أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

أقرب من الطرق العلمية ، فهو يرى العمل بها قبيحاً لكونه مفوّتاً للمصلحة الواقعية ، فلم يكن علم الشارع بالغيب واطّلاعه على المساواة نافعاً في سلوك تلك الأمارة ، فتأمّل.

قلنا : هذا الإيراد إنّما يتوجّه لو لم تكن الطرق الظنّية المذكورة طرقاً عقلائية يسلكها العقلاء في أُمورهم ، أمّا لو كانت كذلك فلا يتوجّه الإيراد المذكور. نعم أقصى ما في البين أنّ تلك [ الطرق ] الظنّية لو كان الخطأ فيها أكثر من الطرق العلمية لردعهم عنها كما ردعهم عن العمل بالقياس ، فلمّا لم يردعهم عنها ، نستكشف من ذلك أنّ الخطأ فيها ليس بأكثر منه في الطرق العلمية ، فلم يبق إلاّ كونها في نظر العقلاء أقرب إلى الخطأ من الطرق العلمية ، وأنّ تلك الطرق العلمية أقرب إلى إصابة الواقع ، وهذه الأقربية ممنوعة ، لما عرفت من أنّ الكلام إنّما هو في الطرق العقلائية التي يسلكها العقلاء في أُمورهم ، وهم يرونها كسائر الطرق العلمية المحصّلة للعلم بنظرهم ، ولا يرونها أقرب إلى الخطأ منها. ولو سلّم ذلك بأن نلتزم بأنّ هذه الطرق أقرب إلى الخطأ من غيرها (١) ، فنقول : لا مانع من الأمر بسلوكها ملاحظة للمصلحة النوعية في سلوكها وهي التسهيل على نوع المكلّفين ، وإن فاتت بذلك المصلحة الشخصية ، فإنّ الجري على طبق المصلحة النوعية وإلغاء المصلحة الشخصية ليس بعزيز ، كما لو تترّس الكفّار ببعض المسلمين ، انتهى.

وظاهره أنّ التسهيل هو بنفسه مصلحة تقتضي الأمر بالعمل على الأمارة الظنّية ، لكن ظاهر إضافة المصلحة إلى التسهيل كما هو في هذا التحرير والتحرير المطبوع في صيدا أنّ التسهيل فيه مصلحة ، لا أنّه بنفسه هو المصلحة.

__________________

(١) قلت : كان الأولى التعبير هنا بأكثرية الخطأ واقعاً [ منه قدس‌سره ].

٢٦١

وكيف كان ، نقول : إنّ هذه المصلحة النوعية الحاصلة بالتسهيل أو التسهيل بنفسه ، لا يكون الشخص الذي فاتته المصلحة الواقعية محروماً منها ، كي يكون من باب ترجيح مصلحة النوع والنظام مثلاً على مصلحة الشخص ، بل لا يكون إلاّ من باب ترجيح مصلحة ذلك الشخص من التسهيل عليه على تلك المصلحة التي تفوته من الواقع ، فلا حاجة إلى ما كتبه في هذا التحرير (١) على الهامش من الاحتياج إلى المصلحة السلوكية ، فتأمّل.

نعم ، لو كان شخص يسهل عليه إعمال أسباب القطع ، على وجه يكون سلوكها مساوياً أو أسهل عليه من السعي وراء الأمارة وسلوكها ، لم يكن لذلك الشخص حظ من التسهيل الذي هو مصلحة سلوك الأمارة ، ففي مثل هذا الشخص يكون من قبيل تقديم المصلحة النوعية ، لكن على وجه لا داعي لجعل حجّية الأمارة مطلقة ، لإمكان أن يجعل حجّية الأمارة مقيّداً بما إذا كان سلوكها أسهل على المكلّف من سلوك الطرق العلمية ، فتأمّل.

ثمّ إنّ في كون مسألة تترّس الكفّار بأسرى المسلمين من قبيل ترجيح المصلحة النوعية على الشخصية تأمّلاً ، إذ ليس في البين فوت مصلحة على أُولئك الأسرى ولا إيقاع في المفسدة ، إذ ليس في البين إلاّانعدام حياتهم ، وليس هو من هذا القبيل وإلاّ لما شرّع الجهاد ، لأنّ فيه انعدام حياة المجاهد ، بل لو كان الأمر كذلك لما كانت سنّة الموت في عالم التكوين صحيحة من العادل ، بل المراد بالمصالح والمفاسد ليس هو مجرّد انعدام الحياة ، بل هو ما يكون باعثاً على الجهاد الذي هو تعريض النفس لانعدام الحياة ، ولولا تلك المصالح لكان الجهاد إلقاء في المهلكة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٤.

٢٦٢

قوله : وإن أبيت عن ذلك كلّه وقلت : إنّ في التعبّد بالأمارة يلزم تفويت المصلحة ، إمّا لكونها أكثر خطأ من العلم ، وإمّا لكونها أقرب إلى الخطأ ، وإمّا لكون المصلحة التسهيلية لا يصحّ رعايتها ... الخ (١).

قد ظهر لك ممّا قدّمناه أنّ هذه الأقسام غير متقابلة ، وكان ينبغي أن يكون تحرير هذا الاعتراض بهذه الصورة ، وهي : أنّك لو أبيت عن ذلك وقلت : إنّ الأمارة أكثر خطأ من العلم ، وأنّ المصلحة التسهيلية لا يصحّ رعايتها في قبال ما يفوت بالعمل بالأمارة من المصالح الواقعية ، أو قلت : إنّ الأمارة في نظر المكلّف أقرب إلى الخطأ من العلم وإن لم تكن كذلك في الواقع وفي نظر الشارع.

والذي حرّرته عنه قدس‌سره في بيان هذا الاعتراض هو بهذه الصورة ، وهي : أنّه لو تنزّلنا عن هذا الذي ذكرناه من كفاية المصلحة النوعية التسهيلية في تفويت المصلحة الشخصية الواقعية ، وقلنا بعدم كفايتها في تفويت المصلحة الواقعية ، فلا محيص لنا حينئذ من الالتزام بالمصلحة السلوكية الخ. لكن الأمر سهل بعد وضوح المراد ، هذا.

وربما أُورد على ما ذكرناه من انسداد باب الطرق العلمية بأنّه وإن كان في حقّنا مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يدفع الإشكال عن حجّية الأمارات الظنّية مثل خبر الواحد بالنسبة إلى من تقدّمنا ممّن هو في عصر الحضور ، فإنّ ما دلّ على حجّية خبر الواحد لم يكن مقيّداً بزمان الغيبة ، بل بعضه ظاهر الشمول لزمان الحضور لكونه وارداً في مورد الحضور مثل آية النبأ (٢) وآية النفر (٣) ، إلاّأن يلتزم بتقييدها بعدم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٤.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٣) التوبة ٩ : ١٢٢.

٢٦٣

التمكّن من السماع من نفس المعصوم عليه‌السلام ، ولو لأجل كونه في بلد آخر ، كما يشعر به قول السائل : ربما لا ألقاك ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني (١)؟ ولكن لا يخفى بعده.

والجواب عن ذلك : بأنّا لو سلّمنا حصول العلم بالسؤال من نفس المعصوم عليه‌السلام لمن كان في عصره عليه‌السلام ، إلاّ أنّه لا يخرج بذلك عن حجّية الأمارات العقلائية مثل أصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم التقية ونحو ذلك من الأُصول العقلائية ، غايته أنّ تلك الأمارات والأُصول العقلائية ربما استغنى عنها السامع لقطعه بالمراد من دون إعمالها ، لكنّا ينبغي لنا أن نسأل من ذلك السامع عن سبب قطعه ، فإن كان لأجل كون الكلام نصّاً في ذلك الذي قطع على وجه لا يكون احتمال الخلاف متحقّقاً ، فذلك أقلّ قليل بل لا يكون واقعاً ، وإن كان قطعه اتّفاقياً مع كون الكلام بعينه لو سمعه سامع آخر لكان محتاجاً إلى إجراء قواعد الظهور ، كان ذلك القطع اتّفاقياً ، فلا يكون أساسياً على وجه يصحّ للشارع إيكال الناس إلى مثل ذلك القطع الاتّفاقي الحاصل من ذلك السماع ، بحيث يكون تجويزه العمل على الأمارات تفويتاً للمصالح الواقعية.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ ذلك القطع إنّما حصل من نفس الأمارة التي هي أصالة الظهور ، فلا يكون سبباً مستقلاً غير الأمارات كي يقال إنّ جعل حجّية الأمارات يكون مفوّتاً للمصلحة التي تدرك بأسباب العلم ، بل لم يكن في البين حينئذ إلاّتلك الأمارات ، فإن حصل القطع بسببها فهو ، وإلاّ كان باب القطع بالواقع منسدّاً بالنسبة إلى من لم يحصل له القطع بسببها ، فلا يكون جعل الشارع حجّيتها بقول مطلق سواء أفادت العلم أو لا ، مفوّتاً للمصالح التي يحصل عليها

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٧ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٣٣ ، ٣٥.

٢٦٤

المكلّف بواسطة الأسباب العلمية.

فلا يبعد القول بأنّ ما يذكره الجماعة من انفتاح باب العلم هنا من قبيل الخلط بين باب العلم هنا وباب العلم في دليل الانسداد ، فإنّه هناك بمعنى انفتاح باب العلم أو ما يقوم مقامه من الظنون الخاصّة ، والمقصود به هنا باب العلم القطعي الوجداني ، فلا انفتاح هنا إلاّبواسطة الظنون الخاصّة ، فلو سددنا باب الظنون الخاصّة كما يرومه ابن قبة لم يكن باب العلم القطعي منفتحاً لنا.

نعم يتأتّى إشكال ابن قبة في حجّية الأمارات الواردة في الشبهات الموضوعية التي يكون التمكّن من تحصيل العلم بها متحقّقاً ، كما في موارد قيام البيّنة على الهلال مثلاً أو الوقت ونحو ذلك ، وحينئذ لا مندوحة لنا في ذلك إلاّ الالتزام بأنّ الشارع قد علم زيادة الخطأ في تلك الطرق العلمية عليه في الأمارات الظنّية ، مع فرض كونها عقلائية يسلكها العقلاء في أُمورهم ولا يقبّحون الركون إليها مع التمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، بل ولو كانت حجّيتها تأسيسية ، نظراً إلى ما ذكرناه من علم الشارع بأغلبية إصابتها بالنسبة إلى الطرق العلمية ، أو الالتزام بأنّ الشارع قد لاحظ التسهيل على نوع المكلّفين فجوّز لهم ترك السعي إلى الأسباب المفيدة للعلم ، ورخّصهم في الاعتماد على الأمارات ولو كان الخطأ فيها أكثر في الجملة من تلك الطرق العلمية ، حتّى بالنسبة إلى الشخص الذي يتّفق له سهولة تلك الأسباب العلمية ، كمن كان يمكنه التفحّص بنفسه عن الهلال أو الوقت ، على وجه يكون تصدّيه بنفسه أسهل عليه من التماس عادلين يشهدان بذلك ، فإنّ ذلك يكون تنازلاً من الشارع عن المصلحة الواقعية ما دامت الأمارة بحالها ولم ينكشف خلافها ، أمّا فوت المصلحة على المكلّف أو وقوعه في المفسدة ، فنلتزم فيه بالتدارك حتّى لو كانت تلك المصلحة الفائتة أو المفسدة التي وقع فيها من المصالح الدنيوية ، كلّ ذلك محافظة من الشارع للتسهيل على النوع

٢٦٥

وإن لم يكن تسهيلاً على ذلك الشخص الخاصّ ، لما عرفت من أنّ الجري على طبق الأمارة مع التمكّن من العلم ليس إلزامياً بل هو ترخيصي.

ومع ذلك كلّه لابدّ من الموازنة بين المصلحة التسهيلية والمصلحة الواقعية ، ولا يدور ذلك مدار مجرّد قلّة موارد خطأ الأمارة الزائد على موارد خطأ العلم ، فلاحظ وتأمّل فإنّ عمدة شبهة ابن قبة والجواب عنها إنّما هو في الأمارات الجارية في الشبهات الحكمية ، وقد عرفت أنّه لا مورد فيها للشبهة المذكورة أصلاً ، لفرض انسداد باب القطع في تلك الشبهات ، فتأمّل.

وظنّي وإن كان الظنّ لا يغني شيئاً من الحقّ ، أنّ هذه الكلمة الصادرة من ابن قبة هي نظير ما عن السيّد المرتضى من إنكار حجّية أخبار الآحاد ، ودعواه الإجماع على ذلك ، مع أنّا في الفقه لو جرّدنا استدلالنا عن أخبار الآحاد ممّا هو موجود في جوامع أصحابنا وكتبهم ، وقصرنا الاستدلال على المتواترات والآيات لكان لنا فقه آخر غير هذا الفقه الذي بأيدينا ، ولا أظنّ فقه سيّدنا المرتضى مقصوراً على المتواترات ، بل الذي أظنّ أنّ غرضه من أخبار الآحاد الأخبار الانفرادية التي لم يدخلها الأصحاب في كتبهم وجوامعهم ، وأنّ ما هو داخل في تلك الكتب والجوامع خارج عن أخبار الآحاد ، فهو لا يعني بأخبار الآحاد إلاّ الشواذ والنوادر ، أمّا ما هو موجود في كتب أصحابنا ويرويه ثقاتنا ، فهو معدود في نظره من الأخبار المشتملة على قرائن الصحّة مثلاً ، وكأنّه لأجل ذلك ادّعى بعض المحدّثين كونها مفيدة للعلم.

فلعلّ نظر ابن قبة إلى هذه الجهة ، وهي أنّه لدينا أسباب مفيدة للعلم العادي ، وهي تلك الأخبار التي اشتملت عليها كتب أصحابنا ، ورواها ثقاتهم الذين عنهم أخذنا معالم ديننا ، والذين هم الواسطة بيننا وبين أئمّتنا ، وقد أمرونا بتصديقهم والأخذ عنهم ، ومع وجود هذه الوسائط لدينا لا معنى للركون إلى ما

٢٦٦

يرويه الآحاد ، وينفرد به راويه شاذّاً عن مجموعة أصحابنا ، وهذا النحو من الشواذ لو قلنا إنّه حجّة كان محلّلاً للحرام ومحرّماً للحلال ممّا هو موجود في نحلتنا وطريقتنا ، وإن كان هذا تأويلاً بعيداً إلاّ أنّه لابدّ من الالتزام به.

والحاصل : أنّ مثل هؤلاء لا يمكن الجزم بظواهر كلماتهم خصوصاً مثل سيّد المذهب ورئيسه ، وكيف يعقل أن نجزم بأنّه لا يرى العمل بما اشتملت عليه كتب أصحابنا وكلّها أخبار آحاد ، بل أعظم من ذلك أنّه يدّعي عليه الإجماع ، دع عنك أنّا لو أسقطنا ما في الكتب المزبورة مثل الكافي وغيره ممّا كان في عصره لكان فقهنا فقهاً آخر ، أفتراه أنّه غير مطّلع على مذهبنا الذي هو أُسّه وأساسه ، فينسب إليه أنّه لا يعمل فيه بأخبار [ الآحاد ] ، كلّ ذلك لا يمكن التصديق به ، ولأجل ذلك لابدّ من تأويل كلماته بنحو ما عرفت. ومثله ابن قبة ، فإنّه على ما ذكره الشيخ أقدم من السيّد ، لكن ذلك ـ أعني قدمه ـ لا يصحّح لنا أن ننسب إليه دعوى كون الأخبار قطعية الصدور والدلالة الذي هو الانفتاح التامّ ، فإنّ ذلك أيضاً ممّا لا يمكننا نسبته بظاهره لأحد من علمائنا المتقدّمين ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : الأوّل : أن تكون الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في المؤدّى تستتبع الحكم على طبقها ، بحيث لا يكون وراء المؤدّى حكم في حقّ من قامت عنده الأمارة ، فتكون الأحكام الواقعية مختصّة في حقّ العالم بها ـ إلى قوله : ـ وهذا هو التصويب الأشعري الذي قامت الضرورة على خلافه وقد ادّعي ( المدّعي هو الشيخ ) تواتر الأخبار على أنّ الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل ، أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ ... الخ (١).

والوجه في رجوعه إلى تصويب الأشاعرة ، لأنّ الأحكام حينئذ لا تكون

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٥.

٢٦٧

واقعية مجعولة في حقّ مكلّف من المكلّفين ، وإنّما تكون تابعة لآراء المجتهدين سواء كان الطريق للمجتهد علمياً أو كان ظنّياً ، فإنّ تسمية الأوّل حكماً واقعياً حينئذ لا يخلو من تسامح ، لأنّ موضوعه هو الطريق ، وإنّما يتحقّق بعد قيام الطريق سواء كان ذلك الطريق علمياً أو كان ظنّياً ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون الناس لا حكم لهم أصلاً إلاّبعد قيام الطرق ، أو يكون هناك أحكام واقعية معلّقة على العلم أو الظنّ تكون على طبق العلم أو الظنّ ، ويكون ذلك نظير ما يقال في الواجب التخييري : إنّ الواجب هو ما يعلم الله أنّ العبد يختاره.

نعم ، بالنسبة إلى من كان ظنّه مطابقاً لمن حصل له العلم يكون حكمه ناشئاً عن ظنّه ، فيكون حكماً آخر غير ذلك الحكم الحاصل من علم العالم ، لا أنّ هناك حكماً واقعياً يشترك فيه العالم والظانّ به ، وأنّ الظانّ بالخلاف فقط يكون حكمه على خلاف ذلك الحكم الواقعي المجعول في حقّ العالم والظانّ به ، كما ربما تشعر به عبارة الشيخ قدس‌سره بقوله : فتكون الأحكام الواقعية مختصّة في الواقع بالعالمين بها ، والجاهل مع قطع النظر عن قيام أمارة عنده على حكم العالمين لا حكم له ، أو محكوم بما يعلم الله تعالى أنّ الأمارة تؤدّي إليه الخ (١) فإنّ هذه العبارة تعطي أنّ هناك حكماً واقعياً مختصّاً بالعالمين والذين تقوم عندهم أمارة على طبقه ، وأنّ الجاهل الذي لم تقم عنده أمارة على طبقه إمّا لا حكم له أصلاً إلاّبعد أن تقوم عنده أمارة على الخلاف ، فيكون ذلك الخلاف حكمه ، أو أنّه محكوم فعلاً بذلك الخلاف الذي يعلم الله أنّ الأمارة عنده تؤدّي إليه.

إلاّ أنّ هذا الظاهر غير مراد ، بل المراد هو الاختصاص بالعالم ، وأنّ حكم الجاهل تابع لقيام الأمارة عنده ، كما يدلّ عليه قوله في الوجه الثاني : والفرق بينه

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ١١٣.

٢٦٨

وبين الوجه الأوّل بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ، أنّ العامل بالأمارة المطابقة حكمه حكم العالم ، ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم ، نعم كان ظنّه مانعاً عن المانع وهو الظنّ بالخلاف (١).

فإنّ هذه العبارة تعطي أنّه على الأوّل يكون حكم صاحب الأمارة الموافقة ناشئاً عن أمارته ، لا أنّه حكم واقعي توصّل إليه بالأمارة ، بخلافه على الثاني فإنّه على الثاني يكون لنا أحكام واقعية مجعولة في حقّ كلّ أحد ، وقد توصّل إليه العالم وصاحب الأمارة الموافقة ، لكن صاحب الأمارة المخالفة ينقلب حكمه من جهة الكسر والانكسار.

وكيف كان ، نقول : إنّه على الأوّل تكون الأحكام الواقعية تابعة للطريق سواء كان علمياً أو كان ظنّياً ، فإنّا كما تصوّرنا الخطأ في الظنّ فكذلك نتصوّر الخطأ في العلم ، فذلك العالم المخطئ ماذا يكون حكمه في الواقع ، لابدّ أن نقول ما أدّى إليه قطعه وعلمه ، فتكون النتيجة أنّ الحكم تابع للطريق أيّاً كان.

اللهمّ إلاّأن يدّعى أنّ الحكم الواقعي مجعول في حقّ من توصّل إليه بالعلم المصيب والأمارة المصيبة ، وغير هؤلاء يكون حكمه الواقعي على طبق طريقه المخطئ. ولكن هذا مجرّد تغيير عبارة ، والحقيقة أنّ الحكم الواقعي يكون تابعاً للطريق سواء كان علمياً أو كان ظنّياً ، ولا معنى للقول حينئذ بأنّ العلم والطريق تارةً يكون مخطئاً وأُخرى يكون مصيباً ، بل كلّ منهما يكون الحكم الواقعي على طبقه دائماً ، هذا على الأوّل ، وأمّا على الثاني فالذي ينبغي أن يقال : إنّا بعد أن التزمنا بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل كما يعطيه كلام الشيخ قدس‌سره في طليعة هذا الوجه الثاني ، وأضفنا إلى ذلك قولنا بالسببية في قيام

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ١١٤.

٢٦٩

الأمارات ، ينبغي أن نلتزم في صورة الأمارة المخالفة بالكسر والانكسار ، وفي صورة الأمارة الموافقة بالتأكّد أو اجتماع المثلين ، إلاّأن نقول إنّ سببية الأمارة للمصلحة إنّما هو في صورة المخالفة دون الموافقة. وفيه ما لا يخفى ، فإنّ سببية الأمارة لو قلنا [ بها ] لا تكون إلاّواقعية غير منوطة باصابة أو خطأ.

ويبقى الكلام في العالم المخطئ ، وظاهر كلامهم في تقرير هذا الوجه الثاني ، أنّ حكمه هو ذلك الحكم الواقعي ، غير أنّه يكون معذوراً بواسطة جهله به لا أنّ حكمه الواقعي يكون تابعاً لعلمه وقطعه كما ذكرناه في الوجه الأوّل ، وحينئذ يكون حاصل هذا الوجه الثاني أنّ الأحكام موجودة في واقعها بالنسبة إلى عامّة المكلّفين إلاّمن قامت عنده الأمارة على الخلاف ، فإنّه يكون حكمه الفعلي على طبق الأمارة المخالفة ، ويبقى الحكم الواقعي في حقّه شأنياً اقتضائياً كما قال الشيخ قدس‌سره : فالحكم الواقعي فعلي في حقّ غير الظانّ بخلافه وشأني في حقّه ، بمعنى وجود المقتضي لذلك الحكم لولا الظنّ على خلافه الخ (١).

ولازم ذلك أنّ ذلك الحكم الواقعي فعلي حتّى في حقّ القاطع بخلافه ، غايته أنّه لأجل جهله يكون معذوراً في مخالفته ، فيكون فاقداً لدرجة التنجّز ليس إلاّ ، بخلاف الظانّ بخلافه فإنّه لا يكون في حقّه فعلياً ، فإمّا أن يبقى اقتضائياً وشأنياً ، أو يمكننا القول بأنّه يكون واصلاً إلى درجة الانشاء وإن لم يصل إلى درجة الفعلية ، كما ربما يستفاد من جملة من مباحث صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

لكن الظاهر أنّه لا يصل إلى درجة الانشاء ، لما عرفت من التزاحم في مقام التشريع بين المصلحة الواقعية والمصلحة الآتية من قبل الأمارة على الخلاف ،

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ١١٤.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٦٩.

٢٧٠

وحينئذ لابدّ أن لا يكون إلاّشأنياً اقتضائياً ، وذلك ليس إلاّعبارة عن وجود المقتضي المغلوب ، ومن الواضح أنّ ذلك ليس بحكم شرعي ، فلأجل ذلك نقول إنّه تصويب ، لكنّه تصويب في خصوص الأمارة المخطئة ، أمّا المصيبة فعلى ما ذكره الشيخ وتبعه شيخنا قدس‌سره في أنّها لا أثر لها فلا تصويب فيها ، ولكن قد عرفت الإشكال في ذلك وأنّها لابدّ أن تؤثّر ، غايته أنّه يلزم الاندكاك أو اجتماع المثلين ، فتكون النتيجة هو التصويب في الأمارات مخطئها ومصيبها ، فتأمّل.

ومن ذلك كلّه يعلم الحال في الوجه الثالث الراجع إلى المصلحة السلوكية ، فإنّها على تقديرها تكون أيضاً مصلحة واقعية تابعة لواقعها ، بمعنى أنّها غير مجعولة للشارع ، فلا تكون منوطة بالخطأ ، بل تكون حاصلة في كلّ من موارد الاصابة وموارد الخطأ ، ولا يختلف حالها في ذلك أصلاً ، كما أنّها لا يختلف مقدارها بالنسبة إلى موارد تبيّن الخطأ بعد العمل بالأمارة باعتبار كون التبيّن واقعاً في أوّل وقت الفضيلة للصلاة الواقعية أو بعده ، قبل انقضاء أو بعد انقضاء الوقت ، أو عدم الانكشاف إلى الموت كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى (١).

قوله : ولا بدّ وأن تكون مصلحة السلوك بمقدار ما فات من المكلّف بسبب قيام الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا يختلف باختلاف مقدار السلوك ... الخ (٢).

فيه تأمّل ، فإنّ السلوك عبارة عن الركون إلى الأمارة وجعلها طريقاً إلى الواقع والعمل على طبقها ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يختلف سعة وضيقاً باعتبار الأوقات التي ينكشف فيها خلاف الواقع بعد الفراغ من العمل ، إذ لا يخرج

__________________

(١) في الحاشية الآتية.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٩٦.

٢٧١

السلوك والعمل على طبق الأمارة عمّا هو عليه من واجدية المصلحة ، سواء كان الانكشاف في الوقت أو كان في خارجه ، فلابدّ أن تكون مصلحة السلوك في جميع ذلك واحدة لم تختلف سعة وضيقاً ، فلا وجه لأن نقول : إنّها في صورة انكشاف الخلاف في أوّل الوقت تكون بمقدار ما يتدارك به فوت المصلحة أوّل الوقت من الفضيلة ، ولو كان في أثناء الوقت بعد خروج وقت الفضيلة تكون المصلحة الحاصلة في السلوك أيضاً بمقدار ما يتدارك به ما فات من ذلك المقدار من الوقت ، ولو كان بعد خروج الوقت كانت المصلحة المذكورة بمقدار تدارك الوقت ، وإن كان وقت الفضيلة باقياً لم يكن هناك مصلحة في السلوك أصلاً الخ.

فإنّ هذا التفاوت إنّما يكون لو كانت المصلحة السلوكية تفضّلاً من جانب الشارع ، أمّا إذا كانت واقعية حاصلة من نفس السلوك وقد تحقّق في الخارج كما هو الفرض ، ومن الواضح أنّه لا يختلف في ذلك سعة وضيقاً ، فلابدّ أن نقول : إنّ المصلحة السلوكية واحدة في الجميع لم تختلف سعة وضيقاً.

بل ينبغي أن يقال : إنّ هذه المصلحة موجودة حتّى في صورة مطابقة الأمارة للواقع ، غايته أن يكون هناك ـ أعني في مورد الاصابة ـ مصلحتان ، فمصلحة في نفس صلاة الظهر مثلاً يوم الجمعة ، ومصلحة أُخرى حاصلة من سلوك الأمارة الدالّة على وجوبها ، وهذه المصلحة الثانية لم تفوّت عليه المصلحة الأُولى ، بل يكون المكلّف قد حصل على كلا المصلحتين ، وهذه المصلحة الثانية حاصلة بنفسها في مورد خطأ الأمارة ، لكن مصلحة الواقع بعد باقية بحالها ، فلو لم ينكشف الخطأ إلى الموت ، أو فرض أنّ ذلك الذي أخطأت فيه ليس له قضاء ، لم يكن الواقع الذي أخطأته خالياً من المصلحة ، غايته أنّ المكلّف يكون معذوراً في عدم تحصيل تلك المصلحة ، لأجل جهله بها وأمر الشارع له بالعمل على طبق

٢٧٢

الأمارة التي أخطأته ، ومن الواضح أنّ مقتضى ذلك هو بقاء المصلحة الواقعية على ما هي عليه من كونها لازمة التحصيل لو التفت إليها المكلّف وتبيّن له الخطأ في تلك الأمارة ، وإن لم يكن تبيّن الخطأ فيها موجباً لرفع ذلك الصلاح الذي ناله المكلّف بسلوكها قبل انكشاف خطئها ، فيكون عدم الاجزاء مستنداً إلى بقاء المصلحة الواقعية الملزمة بحالها مع فرض عدم انكسارها بالمصلحة السلوكية ، وتكون النتيجة من ذلك كلّه أنّه عند انكشاف الخلاف يكون المكلّف قد نال المصلحة السلوكية بتمامها ، كما أنّه ينال ما يمكنه تلافيه من مصلحة الواقع بالاتيان به أداءً في آخر الوقت ، أو الاتيان به قضاءً في خارج الوقت ، هذا.

وقد بقي في النفس تشكيك في المصلحة السلوكية ، وكيف لا تكون موجبة للانتهاء إلى التصويب المعتزلي ، فإنّ المقام ـ أعني مقام المصلحة السلوكية ـ وإن لم يكن من قبيل الكسر والانكسار مع المصلحة الواقعية ، كما هو مقتضى الوجه الثاني من الوجوه المذكورة الذي هو راجع إلى التصويب المعتزلي إلاّ أنّه يكون نظيره في غضّ الشارع النظر عن المصلحة الواقعية ، بحيث إنّها لا تكون مؤثّرة عنده في الإلزام على طبقها ، ويكون من قبيل التزاحم في مقام الجعل والتشريع ، حيث إنّ استيفاء المصلحة في الفعل الواجب واقعاً يكون مزاحماً في المصلحة في سلوك الأمارة القائمة على حرمته مثلاً.

وتوضيح ذلك : أنّا نفرض أنّ المصالح الواقعية الموجبة لجعل التكاليف على طبقها ألف مصلحة مثلاً ، ثمّ إنّ الشارع لاحظ أنّ للمكلّف في الوصول إلى تلك المصالح طريقين : أحدهما الطريق العلمي المفروض أنّه لا يخطئ ، والآخر الأمارة المفروض أنّها تخطئ ولو مرّة واحدة في جميع تلك المصالح ، لأنّ فرض الكلام إنّما هو في صورة كون المكلّف متمكّناً من تحصيل العلم بالواقع لوجود

٢٧٣

الأسباب المفيدة للعلم ، وفي فرض كون خطأ الأمارة زائداً على خطأ الأسباب العلمية ، إذ مع عدم التمكّن من الأسباب العلمية لا حاجة إلى المصلحة السلوكية ، كما أنّه لو كانت موارد الخطأ في الأمارة بمقدار موارد الخطأ في الأسباب العلمية لم نكن محتاجين إلى المصلحة السلوكية ، بل ولا المصلحة التسهيلية ، ومحلّ الكلام إنّما هو في المورد الذي تخطئه الأمارة زائداً على الطرق العلمية ، مع فرض تمكّن المكلّف من سلوك الطرق العلمية التي لا يقع فيها ذلك الخطأ الزائد.

فنقول : معنى أنّ الشارع قد أمر بسلوك الأمارة لأجل مصلحة في سلوكها ، وتلك المصلحة يتدارك بها تلك المصلحة الواقعية التي تفوت بواسطة سلوكها ، هو أنّه يقع التزاحم في نظر الشارع بين تلك المصلحة التي تفوت بخطأ الأمارة وبين المصلحة السلوكية التي تحصل بسلوك الأمارة ، فإنّ مقتضى المحافظة على المصلحة الأُولى هو الإلزام بالطرق العلمية ورفع اليد عن المصالح السلوكية ، ومقتضى المحافظة على المصلحة الثانية هو رفع اليد عن المصلحة الأُولى وتسويغ سلوك الأمارات للحصول على مصالح السلوك فيها ، وحيث إنّ مصلحة السلوك كانت أهمّ في نظره ، قدّمها على تلك المصلحة الفائتة بخطأ الأمارة ، فلازم ذلك أنّ تلك المصلحة الواقعية كانت مغلوبة بهذه المصلحة السلوكية ، بمعنى أنّها في ذلك الحال ـ أعني حال الجعل والتشريع ـ لم تكن قابلة لأن يعتني الشارع بها ، فلا فرق بين كون المصلحة في نفس الفعل مغلوبة بفساد في نفسه بواسطة عنوانه الثانوي ، أعني كونه ممّا قامت الأمارة على حرمته ، كما هو مقتضى الكسر والانكسار الذي هو راجع إلى التصويب المعتزلي ، أو أن تكون المصلحة في نفس الفعل مغلوبة بصلاح آخر خارج عن الفعل ، بل كان واقعاً في الطريق إلى الواقع.

٢٧٤

وكون هذا الصلاح متأخّراً في الرتبة كما تضمّنته التحريرات بقوله : فليست المصلحتان في مرتبة واحدة حتّى يقع بينهما الكسر والانكسار الخ (١). وكذلك قوله في هذا التحرير : وبالجملة المصلحة في الوجه الثالث إنّما تكون في السلوك وتطبيق العمل على مؤدّى الأمارة ، لا في نفس المودّى الخ (٢) ، كلّ هذا لا تندفع به شبهة الكسر والانكسار ، بعد فرض أنّه لا يمكن المحافظة على كلّ من المصلحتين ، سواء كانتا طوليتين أو كانتا عرضيتين ، إذ ليس ذلك إلاّمن قبيل تزاحم الفعلين المتنافيين في مقام الجعل والتشريع.

لا يقال : هذا لو كان مصلحة السلوك إلزامية ، إذ لا يمكن للشارع أن يلزم بالفعل الواقع مع إلزامه بسلوك الأمارة المفروض كونها مفوّتة للمصلحة الواقعية ، أمّا إذا كان السلوك ترخيصياً ، بمعنى كون المكلّف مخيّراً بين سلوك الطرق العلمية فيستوفي الواقع ، وسلوك الأمارة فيفوته الواقع ، لكن يحصل على مصلحة السلوك ، فلا مانع من الأمر بالسلوك أمراً غير إلزامي ، بمعنى أنّه يرخّصه في سلوك الأمارة والعمل على طبقها كما هو المفروض ، حيث إنّ المكلّف متمكّن من تحصيل العلم بالواقع المفروض إصابته ، ومع ذلك يرخّصه الشارع في العمل على طبق الأمارة المفروض خطؤها ، لأنّه لو سلكها لحصل على مصلحة السلوك وهي مصلحة تعادل المصلحة الواقعية التي تفوت بسلوكها.

لأنّا نقول : مرجع ذلك إلى أنّ الشارع عند سلوك المكلّف الأمارة يكون متنازلاً عن المصلحة الواقعية ولو بمقدار اقتضائها تعيّن ذي المصلحة ، وهذا المقدار من التنازل يكفي في سراية إشكال التصويب.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١١٩.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٩٦.

٢٧٥

ومنه يظهر أنّ هذا الإشكال أعني لزوم ما هو من قبيل التصويب لا يختصّ بالمصلحة السلوكية ، بل هو جارٍ في المصلحة التسهيلية حرفاً بحرف ، فإنّ المكلّف في مورد كونه متمكّناً من الوصول إلى الواقع ، لا معنى لأن يسوّغ له الشارع العمل على طبق الأمارة المفروض كونها مفوّتة له لأجل ملاحظة التسهيل عليه أو على نوع المكلّفين على ما مرّ شرحه (١) ، إلاّالتنازل عن المصلحة الواقعية واقتضائها الالزام في ذلك.

نعم ، هناك شيء آخر لعلّه يومئ قدس‌سره إليه في اختلاف الرتبة وهو بقاء الالزام بالواقع ، ولا ينافيه تسويغ العمل بالأمارة لأجل اختلاف الرتبة ، وكأنّ ما حرّرته عنه قدس‌سره صريح في هذه الجهة وهذا نصّه :

ثمّ لو تنزّلنا عن هذا الذي ذكرناه من كفاية المصلحة النوعية التسهيلية في تفويت المصلحة الشخصية الواقعية ، وقلنا بعدم كفايتها في تفويت المصلحة الواقعية ، فلا محيص لنا حينئذ من الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لكن لابدّ من تقريبها على وجه لا يكون راجعاً إلى القول بالتصويب ، وتوضيح ذلك : هو أنّ الأمر الظاهري لو كان في عرض الأمر الواقعي لورد عليه الإشكال المشار إليه الذي حاصله : أنّ الأمر الظاهري إن كان طريقياً صرفاً وكان عارياً عن المصلحة بالكلّية لزم تفويت المصلحة الواقعية ، وإن لم يكن كذلك بل كان ناشئاً عن مصلحة توجبه ، فإن كانت تلك المصلحة مساوية لمصلحة التكليف الواقعي ، كان مقتضاه التخيير بين التكليفين ، وإن كانت مصلحة الأمر الظاهري أقوى من مصلحة التكليف الواقعي ، وقع الكسر والانكسار بين المصلحتين ، وكان التكليف تابعاً لأقوى المصلحتين ، وحينئذ يكون التكليف الواقعي اقتضائياً لولائياً ، بحيث إنّه لو

__________________

(١) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٥٩ وما بعدها.

٢٧٦

ثبت التكليف الواقعي في هذه الصورة كان بلا مصلحة توجبه. أمّا لو كان التكليف الظاهري في طول التكليف الواقعي ، فلا يكون التكليف المذكور الناشئ عن قيام الأمارة الذي هو عبارة عن الهوهوية ، أو عن الأمر بسلوك تلك الأمارة كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى مزاحماً لذلك التكليف الواقعي ، ولا يحصل التدافع بين المصلحتين ، بل يكون كلّ من المصلحتين مؤثّرة في التكليف الذي هو على طبقها من دون تزاحم بينهما أصلاً ، لكون كلّ منهما في رتبة غير رتبة الآخر ، لما عرفت من الطولية بين التكليفين ، انتهى.

وفيه تأمّل ، فإنّ الكلام إنّما هو في تفويت المصلحة الواقعية ، وأنّها لا تكون مؤثّرة في جنب المصلحة السلوكية الذي هو شعبة من شعب التصويب ، ولو كان التأخّر الرتبي دافعاً لإشكال التصويب لدفعه على الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي أفادها قدس‌سره في هذا التحرير (١) ، فإنّ مرجع الوجه الثاني إلى العنوان الأوّلي والثانوي ، ولا ريب في تأخّر العنوان الثانوي عن العنوان الأوّلي ، هذا كلّه.

مضافاً إلى اشتماله على الجمع بين التكليفين الواقعي والظاهري ، وسيأتي إن شاء الله تعالى (٢) أنّه قدس‌سره لا يرتضي الجمع بينهما باختلاف الرتبة ، كما مرّت الإشارة إليه في بعض مباحث القطع (٣) المأخوذ موضوعاً لحكم مضادّ للحكم الذي تعلّق به القطع.

وبالجملة : أنّ الالتزام بمصلحة التسهيل أو مصلحة السلوك لا يخلو عن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ١١٢ ـ ١١٣ ، وحاشية المصنّف قدس‌سره عليه تأتي في الصفحة : ٣٠٩ وما بعدها.

(٣) راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة المتقدّمة في الصفحة : ٤٠ وما بعدها.

٢٧٧

تنازل من الشارع عن المصلحة الواقعية ، وهو شعبة من شعب التصويب.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ التصويب المعتزلي لم يكن بطلانه من جهة عدم المعقولية كما في التصويب الأشعري ، بل كان بطلانه من جهة الإجماع على عدمه والإجماع إنّما قام على البطلان في صورة كون المصلحتين المتزاحمتين قائمتين بنفس الفعل ، وإن كانت إحداهما من جهة ذاته وعنوانه الأوّلي والأُخرى من جهة قيام الأمارة وعنوانه الثانوي ، كما هو مقتضى القول بالسببية. أمّا إذا كانت إحدى المصلحتين قائمة بنفس الفعل ، والأُخرى قائمة في سلوك الطريق المجعول لحفظه لكن اتّفق أن قد أخطأه ، فلا يكون مشمولاً للإجماع المذكور الذي هو راجع إلى الإجماع على اشتراك التكاليف ، ولأجل ذلك نقول : إنّ الانكشاف على الأوّل يكون من قبيل تبدّل الموضوع ، بخلافه على الثاني فإنّه يكون من قبيل انكشاف الخلاف.

وفيه تأمّل ، فإنّك قد عرفت عدم تأثير المصلحة الواقعية في قبال المصلحة السلوكية ، فلا يكون تبيّن خطئها إلاّمن قبيل تبدّل الموضوع. نعم يمكن أن يدّعى أنّ القدر المتيقّن من الإجماع هو الصورة الأُولى دون الثانية. لكن لو فتحنا باب القدر المتيقّن من الإجماع لأمكن ادّعاء كون القدر المتيقّن من الإجماع هو النحو الأوّل من الأنحاء الثلاثة المذكورة في الكتاب ، دون الثاني والثالث.

ولكن أصل هذا الإشكال إنّما نشأ من دعوى أنّ هناك طرقاً معيّنة تكون مفيدة للعلم ، وطرقاً أُخرى معيّنة أيضاً وهي لا تفيد إلاّالظنّ ، وأنّ إصابات الطرق العلمية أكثر من إصابات الطرق الظنّية ، وقد عرفت أنّه يمكن تساوي الطريقين في الخطأ والاصابة ، فلا تفويت في الطرق الثانية زائداً على الطرق الأُولى ، وإن كانت موارد الاصابة في أحد الطريقين مغايرة لموارد الاصابة في الطريق الآخر ، هذا.

٢٧٨

مضافاً إلى ما عرفت من إمكان المنع من هذه الدعوى أعني وجود طرق علمية ، بل ليس لنا إلاّالطرق العقلائية التي يسلكها العقلاء في أُمور معاشهم بل ومعادهم ، غايته أنّ بعض هذه الطرق ربما أفاد العلم ، لكن ما يفيده منها غير متعيّن في نفسه ، بل إنّ ذلك إنّما هو من جهة اختلاف الأشخاص والأطوار والأحوال.

ولو سلّم أنّ بعضاً منها معيّناً يفيد العلم وهو السؤال من نفس المعصوم عليه‌السلام وأغضينا النظر عن احتياجه إلى مثل تحكيم أصالة الظهور ، لكان ذلك أقل قليل من باقي الطرق بالنسبة إلى باقي المكلّفين ، فإنّ كلامنا إنّما هو في وصول نوع المكلّفين إلى الأحكام الكلّية ، وهذا التقدير متعذّر أو متعسّر بالنسبة إلى عامّة المكلّفين بالنظر إلى عامّة التكاليف.

وبالجملة : أنّ محلّ الكلام إنّما هو في طرق الأحكام الكلّية ، لا في طرق الموضوعات الخارجية ، فإنّك قد عرفت الكلام فيها ، فراجع (١).

ثمّ لا يخفى أنّه قد تكرّر في التحريرات المطبوعة في صيدا ، أنّه ليس المراد بالمصلحة السلوكية هو إعطاء المولى للعبد شيئاً من كيسه مجّاناً عند فوات الواقع بالعمل بالأمارة كما في ص ٦٨ وص ٦٩ (٢). ولو كان الأمر كذلك ـ أعني كان الدفع مجّانياً ـ لارتفع الإشكال بحذافيره ، فإنّه بناءً على ذلك لا تخرج الأمارة عن كونها طريقاً صرفاً ، غايته أنّه عند خطئها يتفضّل الشارع بتعويض العبد ما فاته من المصلحة أو ما وقع فيه من المفسدة ، فإنّه بناءً على ذلك لا يلزم إشكال الكسر والانكسار ، ولا كون المصلحة السلوكية غير قابلة للتوسعة والتضييق بقدر ما

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٦٣ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١١٨ ـ ١١٩.

٢٧٩

يفوت المكلّف بخطأ الأمارة ، وإنّما جاءت الإشكالات من ناحية الالتزام بكون نفس سلوك الأمارة فيه مصلحة واقعية ينالها المكلّف عند خطأ الأمارة.

وحينئذ يتوجّه الإشكال أوّلاً : بأنّ هذه المصلحة السلوكية لا تختصّ بموارد الخطأ ، بل هي متحقّقة قهراً في موارد الاصابة ، غايته أنّه هناك تجتمع المصلحتان.

وثانياً : بأنّ هذه المصلحة الواقعية لا تختلف سعة وضيقاً في موارد تبيّن الخطأ.

وثالثاً : بأنّ الشارع في فرض موارد الخطأ مع فرض تمكّن المكلّف من الوصول إلى المصلحة الواقعية لا يمكنه الجمع بين المصلحتين ، فلابدّ أن تكون النتيجة في ذلك ما هو راجع إلى قواعد المزاحمة في مقام الجعل والتشريع.

وهذه الإشكالات خصوصاً الأخير منها لا تندفع بالتأخّر الرتبي الذي أشار إليه بقوله : وفي طول المصلحة الواقعية من دون أن يكون لها مساس بها أو بالحكم الناشئ من قبلها (١). وكذلك قوله : بل المصلحة السلوكية مترتّبة على وجود حكم واقعي أخبر الأمارة عنه وفي مرتبة متأخّرة عنه ، فضلاً عن المصلحة الداعية إلى جعله ، فكيف يمكن أن تكون هي مزاحمة لتأثير المصلحة الواقعية في جعل الحكم الواقعي الخ (٢) ، فإنّ ذلك إنّما يمكن في صورة الاصابة ، أمّا في صورة الخطأ فإنّ مصلحة السلوك وإن كانت في طول المصلحة الواقعية ، إلاّ أنّ الشارع العالم بخطئها يعلم أنّ جعل حجّيتها مفوّت لمصلحة الواقع ، فهو لا يمكنه الاحتفاظ بكلا المصلحتين في هذه الصورة. ولو قلنا إنّ التأخّر الرتبي مؤثّر في

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١١٨.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١١٩ ـ ١٢٠.

٢٨٠