الآيات وإن كان بالظنّ ، إلاّ أنّ المراد به هو عدم العلم ، كما في قوله : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) الخ (٢) ، فيكون الملاك والميزان هو عدم العلم ، وهو حاصل وجداناً عند الشكّ في الحجّية.

لا يقال : إنّ التمسّك بالعموم المذكور إنّما يتمّ لو كان تقديم دليل حجّية الأمارة على العموم المذكور بطريق الورود ، بتقريب : أنّ دليل حجّية الأمارة يكون موجباً للعلم الوجداني بالحكم الظاهري ، فيكون رافعاً لموضوع العموم رفعاً حقيقياً وجدانياً ، فمع الشكّ في الحجّية يتمسّك بعموم المنع من الأخذ بغير العلم ويتمّ حينئذ ما ذكرتموه من أنّه لا محصّل للشكّ في كونه غير عالم ، بل يكون

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٤٨.

(٢) الكهف ١٨ : ٥.

٣٥٣

الشكّ في الحجّية محقّقاً وجداناً لعدم العلم. أمّا لو قلنا بأنّ تقديم دليل الحجّية على ذلك العموم بطريق الحكومة ، بأن يقال : إنّ جعل الشارع حجّية الأمارة مرجعه إلى جعل العلم التعبّدي ، ولا ريب أنّ العلم التعبّدي قابل للشكّ ، فمع الشكّ في الحجّية يكون المكلّف شاكّاً في تحقّق العلم التعبّدي وعدم حصوله ، فلا يشمله عموم المنع من الأخذ بغير العلم ، للشكّ في كونه غير عالم ، ويكون التمسّك بذلك العموم حينئذ تمسّكاً بالعموم في الشبهة المصداقية.

لأنّا نقول : إنّ العلم التعبّدي وإن كان قابلاً للشكّ ، إلاّ أنّ دليل المنع من الأخذ بغير العلم لم يكن مقيّداً بعدم العلم التعبّدي ، بل المراد هو عدم العلم الوجداني ، غايته أنّه إذا ثبت التعبّد بالأمارة يكون ثبوته حاكماً على عموم عدم العلم ، فمع الشكّ في ذلك التعبّد لا مانع من التمسّك بعموم المنع من الأخذ بغير العلم ، لأنّ ذلك الشاكّ غير عالم وجداناً وإن كان شاكّاً في حصول العلم التعبّدي ، وإلاّ لوجب عدم التمسّك بالعموم عند الشكّ في تحقّق الحاكم عليه.

مثلاً أنّ للشكّ في الصلاة أحكاماً ، ودليل « لا شكّ لكثير الشكّ » حاكم على أدلّة تلك الأحكام ، فلو شككنا في شمول كثير الشكّ لمن حصل له الشكّ مرّتين ينبغي أن يسقط عموم تلك الأحكام في حقّه. وهكذا الحال فيما لو شككنا في حجّية خبر الشخص الواحد في أنّ المكلّف قد أتى بالمشكوك أو لم يأت به ، وهكذا الحال في نسبة « لا شكّ للإمام مع حفظ المأموم » إلى أدلّة حكم الشكّ. فإنّا لو شككنا في أنّ الشارع هل قال : لا شكّ لمن هو ضعيف المزاج ، ونحو ذلك ممّا يكون على تقديره أو تقدير حجّيته حاكماً على أدلّة الشكّ.

وهكذا الحال في حكومة دليل الأمارة على دليل الأُصول من الاستصحاب وبقية الأُصول ، فإنّ لازم ما أُفيد في هذا المقام هو أنّ الأمارة المشكوكة الحجّية

٣٥٤

توجب التوقّف عن الأخذ بعموم دليل الاستصحاب وسائر الأُصول العملية.

قوله : ذهب إلى الأوّل المحقّق الخراساني قدس‌سره ، وحمل ما ورد في الكتاب والسنّة في هذا الباب على الارشاد ، نظير قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ )(١) ، (٢).

لم أعثر في الكفاية على ما يدلّ على ذلك ، بل كلامه في باب النهي يقتضي الفساد ظاهر في أنّ بناءه على حرمة التشريع شرعاً ، غير أنّه يقول إنّه من الأفعال القلبية ، فإنّه قال : مع أنّه لا ضير في اتّصافه بهذه الحرمة ( يعني الحرمة الذاتية ) مع الحرمة التشريعية ، بناءً على أنّ الفعل فيها ( يعني الحرمة التشريعية ) لا يكون في الحقيقة متّصفاً بالحرمة ، بل إنّما يكون المتّصف بها ما هو من أفعال القلب ، كما هو الحال في التجرّي والانقياد الخ (٣). نعم ، كلامه في الحاشية على الرسائل صريح في ذلك ، فإنّه قال : فالحرمة التشريعية عقلية صرفة لا شرعية كحرمة قصد المعصية ـ إلى قوله ـ فلو ورد ( نهي عن التشريع ) في الشرع فهو من باب الارشاد ، وإطباق العقلاء على ذمّ المشرّع إنّما هو على نفس البناء والالتزام الذي هو من أفعال القلب الخ (٤).

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في حرمة التشريع شرعاً ، وإن وقع الكلام في سريانه إلى الفعل الخارجي أو كونه مقصوراً على الفعل القلبي والاعتقاد.

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٢٠.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٠.

(٣) كفاية الأُصول : ١٨٧ ( لا يخفى أنّ ما بين القوسين شرح المصنّف لكلمات الآخوند قدس‌سرهما ).

(٤) حاشية على كتاب فرائد الأُصول : ٤١ ـ ٤٢.

٣٥٥

قوله : ومسألة قبح التشريع من هذا الباب ، لأنّ حكم العقل بقبحه ليس واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام ... الخ (١).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : وحكم العقل بقبح التشريع إنّما هو من قبيل الأوّل ( يعني كونه واقعاً في سلسلة علل الأحكام ) ومجرّد كونه تمرّداً على المولى لا يوجب كونه من قبيل الثاني ( يعني كونه واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام ليكون حاله حال المعصية ) فإنّه من قبيل الكذب بل هو هو بعينه ، فيكون حاله حال شتم المولى وسبّه في كونه تمرّداً على المولى ، مع كون قبحه علّة في الحكم الشرعي بحرمته.

قوله : بتقريب أنّه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه ... الخ (٢).

قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : الثالثة فيما يتعلّق بالتشريع ، هي أنّه هل حاله حال التجرّي في عدم سراية قبحه إلى الفعل ، لكونه واقعاً في ناحية الاحراز ، فلا يكون إلاّ من قبيل الداعي في عدم انطباقه على الفعل ، أو أنّه يكون منطبقاً على الفعل وموجباً لحرمته؟ والحقّ هو الثاني ، فإنّ التشريع ما لم يبرز إلى الخارج بالعمل على طبق ما شرّعه أو بالأمر بالعمل على طبق ما شرّعه ، لم يكن هناك إلاّمجرّد الخطور والنيّة ، وهي لا أثر لها أصلاً ، وحينئذ فيكون التشريع موجباً لبطلان العمل وفساده وحرمته.

وأمّا تفصيل صاحب الجواهر قدس‌سره في النجاة (٣) بين التشريع في تروك الصوم وبين التشريع في أجزاء الصلاة وشرائطها ، في كون الثاني موجباً للبطلان دون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٢١.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢١.

(٣) نجاة العباد : ١٤٩ ، ١٩١.

٣٥٦

الأوّل ، فليس مبناه عدم انطباق التشريع على العمل ، بل مبناه هو التفصيل بين كون التشريع في ترك شيء والتشريع في فعله ، بدعوى عدم سراية الترك إلى العمل بخلاف الفعل ، فتأمّل انتهى.

قلت : وقوله أو بالأمر بالعمل على طبق ما شرّعه ، إشارة إلى الفتوى على طبق ما شرّعه.

وبالجملة : أنّ للتشريع مراتب :

الأُولى : مرتبة الاعتقاد القلبي ، وهذه لا أثر لها ، على إشكال في ذلك ، لأنّها فعل قلبي اختياري قابل للتحريم الشرعي ، فلا ينبغي الإشكال في حرمتها.

الثانية : مرتبة الحكاية والنسبة إليه تعالى ، وهذه هي الفتوى بعينها ، ولا إشكال في حرمتها ، إذ لا أقل من كونها كذباً عليه تعالى.

الثالثة : مرتبة الأمر بالعمل على طبقها ، وهي من مقولة الحكم ، كما في قول عمر : وأنا محرّمهما (١) ، ولا إشكال في حرمتها لكونها حكماً بغير علم.

الرابعة (٢) : هي مرتبة عمل الشخص نفسه على طبق ما شرّعه. ولعلّ الثالثة راجعة إلى هذه المرتبة الرابعة (٣) ، لأنّ إنشاء الحكم على طبق ما شرّعه من مقولة عمل الشخص نفسه.

وينبغي مراجعة ما علّقناه على ما أفاده قدس‌سره في باب النهي عن العبادة في

__________________

(١) راجع كنز العمّال ١٦ : ٥١٩ / ٤٥٧١٥ ، ٤٥٧٢٢ ، وفيه : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنهى عنهما وأُعاقب عليهما ، متعة النساء ومتعة الحجّ. وراجع أيضاً التفسير الكبير ١٠ : ٥٠.

(٢) [ في الأصل : الثالثة ، وهو من سهو القلم ].

(٣) [ في الأصل : ولعلّ الثانية راجعة إلى هذه المرتبة الثالثة ، والصحيح ما أثبتناه ].

٣٥٧

مسألة النهي التشريعي (١).

قوله : وظاهر قوله : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم » (٢) ... الخ (٣).

تقدّمت الاشارة (٤) إلى أنّ القضاء والحكم الصادر لفصل الخصومة ليس من باب الافتاء والحكاية ، كي يكون تشريعاً لتكون حرمته سارية إلى الفعل الذي هو نفس القضاء ، بل إنّ نفس الحكم القضائي تشريع وإنشاء لحكم ، لكنّه تشريع جائز ، غايته أنّ جواز هذا النحو من التشريع مشروط بالأهلية ، وكون ما يقضي به وينشئه القاضي مطابقاً للحكم الشرعي الواقعي ، فتأمّل.

قوله : حيث قال : وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها ... الخ (٥).

لا يخفى أنّ للحجّية إطلاقين :

أحدهما : بمعنى ما يوجب التنجّز والمعذورية. وهذه تنطبق على حجّية احتمال التكليف في الشبهات البدوية قبل الفحص ، وفي موارد العلم الاجمالي. ومن ذلك الظنّ على طريقة الحكومة الناشئة عن تبعيض الاحتياط. وهذه لا يلزمها الالتزام وصحّة النسبة.

ثانيهما : بمعنى الاحراز والوسطية في الاثبات والقيام مقام العلم الطريقي. وهذه وإن ترتّب عليها الأثر الأوّل وهو التنجيز والمعذورية ، إلاّ أنّ أهمّ آثارها هو

__________________

(١) راجع المجلّد الرابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٥٩ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٢.

(٤) في الصفحة : ٣٥٢.

(٥) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٢.

٣٥٨

الاحراز والوسطية في الاثبات ، وصحّة الالتزام وصحّة النسبة إليه تعالى.

ولا يبعد أن يكون منظور شيخنا قدس‌سره من الحجّية هو النحو الثاني ومنظور الكفاية هو النحو الأوّل. ولكن لا يخفى أنّ الكلام إنّما هو في حجّية الأمارات وهي من النحو الثاني دون النحو الأوّل ، فتأمّل.

ثمّ إنّ لكون الظنّ حجّة على الحكومة طريقتين ، الأُولى : هي دعوى أنّه بعد تمامية المقدّمات يكون العقل حاكماً بحجّية الظنّ وكونه وسطاً في الاثبات. والثانية هي طريقة تبعيض الاحتياط. وما أفاده شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير بقوله : وحاصله أنّه ليس من وظيفة العقل جعل الظنّ حجّة الخ (١) إنّما يرد على الطريقة الأُولى ، وأمّا الطريقة الثانية فلا يتوجّه عليها الإيراد المذكور ، لأنّ صاحبها لا يدّعي كون الظنّ بحكم العقل وسطاً في الاثبات. نعم يرد على صاحب الكفاية المفروض كونه ملتزماً بالطريقة [ الثانية ] من حجّية الظنّ على الحكومة وهي طريقة [ تبعيض ] الاحتياط ، أنّها لا دخل لها بما نحن بصدده من حجّية الأمارات التي أهمّ آثارها صحّة الالتزام والنسبة إليه تعالى ، فعدم صحّة الالتزام والنسبة في حجّية الظنّ على الحكومة لا دخل له بما نحن بصدده ، فتأمّل.

قوله : ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح التشريع ... الخ (٢).

التشريع نوع من الكذب ، ويمكن إقامة البرهان على أنّ حكم العقل بقبح الكذب من قبيل ذي الملاك الواحد ، بأن يقال : إنّه لا ريب في أنّ ملاك القبح المذكور ليس هو مجرّد عدم المطابقة للواقع ، بل هو عدم المطابقة للاعتقاد ، وهذا يتصوّر بصورتين ، الأُولى : أن يكون المتكلّم معتقداً بعدم موت زيد ولكنّه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢٥.

٣٥٩

يخبرنا بموته. ولا ريب في قبح ذلك منه. الصورة الثانية : أن لا يكون معتقداً بشيء ، بأن كان شاكّاً في موته وحياته ولكنّه مع ذلك أخبرنا بموته. وهذه الصورة أيضاً يحكم فيها العقل بقبح الاخبار.

ولكن هل أنّ حكمه بذلك طريقي مخافة الوقوع في القبيح الواقعي ، أو أنّ حكمه بذلك واقعي أيضاً ملاكه عدم مطابقة هذا الخبر لاعتقاده ، بمعنى كون ذلك الخبر غير مطابق لاعتقاده الذي هو عين الملاك في حكمه بالقبح في الصورة الأُولى؟

وهذا الأخير هو المتعيّن ، لأنّ حكمه في هذه الصورة بالقبح لو كان طريقياً مخافة الوقوع في القبيح في الصورة الأُولى ، كان محصّله هو منع العقل من الإخبار في صورة الشكّ مخافة الوقوع في القبيح الأوّل الذي [ هو ] الاخبار مع اعتقاد العدم ، ولا ريب في فساد ذلك وعدم معقوليته ، لعدم معقولية منع العقل عن الاقدام على الاخبار مع الشكّ خوفاً من الوقوع في القبيح الواقعي الذي هو الاخبار مع اعتقاد الخلاف ، بحيث يكون لسان حال هذا المنع العقلي هو أنّك لا تخبر مع الشكّ خوفاً من أن يكون إخبارك هذا قبيحاً واقعاً ، بأن يكون إخباراً مع اعتقاد الخلاف ، لما هو واضح من أنّ الاخبار مع الشكّ لا يعقل أن يكون في الواقع إخباراً مع اعتقاد الخلاف ، فلا يحتمل في الاخبار مع الشكّ أن يكون نفس ذلك الاخبار إخباراً مع اعتقاد الخلاف ، وحينئذ فلابدّ أن يكون الملاك في حكمه بالقبح في الصورة الثانية هو بعينه الملاك في القبح في الصورة الأُولى ، وذلك الملاك هو الاخبار مع عدم الاعتقاد بما أخبر به ، سواء كان معتقداً عدمه أو كان شاكّاً وغير معتقد لشيء ، فيكون ملاك القبح هو عدم العلم بما أخبر به.

وهذا بخلاف الضرر فإنّ الاضرار بالنفس مثلاً قبيح عقلاً ، أمّا الاقدام على

٣٦٠