أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

مثل هذه الصورة ، لكان مقتضاه هو عدم جعل حجّية الأمارة المفروض كونها مفوّتة لمصلحة الواقع التي قد أثّرت أثرها في الرتبة السابقة ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الإشكال الأوّل وكذا الثاني ، فقد تعرّض [ لهما ] شيخنا قدس‌سره بما في هذا التحرير من قوله : والسرّ في ذلك هو أنّ التدارك إنّما يكون بمقدار ما اقتضته الأمارة من إيقاع المكلّف على خلاف الواقع ، وبالقدر الذي سلكه ، ولا موجب لأن يستحقّ المكلّف زائداً عمّا سلكه (١).

كما أنّه تعرّض لدفع ذلك في التحرير المطبوع في صيدا بما هو أوضح ، فقال : إنّ اختلاف المصلحة إنّما نشأ من اختلاف نفس السلوك بحسب المقدار ، وكلّ مقدار منه يشتمل على مقدار من المصلحة المغايرة لما يشتمل عليه الآخر الخ (٢).

وكذلك حرّرت عنه بما هذا لفظه : وبالجملة أنّ السلوك في هذه الصور لا يكون أمراً واحداً لتكون مصلحته بمقدار واحد ، ليرد أنّها إن كانت معادلة لمصلحة الواقع لزمه سقوط الاعادة والقضاء ، وإن لم تكن معادلة له لزم تفويت المصلحة الواقعية بلا تدارك لها ، بل إنّ السلوك في هذه الصور مختلف المقدار ، وبمقدار ذلك السلوك يكون الصلاح ، ويكون ذلك الصلاح الناشئ عن السلوك المذكور بمقدار ما يفوت من المصلحة الواقعية فتأمّل ، انتهى.

كلّ هذه العبائر تعطي أنّ نفس السلوك مختلف المقدار ، وأنّ السبب في الاختلاف إنّما هو اختلاف المقدار الذي أخطأته الأمارة ، فإن كانت الأمارة مصيبة فلم يكن في البين سلوك أصلاً ، وكذلك لو كانت مخطئة وقد عمل على طبقها ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٧.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١١٩.

٢٨١

لكن قد بقي حتّى الوقت الفضيلي ، فلا مصلحة ولا سلوك كما هو صريح قوله في هذا التحرير : فإن كان انكشاف الخلاف قبل مضي وقت فضيلة الظهر فلا شيء للمكلّف ، لأنّ قيام الأمارة على الخلاف لم يوجب إيقاعه على خلاف ما يقتضيه الواقع من المصلحة ، لتمكّن المكلّف من استيفاء مصلحة الواقع بتمامها وكمالها حتّى الفضيلة الوقتية (١) ، وإنّما يكون السلوك بمقدار التفويت.

ولم أتوفّق للوجه في ذلك ، فكأنّ الأمارة في هاتين الصورتين لم تقل للمكلّف شيئاً ، وكأنّ المكلّف لم يصدقها ولم يعمل على طبقها ، وإنّما تكون الأمارة حاكية للمكلّف ، والمكلّف سالكاً لها فيما أوقعته في محذور مخالفة ما ، فإن أوقعته في محذور مخالفة وقت الفضيلة فكأنّها تقول له ليس في البين وقت فضيلة ، وهو قد صدّقها وسلكها وعمل على طبقها في هذا المقدار من الحكاية ، فهذا المقدار من السلوك له مصلحته وهي تتدارك ما فاته. وفي صورة كون الانكشاف بعد خروج الوقت كأنّها تقول ليس في البين واجب آخر موقّت ، وهو قد صدّقها وسلكها وعمل على طبقها بذلك المقدار ، فذلك المقدار من السلوك له أيضاً مصلحته ، وهي تتدارك ما فاته بذلك السلوك. وهكذا الحال فيما إذا لم ينكشف له خطؤها إلى الموت ، فإنّها تقول له ليس في البين واجب أصلاً ، وهو قد صدّقها بذلك المقدار.

هذا هو المتحصّل من هذه العبائر التي نقلناها عنه قدس‌سره. والعمدة في تحمّله قدس‌سره هذا التمحّل هو الفرار عن لزوم الاجزاء وعدم القضاء ، لكنّك قد عرفت أنّه يمكن الالتزام بلزوم الاعادة والقضاء من دون حاجة إلى هذا التمحّل ، وذلك بما عرفت ممّا أفاده قدس‌سره من كون هذه المصلحة الحاصلة بالسلوك مصلحة أُخرى لا

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٦.

٢٨٢

دخل لها بمصلحة الواقع ، وأنّها لا تؤثّر في رفع مصلحة الواقع ، بل ولا في تأثير المصلحة الواقعية فيما تقتضيه من الحكم الواقعي ، غايته أنّ هذه المصلحة الجديدة التي يحصل عليها المكلّف بواسطة سلوك الأمارة ترفع قبح تفويت مصلحة الواقع عليه لو فاتته بواسطة سلوكها ، وحينئذ يبقى الواقع محفوظاً على ما هو عليه لم تمسّ كرامته بشيء أصلاً ، ولا يكون في البين إلاّ أنّ المكلّف معذور من جهته لكونه جاهلاً به ، ففي أي مورد التفت إليه وجب عليه السعي إليه أداءً أو قضاءً ، ولا ينافيه أنّه قد حصل على مصلحة أُخرى بسلوكه لتلك الأمارة.

نعم ، تقدّم لنا إشكال في عدم كون المصلحة السلوكية مزاحمة لمصلحة الواقع من جهة كونهما متزاحمين في مقام التشريع ، إلاّ أنّ الشارع بعد أن أمر بحجّية الأمارة استكشفنا كون مصلحة السلوك فيها مقدّمة على مصلحة الواقع ، لكن بعد التفات المكلّف إلى الواقع وسقوط حجّية الأمارة ، لا مانع من تأثير المصلحة الواقعية ، فيلزمه الاعادة والقضاء ، فإنّ ذلك التزاحم ولو كان في مقام التشريع يكون محدوداً بما دام السلوك ممكناً وبما دام الواقع غير معلوم للمكلّف وبعبارة أُخرى : أنّ التزاحم بين مصلحة السلوك ومصلحة الواقع منوط بما دام السلوك ممكناً ، ومع فرض تبيّن الواقع لا يكون السلوك ممكناً ، وقهراً يكون جعل الحجّية منحصراً بما دام السلوك ممكناً.

واعلم أنّ شيخنا قدس‌سره تعرّض في الدورة الأخيرة لجواب إشكال يتوجّه على المصلحة السلوكية ، وحرّرته عنه قدس‌سره وحرّره في المطبوعة في صيدا آخر ص ٦٩ ، وحاصل الإشكال أنّه بعد فرض أنّ المصلحة المذكورة لم تكن قائمة بنفس الأمر ولا بنفس الفعل الخارجي ، بل هي قائمة بنفس التطبيق المتفرّع على حجّيتها ضرورة أنّها ما لم تكن حجّة يكون تطبيق العمل عليها تشريعاً محرّماً ، فكيف

٢٨٣

يمكن أن يكون مشتملاً على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، فإنّ ذلك مستلزم للدور من جهة أنّ الأمر بالتطبيق يتوقّف على وجود مصلحة فيه ، والمفروض أنّ وجود المصلحة فيه يتوقّف على الأمر أيضاً فيدور الخ (١).

وأجاب عنه نقضاً وحلاً بما حرّره في باب العبادات فقال ـ بعد إطالة الكلام في ذلك ـ : وبالجملة فالإشكال الوارد في المقام هو بعينه الإشكال الوارد في باب العبادات ، والجواب مشترك بين المقامين (٢).

ولكن يمكن الفرق بين العبادة وبين ما نحن فيه ، فإن توقّف صلاح العبادة على الأمر لا من مجرّد أنّها لو كانت بلا أمر تكون تشريعاً محرّماً ، بل من جهة أنّ وفاءها بمصلحتها متوقّف واقعاً على الاتيان بها بداعي الأمر ، بخلاف ما نحن فيه من المصلحة السلوكية ، فإنّ وفاء سلوك الأمارة بمصلحته لا يتوقّف في ذاته على أمر الشارع أو إمضائه ، نعم إنّ المكلّف لا يمكنه إيجاد ذلك العمل الوافي بمصلحته ـ أعني نفس السلوك والاعتماد على الأمارة ـ إلاّبعد أن يأمره الشارع بذلك وإلاّ لكان تشريعاً وكذباً على الشارع ، فيكون أثر الأمر الشرعي هنا هو إزالة ذلك المانع من هاتيك النسبة وذلك السلوك ، بخلاف أثر الأمر الشرعي بالعبادة فإنّه يكون مكمّلاً لنقص ذاتها عن الوفاء بالمصلحة المطلوبة منها. وبعبارة أُخرى : أنّ جزء المؤثّر في الصلاح يكون متوقّفاً على الأمر هناك ، ورفع المانع هنا يكون متوقّفاً على الأمر ، بل لا معنى لمانعية التشريع من ذلك الصلاح.

وبتقرير أوضح : أنّ لنفس السلوك والاستناد إلى الأمارة صلاحاً واقعياً غير منوط بأمر من الشارع ولا بجعل منه ، وهذا الصلاح ربما عارضه فساد من جهة

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٢٠ ( مع تصرّف وتلخيص ).

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٢٢.

٢٨٤

أُخرى على وجه يوجب الردع عنه أو لا أقل من عدم إمضائه ، وإذا لم يكن له مزاحم أمضاه الشارع أو أمر به ، والتشريع إنّما يكون ناشئاً عن الردع أو عدم الامضاء الناشئ عن وجود المزاحم لذلك الصلاح في مقام الجعل والتشريع ، فلا يعقل أن يكون بنفسه مانعاً من صلاح ذلك الاستناد ، بل يكون المانع منه هو ذلك الفساد المزاحم الذي كان موجباً لعدم الامضاء ، وعند الشكّ في الامضاء يكون المقام من باب عدم إحراز الصلاح.

فالأمر بالسلوك أو إمضاؤه يتوقّف على كونه في حدّ نفسه ذا صلاح غير مزاحم بمفسدة أُخرى ، وكونه كذلك لا يتوقّف على هذا التصرّف الشرعي. نعم تحقّق الاستناد والسلوك خارجاً يتوقّف على إحراز ذلك التصرّف الشرعي ، فأين الدور.

لا يقال : صحّة الاستناد إلى الأمارة وجواز نسبة مؤدّاها إلى الشارع يتوقّف على ذلك الأمر الشرعي ، والأمر الشرعي يتوقّف على صلاح ذلك الاستناد ، وصلاحه يتوقّف على صحّته ، فكانت النتيجة أنّ صحّة الاستناد موقوفة على نفسها.

لأنّا نقول : إنّ صحّة الاستناد وجواز نسبة مؤدّى الأمارة إلى الشارع على وجه يخرج عن حيّز التشريع لا يتوقّف على وجود الأمر الشرعي ، بل إنّما يتوقّف على إحراز ذلك الأمر الشرعي ، ومن الواضح أنّ إحراز ذلك الأمر لا يتوقّف على كون السلوك في حدّ نفسه ذا مصلحة المفروض توقّفه على صحّة السلوك ، فتأمّل.

ولعلّ هذا هو المراد لما هو المحكي عن شيخنا قدس‌سره ، ويكون مشاركة العبادة فيما نحن فيه باعتبار هذه الجهة أعني كونها تشريعاً بدون الأمر ، فيكون الإشكال

٢٨٥

فيهما من هذه الجهة واحداً ، ويكون حلّه أيضاً واحداً ، وإن انفردت العبادة بإشكال آخر وهو مدخلية الأمر في صلاحها الواقعي لا في رفع كونها تشريعاً ، والذي تقدّم (١) البحث عنه في باب العبادات إنّما هو هذا الإشكال ، أعني إشكال توقّف الصلاح على قيد داعي الأمر المتوقّف على تحقّق الأمر ، ولم يكن تعرّض هناك للتشريع وكون الأمر مخرجاً له عن حيّزه لا إشارة ولا تلويحاً ، فضلاً عن كونه هو المبحوث عنه هناك ، فراجع وتأمّل.

والأولى أن يقال في دفع الإشكال الذي أشكله ابن قبة : إنّه لا ريب في انسداد باب الوصول إلى الواقع ، فلم يبق إلاّالاحتياط الكلّي ، وهو محذور مرغوب عنه لو لم نقل بأنّه موجب لاختلال النظام ، وإن شئت فقل : إنّه منافٍ للتشريع والرسالة والنبوّة ، فإنّ من كانت رسالته مقصورة على الأمر بالاحتياط في جميع الوقائع ، ولم تكن شريعته مشتملة على إيصال جملة أحكام معتدّ بها إلى المكلّفين ، لم يكن صاحب شريعة ، وحينئذ لم يبق إلاّالطرق العقلائية أو ما ينصبه الشارع ابتداءً منه ، وهذه الطرق ليس فيها طرق معيّنة تكون موجبة لحصول القطع لسالكها كي نحتاج في تسويغ العمل بغيرها إلى أنّه أكثر مصادفة للواقع ، بل إنّ جميع تلك الطرق العقلائية والتي نصبها أو ينصبها الشارع يتساوى فيها جميع المكلّفين ، غير أنّ بعضها ربما كان موجباً لحصول القطع بالنسبة إلى بعض المكلّفين في بعض الأزمان وهو زمان الحضور ، وذلك على تقديره أقلّ قليل بالنسبة إلى عامّة المكلّفين وعامّة الأحكام وعامّة الطرق وعامّة الأزمان ، فلو قيّد الشارع تلك الطرق بما اتّفق فيه حصول العلم والقطع الوجداني وأوجب الاحتياط

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات ١ : ١٦٣ ، وقد تقدّم تعليق المصنّف قدس‌سره عليه في المجلّدالأوّل من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤٢٦ وما بعدها.

٢٨٦

في الباقي ، لم يندفع المحذور السابق من لزوم اختلال النظام ، أو لا أقل من لزوم العسر والحرج ، فلم يكن بدّ من الالتزام بجعل الحجّية لتلك الطرق ، سواء أفادت العلم أو لم تفده ، وهو وإن لزم منه فوات بعض المصالح أو الوقوع في بعض المفاسد ، إلاّ أنّ ذلك قهري لا محيص عنه إلاّبالاحتياط الكلّي الذي عرفت أنّه لابدّ من إسقاطه ، فلا يكون إسقاطه والأمر بالعمل بالطرق المذكورة إلاّمن قبيل التخلّص عن الأفسد بما فيه فساد في الجملة ، وليس ذلك موجباً للكسر والانكسار في المصالح الواقعية كي يكون راجعاً إلى تصويب المعتزلة ، وفي الحقيقة أنّ التزاحم إنّما هو في الطريق الموصل إلى الواقع ، أعني إيجاب الاحتياط الكلّي أو إيجاب العمل بالطرق المزبورة ، وحيث إنّ الأوّل أفسد من الثاني كان المتعيّن عند الحكيم هو الثاني ، ويتلو الاحتياط الكلّي في الأفسدية بل هو عينه أن يوجب الشارع العمل بالطرق المثبتة وإسقاط النافية والعمل على الاحتياط فيها.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا حاجة إلى دعوى أغلبية الاصابة في الطرق ، ولا إلى دعوى المصالح السلوكية ، بل ولا إلى المصالح التسهيلية ، إلاّأن يراد بها ما عرفت من إسقاط الاحتياط ، فلاحظ وتدبّر. ولكنّك قد عرفت أنّ سقوط الاحتياط لم يكن لمجرّد مصلحة التسهيل ، بل كان سقوطه لكونه منافياً لكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب رسالة وشريعة.

والخلاصة : هي أنّ في المقام أُموراً لا محيص عنها : الأوّل : لزوم خلق البشر. الثاني : أنّه لابدّ للبشر من شريعة ذات أحكام اجتماعية وعبادية ، فكان اللازم تشريع تلك الأحكام. الثالث : أنّ باب الوصول إلى تلك الأحكام منسدّ عليهم ، إلاّأن يخلقهم جميعاً ملائكة أو أنبياء أو أئمّة معصومين ، ومن الواضح خلافه. الرابع : أنّه بعد هذه المقدّمات الثلاثة ينحصر إيصالهم إلى الواقع بالأمر

٢٨٧

بالاحتياط ، وقد عرفت أنّه منافٍ لكونه صاحب شريعة ورسولاً نبيّاً ، فلم يبق إلاّ الطرق ، ولو كان بعضها المعيّن موجباً للقطع والباقي لا يوجبه لتسنّى لنا أن نقول من الممكن كثرة الخطأ في ذلك البعض المعيّن بالنسبة إلى باقي الطرق ، فيتعيّن عليه أمرهم بعدم سلوك ذلك البعض الخاصّ والالتزام بسلوك البواقي ، لكن قد عرفت أنّه ليس لنا طرق معيّنة توجب العلم ، إذ ليس هناك إلاّتلك الطرق العقلائية وما ابتكره الشارع على إشكال في وجود طرق مجعولة للشارع تأسيساً ، بل جميع ما لدينا من الطرق هي طرق عقلائية أمضاها الشارع ولم يردعهم عن العمل بها.

وعلى كلّ حال ، أنّ ذلك المجموع من الطرق يختلف الناس في حصول العلم منه ، لأجل اختلاف الأزمان والأشخاص والأسباب ، فلم يبق إلاّأن يأمرهم بالعمل بتلك الطرق إذا كانت مفيدة للعلم مع لزوم الاحتياط فيما لم تكن مفيدة للعلم ، أو أن يأمرهم بالعمل بما يكون مثبتاً للتكليف من تلك الطرق ويأمرهم بالاحتياط فيما عداه ممّا لا يفيد العلم من تلك الطرق وما لا طريق فيه أصلاً.

وعلى كلّ من الوجهين يعود محذور الاحتياط من كونه منافياً للشريعة ، أو كونه موجباً لاختلال النظام ، وحينئذ ينحصر المخلص من هذه الإشكالات بالأمر بالعمل بجميع تلك الطرق ، ولا ضير في كون بعضها مفوّتاً للواقع ، فيكون في العمل به تفويتاً للمصلحة أو إلقاء في المفسدة ، وهذا قهري لا مخلص منه ، ولا يكون الشارع قد فوّت عليهم المصلحة أو ألقاهم في المفسدة ، بل هم واقعون في ذلك قهراً والشارع قد قلّل ذلك المحذور بأمرهم بالعمل بالطرق المذكورة ، إذ لولا ذلك لفات منهم جميع المصالح الواقعية ، لما عرفت من انسداد باب الوصول إلى الواقع عليهم وعدم إمكان أمرهم بالاحتياط في جميع الاحتمالات.

ولك أن تسلك في بيان المسألة وتوضيحها مسلكاً آخر هو أوضح ممّا

٢٨٨

تقدّم ، وذلك بأن تقول : إنّ الأحكام الشرعية والقوانين الإسلامية التي جعلها الشارع وبيّنها الرسول المعظّم على الطريقة المعروفة في البيان ، لا تقلّ عن القوانين التي تقنّنها الدول في كيفية نشرها والإعلان بها وبيانها لعامّة المكلّفين ، وحال المكلّفين بتلك الأحكام الشرعية كحال المكلّفين بتلك القوانين الدولية ، فإنّ الشارع المقدّس ورسوله المعظّم وخلفاءه المعصومين لم يقصّروا في بيانها ونشرها والإعلان بها لعامّة المسلمين إلاّمن حرمه الله تعالى من قبول ذلك ، ولم يتوفّق إلى الوصول إلى فهم بعضها لتقصير منه في فهم ذلك أو لقصور ، ولا كلام لنا في من قصّر في ذلك.

وإنّما الكلام في القاصر ، وقصوره تارةً يكون لأجل أنّه لم يصل إلى تلك البيانات ولم يسر في فهمها بالطرق المقرّرة لفهم تلك الأحكام وتلك القوانين ، فكان ذلك القصور موجباً لفوات مصالح تلك الأحكام عليه ووقوعه في المفاسد التي كانت تلك القوانين مانعة منها ، ومن المعلوم أنّ وقوعه في ذلك لمّا كان لقصور منه ، ولم يكن شيء من جانب الشارع المقدّس ، لم يكن فيه إشكال تفويت الشارع المصلحة والإلقاء في المفسدة. ويلحق بذلك من أخطأ قصوراً منه في كيفية إعمال تلك الطرق المقرّرة ، كمن أعمل أصالة الظهور في مورد سقوطها قصوراً منه في ذلك ، ولا كلام في جميع ذلك.

وإنّما الكلام في من لم يقصّر ولم يقصُر في إعمال تلك الطرق ، وأعملها وجرى عليها على طبق ما هو المقرّر في إجرائها ، كمن صدّق الراوي العادل بحسب الظاهر وعمل على طبق روايته ، ولكن الراوي قصّر في روايته بأن تعمّد الكذب ولم يطّلع المروي له ، أو أنّ الراوي لم ينصب القرينة على خلاف ظاهر كلامه ، أو أنّه غفل عن القرينة في كلام الإمام المروي عنه قصوراً منه أو غفلة أو

٢٨٩

نسياناً ، والمروي له اعتمد على عدالته وعلى أصالة الظهور وعدم الغفلة والنسيان أو أنّ المروي له غفل عن القرينة في كلام الراوي ، إلى غير ذلك من موارد الاشتباه. وكلّ ذلك لا يكون تفويت المصلحة مستنداً إلى الشارع ، بل إلى أسبابه من غفلة الراوي أو المروي له.

نعم ، في خصوص ما يكون من قبيل تأخير البيان عن وقت الحاجة ربما يتوهّم الاستناد فيه إلى الشارع ، لكن لا يخفى أنّه لو كان فإنّما هو لأجل طوارٍ وعوارض منعت من البيان ، على وجه كان في البيان مفسدة مانعة من البيان في وقت الصدور إلى ما بعد الحاجة ، فذلك وإن أوجب فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة إلاّ أنّه أيضاً لا يكون مستنداً إلى الشارع ، بل لا يكون السبب فيه إلاّتلك الطوارئ والعوارض.

ولكن هذه الطريقة لا تغني عمّا تقدّم ، فإنّ هذه المخالفات القصورية وإن لم يكن فوت المصلحة فيها مستنداً إلى الشارع ابتداءً ، إلاّ أنّها تستند إليه ثانياً باعتبار أنّه أمره بالعمل بتلك الطرق التي يعلم أنّه ربما أخطأت الواقع قصوراً ، فلا محيص في الجواب إلاّما عرفت فيما تقدّم من أنّ الشارع بعد فرض أنّ باب الوصول إلى الواقع منسدّ على المكلّفين ، ينحصر لطفه بهم في إيصالهم إلى المصالح الواقعية بأمرهم بأن يسلكوا الطرق العقلائية أو التي يقرّرها هو لهم ، فلو أخطأت لا يكون وقوعهم في خلاف الواقع وفوت تلك المصالح عليهم إلاّمن جهة قصورهم عن الوصول إلى الواقع بأنفسهم. نعم عليه أن يختار لهم ما يعلم أنّه أقل خطأ من غيره ، فلو كان الطريق ولو عقلائياً كثير الخطأ ، كان مقتضى لطفه بهم ردعهم عن سلوك ذلك الطريق ، كما صنعه في القياس والاستحسان ونحو ذلك من الطرق الممنوعة.

٢٩٠

أمّا تأخير البيان عن وقت الحاجة فقد عرفت الحال فيه ، من جهة أنّه لا يكون إلاّمن جهة طوار وعوارض زمانية أو زمنية ، أو عدم لياقة المكلّفين بعد ونحو ذلك ممّا يمنع الشارع من إصدار البيان ، فلا يكون عدم صدور البيان منه موجباً لكون الشارع هو السبب في فوت المصلحة عليهم أو وقوعهم في المفسدة.

وأمّا موارد الأُصول النافية وأهمّها البراءة ، فإن كانت في مورد عدم صدور البيان من الشارع ، فذلك عبارة أُخرى عن تأخير البيان الموجب للرجوع إلى الأُصول اللفظية في ذلك المقام ، أو الأُصول الحكمية النافية في هذا المقام ، وقد عرفت الحال في ذلك. وإن كان في مورد صدور البيان من الشارع لكنّه لم يصل إلى هذا المكلّف أو لم تقم فيه الحجّة عليه ، فذلك راجع إلى قصور في ذلك المكلّف بأحد الوجوه المتقدّمة الموجبة لعدم وصوله إلى الواقع ، وقد عرفت الحال فيه وأنّه لم يكن وقوعه في ذلك في خلاف الواقع مستنداً إلى الشارع. نعم من الممكن في المقام أن يوصله الشارع إلى الواقع ، بأن يأمره بالاحتياط ، لعدم لزوم محذور في الاحتياط في خصوص هذه الموارد القليلة ، لكن مصلحة التسهيل قاضية برفع الاحتياط وسقوطه بجعل الأصل النافي الذي هو البراءة ونحوه من الأُصول النافية ، فإنّ التزاحم إنّما يقع بين المصلحة الواقعية في اقتضائها إيجاب الاحتياط والمصلحة التسهيلية في اقتضائها الترخيص الفعلي ، وحيث كانت الثانية أقوى التجأ الشارع إلى رفع الاحتياط ، وجعل الترخيص في هذا الحال أعني حال الجهل العذري. ولو كان الأمر بالعكس ، بأن كانت المصلحة الواقعية في اقتضائها الاحتياط أقوى من مصلحة التسهيل كما في الدماء والفروج ، كانت هي المؤثّرة وكان على الشارع إيجاب الاحتياط.

٢٩١

والحاصل : أنّ للمصلحة الواقعية اقتضاءين طوليين : الأوّل : جعل الحكم على طبقها ، وهذا لا محيص عنه ، ولا يزاحمه المصلحة التسهيلية. الثاني : إيجاب الاحتياط في مورد الجهل بالواقع ، وهذا المقدار من الاقتضاء هو الذي يتزاحم مع مصلحة التسهيل ، فإن كان ذلك هو الأقوى أوجب الاحتياط ، وإن كان الأقوى هو مصلحة التسهيل أوجب الترخيص ، ولا يكون الموقع له في خلاف الواقع إلاّ جهله بناءً على حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، ولا يكون الترخيص الشرعي إلاّعبارة عن عدم جعل الاحتياط الذي هو وارد على ذلك الحكم العقلي ولا يكون الرفع حينئذ إلاّمن قبيل الدفع ، وإنّما سمّي رفعاً بالنظر إلى وجود المقتضي للاحتياط الذي هو المصلحة الواقعية ، كما حقّق في محلّه (١) في بيان حديث الرفع.

وينبغي أن يعلم أنّ الاحتياج إلى هذا التكلّف إنّما هو في الموارد التي يكون الأمر بالاحتياط فيها حاكماً على ما ينفي التكليف أعني أصالة البراءة ، أمّا ما يكون النافي فيها حاكماً على الاحتياط مثل تأخير البيان عن وقت الحاجة ، التي يكون المرجع فيها هو الأُصول اللفظية الحاكمة على الاحتياط ، فلا يكون الأمر بالاحتياط نافعاً فيها ، لأنّ المكلّف يقدّم الأصل اللفظي لكونه حاكماً على الاحتياط ، وهكذا الحال فيما لو كان المورد في حدّ نفسه مورداً لاستصحاب عدم التكليف ، فإنّ الأمر بالاحتياط أيضاً لا يكون مؤثّراً.

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٣٣٦ وما بعدها ( الأمر الأوّل ) وراجع أيضاً حواشي المصنّف قدس‌سره الآتية في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ١١٤ وما بعدها.

٢٩٢

قوله : فالإنصاف أنّ إضافة لفظ « الأمر » في العبارة كان بلا موجب ، بل لعلّه يخلّ بما هو المقصود ... الخ (١).

مضافاً إلى أنّ تركيب العبارة لا يساعد عليه ، حيث إنّ الخبر عن قوله : إلاّ أنّ العمل الخ (٢) ، هو قوله : يشتمل على مصلحة فأوجبه الشارع ، ولو أقحمنا لفظ « الأمر » بين « أنّ » ولفظ « العمل » لكان الضمير في قوله : « فأوجبه الشارع » راجعاً إليه لا إلى العمل. ولا يخفى عدم معقولية تعلّق الإيجاب بالأمر بالعمل ، فتأمّل.

قوله : فإنّ الاجتماع يوجب التأكّد ... الخ (٣).

لو كان مرجع حجّية الأمارات إلى الموضوعية ، فلا ينبغي الإشكال في عدم إمكان التأكّد ، لأنّ موضوع الحكم الواقعي هو نفس صلاة الجمعة مثلاً ، وموضوع الحكم الظاهري هو صلاة الجمعة بعنوان كونها ممّا قامت الأمارة على وجوبه ، ومع الاختلاف في الموضوع ولو بهذا المقدار لا يتحقّق التأكّد ، بل لو لم نقل بالموضوعية وقلنا بالسببية ، بأن يكون قيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة سبباً لحدوث مصلحة فيها تكون موجبة لتعلّق الإيجاب بها ، لم يمكن التأكّد ، لتأخّر الوجوب الثاني رتبة عن الوجوب الأوّل ، ومع اختلاف الرتبة لا يمكن التأكّد ، وإن قلنا إنّ اختلاف الرتبة لا يسوّغ اجتماع المتنافيين ، بل ولا المثلين ، كما مرّ توضيحه في باب القطع الموضوعي فراجع (٤)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٩.

(٢) فرائد الأُصول ١ : ١١٤ ـ ١١٥.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٩٩.

(٤) حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : ٤٠ وما بعدها.

٢٩٣

ويمكن أن يقال : إنّ مراد شيخنا قدس‌سره هو أنّ مجرّد اجتماع المثلين ليس بمحذور مستقل ، لأنّه إن جاز اجتماع الضدّين لجهة من الجهات التي يدعونها في المقام ، جاز اجتماع المثلين ولم يكن ذلك من التأكّد ، وإن لم يجز اجتماع الضدّين كانت الرتبة والموضوع واحداً وتوجّه التأكّد في اجتماع المثلين ، كما يرى في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي عند اجتماعهما في شخص واحد ، فتأمّل.

قوله : الوجه الأوّل : ما هو ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره في أوّل مبحث التعادل والتراجيح ... الخ (١).

لا يبعد أن يكون ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره (٢) في ذلك المقام ناظراً إلى الفرق بين الأُصول العملية والأمارات ، في كون الشكّ مأخوذاً في الأوّل دون الثاني فراجع ، وراجع ما حرّرناه على هذا التحرير في ذلك المقام (٣).

قوله : أمّا الشأنية : فإن كان المراد منها أنّه في مورد قيام الأمارة ... الخ (٤).

قال قدس‌سره فيما حرّرته بعد أن أبطل كلاً من احتمال الشأنية والانشائية : نعم لو كان المراد من الحكم الشأني أو الانشائي هو الحكم اللولائي ، نظير الأحكام اللاحقة للأشياء بعناوينها الأوّلية ، والمراد من الحكم الفعلي نظير الأحكام

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٠٠.

(٢) فرائد الأُصول ٤ : ١١ ـ ١٢ [ لا يخفى اختلاف نسخ الفرائد ، وقد أُشير إلى ذلك أيضاً في هامش فوائد الأُصول ٤ : ٧٠١ فراجع ].

(٣) راجع المجلّد الثاني عشر من هذا الكتاب الصفحة : ٣ وما بعدها.

(٤) فوائد الأُصول ٣ : ١٠١.

٢٩٤

اللاحقة لها بعناوينها الثانوية ، لصحّ كون الحكم الفعلي مغايراً للحكم الشأني أو الانشائي ، إلاّ أنّ ذلك لا ربط له بما نحن فيه من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بكون أحدهما شأنياً أو إنشائياً والآخر فعلياً.

قلت : لا يقال لِمَ لا يجمع بينهما بهذه الطريقة ، بأن نقول إنّ الحكم الواقعي يكون شأنياً لولائياً في مورد الشكّ ، ويكون الحكم الفعلي في المورد المذكور هو الحكم الظاهري.

لأنّا نقول : إنّ هذا الوجه لا يمكن الالتزام به حتّى فيما يكون موضوعه مقيّداً بالشكّ أعني الأُصول العملية ، لأنّ لازمه التصويب وعدم الاعادة والقضاء فيما لو انكشف الخلاف ، كما عرفته سابقاً من وقوع الكسر والانكسار وبقاء الحكم الواقعي عارياً عن المصلحة المؤثّرة. مضافاً إلى أن حمل الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعية على الأحكام الشأنية اللولائية لا يخفى فساده ، انتهى.

ولا يبعد أن يكون مراد الكفاية من كون الحكم الواقعي شأنياً هو هذا المعنى من التنزيل على كونه من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية ، كما هو صريح ما أفاده في ثاني تذنيبي مسألة الاجزاء (١) فيما تعرّض فيه للفرق بين الالتزام بالاجزاء في موارد الأحكام الظاهرية والالتزام بالتصويب ، فراجع.

نعم ، كلامه قدس‌سره في الجزء الثاني في مقام الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية (٢) ظاهر أو صريح في عدم كون الأحكام الظاهرية أحكاماً حقيقية ، وإن استشكل أخيراً في الاباحة الشرعية ، فراجعه وتأمّل.

أمّا كلامه قدس‌سره في الحاشية على الرسائل فصدره على طوله راجع إلى الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بالشأنية والفعلية ، وإن كان في طي الكلمات يسمّي

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٨٨.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٢٩٥

الحكم الواقعي ذاتياً اقتضائياً مجعولاً للأشياء بما هي عليها من العناوين الأوّلية ، ويلتزم بالكسر والانكسار ، فراجع قوله : فينشأ على وفقها من دون أن يصير فعلياً إلاّ بأُمور ، منها : عدم قيام أمارة معتبرة على خلافه الخ (١). وعمدة همّه في ذلك التطويل هو رفع التناقض مع المحافظة على عدم لزوم التصويب.

ولكنّه في آخر كلامه في قوله : تذنيب فيه تحقيق الخ (٢) ، صرّح بما أفاده في الجزء الثاني من الكفاية من عدم كون الحكم الظاهري حكماً حقيقياً ، واستشكل في مفاد الأُصول التعبّدية ، ولم يجب عنه بما أجاب به في الكفاية فراجع.

ولم أعثر في الجزء الثاني من الكفاية فيما تعرّض فيه للجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ما يدلّ على جعل المنجّزية والمعذّرية كما نقله عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا (٣) ، بل إنّ عبارته في الكفاية صريحة في أنّ المجعول هو الحجّية وأنّ التنجّز والمعذورية من آثارها ، فراجع قوله : وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته الخ (٤).

قوله : لأنّ منشأ انتزاع الحجّية لابدّ وأن يكون أمراً لا دخل له بإطاعة المكلّف وعصيانه ـ إلى قوله ـ فلابدّ وأن يكون منشأ انتزاع الحجّية حكماً تكليفياً مستمرّاً لا يسقط بعصيانه في زمان ، لتكون الحجّية مستمرّة باستمراره ... الخ (٥).

إنّ هذا المطلب محتاج إلى التأمّل ، إذ لا ريب على الظاهر في انقطاع

__________________

(١) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٣٧.

(٢) حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٤٠.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ١٣١.

(٤) كفاية الأُصول : ٢٧٧.

(٥) فوائد الأُصول ٣ : ١٠٨ ـ ١٠٩.

٢٩٦

الحجّية بانقطاع موضوعها الذي هو العمل ، سواء قلنا إنّها هي المجعولة ابتداءً أو قلنا إنّها منتزعة من الحكم التكليفي. ثمّ لو سلّمنا بقاء الحجّية بعد ارتفاع موضوعها بالاطاعة أو العصيان ، لأمكننا دفع هذا الإشكال عن الشيخ قدس‌سره بأن نقول إنّ الحجّية وإن كانت معلولة عن الحكم التكليفي ، إلاّ أنّ حدوث ذلك الحكم التكليفي كافٍ في حدوثها وبقائها ، فلا يكون ارتفاع ذلك الحكم التكليفي بالاطاعة أو العصيان موجباً لارتفاع الحجّية التي هي منتزعة عنه ومعلولة له ، إلاّإذا قلنا إنّ قوام الحجّية حدوثاً وبقاءً هو ذلك الحكم التكليفي ، لتكون الحجّية من الانتزاعيات الصرفة التي لا واقعية لها ، وأنّ واقعيتها إنّما هي عبارة عن منشأ انتزاعها فتأمّل.

نعم ، يرد على الشيخ قدس‌سره أنّ الالتزام بوجوب العمل على طبق مؤدّى الأمارة مع فرض كونها مخالفة للواقع ، لا يوجب التخلّص عن اجتماع الضدّين أو المتناقضين ، إلاّعلى ما في الكفاية (١) من كون تلك الأوامر صورية لا واقعية لها الذي لا نتعقّله إلاّبناءً على كونه كناية عن جعل الحجّية ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره (٢) وإن التزم بكون لزوم العقد منتزعاً عن إطلاق وجوب الوفاء لما بعد الفسخ ، إلاّ أنّه لو التزم هنا بكون الحجّية منتزعة عن وجوب العمل ، لم يكن ذلك متوقّفاً على ثبوت إطلاق لوجوب العمل إلى ما بعد الاطاعة والعصيان ، كي يتوجّه عليه ما أُفيد في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : فإنّ أيّ حكم تكليفي فرض في مورد الحجّة الشرعية فلا محالة يكون ساقطاً بالعصيان ، ولا يكون له إطلاق بالاضافة إليه ، ولازم ذلك أن تكون الحجّية

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٢) المكاسب ٥ : ١٨ ـ ١٩.

٢٩٧

المنتزعة منه مرتفعة بسقوطه الخ (١) وبنحو ذلك صرّح قدس‌سره فيما حرّرته عنه في هذا المقام.

وبالجملة : أنّ انتزاع الحجّية من وجوب العمل لا يتوقّف على إطلاق وجوب العمل لما بعد الاطاعة والعصيان ، وسقوطها بسقوطه بالاطاعة أو العصيان لا ضير فيه بناءً على كونها معلولة له ومنتزعة منه كما عرفت ، فتأمّل.

تنبيه : لا يخفى أنّا لو قلنا بكون الحجّية من الأحكام الوضعية ، وأنّ الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية ، لا يلزمنا القول بأنّ الحكم التكليفي الذي تنتزع عنه الحجّية هو جعل مؤدّاها ، ليلزم اجتماع الحكمين الواقعي والمجعول بالأمارة ، بل يمكن القول بأنّ الحكم التكليفي الذي تنتزع عنه الحجّية هو وجوب إلغاء احتمال خطئها ، أو وجوب البناء على أنّها مصيبة للواقع ولزوم الاعتقاد بذلك ، والمنع عن التشكيك في إصابتها الواقع ، فإنّ هذا التكليف هو القابل لأن يقع النزاع في كونه المجعول ابتداءً وعنه تنتزع الحجّية ، أو كون المجعول ابتداءً هو الحجّية ويكون هذا التكليف من آثارها الشرعية ، بخلاف جعل مؤدّاها فإنّه كما لا يمكن أن يكون هو المجعول ابتداءً ، فكذلك لا يمكن أن يكون من آثار الحجّية على تقدير كون المجعول ابتداءً هو الحجّية ، فإنّ الالتزام بهذا النحو من التكليف يوجب اجتماع الحكمين المتضادّين أو المتناقضين أو المثلين. وليست هذه الطريقة عبارة عن كون المجعول هو الهوهوية وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع كما نقله شيخنا قدس‌سره (٢) عن الشيخ قدس‌سره ، كما أنّه ليست مبنية على كون مفاد الحجّية هو تنزيل الظنّ الحاصل منها منزلة العلم ، فإنّ ذلك ـ أعني

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٠٩.

٢٩٨

تنزيلها منزلة العلم ـ إنّما يتمّ في العلم الموضوعي دون الطريقي الصرف ، كما شرحناه مفصّلاً في أوائل مباحث القطع فراجع (١).

قوله : لأنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع ، وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم ... الخ (٢).

لا يخفى أنّه قدس‌سره في الدورة الأخيرة قد عدل عن ذلك ، أعني كون مفاد الأُصول التنزيلية هو لزوم البناء العملي ، بل جعل مفاد دليل حجّيتها هو نفس مفاد دليل حجّية الأمارة من الوسطية في الإثبات ، لكنّه في خصوص الأُصول التنزيلية من حيث الجري العملي ، فراجع ما حرّر عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : وإنّما المجعول هي الوسطية في الإثبات من حيث انكشاف الواقع في الأمارات ، ومن حيث الجري العملي في الأُصول التنزيلية ـ فراجعه إلى قوله ـ بل يمكن أن يقال باستحالة كون الحجّية فيها منتزعة من الحكم التكليفي أيضاً ، فإنّا إذا فرضنا مخالفة مؤدّى الأصل للواقع ، فحكم الشارع بجعل مؤدّاه هو الواقع ليس له معنى معقول إلاّإعطاء الحكم الواقعي للمؤدّى ، وهذا يرجع إلى التصويب المعتزلي المجمع على بطلانه ، إلى آخر البحث (٣).

ثمّ إنّه قد يتخيّل الإيراد عليه بأنّ مقتضاه كون الاستصحاب مساوياً للأمارة ، لأنّ كلاً منهما حينئذ يكون مجعول الحجّية ، وبعد جعل الحجّية يترتّب عليها آثارها الشرعية والعقلية ، ومقتضى ذلك هو الالتزام بحجّية الأُصول المثبتة كما التزمنا به في باب الأمارات. ومجرّد كون الشكّ موضوعاً في الأُصول الاحرازية

__________________

(١) الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١١٠.

(٣) أجود التقريرات ٣ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

٢٩٩

دون الأمارات لا يترتّب عليه عدم حجّية المثبت من الأُصول ، وإنّما يترتّب على هذا الفرق حكومة الأمارات على الأُصول ، فلا وجه لما أُفيد في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : ومن حيث اشتراكها مع الأُصول غير التنزيلية في أخذ الشكّ في موضوعها لا تكون مثبتاتها حجّة الخ (١).

والجواب الحقيقي عن هذا التوهّم هو ما أشار إليه قدس‌سره من تقييد الحجّية المجعولة للأُصول الاحرازية بالبناء العملي ، وتوضيح ذلك يتوقّف على تمهيد مقدّمة ، وهي أنّ الحجّية بعد الفراغ عن كونها من الأحكام الوضعية القابلة للجعل بنفسها إمضاءً أو تأسيساً ، كالقضاوة والوكالة والولاية وغير ذلك من الأحكام الوضعية ، ولا تحتاج في جعلها إلى ترتّب الأثر الشرعي عليها ، بل إنّها لمّا كانت بنفسها أثراً شرعياً كانت بنفسها قابلة للجعل ، بلا حاجة إلى ترتّب أثر شرعي.

وبالجملة : أنّا لا نحتاج في جعل الأُمور الشرعية إلى ترتيب الأثر الشرعي كي يكون مرجع جعل الحجّية إلى الحكم بترتّب ذلك الأثر الشرعي ليعود محذور الاجتماع ، وإنّما أقصى ما نحتاجه في جعل الأُمور الشرعية هو أن يترتّب عليها أثر عملي لئلاّ يكون جعلها لغواً.

فنقول : إنّه يكفي في صحّة جعل الحجّية بعد فرض كونها بنفسها أثراً شرعياً ترتّب العمل عليها من الجري على طبقها ، وأنّها تكون بعد الجعل منجّزة للواقع لو أصابت ومصحّحة للعذر لو أخطأت ، وغير ذلك من الآثار العقلية.

ثمّ بعد ذلك نقول : إنّ الحجّية قابلة للتوسعة والتضييق بالنسبة إلى ما تكون حجّة فيه كما في الولاية الشرعية ، فإنّها قابلة للتوسعة والتضييق باعتبار ما يتولاّه الوالي المنصوب ، ألا ترى أنّ حجّية خبر الواحد ليست مطلقة في كلّ ما يقوم عليه

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٣٤.

٣٠٠