أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

الخاصّ كما حقّق ذلك في مسألة اللباس المشكوك فراجع (١). ولأجل ذلك قالوا في مسألة تعاقب الحالتين الحدث والوضوء إنّه بعد تعارض الاستصحابين يكون المرجع أصالة الاشتغال في لزوم إحراز الشرط بالنسبة إلى الصلاة.

وأمّا ثالثاً : فلأنّه بناءً على تسليم عدم كفاية النهي الغيري أو الوجوب الشرطي في تنجيز العلم الاجمالي ، لا يتّجه ما حكموا به في الفرع الثالث ، وهو المنع من اقتداء الأجنبي بأحدهما ، فتأمّل.

وقد وجّه بعض أعاظم العصر (٢) الحكم بعدم وجوب الغسل مع المنع من اقتداء أحدهما أو أحدهم بالآخر ، بناءً على كون الشرط هو الطهارة الواقعية من الإمام أو إحراز المأموم ذلك. أمّا في صورة كونهما اثنين ، فالوجه فيه هو انحلال العلم الاجمالي المردّد بين وجوب الغسل على المأموم أو المنع من اقتدائه بذلك الإمام ، إلى العلم التفصيلي ببطلان صلاته خلف ذلك الإمام وأنّه ممنوع عنها إمّا لجنابته أو لجنابة إمامه ، ويبقى احتمال وجوب الغسل عليه مشكوكاً فينفى بالبراءة.

وأمّا في صورة كونهم ثلاثة مثلاً ، فلأنّ المنع من صلاة أحدهم مقتدياً بالآخر وإن لم يكن معلوماً بالتفصيل ، إلاّ أنّه محتمل على كلّ من تقديري جنابة المأموم وعدمه ، فإنّه على تقدير عدم جنابة المأموم يكون اقتداؤه بذلك الإمام محتمل المنع ، لاحتمال كونه هو المجنب دون الثالث ، وعلى تقدير جنابة المأموم

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، وسيأتي تعليق المصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٢٩ وما بعدها.

(٢) هو الأُستاذ المرحوم آقا ضياء الدين العراقي قدس‌سره عندما جرت المذاكرة معه في هذه المسألة في بعض المجالس [ منه قدس‌سره ].

٢٢١

أيضاً تكون صلاته المذكورة ممنوعاً منها.

وبعبارة أوضح : أنّ المأموم يحتمل المنع عن صلاته المذكورة سواء كان هو المجنب أو لم يكن هو المجنب ، وكذلك يحتمل المنع من صلاته المذكورة سواء كان إمامه هو المجنب أو لم يكن المجنب هو إمامه ، وحيث كان ذلك الاحتمال منجّزاً لكونه في ضمن العلم الاجمالي كان ذلك موجباً للانحلال ، للزوم الجري على طبقه ، فيبقى احتمال جنابة المأموم ولزوم الغسل عليه مشكوكاً فينفى بالبراءة ، كما هو الشأن في كلّ ما يكون الاحتمال في أحد أطراف العلم الاجمالي منجّزاً بمثل قاعدة الاشتغال ونحوها ، أو بعلم إجمالي سابق أو نحو ذلك.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا في صورة كونهما اثنين ، فلأنّ العلم التفصيلي بالمنع من صلاة المأموم صوري لا واقعية له ، وإنّما حقيقة الأمر هو العلم الاجمالي المردّد بين وجوب الغسل عليه أو المنع من الاقتداء. والحاصل : أنّه لا معنى للقول بأنّ المجنب ممنوع من الصلاة الواجبة عليه ، فإنّ ذلك مناقض لما هو معلوم من وجوبها ووجوب ما تتوقّف عليه من المقدّمات التي منها الغسل ، فلا معنى للقول بأنّ هذا المأموم ممنوع من الصلاة على كلّ حال ، بل هو إمّا أن يجب عليه الغسل أو يحرم عليه الاقتداء بذلك الإمام.

وبعين ذلك يجاب عمّا إذا كانوا ثلاثة ، فإنّ المنع من تلك الصلاة المفروض احتماله على كلّ من تقديري جنابة المأموم وعدمه أيضاً لا واقعية له ، حيث إنّ المنع على تقدير جنابة المأموم ليس إلاّعين الأمر بالغسل ، لا أنّه تكليف آخر مرتبط باقتدائه بذلك الإمام. فعلى تقدير كون المأموم جنباً لا يتوجّه له النهي عن الاقتداء ، بل يتوجّه إليه الأمر بالغسل.

٢٢٢

ولكن الإنصاف أنّ هذا الجواب محتاج إلى التأمّل ، إذ لم يظهر الفرق بين النهي عن الصلاة لكونها فاقدة للشرط الذي هو طهارة المأموم نفسه ، وبين النهي عنها لكونها فاقدة للشرط الآخر الذي هو طهارة الإمام ، فيكون الحاصل أنّه يعلم تفصيلاً بالمنع من تلك الصلاة ، سواء كان ذلك لفقدان شرطها الأوّل أو كان لفقدان شرطها الثاني. وبذلك يتمّ الاحتمال المذكور فيما لو كانوا ثلاثة.

نعم ، يمكن الإشكال عليه بأنّ هذا الاحتمال لو كان منجّزاً من طريق آخر غير العلم الاجمالي لأمكن القول بكونه موجباً لانحلاله ، أمّا إذا لم يكن تنجّزه إلاّ من قبل هذا العلم ، فكيف يعقل كونه موجباً لانحلاله.

ويشهد بذلك : أنّه لا ريب على الظاهر في لزوم الاجتناب عن الاناءات الثلاثة التي علم بوقوع قطرة بول فيها ، مردّدة بين كونها واقعة في واحد غير معيّن منها أو أنّها وقعت منصفة في الكبير والصغير دون المتوسّط ، فإنّ كلاً من الكبير والصغير محتمل النجاسة على كلّ من تقديري التنصيف وعدمه ، فبناءً على ما تقدّم ينبغي أن يقال بلزوم الاجتناب عنهما دون المتوسّط ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو سلّمنا جميع ذلك لم يمكننا القول بأنّه بعد الانحلال يكون المرجع هو أصالة البراءة عن الغسل ، بل المرجع فيه هو أصالة الاشتغال ولزوم إحراز الشرط بالنسبة إلى ما يأتي به من الصلاة ولو منفرداً بعد الحكم ببطلان اقتدائه بصاحبه كما تقدّم تفصيله ، فتأمّل فإنّي نقلت ذلك فعلاً عمّا كنت حرّرته سابقاً عن تلك المذاكرة المجلسية ، ولعلّ مراده غير هذا الذي حرّرته ، أو أنّه لم يكن ذلك منه قدس‌سره إلاّمن باب صِرف المذاكرة المجلسية التي ربما كانت عن غير تأمّل ولا رويّة ، وإن كان الذي ببالي أنّ ذلك لم يكن في مجلس واحد ، بل كان ذلك في مجالس خميسية يفصل بينها الأسبوع التامّ.

٢٢٣

والحاصل : أنّه لا محصّل لكون المرجع في الشكّ في وجوب الغسل هو البراءة ، بل اللازم هو الغسل تحصيلاً للشرط ، اللهمّ إلاّأن يكون مراده هو الرجوع إلى استصحاب عدم الجنابة. كما أنّه لا محصّل للقول بأنّ الصلاة معلومة البطلان تفصيلاً ، وأنّ ذلك موجب لانحلال العلم الاجمالي ، فإنّ ذلك عبارة أُخرى عن كون تلك الصلاة موجبة للمخالفة القطعية الناشئة من جريان استصحاب عدم الجنابة في حقّه وفي حقّ إمامه ، لأنّ تلك الصلاة واجدة لكلتا الجهتين ، فإنّها إمّا مخالفة لقوله اغتسل ، أو مخالفة لقوله لا تقتد بالجنب ، فلا يكون في صلاته الواجدة لهاتين الجهتين إلاّكمن علم بنجاسة هذا الاناء ، أو كون هذا الثوب ممّا لا يؤكل ، فتوضّأ من ذلك الاناء وصلّى بذلك الثوب ، أو كمن علم بأنّه مجنب أو أنّ هذا الثوب ممّا لا يؤكل لحمه فصلّى فيه ، فيقال إنّ علمه الاجمالي ينحلّ إلى العلم التفصيلي ببطلان تلك الصلاة ، والشكّ البدوي في وجوب الغسل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو جعلنا الطرف لوجوب الغسل عدم صحّة استيجار الآخر للعبادة ، لم يتأتّ الانحلال المذكور ، كما أنّه لو جعلنا أحد التكليفين حرمة مسّ المصحف والتكليف الآخر عدم استيجار الطرف للعبادة لكان العلم غير منحلّ.

قوله : فأصالة عدم الجنابة في كلّ من الشخصين تعارض أصالة عدمها في الشخص الآخر ... الخ (١).

وحينئذ لا يمكن الحكم بصحّة جمعتهم ، بل قد يقال بسقوط الجمعة ، لعدم الحصول على صحّة صلاة العدد المعتبر. لكن هل يصلّون ظهراً؟ فيه إشكال فإنّه كيف يصحّ لكلّ واحد منهم الظهر مع فرض أنّه قد سقط في حقّه استصحاب عدم الجنابة. وإن شئت فقل : إنّ تعارض الأُصول الموجب لسقوطها

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٨٢.

٢٢٤

كافٍ لكلّ واحد منهم في وجوب الغسل عليه. وبتقريب آخر : أنّ كلاً منهم يعلم إجمالاً أنّه إمّا يجب عليه الغسل والجمعة مع أصحابه إن كان هو الجنب ، وإن كان الجنب غيره وجب عليه الظهر ، فإذا أجرى كلّ واحد منهم هذا العلم الاجمالي في حقّ نفسه انحلّت المسألة ، حيث إنّ كلّ واحد منهم لو اغتسل تعيّن الجمعة على الجميع.

قوله : وتنصيف الدرهم الآخر بين مالك الدرهم والدرهمين بالسوية كما في رواية السكوني (١) لابدّ من حمله على صورة عدم خلط الدراهم ، وإلاّ كان الحكم فيه التثليث ... الخ (٢).

قد ذكر الشيخ (٣) مسألة درهم الودعي في الشبهة المحصورة ، واحتمل فيها الشركة. ولكن أغلب المحشّين يوردون عليه بأنّ مقتضى الشركة هو التثليث لا التنصيف ، والأخبار والفتاوى دالّة على التنصيف.

وقد تعرّض في الجواهر (٤) لهذه المسألة في كتاب الصلح ، وأشبع الكلام فيها ، ونقل عن الشهيد قدس‌سره في الدروس أنّه نقل عن الفاضل قدس‌سره في أحد قوليه الحمل على الشركة والقسمة بالتثليث ، واستبعده الشهيد ، ونقل في الجواهر أيضاً عدم معقولية الشركة عن بعض الفقهاء. ثمّ إنّ صاحب الجواهر قدس‌سره عقّب كلام الشهيد بما يستفاد منه أنّه يمكن حمل الأخبار والفتاوى القائلة بالتنصيف على ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٥٢ / كتاب الصلح ب ١٢ ح ١.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٨٤.

(٣) فرائد الأُصول ٢ : ٢٠٨.

(٤) جواهر الكلام ٢٦ : ٢٢٥ ـ ٢٢٧.

٢٢٥

إذا لم يكن في البين مزج ، ثمّ تكلّم هنا وفي باب الشركة (١) في حصول الشركة بخلط المثليات كالدراهم والقيميات كالثياب ، هذا.

ولكن قد يقال : إنّ حمل الأخبار والفتاوى القائلة بالتنصيف على صورة عدم المزج حمل على فرض بعيد ، فإنّه مع انفراد درهم أحد المالكين عن درهمي المالك الآخر ، يكون الدرهم التالف معلوم الحال ، وأنّه من أيّ مالك كان. لكن يمكن أن يكون كلّ من الدرهمين موضوعاً في محلّ منفرد ، ويكون الدرهم الآخر منفرداً أيضاً في مكان على حدة ، وقد تلف واحد منها ، مع كون الاثنين لمالك والدرهم الآخر لمالك آخر ، ففي مثل هذه الصورة لا يكون التالف معلوم الحال مع فرض عدم حصول المزج ، وهكذا فيما لو كانت كلّها في مكان واحد ، وكان الودعي قد جعل الدرهم فوق الاثنين مثلاً ثمّ طرأ التلف بالسرقة ونحوها على واحد ، وتردّد بين كونه من الوسط أو الأسفل أو الأعلى ، إلى غير ذلك من الصور التي يتصوّر فيها اشتباه التالف مع فرض عدم المزج.

وقد ظهر لك من جميع ذلك : أنّ ميزان الشركة هو المزج الخارجي بين المالين على وجه لا يتميّز أحدهما عن الآخر ، كما أفاده بقوله : نعم الحكم بالشركة يختصّ بصورة الخلط ، وأمّا في صورة اشتباه المالين وعدم تميّز أحدهما عن الآخر بلا خلط فالحكم فيها هو التصالح أو القرعة الخ (٢) وهذا واضح لا ريب [ فيه ] لكن تبقى في المقام مناقشة في التعبير بقوله في صدر العنوان : أن لا يكون للعلم بالخصوصية دخل في الحكم ، بحيث كان إجمال المتعلّق ممّا يقتضي تبدّل الحكم ـ إلى قوله ـ هو أنّ الملكية لمّا كانت من الأُمور الاعتبارية العرفية كان

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٦ : ٢٢٧ ، ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٨٤.

٢٢٦

إجمال الخصوصية موجباً لبطلانها الخ (١) كلّ هذه العبائر ظاهرة في أنّ مجرّد الجهل بالخصوصية موجب لبطلان الملكية فيها ، لكن ذلك لا يضرّ بعد تصريحه أخيراً بقوله : نعم الحكم بالشركة يختصّ بصورة الخلط الخ ، كما هو صريح عبارته في حاشية العروة من كتاب الشركة ، قال فيها : الظاهر أن يكون الامتزاج الموجب لعدم تميّز المالين اختيارياً كان أو قهرياً ، موجباً لخروج كلّ منهما في نفس الأمر عن صلاحية الاختصاص بمالكه ، وكون الشركة حينئذ واقعية لا ظاهرية مطلقاً ، والظاهر أن يكون خلط الدرهم ونحوه بمثله موجباً للشركة ، ولا يكون من مجرّد الاشتباه مع بقاء كلّ من الممتزجين على الاختصاص النفس الأمري بمالكه (٢).

ولكن لابدّ في إثبات ذلك بنصّ وإجماع ونحوهما ، وإلاّ فليس في البين ما يوجب الاشاعة على القاعدة ، إذ لم يكن هذا الخلط والمزج إلاّموجباً لعدم تميّز المالين خصوصاً في مثل خلط الدرهم بدرهم آخر ، فأيّ فرق بين أن يكون عدم تميّز أحد الدرهمين عن الآخر ناشئاً عن خلط أحدهما بالآخر ، أو أن يكون ناشئاً عن غير ذلك مثل النسيان ونحوه.

قوله : أن لا يكون في البين ما يوجب بطلان اقتضاء العلم الاجمالي وسقوطه عن الأثر من التحالف وحكم الحاكم والاقرار ، المستتبع لتنصيف المال أو فسخ العقد المتنازع فيه ... الخ (٣).

قلت : والأولى في جميع هذه الموارد أنّ الحكم بالتنصيف في مورد قاعدة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٨٣.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) ٥ : ٢٧٣.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٨٤.

٢٢٧

العدل ـ أعني المال المردّد بين شخصين ـ إمّا أن يكون من قبيل الصلح القهري بأن يتولّى الحاكم الشرعي إجراء صيغة الصلح عنهما ولو من دون رضاهما ، أو أنّه يحكم بذلك ، أو أن يكون المحكوم به هو نتيجة الصلح وصيرورة غير المالك مالكاً للنصف شرعاً من باب التعبّد الصرف ، وإن لم يكن في البين منازعة أو خصومة. وعلى أي حال ، يكون كلّ منهما مالكاً للنصف واقعاً ، غايته أنّه لو كان أحدهما عالماً بالخلاف وأنّه كان مبطلاً في دعواه ، قد نقول إنّه يكون خارجاً عن الحكم المذكور ، بمعنى أنّ علمه بذلك يوجب عدم نفوذ الصلح القهري في حقّه أو عدم جريان ما هو نتيجة الصلح القهري في حقّه ، فلا يكون مالكاً للنصف ، بل يكون باقياً على ملك مالكه ، وليس ذلك الاختصاص منافياً لكون الحكم في المسألة حكماً واقعياً ، لإمكان كونه حكماً واقعياً مختصّاً بمن لا يكون عالماً بكونه مبطلاً حين الحكم المزبور.

ولأجل ذلك نقول : إنّه لو علم بذلك بعد أن جرى الحكم في حقّه كما لو أجرى الحاكم صيغة الصلح عنهما ، أو كما لو اقتسما المال عملاً بقاعدة العدل وأخذ كلّ منهما نصفه ، ثمّ بعد ذلك ظهر الخلاف لأحدهما وأنّه كان مخطئاً في دعواه ، فإنّه لا أثر لذلك.

ومن ذلك يظهر لك أنّه لا أثر للانكشاف القطعي بعد ذلك ، ولا لاقرار أحدهما بخلاف ما وقع. ومنه يظهر التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره. نعم لو قام الدليل على ترتّب الأثر على ذلك ، كان اللازم جعل ذلك من قبيل الانفساخ القهري ، فلاحظ وتأمّل.

وبناءً على ذلك لا إشكال بالنسبة إلى الشخص الثالث لو اشترى من كلّ منهما النصف ، لأنّه يكون قد اشتراه من مالكه الواقعي الذي قد ملكه بالصلح

٢٢٨

القهري أو بالتمليك الشرعي الذي هو نتيجة الصلح ، سواء كان الثالث عالماً بالخلاف أو لم يكن عالماً به. نعم لو كان ذلك الثالث عالماً بأنّ أحد الشخصين معيّناً كان حين الحكم عالماً بأنّه مبطل ، وقلنا بأنّ ذلك مخرج له من الحكم ، لم يجز له الأخذ منه ، لأنّه يعلم أنّه ليس بمالك ، ولازم ذلك أنّه لو علم به على الاجمال لم يجز له الأخذ من كلّ منهما.

ومنه يظهر لك الحال في التنصيف في مورد التداعي والتحالف على العين الواحدة التي تداعياها ، فإنّه حكم شرعي واقعي بما هو نتيجة الصلح من التنصيف بينهما.

وبالجملة : أنّ التنصيف لا يمكن القول بكونه حكماً ظاهرياً ، للعلم بكونه على خلاف الواقع ، فلابدّ من الالتزام بكونه حكماً واقعياً بأحد الأنحاء المذكورة. لكن إخراج العالم ببطلان دعوى نفسه يوجب إخراج الطرفين عنه ، إذ لا يعقل التفكيك ، وحينئذ يكون جريان هذا الحكم بالنسبة إلى الغير من قبيل الحكم الظاهري ، فمن علم بأنّ أحدهما ولو إجمالاً كان عالماً بأنّه مبطل في دعواه ، لا يجوز له الأخذ منهما معاً. نعم في صورة إجراء الصلح بينهما على ذلك يكون سالماً عن هذا الإشكال فتأمّل. وكذلك الحال في صورة حكم الحاكم بالتنصيف قطعاً لمادّة الخصومة ، فإنّه حينئذ يكون موجباً للملكية الواقعية حتّى بالنسبة إلى من علم ببطلان دعوى نفسه. بل وكذلك الحال في التداعي المنتهي إلى الحكم بانفساخ العقد ، فإنّه حكم شرعي واقعي بما هو نتيجة التقايل ، أعني رجوع كلّ عوض إلى مالكه قبل العقد.

وأمّا مسألة الاقرار فالظاهر أنّه لا يتأتّى فيها التقريب المتقدّم ، إلاّعلى تقدير كون إقرار صاحب اليد على العين سبباً مملّكاً للعين لمن أقرّ له بها تمليكاً واقعياً.

٢٢٩

والظاهر أنّه لا يمكن الالتزام به ، وحينئذ ينبغي البحث في المقرّ له أوّلاً ، ومنه يعرف الحال في المقرّ له ثانياً.

فنقول بعونه تعالى : لو أقرّ صاحب اليد على العين بأنّها لزيد مثلاً ، فزيد تارةً يكون قاطعاً بالخلاف بأن يكون قاطعاً بأنّها ليست له ، وتارةً يكون شاكّاً في ذلك ، وثالثة يكون قاطعاً بأنّها له. ففي الصورة الأُولى لا يجوز له أخذها وإن وجب على المقرّ دفعها له. والظاهر أنّ الحكم كذلك في الصورة الثانية ، نظراً إلى أصالة الحرمة في الأموال ، إلاّأن نقول : إنّ الاقرار من ذي اليد يكون أمارة على أنّه مالك للعين ، فيجوز له حينئذ أخذها بهذا الاعتبار ، لكن لو سوّغنا له أخذها بهذا الاعتبار ، فلا يمكننا القول بأنّه يسوغ له أن يأخذ بدلها بطريق الشراء مثلاً من المقرّ له ثانياً ، للعلم الاجمالي بخطأ أحد الاقرارين. وأمّا في الصورة الثالثة ، وهي ما لو كان المقرّ له أوّلاً قاطعاً بأنّ العين له ، فلا إشكال في أنّه يجوز له أخذها وإن لم يكن في البين إقرار ، ولا أثر للاقرار في حقّه إلاّمن حيث إنّ الاقرار يكون نافذاً على صاحب اليد الذي هو المقرّ بلزوم رفعه يده عنها وتسليمها له ، لكن لا يجوز له حينئذ أن يأخذها من صاحب اليد ويأخذ بدلها من المقرّ له ثانياً بطريق الشراء مثلاً ، لأنّ مقتضى قطعه بأنّه هو المالك للعين هو عدم استحقاق الثاني لأخذ البدل.

ومن ذلك كلّه يظهر الحال في المقرّ له ثانياً ، فإنّا لو أغضينا النظر عن شبهة شيخ الطائفة قدس‌سره كما حكاه عنه الآشتياني قدس‌سره في حاشيته على الرسائل (١) بأنّ الاقرار الثاني غير نافذ لكونه من قبيل الاقرار في حقّ الغير ، وقلنا بنفوذ الاقرار الثاني أيضاً كالأوّل ، نقول : إنّ المقرّ له ثانياً يتأتّى فيه الصور الثلاث المذكورة ، فلو كان

__________________

(١) بحر الفوائد ١ : ٥٢.

٢٣٠

قاطعاً بالخلاف لم يجز له أخذ البدل ، وكذلك لو كان شاكّاً ، إلاّإذا قلنا بأمارية إقرار ذي اليد ، فيسوغ له حينئذ أخذ البدل ، وكذلك يسوغ له أخذه لو كان قاطعاً بأنّه هو المالك للعين.

لكن الظاهر أنّه يسوغ له مع ذلك أن يشتري العين من المقرّ له أوّلاً ، أمّا في في صورة القطع بأنّه هو المالك ، فلأنّه بحسب قطعه يكون مالكاً للبدل ، لكون صاحب اليد قد فوّتها عليه باقراره الأوّل ، فيملك عليه بدلها ، ومع ذلك يصحّ له أن يأخذها من الأوّل باستيهاب أو شراء ونحوه ، لأنّ هذا تملّك جديد لا ينافي كون صاحب اليد قد فوّتها عليه.

وفي صحّة أخذها من الأوّل قهراً أو سرقة إشكال. ولو سوّغناه لزمه إرجاع البدل إلى صاحب اليد ، لأنّ هذا التملّك ليس تملّكاً جديداً. وفيه تأمّل ، بل يمكن التأمّل في كون الاستيهاب أو الشراء من الأوّل تملّكاً جديداً ، لأنّه بحسب قطعه لم يقع إلاّعلى ملكه ، فتأمّل.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ أخذه البدل بمنزلة معاوضة قهرية بناءً على مسلك الشيخ أسد الله التستري في مطلق باب الضمان ، أو نقول بذلك في خصوص المقام أعني الاقرار الثاني ودفع الغرامة فيه ، وحيث إنّا لا نقول بشيء من ذلك ، فلا يكون أخذ العين من المقرّ له أوّلاً بصورة الاستيهاب أو الشراء إلاّاستنقاذاً لعين ماله ، فيكون حاله من هذه الجهة حال أخذها بصورة السرقة في أنّه يلزمه إعادة البدل إلى المقرّ ، وحينئذ يكون الحاصل أنّ المقرّ له ثانياً في صورة كونه عالماً بكونه مالكاً للعين لا يمكنه أن يجمع بين العين وبدلها حتّى في صورة إرثه للمقرّ له أوّلاً.

ومنه يظهر الحال في صورة كونه شاكّاً وتسويغ أخذه البدل بناءً على أمارية

٢٣١

الاقرار ، فإنّ الظاهر أنّه لا يسوغ له مع أخذه البدل أن يشتريها أو يستوهبها من المقرّ له أوّلاً ، لأنّه على تقدير كونه هو المالك للعين كما هو مقتضى أمارية الاقرار لا يسوغ له ذلك على ما عرفت في صورة القطع. نعم على تقدير كون المالك هو الأوّل لا يسوغ له أن يأخذ البدل من صاحب اليد ، لكن أمارية الاقرار حاكمة بإلغاء هذا الاحتمال. فقد تلخّص أنّه لا يمكن اجتماع الطرفين عند واحد من المقرّ لهما.

وعلى أي حال ، ففي أيّ موضع حكمنا للمقرّ له أوّلاً أو للمقرّ له ثانياً أخذ العين أو أخذ البدل وقد أخذه ، ثمّ بعد ذلك ظهر له الخلاف ، وجب إرجاع ما أخذه ، إلاّعلى تقدير كون الاقرار سبباً مملّكاً تمليكاً واقعياً ، والظاهر أنّه لا وجه له.

ومن ذلك يظهر لك الحال في الشخص الثالث ، فإنّه لا يجوز له الأخذ ممّن علم بأنّ الاقرار له على خلاف الواقع ، كما أنّه لو لم يكن عالماً بشيء من ذلك فلا يجوز له الأخذ من كلّ منهما ، لأنّه مخالفة قطعية للعلم الاجمالي بخطأ أحد الاقرارين. وهل يجوز له الأخذ من أحدهما فقط؟ الظاهر أنّه لا يجوز له ذلك ، للعلم الاجمالي بعدم مالكية أحدهما الموجب للزوم الاجتناب عنهما. لكن شيخنا قدس‌سره قد أصلح ذلك ، بدعوى كون التملّك من المقرّ له تملّكاً واقعياً ، وإن كانت ملكية المقرّ له ملكية ظاهرية ، إلاّفي صورة العلم التفصيلي ، وسيأتي إن شاء الله وجه التأمّل فيه. وينبغي مراجعة كلمات الفقهاء في جميع ذلك ، لأنّي حرّرت ذلك على حسب ذوقي الفاتر وفهمي القاصر من دون مراجعة كلماتهم الشريفة.

وعلى أي حال ، فإنّ الالتزام بكون تلك الأحكام أحكاماً واقعية لا يخلو من

٢٣٢

بُعد ، وأبعد منه تقييدها بعدم العلم بالخلاف. إلاّ أنّه بعد ثبوت التنصيف في مثل مسألة درهم الودعي وفي كلّ ما وقع التداعي عليه بعد التحالف ، لا مندوحة لنا إلاّ الالتزام بما تقدّم من كون المقام مورداً للصلح القهري ، أو كونه من قبيل الحكم من الحاكم بأن يكون غير المالك مالكاً للنصف ، أو أنّه من قبيل الحكم التعبّدي من الشارع بانتقال النصف إلى من هو غير مالك ، كلّ ذلك [ لابدّ ] من الالتزام بشيء منه بعد فرض محالية كون التنصيف حكماً ظاهرياً ، وبعد تمامية أحد هذه الوجوه لا داعي إلى خروج من كان عالماً ببطلان دعواه.

أمّا مسألة الاقرار فحيث إنّ احتمال كون الحكم ظاهرياً لا مانع فيه ، فلا موجب للالتزام بكونه حكماً واقعياً ، وأقصاه أنّه لا يجوز للثالث الجمع بين العوض والمعوّض ، ولم يقم دليل قطعي على جواز ذلك لكي نضطرّ إلى تصحيحه بالتشبّث بكون الحكم فيه واقعياً.

ومنه يظهر لك التأمّل فيما التزم به شيخنا قدس‌سره في مسألة التنصيف في صورة تأخّر الاقرار بالخلاف أو الانكشاف القطعي بقوله : فإنّ الاقرار أو الانكشاف القطعي يكون بمنزلة فسخ العقد الخ (١) ، فإنّ ذلك كلّه وإن كان ممكناً ، إلاّ أنّه لا يخفى ما فيه من البعد ، وهو كون الحكم الواحد واقعياً بالقياس إلى الثالث وظاهرياً بالقياس إلى المحكوم له كما التزم به قدس‌سره بقوله : نعم بالنسبة إلى المحكوم له يكون حكم الحاكم بمنزلة الحكم الظاهري ، له التصرّف في النصف المحكوم له ما لم يعلم بالخلاف وأنّ دعواه كانت بلا حقّ (٢) ، وقد التزم بمثل ذلك في مسألة تعدّد الاقرار فجعله ظاهرياً في حقّ المقرّ له وواقعياً في حقّ غيره ، فقال : وأمّا في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٨٥.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٨٥.

٢٣٣

حقّ غير المقرّ له فيجري الاقرار مجرى السبب الواقعي (١) ، لكنّه قيّده بصورة عدم العلم ببطلان أحد الاقرارين تفصيلاً.

وفيه تأمّل ، فإنّ كون الحكم الظاهري في حقّ شخص موضوعاً لحكم واقعي في حقّ آخر وإن كان غير عزيز ، كما تقدّم في طهارة الإمام بالنسبة إلى صحّة صلاة المأموم ، بحيث التزمنا بأنّ التملّك ممّن هو مالك ظاهراً يكون تملّكاً واقعياً ، وأغضينا النظر عمّا فيه من البعد ، إلاّ أنّ ذلك الحكم الواقعي لا يكون مقيّداً حينئذ بعدم العلم بالخلاف ، لأنّ هذا القيد عبارة أُخرى عن كون الحكم ظاهرياً ، ومقتضى كون الحكم ظاهرياً بالنسبة إلى الثالث أنّه لا يجوز له الجمع بين العين المقرّ بها للأوّل ، مع القيمة التي أخذها الثاني. لكن شيخنا دفع هذا الإشكال بدعوى كون القيد هو عدم العلم التفصيلي ، على وجه يكون الآخذ من كلّ من المقرّ لهما مالكاً ملكاً واقعياً إلاّإذا علم تفصيلاً ببطلان الإقرار في حقّ أحدهما المعيّن. ولا يخفى بعده ، إلاّ أنّه بعد قيام الدليل على صحّة الأخذ منهما لابدّ من الالتزام بذلك. ولا يخفى بعده ، فإنّه يلزمه أنّه في صورة تأخّر العلم التفصيلي عن الأخذ تكون المسألة من قبيل تبدّل الموضوع ، هذا.

ولا يخفى أنّ الذي يظهر من هذا التحرير هو كون الاقرار بالنسبة إلى المقرّ له طريقاً صرفاً ، وأنّ له نحواً من السببية بالنسبة إلى غيره الآخذ منه ، فيكون تملّك الآخذ من المقرّ له تملّكاً واقعياً ، وإن كان تملّك المأخوذ منه تملّكاً ظاهرياً.

والذي يظهر ممّا حرّرته عنه قدس‌سره وممّا حرّره عنه في التقريرات المطبوعة في صيدا (٢) أنّ للاقرار حكم السببية بالنسبة إلى المقرّ له.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٨٥.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

٢٣٤

وعلى كلّ حال ، يتوجّه عليه قدس‌سره الإشكال فيما لو أقرّ لزيد بعين تحت يده ، ثمّ أقرّ بعين أُخرى لشخص آخر وعلمنا بكذبه في أحد الاقرارين ، فإنّ لازم كلّ من هذين الوجهين هو أنّه يجوز لثالث الأخذ منهما ، ويتملّك كلاً من العينين تملّكاً واقعياً مع علمه بكذب أحد الاقرارين ، ولا أظنّ أنّه قدس‌سره يلتزم بذلك. وهذه الإشكالات إنّما جاءت من دعوى أنّه يمكن للثالث الجمع بين العين والقيمة ، وهذا الحكم لم أعثر عليه في كلمات صاحب الجواهر ، ولعلّه من الشيخ قدس‌سره (١) من قبيل الأخذ باللازم ، وحينئذ يمكن المنع من هذا اللازم ، فتأمّل.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال أعني إشكال الجمع بين العين والقيمة عند الثالث من حيث منافاته للعلم الاجمالي بأنّ أحدهما غير مالك ، لا يتأتّى في أصل الحكم على المقرّ بدفع العين للمقرّ له أوّلاً. ودفع بدلها للمقرّ له ثانياً ، بأن يقال إنّا نعلم إجمالاً بأنّ أحد الحكمين غير مطابق للواقع ، لأنّ العين إن كانت ملكاً للأوّل فلا وجه لدفع القيمة للثاني ، وإن كانت ملكاً للثاني فلا وجه لدفعها للأوّل ، وبيان عدم تأتّي الإشكال المزبور فيه ، هو أنّ ذلك الحكم من جهة الحكم الظاهري المسبّب عن إقراره ، ولا مانع من الجمع بين حكمين ظاهريين يعلم بكون أحدهما خلاف الواقع ، نظير ما لو علم باشتغال ذمّته لأحد الشخصين بدرهم ، فإنّ الحكم عليه بلزوم دفع درهمين يعلم إجمالاً بأنّ أحدهما خلاف الواقع.

تكميل : قد أشرنا (٢) إلى الشبهة التي نقلها الآشتياني قدس‌سره عن الشيخ قدس‌سره ، فالأولى نقل نصّ عبارته قال : وأمّا بناءً على مذهب الشيخ قدس‌سره من لغوية الاقرار ثانياً ، من حيث إنّ مقتضاه تملّك نفس المقرّ به للمقرّ له ثانياً ، وإعماله بالنسبة إليه

__________________

(١) فرائد الأُصول ١ : ٨١.

(٢) في الصفحة : ٢٣٠.

٢٣٥

غير ممكن من حيث تعيّنه للاقرار الأوّل ، والانتقال بالمثل أو القيمة فرع اعتبار الاقرار الثاني وهو غير ممكن ، فلا دخل له بالفرض أصلاً كما لا يخفى (١).

قلت : لم أجد هذا القول محكياً في الجواهر عن الشيخ الطوسي قدس‌سره ، وليس مراده به الشيخ المرتضى قدس‌سره ، لأنّه يعبّر عنه بالأُستاذ ( دام ظلّه ) لا بالشيخ رحمه‌الله. نعم ذكر في المسالك (٢) هذه الشبهة احتمالاً ، ونقلها في الجواهر (٣) عن أبي حنيفة. بل قال في المختلف : إذا قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو ، قال الشيخ : يحكم بها للأوّل ويغرمها للثاني ، لأنّه حال بينه وبينها باقراره الأوّل ، ثمّ نقل مذهب ابن الجنيد من التفصيل بين كون المقرّ حياً وكونه ميتاً ، ثمّ قال : والمعتمد الأوّل ( وهو قول الشيخ ) لنا أنّه رجوع عن إقراره فلا يصحّ ، ولأنّه إقرار في حقّ الغير ، إذ قد ثبت لزيد بالاقرار الأوّل ، فلا ينفذ عليه (٤).

ومراده بعدم صحّة الاقرار الثاني ، عدم ترتيب الأثر عليه في أخذ العين للثاني ، وكذا مراده بقوله : لأنّه إقرار في حقّ الغير الخ ، فإنّ قوله : لا ينفذ عليه ، أنّ الاقرار الثاني لا ينفذ على المقرّ له أوّلاً بأخذ العين منه ، وإن نفذ في حقّ المقرّ بأخذ البدل منه.

ومن ذلك يتّضح الجواب عن أصل الشبهة كما أفاده في الجواهر (٥) وحاصل الكلام : أنّ كون الاقرار الثاني إقراراً في حقّ الغير لا ينفي إلاّعدم سلطنة

__________________

(١) بحر الفوائد ١ : ٥٢.

(٢) مسالك الافهام ١١ : ١١٠.

(٣) جواهر الكلام ٣٥ : ١٣١.

(٤) مختلف الشيعة ٥ : ٥٤١ / مسألة ٢٥٢ ، المبسوط ٣ : ١٧.

(٥) جواهر الكلام ٣٥ : ١٣١.

٢٣٦

الثاني على أخذ العين من الأوّل ، لكن ذلك لا ينافي نفوذه على نفس المقرّ ولو بالزامه بدفع بدل العين له. وقد حكى في الجواهر الإجماع على ذلك.

ثمّ إنّ ظاهر عبارة الشرائع (١) وإن كان هو الاقرار المتّصل بالاقرار الأوّل ، إلاّ أنّ محلّ النزاع هو الأعمّ ، كما ربما يظهر ذلك من الجواهر ، فإنّه قدس‌سره يقول في أثناء الكلام : واتّصال الكلام لو أثّر لاقتضى الاختصاص بالثاني الذي هو مقتضى رجوعه بل واستقرّ عليه الخ (٢) ، فإنّ هذه الجملة ظاهرة في أنّه لا خصوصية لاتّصال الكلام ، فراجع وتأمّل.

قوله : وينبغي ختم الكلام في مباحث العلم الاجمالي بالتنبيه على أمر ، وهو أنّه لو تردّد المعلوم بالاجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر وبين ما يكون بوجوده العلمي ، كما لو تردّد حال الثوب بين الغصب والنجاسة ... الخ (٣).

قد يقال : إنّ نجاسة الثوب كغصبيته إنّما تؤثّر بوجودها العلمي ، لكن نظره قدس‌سره إنّما هو فيما لو صلّى ناسياً ذلك المعلوم بالإجمال ، ثمّ بعد الفراغ علم بأنّ الثوب كان نجساً ، فإنّه على تقدير كون النجاسة معلومة بالتفصيل سابقاً ثمّ طرأ النسيان تكون الصلاة باطلة ، وبهذا المقدار يكون أثر النجاسة تابعاً لوجودها الواقعي ، وكلامه قدس‌سره في هذا الفرع إنّما هو من هذه الناحية ، أعني ناحية نسيان المعلوم الاجمالي ثمّ بعد الفراغ يتبيّن له نجاسة الثوب ، وإلاّ كان الأنسب هو التمثيل لذلك بالماء المردّد بين النجاسة والغصبية ، فإنّ النجاسة بالنسبة إلى

__________________

(١) شرائع الإسلام ٣ : ١٤١.

(٢) جواهر الكلام ٣٥ : ١٣١.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٨٦.

٢٣٧

الوضوء تؤثّر بوجودها الواقعي ، بخلاف الغصبية.

وكيف كان ، فالكلام في كلّ من هذين الفرعين تارةً يكون بالنظر إلى الإقدام على الصلاة في ذلك الثوب أو الوضوء بذلك الماء ، مع فرض وجود العلم الاجمالي ، وأُخرى يكون بعد الفراغ بمعنى كون هذا العلم الاجمالي طارئاً بعد الفراغ.

أمّا الكلام في الجهة الأُولى : فقد حقّق في محلّه أنّه لا يجوز الإقدام ، لمعارضة أصالة الطهارة بأصالة الاباحة ، وقد شرحنا ذلك مفصّلاً في محلّه عند الكلام على فتوى المرحوم الشيخ محمّد طه نجف قدس‌سره في جواز الوضوء بمثل ذلك الماء ، فراجع ما حرّرناه على التنبيه الأوّل من تنبيهات الاشتغال من هذا الكتاب (١).

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : أعني ما لو حصل العلم بعد الفراغ ، ففي مسألة ثوب الصلاة لا ينبغي الإشكال في الصحّة حتّى لو علم تفصيلاً بنجاسة هذا الثوب وغصبية الآخر مع كونه قد صلّى بهما معاً ، وكذلك الحال في مسألة الوضوء ، إذ لا أثر للعلم بالغصبية ولو تفصيلاً بعد الفراغ من الوضوء ، أمّا احتمال كون الماء نجساً فهو في هذا الحال ـ أعني ما بعد الفراغ من الوضوء ـ مدفوع بقاعدة الطهارة ، ولا تعارضها قاعدة الحل ، لعدم بقاء موضوعها بالنسبة إلى نفس الوضوء ، إلاّأن يكون لنفس ذلك الماء الذي صرفه على الوضوء قيمة تكون غرامة لو كان مغصوباً ، أو يكون لذلك الماء بقية موجودة ، فإنّه على الأوّل يحصل له العلم الاجمالي إمّا ببطلان وضوئه لكون الماء نجساً ، أو لزوم دفع الغرامة

__________________

(١) في الحاشية على فوائد الأُصول ٤ : ٤٩ الآتية في المجلّد السابع من هذا الكتاب ، الصفحة : ٥٢٥ وما بعدها.

٢٣٨

لمالك الماء لو كان مغصوباً ، وفي الثاني يكون الطرف لبطلان الوضوء وجوب الاجتناب عن بقية الماء ، لاحتمال كونه مغصوباً ، من دون فرق في ذلك كلّه بين عدم حدوث العلم الاجمالي إلاّبعد الإقدام والفراغ من العمل ، أو كونه حادثاً قبل لكنّه غفل وأقدم على العمل ثمّ تذكّر ذلك بعد الفراغ.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّه في صورة تردّد الماء بين النجاسة والغصبية لو غفل وتوضّأ به ثمّ بعد الفراغ تذكّر ، فإن علمه مغصوباً فلا إشكال في الصحّة ، وإن علمه نجساً فلا إشكال في البطلان ، وإن لم يكن إلاّمجرّد عود العلم الاجمالي السابق ، فإن كان علم إجمالي آخر ، كما لو كان يلزمه الغرامة لو كان مغصوباً أو كان للماء بقية ، لزمه إعادة الوضوء ، ولو لم يكن في البين إلاّذلك العلم الاجمالي السابق فالظاهر هو الحكم بالصحّة ، لا لقاعدة الفراغ لعدم جريانها في مثله ممّا لا يجري فيه حديث الأذكرية ، بل لقاعدة الطهارة غير المعارضة فعلاً بقاعدة الحل لذهاب موضوعها.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ قاعدة الطهارة قد سقطت قبل النسيان والإقدام ، فلا وجه لإعادتها ، ويكون ذلك نظير إعادة إجرائها بعد تلف الطرف الآخر.

ويمكن الجواب عنه : بأنّ الساقط منها بالمعارضة السابقة هو جواز الاقدام على الوضوء ، وأثرها الذي نرتّبه عليها فعلاً بعد النسيان والإقدام والفراغ من الوضوء هو صحّة ذلك الوضوء. اللهمّ إلاّأن يقال : إنّه ليس لقاعدة الطهارة في الماء إلاّناحية الوجوب الشرطي الذي يكون عبارة عن المنع من الإقدام قبل العمل ، ولزوم الاعادة بعده ، وإذا سقطت بلحاظ ذلك وهو الوجوب الشرطي فقد سقطت بتاتاً ، إلاّأن يكون النسيان قد أعدم ذلك التعارض وكأنّه بالتذكّر قد حدث موضوع جديد ، وعلى كلّ حال يكون الاحتياط بالاعادة قويّاً ، فلا ينبغي تركه.

٢٣٩

لكن ذلك إنّما هو في صورة الغفلة أو النسيان بعد تحقّق العلم الاجمالي ، أمّا لو كان ذلك العلم الاجمالي حاصلاً بعد الفراغ ، بحيث إنّه أقدم على الوضوء معتقداً طهارته وإباحته ثمّ بعد الفراغ حصل له العلم الاجمالي المردّد بين النجاسة والغصبية ، فالظاهر أنّه إذا لم يكن في البين ضمان أو بقية من ذلك الماء ، لم يكن [ بأس ] في إجراء قاعدة الطهارة فيه القاضية بصحّة وضوئه. نعم يبقى الكلام في مسألة الثوب والصلاة ، وقد تعرّضنا لهذه المسألة فيما يتعلّق بها من مباحث العروة الوثقى.

والكلام في هذه المسألة في صورتين : الأُولى أن يحصل له بعد الفراغ مجرّد تذكّر ما علمه سابقاً من العيب المردّد بين النجاسة والغصبية. وأُخرى يحصل له ذلك التذكّر مع تبيّن كون الثوب نجساً.

وقبل الكلام في هاتين الصورتين ، ينبغي التكلّم في فرع لم أعثر على تحرير له في كلماتهم ، وهو ما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين ثمّ نسي وصلّى في أحدهما ، وبعد الفراغ تذكّر إمّا في الجملة أو مع تبيّن أنّ ما صلّى فيه كان هو النجس ، فنقول : إنّ الحكم بوجوب الاعادة على من علم بالنجاسة ثمّ نسي وصلّى ، هل يشمل صورة العلم الاجمالي أو لا؟ لا يبعد القول باختصاص ذلك بصورة كون العلم السابق تفصيلياً ، وحينئذ يسقط الكلام فيما نحن فيه في كلّ من الصورتين ، أمّا بناءً على كون العلم السابق شاملاً للعلم الاجمالي ولو من جهة دعوى كون العلم السابق معتبراً من باب كونه منجّزاً لأثر النجاسة ، فيقوم مقامه كلّ ما ينجّز تلك النجاسة ، فالظاهر هو الاعادة في الصورة الثانية من المثال الذي ذكرناه دون الصورة الأُولى ، إذ لم يتحقّق فيها أنّه صلّى في النجس كي يكون مشمولاً لمن صلّى في النجاسة بعد المسبوقية بما يكون موجباً لتنجّزها.

٢٤٠