أصول الفقه - ج ٦

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٦

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-71-3
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٣٦

قوله : فالإنصاف أنّ مدّعي القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي في الشبهات الموضوعية والحكمية مع التمكّن من إزالة الشبهة ، لا يكون مجازفاً في دعواه. مع أنّه لو سلّم الشكّ في ذلك فقد عرفت أنّ الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة ، لأنّ مرجع الشكّ في ذلك إلى الشكّ في التخيير بين الامتثال التفصيلي والاجمالي ، أو تعيّن الامتثال التفصيلي ... الخ (١).

يمكن أن يقال : إنّ هذه الدعوى لو سلّمت لم تكن وافية باتمام المطلوب إلاّ بضمّ دعوى أُخرى إليها ، وهي دعوى كون الأمر الشرعي الثانوي الذي عبّرنا عنه بمتمّم الجعل متعلّقاً بنفس ما حكم العقل بحسنه ، وقد عرفت (٢) ما في الدعوى الثانية.

ومنه يظهر لك أنّا لو سلّمنا الشكّ من العقل لم يكن ذلك مؤثّراً في ناحية ذلك الحكم الشرعي ، بل قد عرفت أنّ العقل لو قطع بالتساوي بين الاطاعتين لم يكن ذلك نافعاً في ناحية ذلك الحكم الشرعي ، الذي كان ناشئاً عن ملاك آخر غير ملاك الاستحسان العقلي.

نعم ، بعد ما عرفت من دوران الأمر في متعلّق ذلك الأمر الثانوي بين التخيير والتعيين الشرعيين ، تدخل المسألة في ذلك الوادي ، والمختار فيه هو الاشتغال لا البراءة.

ومن ذلك يظهر أنّ القول بالاشتغال وعدم الرجوع فيه إلى البراءة فيما نحن

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٧٣.

(٢) في الصفحة : ١٨٤ ـ ١٨٦.

٢٠١

فيه لا يحتاج إلى ما تقدّم (١) فيما نقلناه عنه قدس‌سره في الدورة الأخيرة من الاستناد في منع الرجوع إلى البراءة إلى كون الشكّ في المحقّق ، أو إلى أنّ أصالة البراءة في المقام من الأُصول المثبتة ، أو إلى أنّها لا تجري من جهة كون الشكّ في الاطاعة العقلية كما تضمّنه التحرير المطبوع في صيدا بقوله ص ٤٥ : ولا مجال للتمسّك بحديث الرفع في رفع هذا الشكّ ، لأنّ مورد جريانه هو ما إذا كان المشكوك من الأُمور التي وضعها ورفعها بيد الشارع إمضاءً أو تأسيساً ، وأمّا الأُمور المشكوك اعتبارها في الطاعة العقلية فلا يكون حديث الرفع متكفّلاً لرفعها ، إلى آخر ما في الصفحة المزبورة (٢) فراجعه وتأمّل.

ثمّ إنّه بعد أن دخلت المسألة في وادي مسألة التخيير والتعيين الشرعيين وكان المرجع فيها هو أصالة الاشتغال ، وكان هذا الأصل ـ أعني أصالة الاشتغال ـ هو المانع من الركون إلى الاطاعة الاحتمالية في مورد التمكّن من الاطاعة الجزمية كان المانع المزبور مختصّاً بخصوص الشبهة الوجوبية مع تنجّز التكليف فيها بالعلم الاجمالي أو بكونها شبهة حكمية قبل الفحص ، فلا تدخل فيه الشبهات الاستحبابية ولا الشبهات الوجوبية الموضوعية قبل الفحص ، فلا مانع من الركون في ذلك إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الجزمية ، إذ المانع منحصر بما عرفت من أصالة الاشتغال التي لا مورد لها في هذه الشبهات ، ولكن مع ذلك لو أراد المكلّف أن يحتاط فيها لم يكن احتياطه تامّاً إلاّ [ مع ] تعذّر الاطاعة الجزمية ، وإن لم يكن ذلك الاحتياط لازماً عليه كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، فتأمّل (٣)

__________________

(١) في الصفحة : ١٧٦ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٨٠ ـ ٨١.

(٣) [ وجدنا ورقة مرفقة بالأصل أورد قدس‌سره فيها ما يلي : ]

٢٠٢

__________________

وممّا ينبغي الالتفات إليه هو أنّ القائلين بتقدّم الاطاعة التفصيلية على الاطاعة الاحتمالية ، ينبغي أن تكون كيفية احتياطهم في موارد الدوران بين الوجوب والاستحباب كما في مثل التكبير للركوع مغايراً لكيفيته في موارد الدوران بين الوجوب وعدمه كما في موارد سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة ، ففي الأوّل يكون الاحتياط بالتكبير بأن يؤتى به بداعي الأمر الواقعي المتعلّق به من دون نظر إلى كونه وجوبياً أو استحبابياً ، وفي الثاني يكون الاحتياط بالاتيان بسجود السهو لاحتمال وجوبه. ولا يجوز في الأوّل أن يؤتى بتكبير الركوع بداعي احتمال وجوبه ، لكونه ركوناً إلى الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة [ التفصيلية ] ، من دون فرق في ذلك بين كون الاحتياط لازماً أو كونه غير لازم ، كما لو كانت فتواه على عدم الوجوب.

لكن الظاهر من شيخنا قدس‌سره أنّه يأمر بالاحتياط في المقامين بوتيرة واحدة ، ففي مثل تكبير الركوع يقول بعد الفتوى باستحبابه : والأحوط عدم تركه [ وسيلة النجاة : ١٤٠ / آداب الركوع ، العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٢ : ٥٥١ / فصل في الركوع مسألة ٢٦ ] كما في مسألة سجود السهو لكلّ زيادة ونقيصة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٢٩٨ / مسألة (١) من فصل في موجبات سجود السهو ].

لا يقال : إنّ هذا الاحتياط المذكور في تكبيرة الركوع مثلاً إنّما هو لمن لا يريد الامتثال بالنسبة إلى احتمال الاستحباب ، وإنّما يريد التخلّص من احتمال الوجوب ، فينحصر طريقه بأن يأتي بداعي احتمال الوجوب.

لأنّا نقول : إنّه وإن لم يكن ساعياً لامتثال المستحبّ ، إلاّ أنّه في إرادته لامتثال الواجب المحتمل لمّا أمكنه امتثاله بطريقة الاطاعة التفصيلية ، بأن يقصد الأمر الواقعي على ما هو عليه ، كانت هذه الطريقة مقدّمة على الاطاعة الاحتمالية ، بأن يأتي به بداعي احتمال الوجوب.

ولا يخفى أنّ دوران الأمر بين التخيير والتعيين يكون الغالب فيه هو الاحتياط بالتزام التعيين

٢٠٣

[ فائدة ] قال في العروة في ختام كتاب الزكاة : الثانية عشرة : إذا شكّ في اشتغال ذمّته بالزكاة ، فأعطى شيئاً للفقير ونوى أنّه إن كان عليه الزكاة كان زكاة ، وإلاّ فإن كان عليه مظالم كان منها ، وإلاّ فإن كان على أبيه زكاة كان زكاة له ، وإلاّ فمظالم له ، وإن لم يكن على أبيه شيء فلجدّه إن كان عليه وهكذا ، فالظاهر الصحّة (١).

وذكر نحوه في مسألة ٦ قبيل هذا الختام (٢) وهو من قبيل ما ذكره في صوم يوم الشكّ في أنّه لو صامه بنيّة الندب إن كان من شعبان والوجوب إن كان من

__________________

كما في الحجج ، بأن دار الأمر مثلاً في حجّية فتوى المجتهد بين خصوص الأعلم أو مطلق المجتهد ، وكما في دوران الأمر بين الوجوب التخييري والوجوب التعييني ، بأن علمنا بوجوب العتق على من تعمّد الافطار وشككنا في كون وجوبه تعيينياً أو كونه مخيّراً شرعاً بينه وبين الاطعام ، وكما لو دار الأمر فيما وجب إحضاره هل هو مطلق الحيوان أو هو خصوص الفرس مثلاً. نعم ، لو علمنا بوجوب الصلاة مثلاً وشككنا في كونها مقيّدة بالتحنّك مثلاً أو كونها غير مقيّدة بذلك ، وكذلك لو شككنا في أنّ جلسة الاستراحة جزء منها أو أنّها مقيّدة بعدم لبس الكتّان مثلاً ، إلى غير ذلك من موارد الشكّ في الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإنّ المرجع في ذلك هو البناء على العدم ، وهو عبارة أُخرى عن التخيير بناءً على ما حقّق في محلّه من كون المرجع في ذلك هو البراءة من التكليف الزائد ، أمّا ما نحن فيه فهو خارج عن ذلك كلّه ، إذ ليس لنا إلاّحكم العقل بالاطاعة أو الشرع على نحو متمّم الجعل ، وقد شككنا في تحقّق الاطاعة الاحتمالية مع التمكّن من الاطاعة الجزمية ، والمرجع في ذلك هو الاشتغال للشكّ في حصول الاطاعة في ذلك.

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٧٨.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٥٨.

٢٠٤

رمضان ، وأفتى هناك في بعض الصور بالبطلان (١).

ولا يبعد الحكم بالبطلان في جميع ما هو من هذا القبيل ، لا من جهة اعتبار الجزم بالنيّة في قبال الاحتمال والاطاعة الاحتياطية ، بل في مقابل التعليق بمعنى أنّه ينوي كون المدفوع زكاة إن كان مشغول الذمّة بها.

وحاصل ذلك كلّه أنّ داعوية الأمر لا تقبل التعليق على شيء حتّى لو كان المعلّق عليه هو نفس وجوده ، فضلاً عمّا لو كان المعلّق عليه هو عدم وجود غيره بأن يقول هو مظالم إن لم يكن مشغول الذمّة بالزكاة ، أو كان المعلّق عليه هو أمراً آخر أجنبياً عن عالم الأوامر ، بأن يقول هذا عن أبي إن كانت ذمّة جدّي فارغة ، وهكذا.

والحاصل : أنّ الداعوية إمّا قطعية بأن يعلم الأمر ويأتي بالمأمور به بداعيه فيكون الأمر بوجوده العلمي داعياً ومحرّكاً على الاتيان بالفعل ، وإمّا احتمالية بأن يحتمل الأمر فيأتي بالفعل بداعي احتمال الأمر ، فيكون الداعي هو الأمر بوجوده الاحتمالي. ولا يعقل غير هاتين الطريقتين في الداعوية ، وليست الداعوية والتحرّك عن الداعي والانبعاث عنه قابلة للتعليق على شيء أصلاً.

وللسيّد البروجردي في المقام حاشية مفادها استحسان قصد هذه العناوين منجّزة على نحو الطولية ، بأن يقصد الزكاة منجّزاً وإن لم تكن في ذمّته قصد المظالم وهكذا.

وفيه : ما لا يخفى ، من أنّ القصد المنجّز تشريع ، مع أنّه يلزمه التعليق في

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٥٣٦ / مسألة ١٧ من فصل في النيّة.

٢٠٥

الثاني على عدم الأوّل ، وهكذا في الثالث والرابع (١)

__________________

(١) قال سلّمه الله تعالى في حاشيته على قول المصنّف قدس‌سره في هذه المسألة : فالظاهر الصحّة ما هذا لفظه : نيّة العناوين القصدية أشبه شيء بالانشاء ، فإن نوى تلك العناوين مرتّبة على نحو التنجّز كان أولى ، غاية الأمر أنّ تأثيرها في وقوع المنوي مرتّب على ثبوت موضوعه كما مرّ سابقاً [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٧٨ ].

وقال قبل هذا في الحاشية على قول المصنّف قدس‌سره : فهو صدقة مستحبّة الخ ما هذا لفظه : لو نجّز أوّلاً نيّة كونه زكاة ثمّ نوى منجّزاً الصدقة المندوبة حتّى لا يكون من التعليق في النيتين ، بل من التردّد فيما هو المؤثّر منهما ، لكان أقرب وأحوط [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٥٨ ].

ولا يخفى أنّه لا يكفي من امتثال الأمر بالزكاة مثلاً مجرّد قوله هذا زكاة ، فليس هو من الانشائيات الصرفة الحاصلة بقوله هذا زكاة ، ليكون من قبيل ما لو كان هناك امرأتان إحداهما زوجته وأراد طلاق زوجته فيقول لهذه أنت طالق ، ثمّ يقول للأُخرى أنت طالق ، أو من قبيل ما لو كانت عنده امرأة مردّدة بين كونها زوجة له وكونها مملوكة له فأراد فصلها ، فيقول لها أنت طالق ويقول أيضاً أنت حرّة ، بل لابدّ في مقام امتثال الأمر من الاتيان بمتعلّقه بداعيه ، وحينئذ لابدّ في ذلك من قصد كون الدفع بداعي امتثال الأمر ، فإن قصد الامتثال القطعي المنجّز مع فرض أنّه شاكّ في كونه مكلّفاً بذلك كان من التشريع ، وإن قصد الأمر إن كان الأمر موجوداً كان من التعليق في النيّة. أمّا الامتثالات الاحتياطية فهي خارجة عن التنجّز وعن التعليق في النيّة ، بل من قبيل الاتيان بداعي احتمال الأمر ، وحكمه أنّه إن صادف الواقع فهو وإلاّ كان لغواً ، غايته أنّه يثاب عليه لكونه انقياداً. ولا يخفى أنّ ذلك ـ أعني الاحتياط ـ إنّما يتأتّى في أمر واحد ، ولا يقبل التعدّد الطولي المذكور ، فلاحظ وتأمّل.

نعم ، لو تمّ تأثير هذا الانشاء ، بمعنى أنّه لو كان مشغول الذمّة بالزكاة الواجبة وعمد

٢٠٦

__________________

إلى مقدارها من النقد وقال : هذا زكاة ، صار زكاة ، وكذلك الحال في المستحبّة ، ثمّ بعد هذا الانشاء والجعل وتحقّق أحد العنوانين في ذلك المال يدفعه إلى الفقير بداعي أمره الواقعي المتعلّق به لصحّ ذلك ، ويمكن تنزيل الإجماع وعبارة الشرائع على هذه الكيفية ، فلاحظ وتأمّل.

والخلاصة : هي أنّ الداعوية لا تقبل التعليق ولا الترديد ، غايته أنّه تارةً يكون الداعي على الفعل هو العلم بأنّه امتثال ومطابق للأمر ، وأُخرى يكون الداعي هو احتمال ذلك ، وعلى كلّ حال تكون الداعوية منجّزة لا يعقل التعليق فيها ولا الترديد ، وفي مورد يتردّد الأمر المتعلّق بهذا الفعل بين الوجوب والاستحباب يمكن الاحتياط فيه كما مرّ في تكبير الركوع بالاتيان به بداعي احتمال الوجوب ، كما يمكن الاحتياط فيه بداعي ذلك الأمر الواقعي الذي لا يعرف أنّه وجوب أو استحباب. ولو علم بوجود الأمر الاستحبابي وشكّ في وجود أمر وجوبي كما في مثل الأمر بالزكاة المستحبّة إذا احتمل المكلّف أنّ عليه وجوبها أيضاً ، ففي هذه الصورة ينحصر الاحتياط بالاتيان بداعي احتمال الأمر الوجوبي ، ولا يتأتّى منه قصد الأمر الواقعي ، لعدم كونه واحداً مردّداً بين الوجوب والاستحباب ، ولا يمكنه التعليق كما لا يمكن الترديد.

نعم ، هذه الطريقة لا بأس [ بها ] وهي طريقة الانشاء أوّلاً ثمّ دفع ذلك الخاصّ الذي طرأ عليه الانشاءان بداعي أمره الواقعي ، لكنّها متوقّفة على صحّة هذا الانشاء على وجه لو قال هذا زكاة واجبة تعيّن ، كما حقّق في محلّه في باب الزكاة فيما لو عيّنه في مال مخصوص فراراً من الضمان بالتلف بلا تفريط ، لكنّه في خصوص ما لو كان النصاب موجوداً وعزل زكاته ، ولعلّه يأتي فيما لم يكن النصاب موجوداً وكانت ذمّته مشغولة بالزكاة كما ذكروا ذلك في زكاة الفطرة ، ولعلّه يتأتّى في الزكاة المستحبّة. ولا يبعد القول بأنّه لو عزله وتمّ العزل برئت ذمّته من الزكاة ، وإن لزمه دفعه إلى الفقير باعتبار إيصال ذلك المال المعيّن إلى أهله ، على وجه لو فرّط فيه أو أتلفه كان مشغول الذمّة بعين ذلك المال لا بالزكاة.

٢٠٧

قال في الشرائع : لو قال إن كان مالي الغائب باقياً فهذه زكاته ، وإن كان تالفاً فهي نافلة ، صحّ ، ولا كذا لو قال : أو نافلة الخ (١).

وقد نقل في الجواهر (٢) عن الشيخ الإجماع على ذلك. وحيث قد تحقّق

__________________

والحاصل : أنّه لو تمّ العزل لا تكون نيّة القربة إلاّعند العزل ، ولأجل ذلك قالوا كما في العروة : إنّه لو قصد القربة بالعزل لكنّه قصد الرياء بالدفع لم يكن موجباً لبطلان الزكاة [ العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٤ : ١٩٤ ـ ١٩٥ / المسألة الرابعة والثلاثون من ختام كتاب الزكاة ].

والحاصل : أنّ المسلّم من العزل وجعل العين الخارجية زكاة بقوله هذه زكاة إنّما هو فيما لو كان النصاب موجوداً وعزل زكاته ، أمّا لو كانت الزكاة في الذمّة فيمكن المنع من ذلك كما لو كان مشغول الذمّة لزيد بدينار ، فإنّه لا يتعيّن بمجرّد العزل ، لكن لا يبعد صحّة ذلك في الزكاة من جهة ولاية المكلّف بها عليها ، كما يشهد بذلك العزل في زكاة الفطرة. ثمّ لو تمّ العزل يكون هو المعتبر فيه قصد القربة وبه تبرأ ذمّته من الزكاة ، وإن كان الواجب عليه إيصال ذلك المعيّن إلى أهله ، على وجه لو قصد القربة بالعزل ولم يقصدها بالدفع بل كان الدفع رياءً برئت ذمّته من الزكاة وفرغ من وجوب الدفع ، وإن عصى بالرياء بالدفع. وعلى ذلك لو فرّط فيما عزله أو أتلفه عمداً كانت ذمّته قد فرغت من الزكاة ، وإن صار ضامناً لتلك العين التي عزلها بالتفريط أو بالتعدّي.

وعلى كلّ حال ، أنّ تجشّم هذه الطرق إنّما هو للحصول على الطرفين من الزكاة الواجبة إن كانت والمستحبّة إن لم تكن واجبة ، أو الزكاة عن نفسه إن كانت وعن أبيه لو لم تكن عليه وكانت على أبيه ، وإلاّ فلو قصد بالدفع الاحتياط لاحتمال وجوبها عليه كفى في برائة ذمّته لو كانت مشغولة بها ، لكن لو اتّفق أنّه غير مشغول الذمّة بها كان ما دفعه لغواً ، وإن أثابه الله عليه تفضّلاً منه تعالى ، وكان ذلك القابض غير مالك للمال على وجه لو انكشف له الخلاف لم يجز له التصرّف فيه [ منه قدس‌سره ].

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٩٩.

(٢) جواهر الكلام ١٥ : ٤٧٩.

٢٠٨

لديك أنّ الداعوية لا تقبل التعليق ، فاللازم توجيه هذا الإجماع على وجه يكون مورده ممكناً ، بأن يقال : إنّ الشخص لو قال : إنّي ذاهب إلى المسجد بداعي إدراك الجماعة إن أدركتها ، وإلاّ كان بداعي صلاة تحيّة المسجد ، كان الداعي له على الذهاب إلى المسجد هو القدر الجامع بين الغايتين لا كلّ منهما معلّقاً ، وحينئذ ففي المثال يكون الداعي له إلى دفع ذلك المال هو القدر الجامع بين الزكاة الواجبة والزكاة المستحبّة ، بمعنى كون الدفع بداعي القدر الجامع بين الأمرين ، وأمّا كونه زكاة واجبة فهو معلّق على بقاء المال ، وكذلك كونه زكاة مستحبّة فإنّه معلّق على تلف المال ، ويكون اتّصاف ذلك الداعي الكلّي بكونه امتثال الأمر الخاصّ معلّقاً على بقاء المال ، بمعنى أنّ الداعي هو القدر الجامع بين الزكاتين ، وكون الدفع متّصفاً بكونه زكاة واجبة معلّق على بقاء المال ، بمعنى أنّ هذا الفاعل الدافع قد جعله زكاة واجبة إن كان المال باقياً ، بحيث يكون لذلك الدافع ذلك الجعل التعليقي الذي هو تحويل ذلك القدر الجامع إلى أحد فرديه معلّقاً على بقاء المال. وإلى هنا كانت الصورة ممكنة.

ولكن يبقى الكلام في الدليل ، وهو على تقديره منحصر بالإجماع المدّعى وهو منحصر بهذه الصورة ، وهي ما لو كان الترديد بين الزكاة الواجبة والزكاة المستحبّة دون غيره من موارد الترديد.

وفيه تأمّل ، لأنّ القدر الجامع بين الأمرين الذي هو مطلق الطلب إنّما يصحّ قصده داعياً فيما إذا لم يكن الموجود إلاّأحدهما وهو لا يعلمه بأنّه هو الوجوب أو الاستحباب ، أمّا لو اجتمع الوجوب والاستحباب كما في المقام لو كان ماله باقياً ، فلا يمكن قصد الجامع بينهما ولا يصحّ ذلك.

والخلاصة : هي أنّه في مثل صوم يوم الشكّ يمكنه أن يقصد الانبعاث عن

٢٠٩

الأمر الواقعي وإن لم يكن عالماً بأنّه وجوبي أو ندبي ، بناءً على أنّ حقيقة الصوم واحدة وإنّما الاختلاف في الأمر ، بل يمكن أن يقال بصحّة قصد ما في الذمّة ويكون ذلك قصداً إجمالياً بالنسبة إلى نفس عنوان الفعل لو قلنا بالاختلاف بينهما بالحقيقة ، كما لو كانت عليه رباعية مردّدة بين الظهر والعصر بل بين العصر والعشاء مثلاً ، فإنّه يكفيه الاتيان برباعية بقصد ما في الذمّة ، ويكون ذلك قصداً إجمالياً لكونها ظهراً فعلاً لو كانت ظهراً وعصراً لو كانت عصراً.

وهذا بخلاف مسألة الزكاة فإنّه لا يكفي فيها قصد ما في الذمّة ، لأنّ المستحبّ منها موجود قطعاً ، وإنّما الشكّ في وجود الواجب منها ، فلا يكفي فيه قصد ما في الذمّة أو قصد الطلب الواقعي ونحو ذلك ممّا يتأتّى في مثل صوم يوم الشكّ ، فتأمّل.

قوله : لوضوح أنّ ذلك على تقدير تسليمه يختصّ ببعض أخبار الاستصحاب ممّا اشتمل على لزوم نقض اليقين باليقين ... الخ (١).

إنّ بعض أخبار قاعدة الحل وقاعدة الطهارة مشتمل على ذلك في الجملة كقولهم عليهم‌السلام : « حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (٢) أو « حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) بل إنّ رواية مسعدة المشتملة على قوله عليه‌السلام : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة » (٤) مشتملة على ذلك.

والعمدة في الجواب : أنّ متعلّق العلم في ذلك هو نفس ما تعلّق به الشكّ ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٧٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

(٣) وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٤) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤.

٢١٠

ومن الواضح أنّ كلّ واحد من أطراف العلم الاجمالي ليس هو متعلّق العلم.

قوله : والعلم الاجمالي بتعلّق التكليف بأحدهما مانع عن جريانه ... الخ (١).

الظاهر أنّ العلم بنفسه ليس بمانع عن جريان الأصل في أحد الأطراف ، وإنّما يكون مانعاً من الجمع بين الأصلين في كلّ واحد من الطرفين ، ووجه المانعية هو انتهاء ذلك إلى المخالفة القطعية لما هو معلوم في البين من التكليف. ومن ذلك تعرف أنّ أدلّة الأُصول في حدّ نفسها تعمّ أطراف العلم الاجمالي ، وأنّ المانع من ذلك هو لزوم المخالفة القطعية لو جرت في جميع الأطراف ، ولزوم الترجيح بلا مرجّح لو أُريد إجراؤها في بعض دون بعض.

ومن ذلك يظهر أنّه لا فرق بين الوجهين المذكورين في العبارة بقوله : وإن كان المراد الخ ، وأنّ مرجع الوجهين إلى وجه واحد ، فلا وجه لما هو ظاهر العبارة من الاعتراف بصحّة الوجه الأوّل ومنع الوجه الثاني.

وبالجملة : أنّ التكلّم في هذه المباحث الأربعة وقع لغير أوانه ، بل إنّ التكلّم في الأمر الأوّل والثاني من المبحث الخامس وقع أيضاً لغير أوانه ، فإنّ تمام الكلام في هذه المباحث إنّما يكون محلّه هو باب الاشتغال. فالأولى إرجاء تلك المباحث إلى ذلك المبحث إن شاء الله تعالى. ويكون الكلام في هذا المقام مقصوراً على الأمر الثالث والرابع والخامس من الأُمور المتعلّقة بالمبحث الخامس ، فإنّ هذه الأُمور الثلاثة هي التي ينبغي الكلام فيها في هذا المقام ، أعني مقام الاشتغال الاجمالي وأنّه لا تجوز مخالفته القطعية.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٧٩.

٢١١

قوله : إلاّإذا قلنا إنّه يكفي في صحّة صلاة الجماعة إحراز كلّ من الإمام والمأموم صحّة صلاة نفسه ولو بالأصل (١).

وقوله في الاستيجار للصلاة عن الميّت : إلاّإذا قلنا أيضاً بأنّه يكفي في صحّة الاجارة وتفريغ ذمّة المنوب عنه كون الأجير محرزاً لصحّة عمله ولو بالأصل (٢).

وقوله للاجارة لكنس المسجد : ولكن الأقوى في هذا الفرض صحّة الاجارة ، لأنّه لا يعتبر في صحّتها سوى كون العمل مملوكاً للأجير وممكن الحصول للمستأجر ... الخ (٣).

لا ينبغي الإشكال في عدم صحّة استيجار كلّ منهما للصلاة عن الميّت مع العلم الاجمالي بجنابة أحدهما ، للعلم بفساد صلاة أحدهما واقعاً ، بحيث إنّه لو علم المصلّي بذلك كان عليه الاعادة. ومنه يظهر أنّه لا ينحصر المنع باستيجار كلّ منهما ، بل يتأتّى المنع في استيجار أحدهما.

أمّا صلاة الجماعة والاستيجار لكنس المسجد فلازم الجواز فيهما هو جواز استيجار الشخص الواحد الذي يعلم المستأجر بجنابته تفصيلاً مع كون الأجير جاهلاً بذلك ، وجواز الائتمام بمن يعلم المأموم بجنابته تفصيلاً إذا كان الإمام غير عالم بذلك ، لكنّه قدس‌سره التزم بذلك في الاستيجار لكنس المسجد ولم يلتزم به في الائتمام ، ولم يتّضح الفرق.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّ المستفاد من أدلّة باب الجماعة أعني الأخبار الواردة فيما لو تبيّن بعد الصلاة كون الإمام جنباً (٤) ، أنّ الشرط هو إحراز الإمام مع عدم علم

__________________

(١) فوائد الأُصول ٣ : ٨٢.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٨٢.

(٣) فوائد الأُصول ٣ : ٨٢ ـ ٨٣.

(٤) وسائل الشيعة ٨ : ٣٧١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٣٦.

٢١٢

المأموم ، كما يظهر ذلك من عبارته قدس‌سره في الوسيلة ، فإنّه قال في شرائط الإمام : الرابع : عدم علم المأموم بفساد صلاة الإمام لترك وضوء أو غيره ، وإن كان الإمام جاهلاً بذلك ـ إلى أن قال ـ ولو علم المأموم بعد الفراغ بفساد صلاة الإمام لكونه محدثاً ونحوه صحّت صلاته (١) وقال في الوسيلة طبعة صيدا : الخامس : أن لا يكون صلاة الإمام قطعية البطلان عند المأموم وإلاّ لم يجز أن يأتمّ به ، كما لو علم أنّه توضّأ بماء متنجّس الخ (٢) هذا مع قوله في الوسيلة طبع النجف : وجهان مبنيان على كفاية إحراز الإمام طهارة نفسه في جواز ائتمام الجاهل بحاله (٣) فجعل الاكتفاء باحراز الإمام مختصّاً بصورة جهل المأموم ، فتأمّل.

واعلم أنّ الظاهر من السيّد قدس‌سره في العروة (٤) أنّه بنى على عدم كفاية إحراز الإمام صحّة صلاة نفسه ، حيث إنّه حكم بعدم جواز اقتداء أحدهما بالآخر ، وبعدم جواز اقتداء ثالث بأحدهما فضلاً عن الاقتداء بهما في فريضتين أو في فريضة واحدة ، وما ذلك إلاّمن جهة أنّه قدس‌سره يرى أنّ اللازم من إحراز الطهارة هو إحراز المأموم طهارة الإمام ، لكنّه قدس‌سره قيّد عدم جواز اقتداء الأجنبي بأحدهما بما إذا كان كلّ منهما عدلاً ، إذ لو كان أحدهما عدلاً دون الآخر لكان ذلك الآخر خارجاً عن محلّ ابتلاء المأموم ، فلا أثر للعلم الاجمالي بجنابته أو جنابة هذا الشخص العادل.

وأورد عليه الأُستاذ قدس‌سره في الحاشية بقوله : الظاهر عدم اعتبار العلم بعدالة

__________________

(١) لم نعثر على هذه العبارة في الرسائل العملية الثلاث للميرزا النائيني قدس‌سره المسمّاة بوسيلة النجاة ، ولعلّه قدس‌سره نقلها من نصّ خطّي.

(٢) وسيلة النجاة : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٣) لم نعثر على هذه العبارة في الرسائل العملية الثلاث للميرزا النائيني قدس‌سره المسمّاة بوسيلة النجاة ، ولعلّه قدس‌سره نقلها من نصّ خطّي.

(٤) العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) ١ : ٥٠٣ ـ ٥٠٤ مسألة (٤).

٢١٣

الجميع في عدم جواز الاقتداء بالعدل منهم. وأفاد قدس‌سره (١) في وجه ذلك : بأنّ الأثر المتنجّز في هذا العلم الاجمالي لا ينحصر بما يتوقّف على العدالة كالاقتداء ، بل هناك آثار أُخر تكون موجبة للتنجّز ، وذلك مثل الاستيجار للصوم والصلاة عن الميّت ، بناءً على عدم اعتبار العدالة في ذلك ، وعلى أنّ إحراز المستأجر طهارة الأجير معتبر في صحّة الاجارة ، فحينئذ يكون حاصل العلم الاجمالي هو العلم بأنّه إمّا لا يجوز له الاقتداء بهذا العادل ، أو أنّه لا يجوز له استيجار الآخر للعبادة ونحوها.

ثمّ لا يخفى أنّ السيّد قدس‌سره في العروة مع بنائه على ما عرفت من كون المدار في جواز الاقتداء على إحراز المأموم طهارة الإمام ، حكم بأنّه لو دارت الجنابة بين ثلاثة أشخاص جاز لأحدهم الاقتداء بالآخر ، وإن لم يجز لرابع الاقتداء بواحد منهم.

ولا يخفى ما في ذلك من التدافع ، فإنّه بناءً على ما ذكر من اعتبار إحراز المأموم ، نقول : إنّ هذا المأموم لا يمكنه إحراز طهارة إمامه ، للعلم الاجمالي إمّا ببطلان صلاة نفسه أو بطلان صلاة هذا الشخص الذي يريد أن يقتدي به أو بطلان صلاة ذلك الشخص الآخر الذي يمكن أن يقتدي به. وبعبارة أُخرى : هو يعلم إمّا ببطلان صلاة نفسه أو بعدم جواز اقتدائه بهذا أو بذاك.

وغاية ما أمكننا في توجيه هذا الذي ذكره ، هو أنّ المانع في مسألة الاقتداء أحد الأمرين : أوّلهما العلم التفصيلي من المأموم ببطلان صلاة نفسه ، كما إذا اقتدى أحد الشخصين المردّد بينهما الجنابة بالآخر ، فإنّه حينئذ يعلم المأموم تفصيلاً ببطلان صلاة نفسه ، إمّا لكونه هو الجنب أو لكون إمامه هو الجنب.

__________________

(١) راجع فوائد الأُصول ٣ : ٨١ ـ ٨٣ ، أجود التقريرات ٣ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٢١٤

ثانيهما : العلم الاجمالي بعدم جواز الاقتداء بأحد الإمامين نظير الشبهة المحصورة كما في الثالث الأجنبي [ المقتدي ] بأحد الشخصين المعلوم جنابة أحدهما ، والمفروض عدم تأتّي كلّ من هذين المانعين في اقتداء أحد الثلاثة بآخر منهم.

أمّا المانع الأوّل فواضح ، لعدم العلم التفصيلي ببطلان صلاة نفسه ، إذ لم يكن الترديد منحصراً بين جنابته وجنابة إمامه ، بل هناك شقّ آخر وهو جنابة الشخص الثالث الذي لم يأتمّ به فعلاً ، فلم يحصل له العلم التفصيلي ببطلان صلاة نفسه.

وأمّا المانع الثاني فلعدم كون الشخصين بالنسبة إليه من قبيل الشبهة المحصورة من حيث جهة الاقتداء ، بمعنى أنّه لم يحصل له العلم الاجمالي بعدم جواز الاقتداء بأحدهما ، وإنّما حصل له العلم الاجمالي بجنابة نفسه أو عدم جواز الاقتداء بأحد هذين الشخصين ، والطرف الأوّل وهو جنابة نفسه لا أثر له في ناحية جواز الاقتداء ، لأنّه على تقدير تحقّقه واقعاً يكون أثره هو بطلان صلاة نفسه ولو منفرداً ، ويكون الحكم على هذا التقدير بعدم جواز الاقتداء من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وقد تقرّر في محلّه (١) أنّها لا واقعية لها ، فلا تكون مؤثّرة في تنجيز العلم الاجمالي.

وحاصل ذلك كلّه : أنّه ليس في البين علم إجمالي بالمنع من الاقتداء ، كما أنّه لم يكن في البين علم تفصيلي ببطلان صلاة نفسه ، ولعلّ هذا هو المراد بقوله قدس‌سره : لعدم العلم حينئذ الخ (٢) فيكون هذا مقابلاً لما أفاده في وجه المنع من

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ١٩٠ وما بعدها.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) ١ : ٥٠٣ / مسألة (٤).

٢١٥

اقتداء أحد الشخصين بالآخر بقوله : للعلم الاجمالي بجنابته أو جنابة إمامه الخ (١).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه وإن لم يكن المنع عن الاقتداء بأحدهما معلوماً بالاجمال بنفسه ، إلاّ أنّه طرف للعلم الاجمالي ببطلان صلاة نفسه ولو منفرداً ، أو كونه ممنوعاً عن الاقتداء بأحدهما ، وهذا المقدار من العلم الاجمالي كافٍ في التنجّز ، لما حقّق في محلّه (٢) من أنّه لا يعتبر في المعلوم بالاجمال أن يكون الطرفان من سنخ حكم واحد ، بل العلم بأحد الحكمين الالزاميين كافٍ في التنجّز.

وإن شئت قلت : إنّ هذا المكلّف يعلم إجمالاً بلزوم أحد الأمرين عليه ، أعني ترك الصلاة ولو منفرداً ، أو ترك الاقتداء بهذا أو ترك الاقتداء بذاك. وبعبارة أُخرى : هو يعلم بأنّه مخاطب إمّا بلزوم الغسل عليه للصلاة ، أو بترك الاقتداء بأحد هذين الشخصين.

نعم ، إنّ لازم هذا العلم الاجمالي هو لزوم الغسل على كلّ واحد من أطراف العلم بالجنابة المردّدة ، سواء كان التردّد بين شخصين أو أكثر ، لحصول عين هذا العلم لكلّ من كان طرفاً في التردّد المذكور ، مع أنّهم صرّحوا بعدم لزوم الغسل عليهم ، بل الذي يظهر من الجواهر (٣) عدم الخلاف فيه ، فلابدّ حينئذ من حمل حكمهم بعدم لزوم الغسل على صورة عدم كون جنابة الطرف محلاً لابتلاء الآخر من حيث عمل نفسه ، أمّا إذا كانت جنابة أحد الطرفين محلاً لابتلاء الآخر ، بأن

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعاليق عدّة من الفقهاء ) ١ : ٥٠٣ / مسألة (٤).

(٢) راجع فوائد الأُصول ٤ : ٤٩ ـ ٥٠ ، وتأتي حاشية للمصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : ٥٢٥ وما بعدها.

(٣) جواهر الكلام ٣ : ٢٠.

٢١٦

كان في البين تكليف إلزامي يتوجّه لأحد الطرفين على تقدير كون المجنب هو الآخر كالمنع من الاقتداء به ، أو المنع من استيجاره لصلاة أو صوم عمّن كان ذلك الطرف ملزماً بالاستيجار عنه ، فلا ينبغي الإشكال حينئذ في لزوم الغسل على ذلك الطرف ، لما عرفت من العلم الاجمالي المردّد بين لزوم الغسل عليه ولزوم عدم الاقتداء بالآخر أو عدم استيجاره للعبادة المذكورة ، وحينئذ يكون حكمهم بعدم لزوم الغسل مختصّاً بما إذا لم يكن في البين إلاّمجرّد وجوب الغسل المردّد بين الطرفين ، كما يومئ إليه استدلالهم على ذلك كما في الجواهر بعدم تعارض الأُصول.

ولعلّه يشير إلى ذلك المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره في أوائل كتاب الطهارة في مبحث الشبهة المحصورة في مقام الردّ على صاحب المدارك ، حيث إنّه قال فيها بجواز الارتكاب ، واستدلّ على ذلك بأُمور منها قوله : وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني (١) فقال المرحوم الحاج آغا رضا قدس‌سره في مقام الردّ عليه ما هذا لفظه : وأمّا ثالثاً : فما ذكره من النقض بواجدي المني ، ففيه ما عرفت من عدم تنجّز التكليف بالنسبة إلى كلّ منهما في مثل هذا الفرض ، لخروج الطرف الآخر في حقّ كلّ منهما عن مورد ابتلائه ، فالأصل في حقّ كلّ منهما سليم عن المعارض (٢).

ولعلّ ما في طهارة الشيخ قدس‌سره ما هو أظهر من ذلك ، فإنّه قال : ثمّ إنّ الوجه في عدم وجوب الغسل على واحد منهما ، أنّ أصالة الطهارة في كلّ واحد منهما في حقّ نفسه لا تعارضه أصالة طهارة الآخر إذا لم يكن طهارة الآخر ممّا يتعلّق به

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) ١ : ٢٥٢.

٢١٧

حكمه كجواز الاقتداء به والاكتفاء به في عدد الجمعة كما سيجيء ، والأصل في ذلك ما ذكرناه في الماءين المشتبهين وفي مطلق الشبهة المحصورة ، من أنّ المعتبر في تنجيز التكليف بالأمر المعلوم إجمالاً كونه بكلا محتمليه مورداً لابتلاء المكلّف (١) ، إلى آخر ما أفاده.

ويمكن أن يقال : إنّ تسالمهم على إطلاق عدم وجوب الغسل مع أنّهم يذكرون في ذيله مسألة جواز الاقتداء ، كاشف عن أنّ بناءهم في طهارة الإمام على كفاية إحراز الإمام [ طهارة ] نفسه ، لكنّه لا يلتئم ذلك مع كلمات من منع من الاقتداء. مضافاً إلى أنّه لا يتأتّى في الاستيجار للعبادة ، إذ لا ريب على الظاهر في أنّ المدار في ذلك على الواقع ، لا على إحراز الأجير.

وفي نجاة العباد (٢) من التدافع ما هو أوضح ممّا في العروة ، فإنّه قدس‌سره حكم بجواز اقتداء الأجنبي بأحد الشخصين ، بل بهما في فرضين ، بل في الفرض الواحد ، وحكم بعدم جواز اقتداء أحدهما بالآخر.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه إن كان إحراز المأموم شرطاً لم يجز الاقتداء في كلّ من الصورتين ، وإن كان الشرط هو إحراز الإمام كان الاقتداء جائزاً في كلّ من الصورتين. وبالجملة : الظاهر أنّه لا وجه للتفكيك بين الصورتين بالجواز في الأُولى دون الثانية ، فتأمّل.

ثمّ إنّه قدس‌سره قال في باب الجماعة : كما أنّه لا يجوز مع العلم بفساد صلاته لترك وضوء أو غيره وإن كان الإمام غير عالم بذلك (٣) فيرد عليه ما تقدّم الإيراد به على

__________________

(١) كتاب الطهارة ٢ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧.

(٢) نجاة العباد : ٤٧.

(٣) نجاة العباد : ١٧٦.

٢١٨

شيخنا قدس‌سره ، إلاّأن يدفع ذلك بما دفعنا به عن شيخنا قدس‌سره ، من أنّ الاكتفاء باحراز الإمام إنّما هو مع عدم علم المأموم تفصيلاً بفساد صلاته ، فتأمّل.

قال المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني قدس‌سره في طهارته بعد أن حكم بأنّه لا يجب الغسل عليهما ما نصّه : نعم لو كان لجنابة الغير بالنسبة إليه أثر فعلي من بعض الجهات ، كما لو أراد أن يصلّي معه جمعة ، أو يقتدي به جماعة ، أو أراد ثالث أن يقتدي بهما أو بواحد منهما ، على تقدير كون الآخر أيضاً في عرض هذا الشخص من موارد ابتلائه بالفعل ، يتعارض الأصلان بالنظر إلى هذا الأثر كما تقدّم تحقيقه في الشبهة المحصورة (١).

ولا يخفى أنّ هذا تصريح منه بأنّه في مورد ترتّب الأثر على جنابة الغير بالنسبة إلى كلّ منهما يتعارض الأصلان في حقّ كلّ واحد منهما ، فيكون العلم الاجمالي بالنسبة إلى كلّ واحد منهما مؤثّراً ، وحينئذ لا يتمّ القول بعدم وجوب الغسل على كلّ واحد منهما في مورد إمكان اقتداء كلّ منهما بالآخر ، لأنّ كلاً منهما حينئذ يعلم بأنّه إمّا أن يجب عليه الغسل وإمّا أن يحرم عليه الاقتداء بصاحبه ، فيكون الحكم في مثل هذه الموارد هو لزوم الغسل وعدم جواز الاقتداء ، لا مجرّد عدم جواز الاقتداء.

اللهمّ إلاّأن يقال : إنّه لا محصّل لعدم جواز الاقتداء إلاّبطلان الصلاة ، فالأمر يدور بين وجوب الغسل وبطلان الجماعة ، فلا يكون في البين تكليف منجّز على كلّ تقدير ، غايته أنّه لو صلّى مقتدياً بصاحبه يعلم تفصيلاً ببطلان صلاة نفسه ، وهذا لا دخل له بوجوب الغسل.

وفيه : ما لا يخفى ، أمّا أوّلاً : فلكفاية الوجوب الشرطي أو النهي الغيري في

__________________

(١) مصباح الفقيه ( كتاب الطهارة ) ٣ : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

٢١٩

التنجّز إذا وقع طرفاً للعلم الاجمالي في مقابل الوجوب النفسي الذي هو الغسل كما لو علم إمّا بنجاسة هذا التراب أو كون هذا اللباس ممّا لا يؤكل لحمه ، أو كونه مجنباً أو كون ذلك اللباس ممّا لا يؤكل لحمه ، وقد حقّقنا أنّ جريان الأُصول النافية في مثل ذلك تنتهي إلى المخالفة القطعية لتكليف إلزامي معلوم في البين ، فراجع ما حرّرناه في أوائل الاشتغال عند الكلام على الفرع المعروف وهو ما لو علم بنجاسة الماء أو كونه مغصوباً (١).

وأمّا ثانياً : فلأنّ تعارض الأُصول كافٍ في التنجّز وإن لم يكن كلّ من طرفي العلم راجعاً إلى تكليف منجّز ، فإنّ استصحاب طهارة نفسه وعدم جنابته باعتبار ترتّب عدم وجوب الغسل عليه يكون معارضاً لاستصحاب طهارة إمامه باعتبار أنّه يترتّب عليه صحّة الاقتداء به (٢) ، وبعد تعارض الاستصحابين يبقى احتمال جنابة نفسه عارياً عن الحكم بعدمها ، فيلزمه الاحتياط تحصيلاً للشرط ، وليس المقام مرجعاً لأصالة البراءة من الغسل ، إذ لا يكفي مجرّد البراءة عن وجوب الغسل نفسياً في صحّة صلاة نفسه ، لما عرفت من لزوم إحراز الشرط ، وليس الشرط انحلالياً كالمانعية فيما لا يؤكل لحمه كي يقال إنّ الأصل البراءة من وجوب هذا الغسل الخاصّ ، كما يقال الأصل البراءة من مانعية هذا اللباس

__________________

(١) في المجلّد السابع من هذا الكتاب الصفحة : ٥٢٥ في الحاشية على فوائد الأُصول ٤ : ٤٩.

(٢) كما أنّه يلزمه عدم الاقتداء بصاحبه لعدم إحرازه عدم جنابته ، وليس المنشأ في تعارض هذين الاستصحابين هو لزوم المخالفة القطعية لتكليف إلزامي كي يقال : إنّه لو بني على عدم جنابة كلّ منهما لا يلزم منه مخالفة قطعية لتكليف إلزامي ، وأنّه أقصى ما فيه أنّه يعلم بعد الفراغ من الصلاة ببطلان صلاته ، وذلك غير التكليف الالزامي ، بل إنّ المانع الموجب للتعارض هو كونهما إحرازيين [ منه قدس‌سره ].

٢٢٠