أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

أمّا ما نحن فيه فقد حكم فيه شيخنا قدس‌سره بعدم الاعادة ، بناءً على مسلكه قدس‌سره في مسألة الاجتماع من الجواز من الجهة الأُولى ، والامتناع من الجهة الثانية الراجعة إلى التزاحم ، وقد أوضح ذلك فيما حرّره عنه في التحريرات المطبوعة في صيدا (١) بما حاصله : أنّ لكون الثوب مغصوباً أثراً وهو عدم جواز التصرّف فيه في صلاة أو غيرها ، كما أنّ لنجاسة ذلك الثوب نفس هذا الأثر وهو عدم جواز الصلاة فيه ، بمعنى عدم صحّتها وعدم مشروعية الإقدام عليها مع العلم بكونه نجساً ، لكن لها أثر آخر ، وهو أنّه لو نسي النجاسة التي علمها وصلّى بذلك الثوب ناسياً لنجاسته ثمّ تذكّر ذلك بعد الفراغ ، بطلت صلاته وعليه الاعادة ، وأمّا المغصوبية فليس لها هذا الأثر ، إذ لا إشكال في عدم وجوب الاعادة على ناسي الغصبية.

وحينئذ نقول : إنّه عند العلم الاجمالي المردّد بين كون الثوب نجساً وكونه مغصوباً ، لا إشكال في أنّه لا يجوز له الإقدام على الصلاة فيه ، لتعارض أصالة الإباحة مع أصالة الطهارة ، فيسقط الأصلان معاً ، فلا يجوز له الإقدام على الصلاة فيه ، ولكن هذا السقوط لأصالة الطهارة هل يوجب سقوطها بتاتاً حتّى بالنسبة إلى الأثر الثاني الذي تنفرد فيه عن أصالة الحل ، وهو عدم وجوب الاعادة لو صلّى مع نسيان النجاسة ، أو أنّها لا تسقط إلاّبمقدار الأثر الأوّل وتكون قاعدة الطهارة جارية بالنسبة إلى ذلك الأثر الثاني ، ولأجل ذلك خصّص قدس‌سره الكلام في الصورة الثانية وهي ما لو تبيّن نجاسة الثوب ، لأنّ صلاته كانت اعتماداً على أصالة الطهارة من الأوّل ، فيكون أثر تلك النجاسة ساقطاً بالنسبة إلى الأثر الثاني ، مع كون تلك الصورة داخلة في حكم النجاسة المعلومة إجمالاً المنسية حين الصلاة ، فيشملها

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٠٧ ـ ١٠٩.

٢٤١

ما دلّ على وجوب الاعادة على من صلّى في النجاسة بعد المسبوقية بما يكون موجباً لتنجّزها.

وهذا بخلاف الصورة الأُولى ، فإنّها لا تحتاج إلى هذا التمحّل ، إذ لم ينكشف فيها أنّه قد صلّى مع النجس كي يقال إنّه مصداق لنسيان تلك النجاسة المعلومة ولو إجمالاً ، هذا.

ولكن يمكن التأمّل في هذا التمحّل الذي أفاده قدس‌سره في الصورة الثانية ، فإنّ الظاهر أنّ قاعدة الطهارة في الثوب في حدّ نفسها لا تنفي الأثر الثاني حتّى لو لم يكن احتمال النجاسة مقروناً باحتمال الغصبية ، بأن لم يكن في هذا الثوب إلاّ احتمال النجاسة ، فإنّ قاعدة الطهارة لا تعرض لها لأزيد من نفي احتمال النجاسة وترتيب أثر الطهارة عليه من جواز الإقدام على الصلاة فيه ، أمّا الاعادة المترتّبة على نسيان النجاسة بعد العلم بها وعدم التذكّر إلاّبعد الفراغ ، فذلك لا تنفيه قاعدة الطهارة ، كما أنّها لا تثبت الاجزاء وعدم الاعادة فيما لو صلّى فيه جاهلاً بالنجاسة ثمّ علم بها بعد الفراغ.

وبالجملة : أنّ قاعدة الطهارة في الثوب ونحوها لا تعرض [ لها ] لأزيد من جواز الصلاة فيه ، وأمّا بطلان الصلاة ووجوب الاعادة فإنّما هو من آثار سبق العلم بالنجاسة ثمّ نسيانها ، لا من آثار نفس النجاسة كي ينفى بقاعدة الطهارة ، من دون فرق في ذلك بين أن نقول إنّ الموضوع مركّب من النجاسة الواقعية مع العلم بها ثمّ نسيانها على نحو يكون العلم المذكور على نحو جزء الموضوع ، أو نقول إنّ الموضوع هو النجاسة نفسها لكن استلزامها للبطلان والاعادة مشروط بسبق العلم بها وإن طرأه النسيان ، إذ لا فرق بين هذين الوجهين إلاّمحض التعبير.

وبالجملة : لا وجه للقول بأنّ مفاد قاعدة الطهارة في هذا الثوب هو نفي

٢٤٢

وجوب الاعادة ، لأنّ ذلك عبارة أُخرى عن نفي البطلان المترتّب على النجاسة المعلومة عند طرو النسيان.

وإن شئت فقل : إنّ قاعدة [ الطهارة ] تثبت آثار الطهارة من جواز الصلاة فيه ، وتنفي آثار النجاسة المترتّبة على النجاسة الواقعية ، وتحرز شرط الدخول في الصلاة ، ولا تنفي الأثر المترتّب على النسيان المسبوق بالعلم بالنجاسة ، ومقتضى ذلك كلّه هو لزوم الاعادة في الصورة المزبورة ، بناءً على أنّ سبق العلم بالنجاسة الذي هو موضوع الاعادة شامل للعلم الاجمالي ، فتأمّل.

لا يقال : إنّ الموجب للاعادة هو تنجّز النجاسة قبل الصلاة بنحو من أنحاء التنجّز ولو بالعلم الاجمالي ، وقاعدة الطهارة حيث إنّها ترفع تنجّز النجاسة يترتّب عليها هذا الأثر الثاني ، وحينئذ يتمّ ما أفاده من كون الأثر الثاني مترتّباً على قاعدة الطهارة.

لأنّا نقول : إنّ محصّل ذلك هو أنّ تنجّز النجاسة هو عبارة عن كونها مانعة من الدخول في الصلاة ، وبواسطة كون قاعدة الطهارة رافعة لتنجّز هذا الأثر وهو المنع من الدخول في الصلاة يرتفع الأثر الثاني المفروض ترتّبه على تنجّز الأثر الأوّل ، والمفروض فيما نحن فيه أنّ قاعدة الطهارة لم ترفع تنجّز الأثر الأوّل ، لكونها بالنسبة إليه معارضة بقاعدة الحل ، وبعد السقوط يكون الأثر الأوّل للنجاسة وهو المنع من الدخول في الصلاة منجّزاً ، فقهراً يترتّب الأثر الثاني وهو كونها موجبة للبطلان عند المسبوقية بتنجّز أثرها الأوّل.

لا يقال : إنّ المسبوقية بتنجّز النجاسة إنّما يترتّب عليه الأثر الثاني إذا كانت النجاسة بنفسها منجّزة ولو بالعلم الاجمالي ، كما في مورد الثوبين اللذين علم بنجاسة أحدهما وقد صلّى بعد النسيان في أحدهما ، وقد تبيّن بعد الفراغ أنّه هو

٢٤٣

النجس ، وكذلك الحال فيما لو علم إجمالاً بأنّ هذا الثوب نجس أو ذلك الثوب الآخر مغصوب وقد نسي وصلّى في الأوّل ، أمّا فيما نحن فيه من العلم بنجاسة هذا الثوب أو غصبيته ، فلا تكون النجاسة بنفسها منجّزة ، بل المنجّز هو القدر الجامع بينها وبين الغصبية. وبعبارة أُخرى : لا يكون المنجّز في المقام هو خصوص هذا الحكم وهو لا تصلّ في النجس ، بل المنجّز هو النهي المطلق عن الصلاة في ذلك الثوب ، أعني القدر الجامع بين المنع عن الصلاة في النجس أو الصلاة في المغصوب ، والأثر الثاني إنّما يترتّب على ما إذا كان المنع عن الصلاة في النجس بخصوصه منجّزاً ولو بالعلم الاجمالي.

لأنّا نقول : إذا كان القدر المشترك منجّزاً ، كان ذلك عبارة عن كون كلّ من الطرفين منجّزاً ، وحينئذ يكون النهي عن الصلاة في ذلك الثوب المفروض كونه نجساً في الواقع منجّزاً ، فيترتّب حينئذ الأثر الثاني. على أنّ هذا لو تمّ لم نكن في الحكم بالصحّة محتاجين إلى قاعدة الطهارة ، بل يكون الأثر الثاني منتفياً لانتفاء موضوعه الذي هو تنجّز المنع من الصلاة في النجس بخصوصه ، هذا كلّه بالنظر إلى ما يستفاد من التحرير المطبوع في صيدا.

ولكن الذي يظهر من هذا الكتاب بقوله : فلو غفل المكلّف عن علمه وصلّى في الثوب لم يجب عليه الاعادة والقضاء ، لاحتمال أن يكون غصباً ، والصلاة في الثوب المغصوب مع النسيان صحيحة واقعاً. والنجاسة لم يتعلّق العلم بها في وقت حتّى يقال : إنّ العلم بالنجاسة آناً ما يكفي في فساد الصلاة ولو مع الذهول والنسيان الخ (١) هو البناء على أنّ العلم بالنجاسة الذي يطرأ عليه النسيان هو خصوص العلم التفصيلي ، وبناءً عليه لا يكون الحكم بالصحّة متوقّفاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٨٦ ـ ٨٧.

٢٤٤

على إجراء قاعدة الطهارة بالنسبة إلى الأثر المذكور. والظاهر أنّ نظره في ذلك مقصور على الصورة الأُولى ، وأنّه بعد الفراغ لا يحصل له إلاّتذكّر ما كان علمه إجمالاً قبل الدخول في الصلاة ، من دون تبيّن أنّه صلّى في النجس ، كما أنّ ما في التحرير المطبوع في صيدا ناظر إلى الصورة الثانية.

ثمّ لا يخفى أنّه بعد أن كان مفروض البحث هو الصورة الأُولى ، فكان الأنسب أن يعلّل الحكم فيها بالصحّة بأنّ النجاسة وإن سبقت بالعلم الاجمالي إلاّ أنّ مورد النسيان هو من صلّى في النجس ، وهذا الشخص لم يحرز أنّه صلّى في النجس ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله : والنجاسة لم يتعلّق العلم بها في وقت. وكيف كان فلا يكون الحكم بالصحّة في هذه الصورة متوقّفاً على انحصار المنجّز السابق بالعلم التفصيلي.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّه في الصورة الأُولى بعد الفراغ من الصلاة يبتلى بعلم إجمالي جديد ، وهو أنّ هذا الثوب الذي قد صلّى فيه إن كان نجساً كانت نجاسته منجّزة سابقاً بالعلم الاجمالي السابق ، فيكون الواجب إعادتها ، وإمّا أن يكون مغصوباً فيحرم عليه التصرّف فيه بصلاة أُخرى وغيرها من التصرّفات.

وفيه تأمّل ، فإنّ الاعادة وإن لم تكن منجّزة سابقاً بالعلم الاجمالي السابق ، بل هي تكليف جديد ناشٍ عن تنجّز النجاسة سابقاً ، إلاّ أنّ حرمة التصرّف في ذلك الثوب لكونه مغصوباً لم يكن أثراً جديداً ، بل هو بنفسه كان منجّزاً بالعلم الاجمالي السابق ، ولأجل ذلك نقول يلزم الاجتناب عن التصرّف في ذلك حتّى لو قلنا بأنّ الموجب للاعادة في الصلاة في النجس هو خصوص سبق العلم التفصيلي بها ، فلا يجب إعادة الصلاة من جهة النسيان ، ولكن يجب الاجتناب عن التصرّف في ذلك الثوب ، ويكون ذلك من قبيل خروج أحد الطرفين عن

٢٤٥

محلّ الابتلاء بعد العلم الاجمالي.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ ذلك ليس من الخروج عن محلّ الابتلاء ، فإنّه إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى الصلاة السابقة ، أمّا بالنسبة إلى الصلوات اللاحقة فمحلّ الابتلاء بها باقٍ ، فيكون التردّد فعلاً بين كون هذا الثوب نجساً أو مغصوباً مؤثّراً فعلاً في وجوب الاجتناب عن الصلاة فيه صلاة أُخرى ، فتأمّل.

والذي حرّرته عنه قدس‌سره موافق لذلك ، وهذا نصّه : الشرط الخامس : أن لا يكون الأثر في أحد طرفي العلم الاجمالي من قبيل التزاحم ، كما لو علم إجمالاً بغصبية الثوب أو نجاسته ، فإنّ هذا العلم إنّما يؤثّر التنجّز بمقدار عدم جواز الصلاة فيه ، دون لزوم الاعادة فيما لو صلّى ناسياً ، والسرّ في ذلك أنّ الغصبية إنّما تؤثّر في عدم جواز الصلاة إذا كانت منجّزة ، والنجاسة لها أثر واقعي ، فبمقدار القدر المشترك بين الطرفين يكون العلم الاجمالي مؤثّراً ، وأمّا بالنسبة إلى الزائد على ذلك أعني وجوب الاعادة فيما لو صلّى بذلك الثوب نسياناً ، فلا يحكم بترتّبه ، ومن ذلك ما لو تردّد الماء بين النجاسة والغصبية ثمّ نسي وتوضّأ فيه ، فإنّه يحكم بطهارة أعضائه وصحّة وضوئه وارتفاع حدثه انتهى ، وينبغي ملاحظة ما حرّره في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص ١٢٨ (١) ، وملاحظة ما علّقناه عليه خصوصاً التذنيب (٢)

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٣٥٣ ـ ٣٥٥.

(٢) حواشيه على التذييل وردت في المجلّد التاسع الصفحة : ٧٧ و ٧٩. وينبغي مراجعة الهامش المذكور في الصفحة : ٦٨ ـ ٧٢ من ذلك المجلّد.

٢٤٦

[ الكلام في الظنّ ]

قوله : فإنّ المراد من انفتاح باب العلم ... الخ (١).

قلت (٢) : الأولى في جواب ابن قبة أن يقال : إنّ المكلّف إن كان قد حصل له العلم بالحكم الواقعي ، فهذا يكون خارجاً عن حجّية الأدلّة الظنّية قطعاً ، لأنّ حجّيتها مقصورة على من لم يكن عالماً بالحكم ، كما أنّ هذا المكلّف لا يتكلّم في حقّه من حيث كون علمه مطابقاً للواقع أو مخالفاً له على ما تقدّم تفصيله في أوائل مباحث القطع (٣).

وإن لم يكن المكلّف قد حصل له العلم بالواقع ، لكن كانت هناك أسباب توصله إلى نفس الواقع ، وكانت تلك الأسباب معلومة لديه تفصيلاً ، فلا إشكال أيضاً في أنّ هذا لا يمكن أن تجعل الأمارات الظنّية حجّة في حقّه ، لكونها مفوّتة عليه الواقع في الموارد التي تخطئ فيها مع أنّه يتمكّن من الحصول على الواقع

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٠.

(٢) هذا ما كنت علّقته في الجمعة ٢٩ ع ١ سنة ١٣٥٨ على ما حرّرته عن درس شيخنا قدس‌سره ٨ ج ٢ سنة ١٣٤٨ ، والآن ألحقته بالتعليق على هذا الكتاب بتأريخ الجمعة ٧ ج ٢ سنة ١٣٧٠ بعد بعض إصلاحات ، وما كنت أظن بقاء حياتي إلى الآن ، ولله تعالى في خلقه شؤون [ منه قدس‌سره ].

(٣) لعلّ المقصود بذلك ما تقدّم في توجيه مقالة الأخباريين في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٢٨ وما بعدها.

٢٤٧

بواسطة علمه بالأسباب التي توصله إليه. ولعلّ ما يحكى عن الشيخ قدس‌سره (١) من تسليم قبح الرجوع إلى الظنّ مع انفتاح باب العلم ناظر إلى هذه الصورة ، أعني صورة التمكّن من الحصول على الواقع بواسطة أنّ لديه أسباباً معلومة له تفصيلاً توصله إليه إذ لا ريب في قبح الركون إلى الأدلّة الظنّية في هذه الصورة ، لكونها مفوّتة للمصالح الواقعية ، ولا معنى لأن يقال : لعلّ خطأ الأمارات يكون بمقدار خطأ الأسباب المذكورة ، لأنّ المفروض أنّ تلك الأسباب لا خطأ فيها أصلاً.

وبعبارة أُخرى : أنّه كانت لديه أسباب توصله إلى الواقع بحيث كان باب الواقع منفتحاً عنده ، لا أنّه انفتاح فعلي ، بل هو انفتاح بالقوّة ، لأنّ لديه أسباباً توصله إليه لو حصلها وسلكها. أمّا إذا لم يكن للمكلّف إلاّأسباب يعلم أنّه لو حصلها لحصل له العلم بالواقع ، لكنّه قبل تحصيلها يعلم بأنّها ربما كان بعضها يخطئ الواقع ، إذ لا تنافي بين العلم بأنّ تلك الأسباب تفيده العلم بالواقع لو حصلها وبين العلم بأنّ بعضها في الجملة يقع فيه الخطأ ، وإنّما التنافي بين العلم الفعلي بالواقع وبين احتمال خطأ ذلك العلم ، لكن ذلك ـ أعني حصول العلم الفعلي بالواقع ـ راجع إلى الصورة الأُولى التي قد مرّ أنّ حجّية الأدلّة الظنّية لا تشمله ، وإنّما الكلام في هذه الصورة أعني صورة عدم حصول العلم الفعلي ، وأنّ الحاصل إنّما هو العلم بأنّ لديه أسباباً لو حصلها لحصل له العلم بالواقع ، والمراد بانفتاح باب العلم هو هذه الصورة ، لا صورة حصول العلم الفعلي كما في الصورة الأُولى ، ولا صورة العلم بالأسباب الموصلة إلى نفس الواقع كما في الصورة الثانية ، بل المراد من انفتاح باب العلم هو التمكّن من الحصول على أسباب العلم بالواقع ، ولا ريب أنّ

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ١٠٩ ـ ١١٠.

٢٤٨

التمكّن من الحصول على أسباب العلم بالواقع لا يلزمه التمكّن من الحصول على نفس الواقع ، لما عرفت من أنّ التمكّن من الحصول على أسباب العلم بالواقع يجتمع مع احتمال خطأ تلك الأسباب.

والحاصل : أنّ أسباب العلم بالواقع بعضها يكون موصلاً إلى نفس الواقع وبعضها لا يوصل إلى الواقع لأجل خطئه ، فلو كانت الأسباب الأُولى معلومة لديه تفصيلاً لكان متمكّناً من الحصول على الواقع ، وكان راجعاً إلى الصورة الثانية ، أمّا إذا لم تكن الأسباب الموصلة إلى نفس الواقع معلومة لديه بالتفصيل ، بل كان أقصى ما في البين أنّ لديه أسباباً لو حصلها لحصل له العلم بالواقع مع فرض كون بعضها مصيباً وبعضها مخطئاً ، فهذا لا يكون متمكّناً من الواقع ، وإنّما أقصى ما فيه أنّه متمكّن من تحصيل العلم بالواقع الذي عرفت أنّه لا يلازم الوصول إلى الواقع.

والحاصل : أنّ المراد من الانفتاح في هذا المقام هو انفتاح باب العلم بالواقع وأنّ المكلّف متمكّن من تحصيل العلم بالواقع ، وهو غير ملازم للتمكّن من الوصول إلى نفس الواقع ، فلا حاجة إلى ما تكلّفه في هذا الكتاب بقوله : بل المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول ، وهو غير فعلية الوصول ، فقد يكون الشخص متمكّناً من الوصول إلى الواقع ولكن لم يصل إليه ، لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركّب الخ (١) كما لا حاجة إلى ما حرّرناه نحن عن الأُستاذ قدس‌سره بقولنا : مثلاً من كان جالساً على باب دار الإمام عليه‌السلام ويتمكّن من السؤال منه عليه‌السلام لكنّه لا يدخل بل يسلك طريقاً آخر كالسؤال ممّن خرج من الدار وسمع الحكم منه عليه‌السلام وكان سلوكه هذا الطريق الثاني ـ أعني السؤال ممّن خرج ـ كثير الخطأ ، ففي هذه الصورة لا مانع من أن يؤمر بالعمل على

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٠.

٢٤٩

أمارة هي أقلّ خطأ من هذا الطريق ، انتهى ملخّصاً.

فإنّ جميع هذه التكلّفات إنّما نحتاج إليها إذا قلنا بأنّ المراد من الانفتاح في هذا المقام هو إمكان الوصول إلى الواقع ، مع أنّك قد عرفت الاشارة إلى امتناع ذلك ، فإنّ العلم الاجمالي بكون بعض تلك الأسباب مخطئة للواقع مع عدم علم المكلّف بها بأعيانها يوجب عدم تمكّنه من الواقع.

وبالجملة : لا يجتمع التمكّن من الحصول على نفس الواقع مع العلم الاجمالي بكون بعض تلك الأسباب مخطئة ، ولأجل ذلك قلنا إنّ المراد بالانفتاح هو انفتاح باب العلم بالواقع ، وتمكّن المكلّف من تحصيل العلم بالواقع ، وهذا المقدار من الانفتاح يجتمع مع العلم الاجمالي بخطأ بعض تلك الأسباب.

وحينئذ نقول في جواب شبهة ابن قبة : إنّه لا فرق (١) حينئذ بين الأسباب المفيدة للعلم بالواقع والأسباب المفيدة للظنّ بالواقع في تطرّق احتمال الخطأ وتفويت المصالح الواقعية ، غاية الأمر ينبغي أن ينظر أنّ أيّاً من هذين الطريقين أكثر خطأ ، وهذا ممّا لا تصل إليه عقول البشر. ولكن يكفي في إمكان التعبّد بالأمارات الظنّية هو احتمال كون موارد الخطأ فيها بمقدار موارد الخطأ في أسباب العلم ، وحيث إنّ الشارع قد اطّلع على ذلك فله حينئذ أن يأمر بالعمل على الأمارات ، لحصول فوت ذلك المقدار من المصالح على كلّ من الأخذ بالأسباب

__________________

(١) لا يخفى أنّ هذا هو محصّل النقض على ابن قبة بالقطع المخطئ ، وليس المرادبه بعد حصول القطع كي يجاب عنه بما أفاده الشيخ قدس‌سره [ فرائد الأُصول ١ : ١٠٨ ] من أنّ القاطع لا يحتمل الخطأ ، بل المراد النقض قبل حصول القطع ، بمعنى أنّه لا فرق بين الأسباب المفيدة للقطع والأسباب المفيدة للظنّ في أنّه لو بطل العمل بالثانية لكونها مفوّتة للواقع لم يجز الالزام بتحصيل الأُولى لأنّها أيضاً مفوّتة للواقع [ منه قدس‌سره ].

٢٥٠

المفيدة للعلم والأسباب المفيدة للظنّ ، ومع تسليم كونه حكيماً لا يفوّت علينا المصالح ، نلتزم بأنّ الأمر في الواقع كذلك ، ومع هذا التسليم لا معنى للتشبّث بأذيال أقربية الخطأ ، إذ لا معنى للحكم القطعي بكون الأمارات أقرب إلى الخطأ مع الاعتراف بامكان كون موارد الخطأ فيها لا تزيد على موارد الخطأ في الأسباب المفيدة للعلم.

والذي يظهر من الأُستاذ قدس‌سره أنّ أقربية الأمارات إلى الخطأ هو غير كثرة الخطأ فيها ، فلذلك احتاج إلى الجواب عنه بما حرّره عنه (١) أيضاً من المنع من الأقربية أوّلاً ، والمنع من كونها مقتضية للردع ثانياً ، وبأنّها لو سلّمنا اقتضاءها للردع فإنّما تقتضيه لو لم يكن في البين مصلحة التسهيل ثالثاً.

ولعلّ الأولى هو ما يلوح من التقريرات المطبوعة في بيروت (٢) ، (٣) من جعل مصلحة التسهيل في قبال تسليم كون موارد الخطأ في الأمارات أكثر بقليل من موارد الخطأ في أسباب العلم ، فيقال : إنّا لو سلّمنا زيادتها بقليل لجاز للشارع الحكيم التنازل عن ذلك القليل الفائت بواسطة سلوك الأمارة لأجل ملاحظة التسهيل على المكلّفين.

ولا يخفى أنّ النظر القاصر عاجز عن الإذعان بجميع هذه التفاصيل التي حرّرناها من أوّلها إلى آخرها.

والذي يمكنني التصديق به والإذعان له هو انسداد باب العلم القطعي الوجداني في أغلب الأحكام ، بل في جميع الأحكام ، حتّى السؤال من نفس

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١١٣ ـ ١١٤.

(٣) [ الظاهر أنّه من سهو القلم ، والصحيح في صيدا ].

٢٥١

المعصوم ما لم يكن مدعوماً بالأمارات العقلائية من أصالة الظهور وغير ذلك ، وأنّه ليس في البين أسباب للعلم متميّزة عن أسباب الظنّ ، بل كلّ ما لدينا في عصرنا بل في عصر الأئمّة عليهم‌السلام بل في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو الطرق العقلائية التي يعتمد عليها العقلاء في أُمور معاشهم بل وفي معادهم ، نعم تلك الطرق تتفاوت في مقدار الوثوق الحاصل منها ، بحيث ربما بل غالباً تصل إلى درجة العلم ، وربما كان من جملة أسباب التفاوت المذكور هو تفاوت نفس الأشخاص ، وإلاّ فأين الطريق الذي يكون موجباً لحصول العلم القطعي الوجداني غير المدعوم بتلك الطرق العقلائية ، حتّى يقال إنّه يلزمنا سلوكه وعدم الركون إلى الأمارة لأجل أنّها تفوّت علينا مصلحة الواقع.

والحاصل : أنّه لولا هذه الأمارات التي بأيدينا من خبر الواحد ونحوه لكان باب العلم بالأحكام منسدّاً علينا ، خصوصاً في زماننا الذي هو زمان الغيبة والمحرومية من الوصول إلى معدن العلم ، والمفروض أنّ المستشكل لا يستشكل من حجّيتها عند انسداد باب العلم.

قال شيخنا قدس‌سره فيما حكاه عنه في هذا التحرير في المقدّمة الأُولى من مقدّمات دليل الانسداد ما هذا لفظه : أمّا المقدّمة الأُولى فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مسلّمة لا يمكن الخدشة فيها ، بداهة أنّ ما يوجب العلم الوجداني التفصيلي بالحكم من الخبر النصّ المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية ظهوراً وصدوراً مع سائر ما يتوقّف عليه الاستنباط لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ، وذلك ممّا يصدقه كلّ مجتهد يخوض في الاستنباط (١).

والحاصل : أنّ المراد بانفتاح باب العلم في هذا المقام هو باب العلم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٢٢٨.

٢٥٢

الوجداني ، بخلاف باب العلم في مبحث مقدّمات الانسداد ، فإنّ المراد به هناك هو الأعمّ من العلم الوجداني وما يقوم مقامه من الأمارات التي ثبتت حجّيتها بالخصوص. ثمّ بعد وضوح كون المراد من العلم في المقام هو العلم الوجداني نقول : إنّ المراد بانفتاحه إن كان هو حصول العلم الفعلي بالحكم الواقعي ، فهذا خارج عن موارد حجّية الأمارات ، سواء كان ذلك العلم مصيباً للواقع أو كان مخطئاً له ، وسواء كان على طبق الأمارة أم كان على خلافها.

وإن كان المراد هو التمكّن من الحصول على الأسباب والطرق المفيدة للعلم بالواقع ، بأن يكون المكلّف فعلاً متمكّناً من تحصيل طرق علمية توصله إلى نفس الواقع على وجه لا يحصل الخطأ فيها ، فهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام ، إذ لا ينبغي الريب في أنّه مع التمكّن من الوصول إلى نفس الواقع لا وجه للأمر بالعمل بالأمارات التي يحصل فيها الخطأ ولو قليلاً. اللهمّ إلاّأن يلتزم بوجود مصلحة ولو تسهيلية يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع.

وإن كان المراد هو التمكّن من الحصول على الأسباب المفيدة للعلم ، لكن لم تكن كلّها مصيبة ، بل كان فيها ما هو المخطئ ، ففي هذه الصورة نقول : إنّ الحكيم بعد اطّلاعه على كثرة وقوع الخطأ في تلك الطرق الموجبة لحصول القطع ، لا مانع من أن يأمر بسلوك الأمارة إذا علم أنّ الخطأ فيها أقلّ منه في الأسباب الموجبة للقطع ، أو كان الخطأ فيها مساوياً له فيها ، بل حتّى لو كان الخطأ في الأمارات الظنّية أكثر منه في أسباب القطع ، نظراً إلى تدارك ذلك الخطأ الزائد بالمصلحة التسهيلية ، بل قد عرفت أنّه بالنظر إلى المصلحة التسهيلية التي يتدارك بها المصلحة الفائتة لا مانع من جعل الأمارة حجّة حتّى في قبال ما لا خطأ فيه من الطرق القطعية ، هذا كلّه بالنظر إلى ناحية الشارع المقدّس واطّلاعه على كثرة

٢٥٣

الخطأ أو قلّته في تلك الأسباب الموجبة للقطع.

أمّا المكلّف نفسه فلا ريب في أنّه بعد سلوك تلك الأسباب وحصول القطع له منها بالواقع بحيث كان قطعه بالواقع فعلياً ، لا يمكن أن يحتمل هو في نفسه الخطأ في ذلك القطع ، نعم قيل إنّ الإنسان القاطع وإن كان لا يحتمل هو الخطأ في قطعه الخاصّ ، إلاّ أنّه يمكن تطرّق الاحتمال الاجمالي ، بل القطع الاجمالي بالنسبة إلى مجموع ما حصل له أو يحصل من القطعيات في مجموع عمره ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن للشارع أن يجعل له الأمارة الظنّية حجّة ، لما تقرّر في محلّه من أنّ القاطع لا يمكن تكليفه بالتنازل عن قطعه وأمره بسلوك طريق آخر لا يفيده القطع ، فإنّ لازم قطعه الفعلي هو القطع بخطأ ذلك الطريق الظنّي إن كان على خلاف قطعه ، ولغوية حجّيته إن كان على وفق قطعه ، فلم يبق لدينا من يمكن جعل الأمارة الظنّية حجّة في حقّه مع فرض انفتاح باب العلم إلاّمن عرفت ممّن كان متمكّناً من الحصول على طرق يعلم أنّه لو سلكها لأفادته القطع بالواقع ، فهل أنّ ذلك المكلّف يحتمل في نفسه أن تكون جملة من تلك الطرق مخطئة بعد فرض علمه بأنّه لو سلكها لأفادته القطع بالواقع؟

الظاهر أنّه لا يحتمل ذلك إلاّعلى حذو ما سمعت ممّا تقدّمت الاشارة إليه من إمكان العلم الاجمالي بأنّ بعض قطعياته الآتية مخالف للواقع ، مع فرض أنّه إذا نظر إلى كلّ واحد منها بخصوصه لا يحتمل فيه المخالفة ، وقد عرفت أنّ هذا المقدار لا يصحّح جعل الأمارة الظنّية في حقّه في قبال القطع الذي يعلم أنّه يحصل عليه بسلوك ذلك الطريق ، وحينئذ فلا يمكن جعل الأمارة في حقّ ذلك الشخص غير القاطع فعلاً ، وأنّه ليس عنده سوى أنّ في البين طرقاً لو سلكها لحصل له القطع بالواقع.

٢٥٤

إلاّ أن يقال : إنّ هذه الطرق وإن كان فعلاً لا يحتمل الخطأ فيها ، إلاّ أنّه مع ذلك يمكن أن تجعل الأمارة حجّة في حقّه في عرض تلك الطرق التي هو قاطع بأنّها لا خطأ فيها مع فرض وقوع الخطأ في تلك الأمارة ، لتدارك خطئها بالمصلحة التسهيلية على حذو ما سمعت في الأسباب القطعية الموصلة للواقع المفروض كونها لا خطأ فيها ، أمّا المانع من ناحية القطع فلا يتأتّى قبل سلوك تلك الأسباب ، وإنّما هو بعد حصول القطع فعلاً بالواقع.

لكن هذه الجهات كلّها تكلّفات بل تخرّصات. والذي يلوح فعلاً للنظر القاصر هو ما حرّرناه أخيراً فيما تقدّم نقله من أنّ باب القطع الوجداني بالنسبة إلى الحكم الواقعي منسدّ علينا ، وأنّه ليس لدينا إلاّأمارات وأُصول عقلائية ظهورية كانت أو سندية ، إمضائية كانت أو تأسيسية. نعم إنّ هذه الأمارات ربما بل كثيراً ما أفادت القطع بالواقع ، خصوصاً في زمان الحضور بالسماع من نفس المعصوم عليه‌السلام على وجه يمكن الحصول على العلم بمراده عليه‌السلام من كلامه من دون الاعتماد على مثل أصالة الظهور وأصالة عدم القرينة والتقية ونحو ذلك ، لكن ذلك اتّفاقي لا دائمي ، وهو على تقدير تسليمه غير نافع لنا معاشر المحرومين من التشرّف بمشاهدة أنواره القدسية ( صلوات الله عليه ) وحينئذ فأين لنا ما هو قطعي الدلالة وقطعي السند ، بل أين لنا الدليل العقلي القطعي بالنسبة إلى ما تشاهده من فقهنا ، كلّ هذه الأُمور المدّعى إفادتها العلم الوجداني خيال لا واقع له في الأحكام ، ولا وجود له في الفقه.

نعم ، هناك ضروريات مذهبية أو إسلامية ، وأضف إليها الإجماعات القطعية لو كانت ، لكن كلّ ذلك لو جمعناه لا يوجب لنا انفتاح باب العلم في جميع أحكامنا ، وسواء كانت هذه الموارد قليلة أو كانت كثيرة ، فلا ريب أنّ باب

٢٥٥

العلم لنا في غيرها منسدّ ، فلا مانع من حجّية الأمارات في ذلك الغير ، وأنّ من يقول بحجّية الأمارات الظنّية إنّما يقول بها في غير تلك الموارد ، ولا ريب في أنّ حجّيتها في تلك الموارد الباقية لا يوجب تفويت مصلحة ولا إلقاءً في مفسدة. نعم ، في الأمارات النافية للتكليف بل الأُصول النافية له أيضاً التي يكون مرجعها إلى عدم إيجاب الاحتياط ، لابدّ لنا من الالتزام بنحو من مصلحة التسهيل ، وإلاّ لكان للمكلّف أن يصل إلى الواقع بالاحتياط ولو في صورة إمكانه وعدم ترتّب مفسدة شرعية عليه.

ثمّ إنّا لو سلّمنا أنّ بعض الأمارات ربما أفادت العلم القطعي ، إلاّ أنّا لا يمكننا القول بأنّها إذا لم تكن مفيدة للعلم لم تكن حجّة ، لأنّها لو قامت في مورد ولم يحصل لنا العلم بسببها كان ذلك عبارة أُخرى عن انسداد باب العلم في ذلك المورد ، إذ ليس لنا غيرها في ذلك المورد ، فماذا يكون تكليفنا في ذلك المورد غير العمل فيه على طبقها ، وهل يلزمنا الاحتياط ليكون حاصل فقهنا أنّ المكلّف إن حصل له القطع ممّا لديه من الأدلّة فهو ، وإلاّ عمل على الاحتياط ، لا شكّ أنّ هذا ممّا نقطع ويقطع كلّ أحد بخلافه.

قوله : فإنّ المراد من انفتاح باب العلم هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسؤال عن شخص الإمام عليه‌السلام لا فعلية الوصول ، فإنّ انفتاح باب العلم بهذا المعنى ممّا لا يمكن دعواه ... الخ (١).

قد عرفت ممّا قدّمناه (٢) الوجه في عدم إمكان هذه الدعوى ، فإنّه إن كان المراد بفعلية الوصول هو حصول العلم الفعلي بالأحكام الواقعية مع فرض الاصابة ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٠.

(٢) في الحاشية السابقة.

٢٥٦

فهذا لا يحصل إلاّللمعصومين ( صلوات الله عليهم أجمعين ) وإن كان المراد بذلك هو فعلية العلم بالأحكام وإن كان في بعضه الخطأ ، فهذا لم يحصل ولن يحصل لأحد منّا فضلاً عمّن كان قبلنا (١) من أصحابهم ( صلوات الله عليهم ) إذ ليس لهم إلاّالسؤال منهم ( صلوات الله عليهم ) وهذا لا يتيسّر بل يتعذّر في جميع الأحكام ، وإن حصل في بعضها بالسماع من المعصوم عليه‌السلام إن فرض أنّه لا يحتاج إلى إعمال قواعد الظهور.

ومنه تعرف وجه الضعف في دعوى إنسداد باب العلم بالنسبة إلى هذا الشخص ، بدعوى أنّ المراد من العلم هو العلم المصادف لا الأعمّ منه ومن الجهل المركّب ، ووجه الضعف في ذلك هو ما عرفت من أنّ الانفتاح بمعنى الوصول الفعلي لا يمكن أن يتحقّق لأحد غيرهم ( صلوات الله عليهم ).

وأمّا ما أُفيد بقوله : إنّ المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول (٢) ، فهذا أيضاً لا يتحقّق لأحد غيرهم عليهم‌السلام بالنسبة إلى جميع الأحكام. نعم غاية ما يمكن أن يدّعى هو انفتاح باب العلم وإن لم يكن كلّه مصيباً ، لكن قد عرفت أنّ هذا لم يتحقّق ولا يتحقّق في حقّ المعاصرين لهم عليهم‌السلام فضلاً عن تحقّقه بالنسبة إلينا.

ولو سلّمنا فعلية الوصول إلى الواقع أو فعلية القطع بالأحكام الواقعية بالنسبة إلى شخص ، كان ذلك الشخص خارجاً عن موارد حجّية الأمارة ، فيكون خارجاً عمّا هو محلّ الكلام.

__________________

(١) [ الظاهر أنّ المراد عدم الحصول لمن كان قبلنا فضلاً عنّا ، كما سيأتي بعد أسطر ، فلاحظ ].

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٩١.

٢٥٧

قوله : كالأسباب المفيدة للعلم ... الخ (١).

قد عرفت ما فيه ، وأين هذه الأسباب وما هي ، على وجه لو سلكناها لأفادتنا القطع بالواقع حتّى مع فرض كثرة الخطأ فيه. ومن جميع ذلك تعرف أنّه لو سلّمنا حصول ذلك لشخص لم يكن ذلك متمكّناً من الوصول إلى الواقع ، وأقصى ما فيه أنّه متمكّن من تحصيل القطع بالواقع ، وأين هو من كونه متمكّناً من الوصول إلى الواقع بعد فرض كونه لا يعرف الطريق الموصل إلى الواقع بعينه ، فلا يصحّ قوله : فقد يكون الشخص متمكّناً ، الخ. وإن أُريد أنّه عارف بذلك الطريق بعينه ، فهو خارج عن محلّ الكلام.

قوله : فقد يكون الشخص متمكّناً من الوصول إلى الواقع ولكن لم يصل إليه ، لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركّب ... الخ (٢).

لابدّ أن يفرض ذلك فيما إذا لم تكن تلك الطرق الموصلة إلى نفس الواقع معلومة لدى المكلّف بأعيانها ، وإلاّ كان عليه الالتزام بسلوك تلك الطرق دون غيرها ممّا يحتمل خطأه ، سواء كان ذلك الغير لو حصّله مفيداً للعلم على تقدير تحصيله ، أو كان مفيداً للظنّ. أمّا إذا لم يكن عارفاً بتلك [ الطرق ] الموصلة لنفس الواقع بأعيانها ، ولم تكن حالة المكلّف إلاّ أنّه عالم بأنّ هناك طرقاً لو حصلها لحصل له القطع بالواقع ، وهناك طرق أُخرى عقلائية لو حصلها لم تفده إلاّالظنّ بالواقع ، مع أنّه في حالته الحاضرة ـ أعني قبل تحصيل شيء من الطرق ـ يعلم أو يحتمل أنّ بعض تلك الطرق سواء كانت مفيدة للقطع أو لم تكن مفيدة إلاّالظنّ ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩١.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٩٠.

٢٥٨

لا تكون مصيبة للواقع ، فلا مانع للحكيم من أن يأمره بسلوك أي طريق من تلك الطرق ولو كان ظنّياً ، لعلم ذلك الحكيم بأنّ ما تخطئه الطرق الظنّية ليس بأكثر ممّا تخطئه الطرق القطعية ، وليس ذلك الشخص ممّن انفتح له باب العلم الحقيقي بالواقع ، وإنّما هو ممّن انفتح له باب القطع بالواقع ، وشتّان بين الانفتاحين ، بل لا يلزم في مثل ذلك أن تكون تلك الطرق الظنّية من الطرق العقلائية التي لا يكون الأمر بالعمل عليها إلاّإمضاء ، بل يجوز أن تكون تلك الطرق ممّا لا يعرفه العقلاء وقد جعلها الشارع حجّة ، لعلمه بأنّ مورد إصابتها أكثر من غيرها ، أو أنّ مورد الخطأ فيها مساوٍ له في غيرها.

قوله : وثالثاً : سلّمنا أنّ مجرّد الأقربية تقتضي الردع ... الخ (١).

الظاهر أنّ مراده بالأقربية إلى الخطأ هو زيادة خطئها على خطأ الطرق العلمية ، كما صرّح به في التحريرات المطبوعة في صيدا بقوله : ثمّ إنّه إذا سلّمنا أقربية الطرق العلمية عن غيرها وقلّة خطئها بالاضافة إليها ـ إلى قوله ـ نسبة العشرة إلى التسعة إلى آخره (٢).

لكن لا يخفى أنّا إذا التزمنا بالمصلحة التسهيلية وأنّها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، لا يفرّق حينئذ بين كون موارد المخالفة قليلة وكونها كثيرة. نعم لابدّ أن تكون مصلحة التسهيل قابلة لأن يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، وهذا شيء لا يعرفه إلاّالشارع ، فلو أمرنا الشارع بسلوك الأمارات مع فرض علمنا بأنّ الخطأ فيها أكثر من الطرق العلمية ، لكان يلزمنا الإذعان بذلك ، لإمكان كون مصلحة التسهيل مصلحة مهمّة على وجه يتدارك بها ما يفوتنا من

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٩٢.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١١٣ ـ ١١٤.

٢٥٩

مصلحة الواقع ولو كانت كثيرة ، إلاّ أنّها كثيرة في حدّ نفسها مع كون مصلحة التسهيل أكثر منها بكثير ، بل مقتضى ذلك هو جواز ذلك حتّى لو كانت الأسباب المفيدة للعلم بالواقع مصيبة كلّها على وجه لا يتطرّق إليها الخطأ ، لأنّا لو فتحنا مصلحة التسهيل وأنّها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لم يفرّق في جواز الأمر بسلوك الأمارات بين كون الطرق العلمية مشتملة على الخطأ وكونها غير مشتملة عليه ، كان خطؤها أكثر من خطأ الأمارات أو كان أقلّ ، كانت الأقلّية بدرجة العشر أو كانت أكثر من ذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ مراد شيخنا قدس‌سره بالأقربية سؤالاً وجواباً ليست هي كثرة الخطأ واقعاً ، بل المراد هو الأقربية إلى الخطأ بنظر العقلاء ، وإن لم تكن كذلك في الواقع وفي نظر الشارع ، ولعلّ ما تضمّنه التحرير المطبوع في صيدا قبل قوله : ثمّ إذا سلّمنا الخ ، لا يخلو عن إشارة إلى ذلك ، كما أنّ صدر هذا التحرير الموجود في هذا الكتاب لا يخلو عن الاشارة إلى ذلك ، وأصرح من ذلك في بيان هذه الجهة ما نقلته عنه قدس‌سره وهذا نصّ ما كنت حرّرته عنه قدس‌سره :

إنّ كون الطرق العلمية كثيرة الخطأ لا يستلزم انسداد باب العلم بالأحكام الواقعية ، بل يكون باب العلم منفتحاً ومع ذلك تكون موارد الخطأ في الطرق العلمية كثيرة الخطأ ، ( وحينئذ فلو كان هناك أمارة قد اطّلع الشارع على أنّ موارد الخطأ فيها أقل أو مساوٍ للطرق العلمية فلا مانع من أمره بسلوكها ) (١).

فإن قلت : إنّ كون الطرق الظنّية أقل خطأً من الطرق العلمية أو مساوية لها فيه بنظر الشارع ، لا يكون إلاّمن باب علم الغيب ، وهو غير نافع في مقام التشريع حيث إنّ المكلّف إذا فرض أنّه يرى كثرة الخطأ في هذه الأمارة ، وأنّ الخطأ إليها

__________________

(١) هذه الجملة كانت في الدرس السابق ألحقناها هنا تتميماً [ منه قدس‌سره ].

٢٦٠