أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

مضافاً إلى وقوعه في الأحكام الشرعية ، مثل إحراز عدالة الإمام المأخوذ موضوعاً لجواز الاقتداء به وصحّة الصلاة حتّى مع انكشاف الخلاف ، ومثل إحراز عدالة شهود الطلاق ، فقد قال شيخنا قدس‌سره إنّ الشرط المسوّغ للطلاق وللحكم بصحّته واقعاً هو الاحراز أو العدالة الواقعية ، بل وسّع المنطقة في ذلك إلى كلّ شرط يكون مبنياً على الاحراز ، على وجه يكون ابتناؤه على الواقع وانكشاف الفساد عند انكشاف الخلاف موجباً لعدم استقرار النظام في ذلك النحو من الأحكام (١).

ثمّ لا يخفى أنّ الذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب ، ففي بعضه التصريح بأنّ القطع الطريقي لا يعقل أخذه تمام الموضوع ، كما في هذا التحرير والتحرير المطبوع في صيدا (٢) ، وفي بعضه أنّ غير المعقول هو أخذ القطع الصفتي جزء الموضوع ، ببيان أنّه إذا أُخذ بما أنّه صفة خاصّة جزءاً للموضوع لم يكن عندنا ما يكون محرزاً للجزء الآخر الذي هو الواقع ، وفي بعضها أنّ ما أخذ على الصفتية لا يكون جزء الموضوع ، وما أُخذ على نحو الطريقية لا يكون تمام الموضوع ، فراجع التحرير ص٣ وص٢٥ وص ٢٧ (٣).

قلت : ولعلّ الوجه في إسقاط العلم الصفتي عن كونه جزء الموضوع ، هو أنّ أخذه صفة يوجب غضّ النظر عن متعلّقه ، ويكون متعلّقه أجنبياً عنه ، فلا محصّل لكون القطع ومتعلّقه الواقعي هو الموضوع.

وفيه : أنّه وإن كان أجنبياً في هذه المرحلة من لحاظه صفة ، إلاّ أنّه لا يخرج

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه ، ولعلّه في تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس‌سرهما.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٣.

(٣) مخطوط لم يطبع بعد.

٢١

عن كونه في حدّ نفسه متعلّقاً لذلك القطع. ولو سلّم فليكن أجنبياً عن القطع ، لكن كونه أجنبياً لا يمنع من ضمّه إلى القطع في كونهما معاً تمام الموضوع. أمّا عدم إحراز الجزء الثاني الذي هو الواقع فهو محرز وجداناً للقاطع الذي هو المكلّف ، فإنّ الحاكم وإن أخذ العلم بما أنّه صفة للعالم قائمة بنفس المكلّف ، إلاّ أنّ العلم عند وجوده للمكلّف وقيامه في نفسه ، لا يخرج عن كونه محرزاً للواقع بالنسبة إلى ذلك المكلّف ، وإن كان الحاكم قد نظر إليه بما أنّه صفة قائمة في نفس المكلّف.

ثمّ إنّه قدس‌سره قد تنظّر في إسقاط هذا القسم ، ورجّح إسقاط ما كان العلم الطريقي فيه تمام الموضوع ، من جهة عدم مناسبة الطريقية لكونه تمام الموضوع ، فراجع ما حرّرته في ص ٢٩ من التحريرات (١).

قوله : فلابدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الاطلاق أو التقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمّم الجعل ، فاستكشاف كلّ من نتيجة الاطلاق والتقييد يكون من دليل آخر ... الخ (٢).

الظاهر أنّه لابدّ من الجعل الثاني ليتمّ التعميم ، ومجرّد كون الاشتراك قطعياً لا يكفي في تحقّق متمّم الجعل الذي يتوقّف عليه تعميم الجعل الأوّل ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّا نستكشف من قطعية الاشتراك تحقّق الجعل الثانوي المتمّم للجعل الأوّلي.

ويمكن أن يقال : إنّ التعميم المذكور لا يحتاج إلى جعل ثانٍ ، بل يكفي مجرّد جعل الحكم الأوّلي ، فإنّه وإن لم يمكن فيه الاطلاق اللحاظي ، لتأخّر كلّ

__________________

(١) مخطوط لم يطبع بعد.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٢.

٢٢

من العلم والجهل المتعلّقين بالحكم عن نفس ذلك الحكم ـ من دون فرق في ذلك بين مقام الثبوت ومقام الاثبات ، فلا وجه لما قد يقال من إمكان الاطلاق في مقام الثبوت ـ إلاّ أنّ الحكم بنفسه يكون متحقّقاً قهراً في كلّ من الموردين ، على حذو تحقّق العلّة مع معلولها ، وإن كانت سابقة في الرتبة على معلولها ، فإن سبق الحكم على العلم به من سنخ سبق العلّة على معلولها ، وحينئذ يكون نفس الحكم متحقّقاً مع كلّ من حالتي العلم والجهل المتعلّقين به ، غايته أنّ تحقّقه يكون سابقاً في الرتبة ، فهما ـ أعني الحكم وأحد الأمرين من العلم به والجهل ـ موجودان معاً غير أنّ الأوّل سابق في الرتبة على الثاني ، ونعبّر عن هذا التحقّق في كلّ من حالتي العلم والجهل بالاطلاق الذاتي ، من دون حاجة إلى جعل ثانٍ.

وذلك كما يشاهد في أوامر الموالي العرفية بالنسبة إلى من لهم الأمر عليه ، فإنّهم لا يحتاجون في شمولها لكلّ من العالم والجاهل إلى جعل ثانٍ ، إذ ليس في مثل ذلك إجماع ونحوه على الاشتراك كي يستكشف منه الجعل الثاني المتمّم للجعل الأوّل ، وما ذلك إلاّمن جهة ما ذكرناه من الاطلاق الذاتي. وكون إمكان الاطلاق تابعاً لإمكان التقييد مسلّم ، إلاّ [ أنّ ] ذلك في الاطلاق اللحاظي ، أمّا الاطلاق الذاتي الذي هو إطلاق قهري فلا يكون إمكانه متوقّفاً على إمكان التقييد اللحاظي ، بل يكفي فيه تعلّق الحكم بالذات ، فتكون الذات في حال العلم بالحكم متعلّقة لذلك الحكم ، لكن في الرتبة السابقة على العلم ، كما أنّها بالنسبة إلى الجهل كذلك. وهذا هو محصّل الاطلاق الذاتي القهري. ولعمري إنّه في الحقيقة ليس باطلاق ، لكنّه في حكم الاطلاق من حيث النتيجة.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأُستاذ الأعظم قدس‌سره من تصحيح ذلك بمتمّم الجعل ، ففيه تأمّل ، لأنّ ذلك الجعل الثانوي إن كان من مجرّد الاخبار والحكاية عن أنّ الحكم

٢٣

ثابت في كلتا الحالتين ، ففيه أوّلاً : أنّه لا يكون حينئذ من قبيل الجعل. وثانياً : أنّه بعد أن كان وجود الحكم في مرتبة العلم والجهل به غير معقول كيف يصحّ الاخبار به.

وإن كان المراد هو سحب الحكم من مرتبته السابقة على العلم به والجهل إلى ما بعدهما فهو محال ، لأنّ ما هو في مرتبة العلّة يستحيل سحبه إلى مرتبة المعلول.

وإن كان المراد به جعلاً ثانوياً يكون المجعول فيه مماثلاً للمجعول الأوّل ، ففيه أوّلاً : أنّ ذلك خلاف ما هو المشاهد بالوجدان من الأوامر العرفية وغيرها ، في أنّ تسرية الحكم فيها وشموله لكلّ من حالتي العلم به والجهل ، لا يحتاج إلى جعل المماثل.

وثانياً : أنّه يلزم اجتماع المثلين ، وتعدّد الرتبة لا ينفع في دفع إشكال اجتماعهما ، وإلاّ لصحّ ذلك في ضدّ ذلك الحكم ، بأن يقال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر وجب عليك أو جاز لك شربها. ودعوى عدم إمكان ذلك في العلم ، لكونه تناقضاً بنظر المكلّف ، بخلاف ما لو كان المأخوذ هو الجهل بأن يقول : إذا جهلت بحرمة شرب الخمر جاز لك شربها ، وبخلاف ما لو كان المجعول مماثلاً للمجعول الأوّل ، فإنّه لا تناقض فيه ، يدفعها أنّه بعد فرض كون اجتماع المثلين كالضدّين محالاً يكون المانع من صحّته موجوداً فيه.

وثالثاً : لو سلّمنا ذلك لكان خارجاً عمّا نحن بصدده من إطلاق الحكم بالنسبة إلى كلّ من العلم والجهل المتعلّقين به ، بل هو من قبيل أخذ العلم بالحكم والجهل به موضوعاً لحكم آخر ، غايته أنّه يماثل الحكم الأوّل.

ورابعاً : أنّ هذا الحكم المجعول ثانياً في مرتبة العلم والجهل المتعلّقين

٢٤

بالحكم الأوّل أيضاً يكون متعلّقاً لكلّ من العلم والجهل ، فهو بالنسبة إلى العلم والجهل المتعلّقين به يحتاج إلى متمم الجعل بالقياس إليه وهكذا ، فيلزم التسلسل. وسيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث جعل الأحكام الظاهرية في موارد الأمارات والأُصول الشرعية (١) ، وفيما علّقناه على ما حرّرناه عنه قدس‌سره في ذلك المبحث ، ما فيه زيادة توضيح لهذه الجهات ، فراجع ص ٧٦ ممّا حرّرناه هناك (٢).

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ قيام الدليل الخارجي على اختصاص الحكم في بعض الموارد بصورة العلم ، لا يحتاج إلى جعل ثانٍ يكون محصّله رفع ذلك الحكم عن الجاهل به ، نظير النسخ ، على وجه يكون الحكم الواقعي ثابتاً للذات معرّاة عن كلّ من العلم والجهل ، ويكون تحقّق الجهل موجباً للحكم الشرعي برفع ذلك الحكم ، ليكون لازمه تحقّق الحكم في حقّ الجاهل في الرتبة السابقة على الجهل ، ونفيه ورفعه عنه في رتبة الجهل ، على وجه يكون الجهل بالحكم الواقعي موضوعاً للحكم الشرعي برفعه ، فإنّ ذلك عين التناقض ، ولا يدفعه اختلاف المرتبة.

بل المراد من الاختصاص المذكور هو قيام الدليل الخارجي على كون المجعول له ذلك الحكم الواقعي ، هو خصوص الذات التي يعلم الله تعالى أنّها يتحقّق منها العلم بذلك ، لا على وجه يكون العلم دخيلاً في الموضوع ، وإلاّ لزم كون الحكم سابقاً في الرتبة على العلم لتعلّقه به ، ومتأخّراً في الرتبة عنه لكونه مأخوذاً في موضوعه.

هذا هو خلاصة الإشكال في أخذ التقييد أو الاطلاق لحاظيين في مثل

__________________

(١) راجع الحاشية المفصّلة الآتية في الصفحة : ٣١٢ وما بعدها.

(٢) مخطوط لم يطبع بعد.

٢٥

الجهل ، وليس هو بالدور المصطلح ، فإنّ الحكم وإن توقّف على العلم من جهة كونه حسب الفرض موضوعاً له ، إلاّ أنّ العلم بالحكم لا يتوقّف على تحقّق الحكم واقعاً ، إلاّ إذا كان المأخوذ قيداً هو العلم على نحو جزء الموضوع ، فتأمّل.

وكيف كان ، فإنّ المراد من دليل الاختصاص ليس هو أخذ العلم بالحكم جزء الموضوع أو تمام الموضوع ، بل المراد هو أنّ المحكوم عليه هو نفس تلك الذات الخاصّة التي اقترنت بالعلم ، فلا يكون المحكوم عليه إلاّخصوص تلك الذات معرّاة في حال إيراد الحكم عليها عمّا هي واجدة له من خصوصية العلم. وبعبارة أُخرى لا يكون المنظور إليه في حال إيراد الحكم إلاّنفس الحصّة من الذات الخاصّة. وهذا النحو من التوجيه لا يتأتّى في مسألة قيد القربة وداعي الأمر ، لأنّ أخذها قيداً لا يمكن إلاّمع دخول القيد المزبور تحت الأمر على وجه يكون جزء المأمور به ، على تأمّل في ذلك ، فراجع ما حرّرناه عن بعض الأجلّة من مشايخنا فيما علّقناه في مبحث التعبّدي والتوصّلي (١). وقد حرّرنا هذه المسألة المتعلّقة بدليل الاشتراك فيما علّقناه على ما حرّرناه عن شيخنا قدس‌سره في هذا المقام. وفي أوائل إمكان جعل الطرق والأمارات عند التعرّض للجواب عن إشكال التناقض ، وأنّ دليل الاشتراك ينافي الترخيص في مقام الشكّ فراجعه (٢) ، (٣)

__________________

(١) لعلّ المقصود بذلك ما تقدّم في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ، صفحة : ٤٠١ ـ ٤٠٣.

(٢) الظاهر أنّ المقصود بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه قدس‌سرهما. وعلى أيّ حال فلتراجَع الحاشية المفصّلة الآتية في الصفحة : ٣١٢ وما بعدها.

(٣) هذا ولكن لا يخفى أنّ اختصاص الحكم بخصوص العالم به لا يتوقّف إمكانه على أخذ الذات توأماً مع العلم ، أعني الذات التي يعلم الله أنّها يتحقّق منها العلم بالحكم ،

٢٦

قوله : وقد ادّعي تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام في حقّ العالم والجاهل ، ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلّة سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب الحدائق في مقدّمات كتابه ... الخ (١).

لعلّ المراد بذلك ما ذكره صاحب الحدائق في المقدّمة الخامسة (٢) في حكم الجاهل وأنّه غير معذور ، لكن لم يذكر هناك ما يدلّ على عدم المعذورية إلاّما دلّ على وجوب الفحص والتعلّم والسؤال والتفقّه. ولا يخفى عدم صراحتها في الاشتراك ، ولو من جهة إمكان كون التعلّم واجباً نفسياً ليتهيّأ إلى إيراد التكاليف عليه. نعم ذكر في الوجه الثاني ممّا ردّ به على القائلين بالبراءة العقلية في أوائل كتابه ما هذا نصّه : الثاني استفاضة الأخبار بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً شرعياً مخزوناً عند أهله ، حتّى أرش الخدشة والجلدة ونصف الجلدة الخ (٣). وهذا أيضاً

__________________

بل يكفي فيه ما عرفت من جعل الحكم لنفس الذات معرّاة عن لحاظ العلم والجهل به ، لعدم إمكان لحاظها كذلك في حال إيراد الحكم عليها ، ثمّ بعد جعل الحكم على عنوان الذات القاضي بتحقّقه لها لو طرأها العلم أو طرأها الجهل يرفعه عن الذات عند طروّ الجهل ، ولا يكون ذلك موجباً للتناقض في مرتبتين ، بل هو من قبيل العناوين الأوّلية والثانوية ، فالمكلّف بعنوانه الأوّلي يكون محكوماً بذلك الحكم ، وبعنوانه الثانوي ـ أعني كونه جاهلاً بذلك الحكم ـ يكون ذلك الحكم مرتفعاً عنه ، بمعنى أنّ الشارع يرفع ذلك الحكم عنه عند جهله به نظير الاضطرار.

وينبغي التأمّل في عدم معقولية الإهمال في الواقع ، مع فرض أنّه لا يمكن الاطلاق والتقييد وما ذلك إلاّعبارة عن الاهمال ، وما الاهمال الواقعي إلاّما التزم به قدس‌سره من متمم الجعل ، فإنّ المجعول الأوّلي لابدّ أن يكون مهملاً [ منه قدس‌سره ].

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٢.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٧٧.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٥.

٢٧

ليس بصريح في إفادة الاشتراك فتأمّل ، لجواز كون تلك الأحكام مختصّة أيضاً بخصوص العالم ، فإنّ كون كلّ واقعة لها حكم لا يوجب أن يكون ذلك الحكم مجعولاً في حقّ الجاهل به ، فتأمّل.

قوله : وقد خصّصت في غير مورد ، كما في مورد الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حقّ العالم ، فقد أخذ العلم شرطاً في ثبوت الحكم واقعاً ... الخ (١).

ينبغي مراجعة ما أفاده قدس‌سره في توجيه هذه المسألة في مبحث لزوم الفحص من الأُصول (٢) ومبحث القصر والاتمام من الفقه (٣) ، فإنّه أفاد قدس‌سره هناك أنّ التوجيه لهذه المسألة باختصاص الحكم بوجوب الجهر بمن كان عالماً به يلزمه عدم استحقاق العقاب عند الاخفات جهلاً في مورد الجهر ، وأنّه بناءً على الالتزام باستحقاق العقاب لابدّ من توجيه ذلك بأنّ الجهر واجب مستقل نفسي عام للجاهل والعالم ، وأنّه عند العلم بهذا الوجوب النفسي يكون الاجهار قيداً في الصلاة ، ولازم ذلك أنّه عند الاخفات مع الجهل تكون الصلاة صحيحة ، لعدم كون الجهر حينئذ قيداً ، مع كونه معاقباً على ترك الجهر الذي هو واجب نفسي.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : وكما يصحّ أخذ العلم بالحكم شرطاً في ثبوت الحكم ، كذلك يصحّ أخذ العلم بالحكم من وجه خاصّ وسبب خاص مانعاً عن ثبوت الحكم واقعاً ، بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب ، كما في باب القياس ـ إلى قوله ـ وبذلك يمكن أن توجّه مقالة الأخباريين

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٣.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٢٩٤ وما بعدها.

(٣) كتاب الصلاة ٣ : ٣٨٠.

٢٨

من أنّه لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة ... الخ (١).

فإنّ لازم هذا التوجيه أنّ أخذ الحكم الواقعي من غير الكتاب والسنّة يوجب ارتفاع ذلك الحكم الواقعي عمّن قطع به من غير الكتاب والسنّة ، وأنّ شرط تحقّق الحكم الواقعي وإن كان بنحو نتيجة التقييد هو أخذه من طريق الكتاب والسنّة ، على وجه لا حكم في حقّ من أخذه من غير الكتاب والسنّة ، وهذا على الظاهر ممّا لا يرضى به الأخباريون ، لأنّ لازمه هو كون من أخذ الأحكام من غير الكتاب أو السنّة غير مكلّف بتلك الأحكام الواقعية المفروض كونها بحسب الواقع مقيّدة بمن أخذها من الكتاب أو السنّة ، وأنّ من أخذها من غيرهما لا حكم في حقّه ، سواء كان مرجع ذلك إلى اختصاص الأحكام الواقعية بخصوص من علمها من الكتاب والسنّة ، دون الجاهلين بها ودون من أخذها من غيرهما ، أو كان مرجعه إلى أنّ خصوص من أخذها من غير الكتاب والسنّة ليست مجعولة في حقّه ، والأوّل أوسع إشكالاً من الثاني ، لأنّ لازمه أن لا حكم للجاهل ، كما لا حكم لمن علم الحكم من غيرهما.

فالأولى توجيه مقالتهم بما وجّهها به في الكفاية (٢) من منع قاعدة الملازمة ، أو دعوى كون المقدّمات العقلية لا تفيد العلم ، وأنّها إنّما تفيد الظنّ.

ولو قال قائل منهم أو من غيرهم بأنّ الشرط في صحّة ما يكون مورداً للتشريع من أفعال أو تروك لها آثار تكليفية أو آثار وضعية هو أخذ أحكامها من المعصومين ، على وجه لو حصل القطع بأحكامها من الطرق الأُخر لم يكن الجري على طبقها مجزياً ، ولا يترتّب عليه الأثر من إجزاء عن التكليف ومن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٣ ـ ١٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٢٧٠.

٢٩

ترتّب الأثر الوضعي ، فلو باع أو تزوّج أو طلّق أو صلّى أو أعتق جامعاً لجميع الشرائط المعتبرة ، ولم يكن أخذه ذلك من المعصومين ( صلوات الله عليهم ) لم يكن ذلك صحيحاً ، ولا يترتّب عليه شيء من الآثار ، وكان معاقباً على ذلك ، لم يكن بذلك بأس على الظاهر ، كما ربما يستفاد من قوله عليه‌السلام : « لم يكن له على الله ثواب » (١).

وكيف كان ، فالظاهر أنّ توجيه مقالة الأخباريين بما يرجع إلى نفي الحكم الواقعي عمّن قطع به من غير الكتاب والسنّة يمكن الجزم بأنّهم لا يريدونه. وكيف كان ، فليس المراد به هو اختصاص الأحكام بمن حصّلها من طريق الكتاب والسنّة ، على وجه يكون كلّ من الجاهل بها والعالم بها من غير طريق الكتاب والسنّة لا حكم له ، لأنّ ذلك ممّا يوجب معذورية كلّ من الجاهل الصرف الذي لم يسلك طريقاً أصلاً ، وسالك طريق الاستحسان والطرق العقلية المحضة ، إذ لا حكم حينئذ لهم في الواقع ، من دون فرق بين الجاهل الذي لم يسلك طريقاً أو السالك طريق غير الكتاب والسنّة.

بل المراد هو أنّ الحكم الواقعي غير مجعول في خصوص من حصّل العلم به من غير الكتاب والسنّة ، فإنّ من قطع بالحكم الواقعي من غير الكتاب والسنّة إن كان قطعه مطابقاً للواقع ، يقال له : إن هذا الحكم الواقعي الذي حصّلته من غير الكتاب والسنّة غير مجعول في حقّك ، وحينئذ فعليه أن يحصّل حكمه الواقعي في تلك الواقعة ، وأن يفحص عنه من طريق الكتاب والسنّة ، فإن تفحّص وكان مقتضى الكتاب والسنّة هو ذلك الذي حصّله أوّلاً فهو ، وإلاّ بأن وصل من طريق الكتاب والسنّة إلى خلاف ذلك الذي حصّله أوّلاً كان معذوراً. هذا فيما إذا كان

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٢ / أبواب صفات القاضي باب ٦ ح ١٣.

٣٠

قطعه السابق الذي حصّله من غير الكتاب والسنّة مطابقاً للواقع.

ومنه يعرف الحال فيما لو فرض كونه غير مطابق للواقع ، فإنّه يرى قطعه مطابقاً للواقع ، فيقال له أيضاً : إنّ هذا الحكم الواقعي ليس بحكم لك ، وحينئذ فالعقل أيضاً يلزمه بالفحص عن حكمه الواقعي من طريق الكتاب والسنّة ، فإن أوصلاه إلى الحكم الواقعي فهو ، وإلاّ كان معذوراً أيضاً ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ من فرضنا قطعه غير مطابق للواقع ، لا ريب في أنّ حكمه الواقعي هو غير هذا الذي توصّل إليه من غير الكتاب والسنّة ، غايته أنّه لأجل كونه قاطعاً به لا يمكن أن يقال له إنّ هذا ليس بحكمك الواقعي ، بل يقال له إنّ توصّلك إلى الواقع بالقياس مثلاً أوجب أن لا يكون هذا حكمك الواقعي. أمّا الذي فرضنا كون قطعه مطابقاً للواقع غايته أنّه حصّله من القياس ، فهذا لا يمكننا الالتزام بأنّ هذا الحكم الذي حصّله ليس حكمه الواقعي مع علمنا بأنّ قطعه مطابق للواقع ، وأنّ حكمه الواقعي هو هذا.

والحاصل : أنّا نسأل أنفسنا عن حكم هذا الشخص عندما توصّل إلى القطع بهذا الحكم الواقعي من القياس ، فنقول : إنّ حكمه الواقعي لا يعقل أن يكون هو غير هذا الحكم ، لأنّ المفروض كون قطعه مطابقاً للواقع ، وحينئذ إذا قلنا إنّ هذا الحكم الذي حصّله من القياس ليس بحكمه الواقعي ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّه لا حكم له في هذه الواقعة.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده الشيخ قدس‌سره في الردّ على الأخباريين في ضمن قوله ثانياً بقوله قدس‌سره : إلاّ أن يدّعى أنّ الأخبار المتقدّمة وأدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمّة ( صلوات الله عليهم أجمعين ) تدلّ على مدخلية تبليغ الحجّة وبيانه في طريق الحكم ، وأنّ كلّ حكم لم يعلم بطريق السماع عنهم عليهم‌السلام ولو

٣١

بالواسطة فهو غير واجب الاطاعة ، وحينئذ فلا يجدي مطابقة الحكم المدرك لما صدر عن الحجّة عليه‌السلام (١). فإنّ أمثال هذه الكلمات لا معنى لها إلاّعلى ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره من رفع الحكم الذي حصل القطع به من غير طريق الكتاب والسنّة.

ويمكن أن توجّه مقالة الأخباريين بوجه آخر غير ما تقدّم من التوجيهات وذلك بأن توجّه مقالتهم بأنّ الأحكام الواقعية لا أثر لها ما لم تصل إلى درجة الفعلية ، التي هي درجة التبليغ والإعلان ، والمفروض أنّه منحصر بالكتاب والسنّة فلا أثر للحكم الواقعي الذي حصل القطع به من غير الكتاب والسنّة. وهذا توجيه حسن.

ولا يخفى أنّه لا يرد على هذا التوجيه ما تقدّم ذكره من أنّ لازمه هو أنّه لا حكم لذلك القاطع ، بل أقصى ما فيه هو أنّ هذا الحكم الذي حصل القطع به لا من الكتاب والسنّة يكون مورد الشكّ في فعليته إن كان يحتمل أنّه قد بلّغه الحجّة. كما أنّه لا يرد عليه أنّه محتاج إلى إقامة الدليل ، لأنّ هذه المقدّمة وهي أنّه لا أثر للحكم الواقعي ما لم يصل إلى درجة الاجراء والتبليغ كافية في الدلالة عليه.

نعم ، لابدّ لها من ضمّ المقدّمة الأُخرى وهي انحصار التبليغ بالكتاب والسنّة. وهذه المقدّمة الثانية غير بعيدة ، لأنّ المراد من التبليغ هو الإعلان والاجراء ، وصيرورة المولى بصدد تحصيل ذلك الحكم ، ومن الواضح أنّ هذه المرتبة لا يكفي في تحقّقها مجرّد الحكم العقلي ، إلاّ إذا كان بحيث يمكن الاعتماد عليه في حصول ما كان المولى بصدده من الإعلان والاجراء وتحصيله من المكلّفين ، وذلك لا يكون إلاّ إذا كان الحكم العقلي حاصلاً لنوع المكلّفين ، وهو ما يعبّر عنه بكونه فطرياً ، ولا ريب في ندرته ، بل يمكن القطع بعدم تحقّقه

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٦٢.

٣٢

فيما نحن فيه من مورد الأحكام الشرعية ، كما هو المشاهد لمن سبر الفقه ، فإنّه لا يجد مسألة يكون الدليل على الحكم الشرعي فيها هو محض الدليل العقلي.

وأمّا التحسين والتقبيح العقليان وقاعدة الملازمة فهي فرض صرف ، فأين المسألة التي استقلّ العقل بالحكم الشرعي فيها ، بحيث يكون ذلك الحكم العقلي هو الكاشف الوحيد عن الحكم الشرعي ، بحيث يكون الحكم العقلي كافياً في ثبوت ذلك الحكم الشرعي حتّى في مثل الظلم ، فإنّه مضافاً إلى تصرّف الشارع المقدّس في موارده ممّا يكون قد خرج عن قبح الظلم حكماً أو موضوعاً بواسطة الطوارئ والعوارض ، مثل باب معاملاته مع الكافر الحربي ، ومثل أمره باخراج الكافر عن الجزيرة ، الذي ظاهره لزوم إخراجهم منها حتّى مع عدم تعدّيهم على المسلمين ، بل مثل حلّية الذبح والصيد فإنّه من الظلم بنظر جملة من العقلاء ، وهو مباح شرعاً لأُمور هناك تخرجه عن كونه ظلماً قبيحاً إخراجاً موضوعياً أو إخراجاً حكمياً ، هذا حال المستقلاّت العقلية.

وأمّا الوساوس الشيطانية من القياسات والأُمور الاستحسانية فهي أخسأ وأحقر من أن تكون كاشفة عن الأحكام الشرعية. وهكذا الحال في مثل الجفر ونحوه من الأطياف وغيره من الأُمور الخيالية.

والحاصل : أنّ الحكم العقلي إن كان على وجه يستكشف منه أنّ الحجج قد بلّغوا ذلك الحكم ، غايته أنّ ذلك لم يصل إلينا ، فلا أظنّ أنّ أحداً من الأخباريين لا يعتني بمثل ذلك الحكم العقلي الموجب حسب الفرض للقطع بأنّ الحجج قد بلّغوا ذلك الحكم. وإن كان ذلك الحكم العقلي مقروناً بالعلم بأنّ الحجج لم يبلّغوا ذلك الحكم ، كان ذلك عبارة أُخرى عن أنّ ذلك الحكم لم يبلغ مرتبة الاجراء والتبليغ ، فلا أثر له في مقام العمل. اللهمّ إلاّ أن يعدّ ذلك الحكم

٣٣

العقلي تبليغاً ، ويكون عدم تبليغ الحجج ذلك الحكم اعتماداً على ذلك الحكم العقلي واكتفاءً به لوضوحه. لكن يمكن أن يقال : إنّ المستفاد من الأخبار التي هي بمضمون « اسكتوا عمّا سكت الله تعالى عنه » (١) هو عدم ترتّب الأثر على ذلك الحكم العقلي ، ولو شكّ في ذلك فالبراءة حاكمة بنفيه.

وينبغي أن يعلم أنّ مسألة حكم العقل بوجوب المقدّمة ، وحرمة الضدّ المأمور بضدّه ، وتصحيح العبادة المأمور بضدّها اعتماداً على الملاك ، جميع هذه المسائل ونحوها خارجة عمّا هو محلّ النزاع مع الأخباريين في حجّية العقل ، فإنّ الأوّلين لا يخرجان عن الاعتماد على الدليل الدالّ على وجوب ذي المقدّمة والدالّ على وجوب أحد الضدّين ، ولأجل الملازمة الذاتية بين الوجوبين أو بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه نحكم بذلك ، وكذلك الاعتماد على الملاك في المسألة المفروضة ، لأنّ إثباته إنّما هو بالاطلاق لا بالمقدّمات العقلية كما حقّق في محلّه ، فراجع (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره قال في أوّل رسالة القطع في مقام بيان القطع الموضوعي ، وأنّه ربما كان القطع فيه مطلقاً أو كان قطعاً خاصّاً من طريق خاصّ قال ما هذا لفظه : وحكمه أنّه يتّبع في اعتباره مطلقاً أو على وجه خاصّ دليل ذلك الحكم الثابت الذي أُخذ العلم في موضوعه ، فقد يدلّ على ثبوت الحكم لشيء بشرط العلم به ، بمعنى انكشافه للمكلّف من غير خصوصية للانكشاف كما في حكم العقل بحسن إتيان ما قطع العبد بكونه مطلوباً لمولاه ، وقبح ما يقطع بكونه

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٦٠ / ب ٣١ / ١٤ ، من لا يحضره الفقيه ٤ : ٧٥ / باب نوادرالحدود ح ٥١٤٩.

(٢) راجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٥١ وما بعدها.

٣٤

مبغوضاً ، فإنّ مدخلية القطع بالمطلوبية أو المبغوضية في صيرورة الفعل حسناً أو قبيحاً عند العقل ، لا يختصّ ببعض أفراده ، وكما في حكم الشارع بحرمة ما علم أنّه خمر أو نجاسته بقول مطلق ، بناءً على أنّ الحرمة والنجاسة الواقعيتين إنّما تعرضان مواردهما بشرط العلم لا في نفس الأمر كما هو قول بعض. وقد يدلّ دليل ذلك الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به من سبب خاصّ أو شخص خاصّ ، مثل ما ذهب إليه بعض الأخباريين من عدم جواز العمل في الشرعيات بالعلم الغير الحاصل من الكتاب والسنّة كما سيجيء ، وما ذهب إليه بعض من منع عمل القاضي بعلمه في حقوق الله تعالى الخ (١).

ولا يخفى أنّ هذا الذي أفاده نقلاً عن بعض الأخباريين لا دخل له بدعوى كون الحكم الشرعي مختصّاً بخصوص من علم به من طريق الكتاب والسنّة ، وأنّ من علم الحكم الشرعي من الطرق الأُخر لا حكم له ، بل إنّ تلك الجملة مسوقة لبيان دعوى بعض الأخباريين اختصاص حجّية القطع ولزوم العمل به بخصوص القطع الحاصل من الكتاب والسنّة ، إذ ليس مراده بالحكم في قوله : وقد يدلّ دليل ذلك الحكم ، هو الحكم الشرعي الواقعي ، بل المراد بالحكم المذكور هو الحكم العقلي الذي هو وجوب العمل بالقطع في الشرعيات ، فإنّ هذا الحكم العقلي حكم من الأحكام ، يكون موضوعه هو القطع بأمر شرعي ، وهذا الحكم يكون مقيّداً بما إذا كان القطع حاصلاً من الكتاب والسنّة ، غاية الأمر أنّ هذا الحكم ليس بحكم شرعي ، بل هو حكم عقلي موضوعه القطع بالحكم الشرعي ، وكون القطع موضوعاً لحكم من الأحكام لا ينحصر بما إذا كان ذلك الحكم شرعياً ، فإنّه قدس‌سره قد مثّل للقطع الموضوعي الذي كان مطلقاً وغير مقيّد بسبب خاصّ بلزوم إطاعة

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٣١ ـ ٣٢.

٣٥

العبد وامتثال ما علم أنّ مولاه قد أمر به ، مع أنّ وجوب الاطاعة حكم عقلي لا شرعي.

وعلى هذا فيكون الحاصل من مجموع كلامه قدس‌سره في ذلك المقام أنّه بصدد بيان أنّ القطع الموضوعي يمكن أن يكون مطلقاً ، ويمكن أن يكون مقيّداً بسبب خاصّ ، والحكم في كلّ منهما تارةً يكون حكماً شرعياً ، وأُخرى يكون حكماً عقلياً ، فتكون الصور أربعاً.

وقد مثّل لكلّ واحدة منها بمثال ، فمثال الصورة التي يكون الحكم فيها عقلياً ويكون القطع الموضوعي مطلقاً ، هو ما ذكره من حكم العقل بحسن امتثال ما قطع العبد أنّه أمره به المولى وبقبح عصيانه.

ومثال الصورة التي يكون الحكم فيها شرعياً مع كون القطع الموضوعي مطلقاً ، هو ما ذكره من مثال العلم بالخمرية بالنسبة إلى الحكم الشرعي بالنجاسة على رأي بعضهم.

ومثال الصورة التي يكون الحكم فيها عقلياً ، مع كون القطع الموضوعي مقيّداً بسبب خاصّ ، هو ما ذكره من جواز العمل بالقطع في الشرعيات ، بناء على ما ذهب إليه بعض الأخباريين من اختصاص القطع المذكور بما إذا كان ناشئاً من الكتاب أو السنّة ، فإنّ الجواز المذكور حكم عقلي ، وموضوعه هو القطع المقيّد بكونه حاصلاً من الكتاب والسنّة ، فيكون مراده بالحكم في قوله : وقد يدلّ دليل الحكم على ثبوته لشيء بشرط حصول القطع به الخ ، هو نفس جواز العمل بالقطع المتعلّق بالشرعيات لا الشرعيات نفسها ، والمراد بالشيء في قوله : على ثبوته لشيء ، هو أحد الأُمور الشرعية ، والضمير في قوله : بشرط حصول القطع به ، راجع إلى الشيء لا إلى الحكم.

٣٦

نعم ، يرد على هذا البعض من الأخباريين ما هو واضح ، من عدم معقولية تخصيص حجّية القطع بخصوص قطع خاصّ ، وهو ما عقده بعد ذلك للنزاع مع الأخباريين في حجّية القطع الناشئ من المقدّمات العقلية ، وليس غرضه هنا إلاّ مجرّد المثال.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل في قوله : وبما ذكرنا يرتفع ما ربما يستشكل في عبارة الشيخ من جعله مقالة الأخباريين من أمثلة العلم المأخوذ موضوعاً ، مع أنّه لا يمكن الخ (١) ، فإنّه قد اتّضح لك أنّ ذلك ليس من قبيل المثال لما يكون العلم فيه جزءاً من الموضوع للحكم الشرعي ، كي يتوجّه عليه الإشكال المذكور ، ويحتاج إلى الجواب بما أُفيد من متمّم الجعل ، بل هو من قبيل المثال لما يكون العلم فيه جزءاً من الموضوع للحكم العقلي ، فلاحظ وتأمّل.

ومثال الصورة التي يكون الحكم فيها شرعياً مع كون القطع الموضوعي مقيّداً بسبب خاصّ ، هو ما ذكره من جواز عمل القاضي بما ثبت عنده من حقوق الله تعالى ، فإنّ الثبوت فيه يكون موضوعاً لجواز العمل ، وهو ـ أعني الثبوت المذكور ـ مقيّد بما إذا كان من الموازين الشرعية المقرّرة في كتاب القضاء ، دون ما إذا كان ثبوت ذلك بعلمه.

ثمّ إنّه قدس‌سره استطرد في التمثيل بما لو كان قطع شخص موضوعاً لحكم في حقّ شخص آخر ، فإنّه ربما كان القطع المذكور مقيّداً بما إذا كان حاصلاً من سبب خاص ، كما في رجوع العامي إلى المجتهد العالم بالحكم ، فإنّه مقيّد بما إذا كان علمه به ناشئاً عن الموازين المقرّرة للمجتهد ، دون ما إذا كان من مثل الجفر والرمل ونحوهما ، ومثل قبول الشهادة إذا كان الشاهد عالماً بما يشهد به عن حس

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٤.

٣٧

لا عن حدس.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من مثال رجوع العامي إلى المجتهد الفاسق أو غير الإمامي ، فليس من قبيل تقييد القطع بما إذا كان من سبب خاصّ ، بل هو من قبيل التقييد بكون القاطع شخصاً خاصّاً.

قوله : وليس هذا في الحقيقة نهياً عن العمل بالعلم ـ إلى قوله ـ بل مرجع ذلك إلى التصرّف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع فالتصرّف يرجع إلى ناحية المتعلّق ـ إلى قوله ـ إذ الحكم الواقعي قيّد بغير ما أدّى إليه القياس ... الخ (١).

ظاهره بل لازمه أنّه لو أدّى القياس الموجب للقطع إلى القطع بالحكم الواقعي ، بحيث إنّه كان ما أدّى إليه القياس هو نفس الحكم الواقعي ، بأن اتّفق أنّ ذلك القياس المؤدّي إلى القطع بالحكم الواقعي كان مطابقاً للواقع ، لكنّه لم يأخذه إلاّ من طريق القياس ، لم يكن الحكم الواقعي المذكور متحقّقاً في حقّ ذلك المستدلّ ، لأنّه حسب الفرض مقيّد بغير ما أدّى إليه القياس ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

فالأولى أن يقال : إنّ رواية أبان (٢) كما لا دلالة فيها على النهي عن العمل بالقطع القياسي ، فكذلك لا دلالة فيها على تقييد الحكم الواقعي بغير ما أدّى إليه القياس ، بل أقصى ما دلّت عليه هو بيان أنّ القياس لا يكون من الأدلّة ، وأنّ السنّة إذا قيست محق الدين ، لكثرة الخطأ في القياس. ثمّ إنّه عليه‌السلام ناقشه في مقدّمات قياسه ، وبيّن له القاعدة في معاقلة المرأة للرجل ، وأنّها تعاقله إلى حدّ الثلث من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢٩ : ٣٥٢ / أبواب ديات الأعضاء ب ٤٤ ح ١.

٣٨

الدية ، فإذا زادت على الثلث رجعت إلى النصف. وبهذا البيان أفسد مقدّمات قياسه ، وأزال قطعه الحاصل من ذلك القياس.

فائدة : أنّ هذه الجملة الشريفة وهي « إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية » ذكرها ابن قتيبة في أوّل كتابه أدب الكاتب فقال : ولابدّ له ( أي للكاتب ) مع ذلك من النظر في جمل الفقه ومعرفة أُصوله من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصحابته كقوله : البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ، والخراج بالضمان ، وجرح العجماء جبار ـ إلى قوله ـ والمرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، الخ (١).

قوله : فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ العلم إذا تعلّق بموضوع خارجي فالعلم بالنسبة إلى ذلك الموضوع يكون طريقاً محضاً ، وبالنسبة إلى أحكام ذلك الموضوع يمكن أن يكون طريقاً ويمكن أن يكون موضوعاً (٢).

قلت : هذا بالنسبة إلى حكم ذلك الموضوع الذي تعلّق به القطع ، وأمّا بالنسبة إلى حكم آخر فلابدّ أن يكون موضوعاً ، مثلاً إنّ الخمر موضوع وحكمه الواقعي هي الحرمة ، لكن يمكن أن يكون العلم بالخمرية موضوعاً لحكم آخر مثل أن يقول : إذا علمت بخمرية المايع الفلاني وجب عليك التصدّق بدرهم ، أو أن يقول : إنّ معلوم الخمرية حكمه النجاسة ، لكن لابدّ في ذلك الحكم الآخر [ أن يكون ] غير مضادّ ولا مماثل للحكم الواقعي المتعلّق بالخمر كما مثّلنا ، ولا يصحّ أن يقول : إذا علمت بخمرية المايع وجب عليك شربه أو حرم عليك شربه ، مع فرض كون حكم الخمر الواقعي هو الحرمة.

__________________

(١) أدب الكاتب : ١٠.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١٤.

٣٩

قوله : وإذا تعلّق بحكم شرعي فيمكن أن يكون بالنسبة إلى حكم آخر موضوعاً ، كما أنّه يمكن أن يكون موضوعاً بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم لكن بنتيجة التقييد ... الخ (١).

أمّا الأخير فقد عرفت (٢) أنّه لا يمكن إصلاحه بمتمّم الجعل الراجع إلى رفع ذلك الحكم عن الجاهل ، وأنّ توجيهه منحصر بجعل الحكم على الذات التي تكون مقترنة بالعلم بنفس ذلك الحكم ، من دون أن يؤخذ ذلك قيداً فيها ، لكنّي في شكّ من ذلك ، ولم نعثر فعلاً على حكم من الأحكام الشرعية يكون مقيّداً بالعلم به بنفسه. ومسألة الجهر والإخفات والقصر والاتمام لا ينحصر توجيهها بذلك ، بل لها توجيهات أُخر تعرّضنا لها في محلّها (٣) ، فراجعها.

وأمّا الأوّل وهو أخذ العلم بالحكم موضوعاً لحكم آخر فهو أيضاً مشروط بما تقدّم ذكره من عدم كونه مضادّاً ومماثلاً للحكم الذي تعلّق به القطع المذكور ، مثل أن يقول : إذا علمت بحرمة شرب الخمر فتصدّق بدرهم ، دون ما لو قال : إذا علمت بحرمة شرب الخمر جاز لك شربها أو حرم عليك شربها.

أمّا الأوّل فواضح لكونه تناقضاً ، ولا يصلحه اختلاف الرتبة.

ومنه يظهر لك الحال في الثاني ، بناءً على محالية اجتماع المثلين

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ١٤.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٢ وما بعدها.

(٣) أشار قدس‌سره إلى ذلك في الصفحة : ٢٨ ، وتعرّض قدس‌سره لذلك في مبحث الترتّب ، فراجع المجلّد الثالث من هذا الكتاب الصفحة : ٣٩٨ وما بعدها ، وسيأتي في المجلّد الثامن من هذا الكتاب التعرّض له أيضاً ، فراجع الصفحة : ٥٥٠ وما بعدها في التعليق على فوائد الأُصول ٤ : ٢٩١ ـ ٢٩٢ وكذا ما بعدها من الحواشي.

٤٠