أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

يكن ذلك الترخيص منافياً للحكم الواقعي ، لقصوره في هذا الحال عن الوصول إلى مرتبة التنجّز ، فلا مانع من الترخيص فيه في هذه الرتبة ، لتأخّر هذا الترخيص رتبة عن رتبة ذلك التكليف الواقعي ، حتّى أنّه لو كانت الشبهة من قبيل الأقل والأكثر وكان مقتضى حكم العقل فيها هو الاحتياط ، لم يكن الترخيص الشرعي لو فرض الخطأ فيه منافياً للتكليف الواقعي ، فإنّ حكم العقل بالتنجّز فيها لو خلي ونفسه ليس من قبيل العلّة التامّة للتنجّز ، بل هو معلّق على عدم الترخيص الشرعي. وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الترخيص انحصر الأمر بالأصل العقلي ولا إشكال فيه.

وحاصل المطلب : أنّ الحكم الظاهري المجعول في الأُصول غير الاحرازية الواقع في مرتبة الشكّ في الحكم الواقعي لا يكون واقعاً في عرض الحكم الواقعي ، بل إنّما يكون واقعاً في طوله ، لا لمجرّد الترتّب الناشئ عن أخذ الشكّ في الحكم الواقعي في موضوع ذلك الحكم الظاهري ، بل من جهة ترتّب ذات ذلك الحكم الظاهري على ذات الحكم الواقعي ، فإنّه إمّا أن يكون واقعاً في طريق تنجّز الحكم الواقعي إن كان مثل الاحتياط الشرعي أو أصالة الحرمة ، وإما أن يكون واقعاً في طريق المعذورية في مخالفته إن كان مثل أصالة البراءة أو أصالة الحل الشرعيين ، فليس هو إلاّمنجّزاً للواقع أو موجباً للمعذورية في مخالفته ، فتكون هوية ذاته موجبة لتأخّره عن الحكم الواقعي ، ولأجل ذلك يكون قائماً مقام العلم الطريقي في هذه الجهة ، أعني جهة كونه منجّزاً للواقع فيما أصاب ومصحّحاً للعذر فيما أخطأ.

ومن ذلك كلّه يتّضح لك : أنّ ذلك الحكم الظاهري لا يكون مقتضياً للاجزاء عن الواقع ، فإنّه بعد فرض كون ذاته بلحاظ الواقع ، وكونه واقعاً في

٣٢١

طريق تنجّزه أو المعذورية عنه ، كيف يعقل أن يكون الجري على طبقه مع انكشاف خطئه موجباً للاجزاء عن الواقع ، بل إنّ مقتضى جعله في هذه الرتبة ، ومقتضى هوية ذاته المذكورة ، أن لا يكون الجري على طبقه مجزياً عن الواقع بعد انكشاف الخلاف فتأمّل. وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى جعل الترخيص انحصر الأمر بالأصل العقلي ، ولا إشكال فيه.

ثمّ بعد هذا كلّه أفاد قدس‌سره ما هذا لفظه حسبما نقلته عنه : بقي الكلام في أمر لا بأس بالتنبيه عليه وإن كان محلّه في تنبيهات البراءة ، وهو أنّ هذا السنخ من الأوامر أعني الاحتياط وما هو من هذا القبيل ، كوجوب التعلّم ووجوب الفحص عن دليل التكليف عند الشبهة الحكمية ، وكوجوب الفحص عن القدرة عند الشكّ لو خالفه المكلّف واتّفق تحقّق التكليف في الواقع ، فهل يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة الأمر المذكور.

قد يقال : إنّ العقاب على مخالفة الواقع ، إذ ليس الأمر المذكور إلاّطريقياً محرزاً للواقع ، فلا يترتّب العقاب على مخالفته ، وإنّما يكون العقاب على مخالفة الواقع الذي أُحرز به.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ العقل حاكم بقبح العقاب على مخالفة أيّ تكليف لم يكن واصلاً إلى المكلّف ، إذ لا يعقل أن يكون ذلك التكليف الواقعي غير الواصل إلى المكلّف محرّكاً وباعثاً له على الاتيان بمتعلّقه ، وليس الأمر الاحتياطي وما هو من سنخه من الأوامر موجباً لوصول التكليف الواقعي إلى المكلّف وإحرازه ، إذ ليس هو من قبيل الأمارات والأُصول الاحرازية في كونه محرزاً للواقع ، نعم العمل على طبقه يكون محرزاً للواقع.

والحاصل : أنّ الأمر الطريقي في باب الأمارات والأُصول الاحرازية يكون

٣٢٢

بنفسه محرزاً للواقع وإن لم يتحقّق امتثاله ، بخلاف الأمر بالاحتياط وما هو من سنخه ، فإنّه بنفسه لا يكون محرزاً للواقع ، نعم إنّ الغرض منه هو إحراز الواقع.

وبالجملة : أنّ إحراز الواقع يكون في النحو الأوّل من الأوامر بنفس الأمر وفي النحو الثاني يكون في ناحية الغرض ، بمعنى أنّ الغرض من هذا السنخ من الأوامر يكون هو إحراز الواقع ، وذلك ـ أعني إحراز الواقع ـ إنّما يكون في هذا السنخ من الأوامر بواسطة امتثالها ، وأين هذا من كون الأمر المذكور بنفسه محرزاً للواقع كما في النحو الأوّل كي يكون نفس ذلك الأمر مصحّحاً للعقاب على نفس الواقع ، وحينئذ فالمتعيّن هو كون العقاب على مخالفة ذلك الأمر الاحتياطي وما هو من سنخه لا على الواقع كما هو ظاهر « هلاّ تعلّمت » (١). ومن ذلك يتوجّه الإشكال حينئذ على الجمع بين هذا الأمر وبين الأمر الواقعي ، فإنّه بناءً عليه يكون الأمر المذكور أمراً حقيقياً مستتبعاً للعقاب على مخالفته ، فكيف أمكن اجتماعه مع الحكم الواقعي الذي ربما كان مضادّاً أو مناقضاً له.

والجواب عن ذلك هو أن يقال : إنّ الغرض الباعث على الأمر تارةً يكون أخصّ منه ، وأُخرى يكون أعمّ ، وما كان أخصّ تارةً يكون من قبيل الملاكات ، مثل اختلاط المياه بالنسبة إلى العِدَد ، وهذا يكون الحكم فيه متحقّقاً حقيقة حتّى في مورد عدم تحقّق ذلك الغرض. وأُخرى يكون الغرض من الأمر هو حفظ أمر آخر بتتميم جهة تنجّزه ولزوم الجري على وفقه ، وذلك مثل الأوامر التي نحن فيها ، فإنّ الغرض منها كما عرفت هو حفظ الأوامر الواقعية في موردها ، وهذا الأمر إنّما يكون أمراً حقيقياً عند الاصابة بواسطة اتّحاده مع الأمر الواقعي ، أمّا عند

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٩ / ١٠ ، وفيه : « ... وإن قال : كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ... ».

٣٢٣

الخطأ فلا يكون هناك إلاّصورة الأمر ، إذ لا يكون هنا أمر واقعي كي يكون هذا الأمر حافظاً له.

وتوضيح الفرق بين ما لو كان الغرض من قبيل علّة التشريع كما في اختلاط المياه بالنسبة إلى العِدَد ، وبين ما لو كان الغرض هو انحفاظ الأمر الواقعي ، أنّ الغرض الأوّل يكون علّة لتشريع الحكم ، فيكون ذلك الحكم الناشئ عن ذلك الغرض حكماً واقعياً حقيقياً يترتّب عليه أثره ، بخلاف الغرض الثاني فإنّه ليس إلاّ عبارة عن انحفاظ الأمر الواقعي ، فلا يكون داعياً إلاّلجعل ما يكون موجباً لانحفاظ ذلك الأمر الواقعي ، وبيان ذلك : أنّ الغرض من جعل الأمر الواقعي هو كونه داعياً إلى متعلّقه وحافظاً لوجوده ، فلو كان ملاك ذلك الحكم الواقعي موجباً لانحفاظ متعلّقه حتّى في موارد الجهل به ، لم يكن ذلك الأمر الواقعي بنفسه وافياً بذلك الملاك ، لعدم معقولية كونه محرّكاً للمكلّف على الاتيان بمتعلّقه ، لعدم تحقّق وجوده العلمي ، وحينئذ فلابدّ من جعل آخر يكون بمنزلة الطريق إلى ذلك الحكم الواقعي ، ويكون متمّماً لذلك الحكم الواقعي ، وذلك المجعول الآخر هو إيجاب الاحتياط أو ما يحذو حذوه من أصالة الحرمة أو وجوب الفحص عن القدرة أو وجوب التعلّم ، فإن أصاب الواقع اتّحد معه ولم يكن في البين إلاّذلك الحكم الواقعي المتمّم بجعل ما هو بمنزلة الطريق إليه ، ولا يكون العقاب على مخالفة نفس ذلك التكليف الواقعي المفروض كونه مجهولاً ، لعدم صحّة العقاب على مخالفته ، لفرض كونه مجهولاً ، ولكونه غير واصل إلى المكلّف ، وعدم تحقّق وجوده العلمي الموجب لعدم معقولية كونه محرّكاً بنفسه للمكلّف على الاتيان بمتعلّقه ، وإنّما يكون العقاب على مخالفة ذلك التكليف المتمّم له المتّحد معه ، هذا في صورة المصادفة. وأمّا في صورة عدم المصادفة ، فلا يكون في البين

٣٢٤

إلاّ صورة الحكم الثانوي لفرض عدم تحقّق الحكم الواقعي الذي يكون الحكم الثانوي متمّماً له وطريقاً إليه.

وهاتان الجهتان أعني كون المجعول الثانوي بمنزلة الطريق إلى المجعول الأوّلي وكونه متمّماً له ، هما الفارقتان بين ما نحن فيه وبين ما لو كان الغرض من قبيل الملاكات كاختلاط المياه بالنسبة إلى العدّة ، وبهما يرتفع التنافي بين الحكم الواقعي وبين هذا الأمر الثانوي ، الذي هو بمنزلة الطريق إليه المتمّم لجعله في كونه موجباً لحفظ متعلّقه في حال الجهل به ، هذا كلّه فيما لو كان المجعول الثانوي من قبيل إيجاب الاحتياط أو أصالة التحريم.

ومنه يتّضح الحال فيما لو كان المجعول الثانوي هو الترخيص كما في البراءة الشرعية أو أصالة الحل ، فإنّ الغرض منهما هو المحافظة على الترخيص الواقعي في مورده ، فتكون بمنزلة الطريق إليه ، وهي متمّمة لجعله الواقعي ، فإن كان الحكم الواقعي هو الترخيص والإباحة اتّحد هذا الترخيص الثانوي معه ، وإن لم يكن الحكم الواقعي هو الترخيص لم يكن إلاّصورة الترخيص الثانوي ، وكان العقل حاكماً بالمعذورية عن مخالفة ذلك التكليف الواقعي ، لكونه مجهولاً غير واصل إلى المكلّف ، انتهى.

قلت : فكأنّ هذه الأُصول بمنزلة أصالة الاحتياط في كونها لحفظ الحكم الواقعي ، غير أنّ الاحتياط احتياط في الحكم الواقعي الالزامي. وهذه الأُصول احتياط في الحكم الواقعي الترخيصي ، فكأنّ الشارع يحبّ أن يجري حكم رخصه الواقعية على ما هي عليه واقعاً في مقام الشكّ فيها ( ولعلّ في مثل « كلّ شيء لك حلال » أو « لك طاهر » إيماءً إلى ذلك ) غير مبالٍ بمصادفة الحكم الواقعي الالزامي ، فهذا الترخيص إن صادف الواقع فهو ، وإلاّ بأن كان الحكم

٣٢٥

الواقعي إلزامياً ، لم يكن ذلك الترخيص إلاّصورياً ، ولا يكون الترخيص المذكور ترخيصاً شرعياً واقعياً في مخالفة ذلك التكليف الالزامي ، بل لا يكون ذلك الترخيص إلاّظاهرياً صورياً لا حقيقة له إلاّإذا اتّحد مع الترخيص الواقعي ، لكنّه لا ينافي البناء على الترخيص ما لم ينكشف الخلاف ، ولو انكشف الخلاف بعد الارتكاب لم يكن المستند في المعذورية وعدم استحقاق العقاب هو مجرّد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لكي يكون جعل هذا الترخيص لغواً ، لأنّه في صورة المصادفة يكون الحكم الواقعي هو الترخيص ، وفي صورة عدم المصادفة يكون المصحّح للاقدام هو عدم البيان ، فلا يكون حال المكلّف مع هذا الترخيص إلاّ كحاله مع عدمه في أنّه يحتمل الترخيص الواقعي وعدمه ، بل إنّه في صورة عدم المصادفة واتّفاق كون الواقع هو الحكم الالزامي ، يكون المستند في عدم العقاب هو ذلك الترخيص الذي انكشف أنّه صوري ، فلا يكون الترخيص المذكور لغواً.

ولا ينبغي أن يتوهّم التزاحم في مقام التشريع بالنسبة إلى المشكوك الذي يكون حكمه الواقعي هو الالزام بين المصلحة التي تقتضي جعل الترخيص ومصلحة الواقعي التي تقتضي جعل الحكم الالزامي في مقام الشكّ الموجبة لجعل الاحتياط ، لأنّ هذه المزاحمة إنّما هي بين مصلحة الترخيص وبين تلك الزيادة في مصلحة الحكم الواقعي الالزامي التي تكون باعثة على الاحتياط فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّه قدس‌سره قد التزم بعدم ترتّب العقاب على الواقع لو صادفه الأمر الاحتياطي ، وأنّ العقاب يكون حينئذ على مخالفة نفس الأمر الاحتياطي لاتّحاده معه ، وأنّه لو لم يكن الاحتياط المذكور مصادفاً للواقع لم يكن في البين عقاب ، لأنّ المحافظة على حفظ نفس المؤمن لا يكون من قبيل حكمة التشريع ، بل هي من قبيل علّة الحكم التي يدور الحكم مدار وجودها ، فإن كان الحكم الواقعي

٣٢٦

موجوداً بأن اتّفق أنّ ذلك المشكوك كان مؤمناً ، تحقّق الأمر الاحتياطي حقيقة لتحقّق علّته ، وما لم يكن الأمر الواقعي موجوداً بأن اتّفق أنّ ذلك المشكوك غير مؤمن ، لم يتحقّق الأمر الاحتياطي ، ولم يكن الأمر به إلاّصورياً لا واقعية له ، لعدم تحقّق علّته التي هي حفظ نفس المؤمن.

ولا يخفى أنّ لازم هذا المطلب الأخير هو عدم حكم العقل بلزوم إطاعة الأمر الاحتياطي ، لأنّا إذا فرضنا أنّ ترتّب العقاب على مخالفته وكونه أمراً حقيقياً مشروط بمصادفة الواقع واتّحاده معه ، فهذا الاحتمال ـ أعني احتمال عدم مصادفته للواقع ـ يكون موجباً للشكّ في كونه أمراً حقيقياً ، ويكون مؤمّناً من العقاب على مخالفته ، لأنّ المفروض أنّ الواقع لا عقاب عليه لكونه بلا بيان ، والأمر الاحتياطي الذي هو مركز العقاب عند الاصابة لا يكون بياناً على الواقع ، ولا حجّة في البين على تحقّق المصادفة.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ احتمال إصابة الأمر بالاحتياط للواقع كافٍ في لزوم الجري على طبقه ، خوفاً من احتمال إصابته الملازم لاستحقاق العقاب على مخالفته ، فتكون المسألة من قبيل احتمال استحقاق العقاب ، فلا تكون من موارد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأنّ تلك الموارد يقطع فيها بعدم العقاب استناداً إلى القبح المذكور ، وفيه تأمّل.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره من كون الأمر الاحتياطي صورياً عند الخطأ وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّ أنّ مقتضى ما أفاده قدس‌سره من كون العلّة فيه هي المحافظة على الواقع ، ينبغي أن يكون الأمر الاحتياطي أمراً حقيقياً حتّى عند الخطأ ، لأنّ الأمر الاحتياطي لمّا كانت علّته هي المحافظة ، فهي موجودة في صورة الخطأ كما هي موجودة في صورة الاصابة. نعم لو كانت العلّة هي ترك قتل المؤمن لكانت

٣٢٧

مختصّة بصورة الاصابة ، لكن هذه العلّة هي عين الحكم الواقعي وعين الاحتياط عند المصادفة ، لا أنّها شيء آخر يكون علّة في ذلك الأمر الاحتياطي.

فالحقّ أنّ الاحتياط بالنسبة إلى الواقع سمته سمة الطريق ، ويكون العقاب عند الاصابة على مخالفة الواقع ، لأنّ الشارع قد أوصل المكلّف إلى الواقع بالأمر بالاحتياط ، وإن لم يكن الأمر الاحتياطي إيصالاً علمياً إلى الواقع على وجه يكون فيه إحراز للواقع ، لعدم الحاجة في ترتّب العقاب على مخالفة الواقع إلى وصوله إلى المكلّف علمياً أو ما يقوم مقامه ، بل يكفي فيه أمره الشرعي بالتحرّز عن مخالفة الواقع بترك قتل كلّ من يحتمل كونه مؤمناً ، فيكون هذا الأمر التحرّزي حجّة على المكلّف عند إقدامه على قتل المشكوك مع فرض اتّفاق المصادفة.

وبالجملة : أنّ الأمر الاحتياطي يكون موجباً لتأثير الارادة الواقعية والانبعاث عن احتمالها ، فلا يكون المنظور فيه إلاّالواقع ، ويكون من هذه الجهة قائماً مقام العلم الطريقي في كونه موجباً لتأثير الارادة في بعث المكلّف المعبّر بتنجيزها ، وبذلك يختلف عن وجوب الفحص والتعلّم ، فإنّه بنفسه يكون مقدّمة لحصول العلم لا أنّه يكون قائماً مقام العلم.

ثمّ إنّ الاحتياط في ترك قتل المؤمن تارةً يكون في مقام الترديد بين المحذورين ، مثل أن يرى شخصاً من بعيد ويتردّد بين كونه مؤمناً وكونه كافراً واجب القتل ، وأُخرى لا يكون من هذا القبيل ، بل يكون التردّد بين كونه مؤمناً أو كافراً جائز القتل ، أو بين كونه إنساناً مؤمناً وكونه حيواناً جائز القتل ، ففي الأوّل يكون الاحتياط ترخيصاً في ترك ذلك الواجب ، أمّا الثاني فلا يكون الاحتياط فيه إلاّ منجّزاً للواقع ، من دون أن يكون ترخيصاً في ترك واجب.

وبازاء الأمر الاحتياطي الذي مرجعه إلى لزوم التحرّز عن مخالفة الواقع

٣٢٨

الذي عرفت أنّه لا أثر له سوى كونه حجّة من جانب الشارع على المكلّف في عقابه على مخالفة ذلك الواقع ، الترخيص الشرعي فإنّ مرجعه إلى عدم لزوم التحرّز عن مخالفة الواقع ، فينحصر أثره في عدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع لو اتّفق الوقوع في مخالفته ، فيكون سمة ذلك الأمر وهذا الترخيص سمة الطريق إلى الواقع ، وإن لم يكن ذلك من مقولة الطريق إليه.

وبالجملة : هما مجعولان شرعاً ، وأثرهما هو استحقاق العقاب على الواقع في الأوّل وعدم استحقاقه في الثاني ، لا أنّ المجعول هو نفس الاستحقاق في الأوّل وعدمه في الثاني ، ولابدّ أن يكون كلّ منهما ناشئاً عن المصلحة ، غايته أنّ المصلحة اقتضت في الأوّل جعل لزوم التحرّز وفي الثاني جعل عدم لزوم التحرّز ، وربما لا يكون في البين مصلحة تقتضي الأوّل ولا تقتضي الثاني ، بل تكون المصلحة قاضية بإيكال المكلّف إلى ما يحكم به عقله من لزوم التحرّز في بعض الموارد وعدمه في بعضها استناداً إلى قبح العقاب من دون بيان.

وبالجملة : أنّ الحكم المجعول الشرعي في الأوّل هو وجوب التحرّز عن الوقوع في خلاف الواقع ، وفي الثاني هو الحكم الشرعي بعدم وجوب التحرّز عن مخالفة الواقع. أمّا الثالث فهو من باب عدم الجعل الشرعي ، وإيكال الشارع المكلّف إلى ما يحكم به العقل.

ولا يخفى أنّ وجوب التحرّز وعدم وجوب التحرّز لا ينافيان الواقع ، بل يكون الواقع في حدّ نفسه محفوظاً في كلّ منهما ، ولا أثر لذلك إلاّمجرّد استحقاق العقاب عند المصادفة في الأوّل وعدمه في الثاني. وحينئذ لا يكون الحكم في الثاني هو الترخيص والاباحة كي يكون منافياً للواقع لو خالفه ، كما أنّه لا يوجب رفع اليد عن الواقع من حيث أثره الوضعي كالجزئية والشرطية والمانعية

٣٢٩

كي يكون مقتضياً للاجزاء ، بل ليس المجعول الشرعي إلاّمجرّد الحكم الشرعي بعدم لزوم التحرّز عن الواقع المحتمل ، وليس هو عين الترخيص الشرعي في مخالفة الواقع ، بل ولا يلزمه الترخيص الشرعي.

نعم ، لازم الحكم الشرعي بعدم لزوم التحرّز عن الواقع هو الحكم العقلي بجواز المخالفة وعدم استحقاق العقاب عليها لكونه بلا بيان ، ولأجل ذلك قال شيخنا قدس‌سره (١) في مفاد حديث الرفع بأنّه من قبيل دفع احتمال وجوب الاحتياط ، فلا مضادّة بين هذا الحكم الشرعي الذي هو عدم وجوب التحرّز عن مخالفة الواقع المحتمل مع نفس الواقع ، كما أنّه لا يقتضي الاجزاء عن الواقع في باب الشروط والموانع والأجزاء ، سواء كانت الشبهة موضوعية أو كانت الشبهة حكمية. كما أنّ الأمر بالاحتياط والتحرّز لا يكون منافياً للواقع فيما لو أمره به واتّفق أنّ الواقع هو تكليف آخر غير ذلك التكليف المحتمل ، كما لو أمره بالاحتياط في محتمل الجزئية فأتى بذلك الجزء المحتمل ، ثمّ تبيّن أنّه من الموانع الموجبة لبطلان العمل ، هذا.

ولكن قد يقال : إنّ مجرّد جعل عدم وجوب التحرّز لا يصحّح الدخول في العمل عند الشكّ في الشرطية ، نعم يؤثّر ذلك في الشكّ في الجزئية والمانعية ، بل الظاهر أنّ جعل الترخيص أيضاً غير نافع في تنقيح الشرطية ، وإن أثّر في باب الجزئية باعتبار أنّ الترخيص في ترك الجزء عبارة أُخرى عن عدم كون ذلك المرخّص في تركه جزءاً من الصلاة ، فيتولّد من ذلك الحكومة الظاهرية على دليل الجزئية.

ويمكن الجواب عن ذلك : بأنّ دليل عدم وجوب التحرّز ، وكذلك

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١١٨ ، ٣٣٨.

٣٣٠

الترخيص الفعلي الظاهري ، نافعان حتّى في مقام الشرطية ، فإنّ عدم وجوب التحرّز عن ترك ما يحتمل وجوبه شرطاً كان أو جزءاً ، وكذلك الترخيص فيه ، نافعان في جواز الاقدام على العمل مع عدمه ، وذلك كافٍ في الحكومة الظاهرية من دون حاجة في باب الشرطية إلى الالتزام بجعل الآثار ، بأن يكون مرجع قاعدة الطهارة وقاعدة الحل إلى جعل آثار الطهارة والحل أو جعل نفس الطهارة والحلّية لما هو مشكوكهما ، فتأمّل.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ في قاعدة الطهارة وكذلك قاعدة الحل مسلكين معروفين :

الأوّل : مسلك صاحب الكفاية كما ربما يستفاد ممّا أفاده في مبحث الإجزاء (١) ، وهو كونهما من قبيل الجعل في مورد الشكّ ، بمعنى أنّ الشارع يجعل الطهارة الواقعية لما هو معنون بعنوان الشكّ في الطهارة ، كما يجعل الطهارة للشيء بعنوانه الأوّلي مثل قوله : الماء طاهر ، فيكون مفاد قوله : المشكوك طاهر ، هو بعينه مفاد قوله : الماء طاهر ، في أنّ كلاً منهما يتكفّل جعل الطهارة للمعنون ، غير أنّ الطهارة المجعولة للشيء تارةً تكون مجعولة له بعنوانه الأوّلي مثل قوله : الماء طاهر ، وأُخرى تكون مجعولة له بعنوانه الثانوي مثل قوله : المشكوك طاهر ، وحينئذ تكون حكومة قاعدة الطهارة على أدلّة اشتراط الطهارة في ماء الوضوء أو لباس المصلّي أو بدنه حكومة واقعية ، وأنّه عند العلم بأنّه نجس يتبدّل الموضوع ، ولا يكون من قبيل انكشاف الخلاف ، ولازمه الإجزاء حتّى في مثل الوضوء لو انكشف أنّ الماء كان نجساً ، وقد تقدّم في مبحث الإجزاء (٢) الإشكال

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٨٦.

(٢) راجع المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٧٧ وما بعدها.

٣٣١

على هذه الحكومة الواقعية وبيان عدم تماميتها وعدم إمكان الالتزام بلوازمها.

المسلك الثاني : هو ما قد يدّعى تفسير عبارة الكفاية به في مبحث الاجزاء ، ولا يبعد أن يكون هو مسلك شيخنا قدس‌سره أيضاً ، ومحصّله التنزيل وأنّ الشارع بقوله : المشكوك طاهر ، قد نزّل ما هو مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي في ترتيب آثاره عليه ، فيكون حاله حال قوله : « الطواف بالبيت صلاة » (١) ومقتضاه الحكومة الواقعية ، لكن لمّا كان هذا التنزيل منوطاً بالشكّ وعدم العلم ، كانت حكومته على أدلّة الشروط حكومة ظاهرية ، فلا يكون مفاده إلاّالتوسعة الظاهرية لأدلّة الشرط لا التوسعة الواقعية كما في قوله : « الطواف بالبيت صلاة ».

ولا يخلو عن تأمّل ، لأنّ التنزيل بعد أن فرضناه راجعاً إلى الحكم بترتيب الأثر ، يكون مرجعه إلى الحكم بجواز الوضوء بالماء المشكوك جوازاً واقعياً ، وكون موضوعه الشكّ والجهل لا يوجب كونه ظاهرياً ، وأقصى ما فيه أنّه يكون هذا الجواز بلحاظ العنوان الثانوي.

نعم ، لو كان مفاد قاعدة الطهارة هو إحراز الطهارة الواقعية كالاستصحاب أو كالأمارة القائمة على الطهارة ، لصحّ لنا أن نقول إنّ الحكومة ظاهرية ، وإن كان التحقيق أنّه لا يصحّ ذلك حقيقة حتّى في الأمارة واستصحاب الطهارة ، إذ لا حكومة في البين لا ظاهرية ولا واقعية ، وإنّما أقصى ما في البين هو كون المكلّف محرزاً لما هو الشرط الواقعي بواسطة قيام الحجّة عليه التي هي حجّة إحرازية ، فلا يكون حاله من هذه الجهة إلاّحال القاطع بالطهارة في أنّه محرز لها ، إذ المفروض أنّ جعل الحجّية للأمارة وللأصل الاحرازي لا تعرض له لأدلّة الأحكام الأوّلية لا واقعاً ولا ظاهراً ، وإنّما أقصى ما فيه أنّ من قامت عنده الأمارة أو الأصل

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

٣٣٢

الاحرازي للطهارة يكون محرزاً تعبّداً للطهارة الواقعية ، وأين هذا من التصرّف في دليل الشرطية من الحكومة على أدلّة الشروط بطريق الحكومة الواقعية أو الظاهرية.

وحينئذ لا محيص لنا عن القول بما تقدّمت الاشارة إليه ، من أنّ المجعول في مثل قاعدة الطهارة هو حجّية احتمال الطهارة من حيث المعذورية عن الاقدام على الوضوء أو الصلاة في النجس ، مع بقاء الواقع من اشتراط الوضوء أو الصلاة بالطهارة الواقعية بحاله ، وهذا الاحتمال لا مانع من جعل الحجّية له بهذا المقدار كما صحّ جعل حجّية احتمال التكليف في لزوم الاحتياط ، فإنّه مطلب معقول يقبله الذوق فيما لو كان التكليف الواقعي له أهمية توجب عدم تنازل الشارع عن المؤاخذة على مخالفته حتّى في مقام الجهل به والشكّ فيه. ألا ترى أنّ العقلاء في موارد احتمال الضرر ربما لا يعتنون إذا كان الضرر ضعيفاً ، على وجه لو كان معلوماً لم يقدموا ولو كان مشكوكاً لأقدموا تسامحاً منهم وتساهلاً في الضرر الضعيف ولو كان هذا التساهل منحصراً بمقام الشكّ دون العلم ، بخلاف ما لو كان الضرر مهمّاً مثل إتلاف النفس ، كما في موارد احتمال كون المايع سمّاً قاتلاً ، فإنّك تراهم لا يقدمون على شربه ولو كان الاحتمال ضعيفاً.

وهكذا حال الشارع في ملاكات أحكامه ، فإن كان الملاك قويّاً ألزم المكلّفين بالاحتياط الناشئ عن جعله احتمال هذا النحو من التكليف حجّة على المكلّف من حيث التنجّز وقاطعية العذر ، وإن لم يكن الملاك بتلك الدرجة من القوّة تساهل الشارع فيه ولم يجعل احتمال التكليف حجّة على المكلّف ، بل يوكله إلى ما يحكم به عقله من قبح العقاب بلا بيان ، بل ربما ترقى ذلك التساهل على وجه تكون في البين مصلحة تقتضي جعل احتمال عدم ذلك التكليف حجّة

٣٣٣

للمكلّف ، ولا يكون هذا الجعل لغواً ، لما عرفت من كونه ناشئاً عن مصلحة تقتضيه. مضافاً إلى ما يترتّب عليه من الأثر في الموارد التي يكون العقل حاكماً فيها بلزوم الاحتياط ، كما في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، وكما في حكمه بلزوم إحراز الشرط ، كما في موارد قاعدة الطهارة والحلّ بالنسبة إلى ما يشترط بهما من الوضوء والصلاة.

وأمّا حديث الرفع ، فإن جعلناه من هذا القبيل ، أعني جعل الشارع عدم العلم بالتكليف حجّة للمكلّف من حيث المعذورية فهو ، وإلاّ فلا أقل من أن نقول إنّه مسوق لرفع التكليف المحتمل من ناحية الاقدام على مخالفته الموجبة لاستحقاق العقاب ، وهو كافٍ حتّى في مسألة الأقل والأكثر ، بمعنى أنّه يرفع الوجوب الجزئي أو الشرطي الضمني من ناحية استحقاق العقاب على تركه في الصلاة ، وهو كافٍ في جواز الاقدام على الصلاة الفاقدة لذلك الجزء أو الشرط المشكوك ، ولا يكون لازمه سقوط الجزئية والشرطية ، على وجه يكون مجزياً حتّى بعد انكشاف الخلاف ، كما أنّه لا يكون لازمه الترخيص الفعلي في مخالفة التكليف الواقعي المتعلّق بذلك المشكوك ، بل لا يكون مفاده حينئذ إلاّرفع ذلك التكليف بمقدار عدم العقاب على مخالفته. وإن شئت فقل : إنّه رفع لوجوب التحرّز الممكن صدوره في المقام من قبل الشارع ، فيكون من قبيل الدفع لا الرفع الحقيقي ، وتسميته رفعاً باعتبار إمكان صدوره من الشارع ، كما أفاده شيخنا قدس‌سره في مبحث حديث الرفع (١) ، فراجعه بما حرّرناه عليه (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٦ وما بعدها.

(٢) حواشيه قدس‌سره على ذلك تأتي في المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : ١٢٢ في التعليق على فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ قوله : ويظهر من الشيخ قدس‌سره ....

٣٣٤

ومن ذلك يظهر أنّ الأصل غير الاحرازي الذي يكون مفاده الترخيص في مخالفة التكليف الواقعي كبرى لا صغرى لها.

وأمّا ما أفاد شيخنا المحقّق الأُستاذ العراقي قدس‌سره في وجه الجمع بين الحكم في الأُصول النافية والحكم الواقعي ، بأنّ المكلّف به بالتكليف الواقعي ربما كان على وجه لا يرضى المولى بتركه مطلقاً ، بحيث كانت جميع أنحاء عدمه مبغوضة له ، وأُخرى يكون بعض أنحاء عدمه غير مبغوض له ، كالعدم المستند إلى الجهل والشكّ فيه. وعلى الأوّل يلزمه الجعل في مورد الشكّ ، وعلى الثاني يكون الترخيص في تركه غير منافٍ للحكم الواقعي. وقد أطال الكلام في هذا التوجيه ، وقد حرّرته عنه فيما كتبته عن درسه تحريراً مفصّلاً.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ مرجع الأوّل إلى الجواب بالاختلاف بحسب الرتبة ، وقد تعرّضنا لذلك في بعض مباحث القطع (١). كما أنّ الأُستاذ الأعظم قدس‌سره أشار إلى جوابه في طي كلماته الشريفة بما حرّرناه عنه قدس‌سره.

أمّا الثاني فإن كان راجعاً إلى ما عرفت من الاختلاف بحسب الرتبة ، فقد عرفت الجواب عنه ، وإن كان ـ كما هو ظاهر كلامه ـ راجعاً إلى تسويغ عدم الاتيان بالمكلّف به إذا كان عدمه مستنداً إلى الجهل به والشكّ فيه ، ففيه : أنّ هذا عين الالتزام باختصاص التكليف الواقعي بمن لم يكن جاهلاً به ، وهو خلاف أدلّة الاشتراك ، فيعود محذور التصويب ، ولازمه القول بالاجزاء فيما لو شكّ في جزئية شيء وتركه استناداً إلى البراءة ، لأنّ مرجع ذلك الترخيص إلى أنّ المولى يرضى بعدم ذلك الجزء في حال الشكّ فيه ، ويكون لازم ذلك هو عدم كونه جزءاً في ذلك الحال ، ويكون مقتضاه عدم الاعادة لو انكشف الخلاف كما لو

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٤٠ وما بعدها.

٣٣٥

تركه اضطراراً مثلاً ، من دون فرق في ذلك بين القول بكون المجعول ابتداءً هو الأمر بالجزء ، أو أنّ المجعول هو الجزئية ، فراجع ما حرّرناه (١) عن القائل المزبور ، وتأمّل فيه كي يتّضح لك ما أوردناه عليه إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : ليس مرجع التبعيض في ناحية الأعدام ، وأنّ المولى يرضى بعدم الشيء إذا كان عدمه مستنداً إلى الجهل بحكمه ، إلاّعبارة أُخرى عن الترخيص في الترك في مقام الجهل ، وذلك عبارة أُخرى عن كون الالزام بالفعل مختصّاً بصورة العلم بالحكم ، وهو وإن لم يكن تصويباً مجمعاً على بطلانه ، إلاّ أنّ لازمه الاجزاء.

ثمّ إنّه قدس‌سره تعرّض في المقالة ـ المطبوعة بعد وفاته ـ إلى الجمع ، لكن العبائر الموجودة فيها لا تخلو عن قصور في تأدية المطلب ، ولم أتوفّق لفهم ما اختاره فيها من كيفية الجمع ، فإنّ في بعض عبائرها ما يستفاد منه هذه الطريقة ، وهي الرضا بالمخالفة لو كانت ناشئة عن جهل المكلّف وعدم تطبيقه الواقع على المورد ، وبعض عبائرها يستفاد منه طريقة الاختلاف في الرتبة ، وبعضها يستفاد منه طريقة شيخنا قدس‌سره من عدم تصدّي الشارع لحفظ التكليف من ناحية الجهل به ، فراجع المقالة لعلّك تقف على ما هو مراده إن شاء الله تعالى (٢). وسيأتي إن شاء الله تعالى (٣) نقل جملة منها عند التعرّض لما في الكفاية ، ولما أفاده المرحوم الشيخ علي القوچاني في حاشيته من تفسير الفعلية بمعنى لو علم به لتنجّز.

والخلاصة : هي أنّ جعل حجّية الطرق والأمارات ، وجعل حجّية الأُصول

__________________

(١) مخطوط لم يُطبع بعد.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٤٧ ـ ٤٩.

(٣) في الصفحة : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٣٣٦

الاحرازية أعني حجّية اليقين السابق مثلاً ، بل جعل حجّية احتمال العدم ليكون حجّة للمكلّف في مقام احتمال عدم التكليف كما هو مورد البراءة الشرعية ، في قبال جعل حجّية احتمال وجود التكليف ، كما هو مورد الاحتياط الشرعي كما في باب الدماء والفروج ، إلى غير ذلك ممّا جعله الشارع حجّة ، سواء كان في الشبهات الموضوعية أو كان في الشبهات الحكمية ، كلّ ذلك لا يرجع إلى جعل حكم تكليفي أو ترخيصي في قبال الحكم الواقعي ، ليدخل بذلك في اجتماع الحكمين المتماثلين أو الضدّين أو النقيضين ، بل ليس في البين إلاّجعل الحجّية ، ومن آثارها التنجّز والمعذورية. واختلاف لسان دليل الحجّية في هذه الحجج على وجه يوجب حكومة الأوّل على الثاني والثاني على الثالث ، وعلى وجه تترتّب اللوازم على الأوّل دون البواقي ، كلّ ذلك لا دخل له في إثبات تكليف على خلاف التكليف الواقعي.

قوله قدس‌سره في الكفاية : وأمّا تفويت مصلحة الواقع أو الالقاء في مفسدته ، فلا محذور فيه أصلاً إذا كان في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء (١).

لو كان جعل الحجّية في مورد انسداد باب العلم ، فلا يحتاج جعل حجّية الأمارة إلى الالتزام بكونه لمصلحة غالبة أو غير غالبة ، بل يكفي في صحّته مجرّد الانسداد ، إذ ليس حينئذ إلقاء في مفسدة ولا تفويت المصلحة ، وكذلك الحال فيما لو كان جعل الحجّية في حال الانفتاح لكن الأمارة كانت أغلب إصابة من الطرق العلمية. أمّا الالتزام بالمصلحة الغالبة على مصلحة الواقع ، فذلك يوجب انكسار مصلحة الواقع في مقام الجعل والتشريع ، وهو موجب لبقاء الواقع بلا

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٧.

٣٣٧

مصلحة أو لانعدامه ، والأوّل خلاف مذهب العدلية ، والثاني خلاف مذهب المخطّئة.

قوله في الكفاية : لأنّ أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه الخ (١).

مجرّد كون الأمر الطريقي عن مصلحة في نفسه لا في الفعل الذي تعلّق به التكليف الطريقي ، لا يصحّح الجمع بينه وبين الواقع كما سيأتي منه (٢) التصريح به في مثل أصالة الاباحة من الأُصول الشرعية ، والعمدة هو كونه طريقياً متعلّقاً بالتطرّق إلى الواقع بالأمارة على ما عرفت شرحه ، فإنّ ذلك هو المصحّح لاجتماع التكليفين ، لكون الأمر الطريقي متعلّقاً بالتطرّق بالأمارة إلى الواقع والتوصّل بها إليه ، فلا يكون منافياً للحكم الواقعي.

وما ذكره المرحوم الشيخ علي القوچاني في حاشيته على قوله : فافهم ، من أنّه إشارة إلى أنّ مقتضى هذا الأمر الطريقي هو الترخيص في ترك الواجب أو فعل الحرام إلى آخر ما أفاده (٣) لا يرد على الأمر الطريقي ، لما عرفت من أنّ حاصله هو التوصّل إلى الواقع بالأمارة ، وأين هذا من المناقضة مع الواقع الناشئة عن الترخيص في مخالفته. نعم لازمه تفويت المصلحة ، وقد عرفت الجواب عنه.

قوله في الكفاية : حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل ، وإن لم يحدث بسببها إرادة وكراهة في المبدأ الأعلى الخ (٤).

إنّ عدم المناقضة بين الواقع والأمر الطريقي لا تتوقّف على هذه الطريقة

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٧.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٧٨.

(٣) كفاية الأُصول ( مع تعليقة الشيخ علي القوچاني رحمه‌الله ) ٢ : ٨٣ / تعليقة ٢٠.

(٤) كفاية الأُصول : ٢٧٧.

٣٣٨

الراجعة إلى أنّه ليس في المبدأ الأعلى إلاّالعلم بالصلاح ، وأنّ عالم الارادة والكراهة إنّما هو في بعض المبادئ العالية. لكن كأنّه قدس‌سره قد أخذ على عاتقه بيان هذا المطلب اللازم منه كون الأوامر والنواهي وعالم تشريع الأحكام راجعاً إلى النبي والأئمّة ( صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ) وما أدري ما يحمل عليه النواهي والأوامر الواردة في خطابه تعالى في القرآن الكريم ، إلاّأن يلتزم بأنّ جميع تلك الأوامر والنواهي والرخص كلّها كناية عن الحكم الشأني ، يعني نفس المصلحة والمفسدة ، وأنّ جميع تلك الخطابات الانشائية ليست إلاّإخباراً لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمصالح ، وأنّها خالية من الارادة والكراهة والبعث والزجر ، وغير ذلك ، وأنّ جميع ذلك راجع إلى مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ منه صلى‌الله‌عليه‌وآله الارادة والكراهة والبعث والزجر ، وهذه طريقة لا تخلو من صعوبة.

قوله : وإنّما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً ، وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادّة بين الانشاءين فيما إذا اختلفا ، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا ، ولا إرادة ولا كراهة إلاّبالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي ، فافهم (١).

ظاهره أنّ الحكم الواقعي في مورد قيام الأمارة على خلافه يكون واصلاً إلى درجة الفعلية ، وهي مرتبة الارادة والكراهة ، بل ظاهره الوصول إلى مرتبة التنجّز التي هي مرتبة البعث والزجر. وفي هذا الأخير تأمّل ، فإنّ ذلك الحكم الواقعي المجهول لا يعقل وصوله إلى مرتبة التنجّز ، اللهمّ إلاّأن يكون مراده من قوله : بعثاً وزجراً ، مجرّد إنشاء البعث والزجر ، فلا يكون ذلك وصولاً إلى مرتبة التنجّز ، وإن كان في نفسه فعلياً مشتملاً على الارادة والكراهة.

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٨.

٣٣٩

وعلى كلّ حال ، أنّ الوصول إلى هذه الدرجة ، أعني درجة الفعلية التي هي مرتبة الارادة والكراهة ، لا يجتمع مع الترخيص الفعلي على خلافه ، ولأجل ذلك استشكل في الأُصول الترخيصية ، فإنّها تنافي المنع الفعلي كما أفاده بقوله : نعم يشكل الأمر في بعض الأُصول العملية كأصالة الاباحة الشرعية ، فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً كما فيما صادف الحرام (١) فالتزم بأنّ الحكم الواقعي في مثل ذلك غير واصل إلى مرتبة الارادة والكراهة ، فقال : فلا محيص في مثله إلاّعن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضاً ، كما في المبدأ الأعلى ( وحينئذ لا يكون في البين إلاّمجرّد العلم بالصلاح من دون انقداح إرادة ولا كراهة ، فلا يكون في البين إلاّالحكم الاقتضائي المعبّر عنه بالشأني ، ومع ذلك كلّه فقد التزم بأنّ الحكم في ذلك يكون فعلياً ، لا بمعنى تحقّق الارادة والكراهة ، لأنّ المفروض عدمهما ) بل بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه (٢) ، وكان ينبغي أن يقول : إنّه على صفة لو علم به المكلّف لانقدحت الارادة والكراهة في بعض المبادئ العالية وتنجّز بذلك العلم ، فيكون العلم بالتكليف موصلاً له إلى درجة الارادة والكراهة ودرجة التنجّز.

ومن [ هنا ] يظهر لك التأمّل في قوله : كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجّز بسبب القطع بها (٣) ، فإنّ التكاليف الفعلية قبل القطع بها واجدة لدرجة الارادة والكراهة التي هي درجة الفعلية ، ولم تفقد إلاّدرجة التنجّز ، فيكون القطع بها

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٨.

(٢) نفس المصدر. [ ولا يخفى أنّ ما بين القوسين هو شرح المصنّف لكلام الآخوند قدس‌سرهما ].

(٣) نفس المصدر.

٣٤٠